الثلاثاء، 31 أكتوبر 2023

العينان المفتوحتان والخجل من إغلاقهما

ما رأيته خلال طفولتي في الثمانينيات من صور للمجازر الإسرائيلية في فلسطين عبر التليفزيون والصحافة شيء، وما رأيته على شاشة العرض في مدرستي الابتدائية ذات يوم كان شيئًا آخر .. أتذكر أن مشرفة الصحافة بقصر ثقافة الطفل جاءت إلى المدرسة مرتدية الوشاح الفلسطيني لتعرض أمام التلاميذ الذين تجمعوا من مراحل عمرية مختلفة داخل أحد الفصول فيلمًا وثائقيًا عن الوحشية الصهيونية تجاه الفلسطينيين .. أُغلق الباب، وأسدلت الستائر على النوافذ، وبدأت صور ثابتة ومشاهد متحركة تتعاقب أمام عيوننا على الشاشة المضيئة المفرودة في مقدمة الفصل بينما مشرفة الصحافة تسرد لنا مكان وتاريخ وتفاصيل كل مذبحة .. هناك من دفعته بشاعة اللقطات التي كنا نبصرها للمرة الأولى إلى إشاحة وجهه بعيدًا، وهناك من راح يسترق النظر من بين أصابع كفيه، وهناك من أسند رأسه على ذراعه مواريًا دموعه .. كنت أريد أن أغمض عيني ولكن شيئًا غامضًا في داخلي أجبرني على إبقائهما مفتوحتين .. شيئًا قويًا، وحاسمًا، جعلني رغم الصدمة والألم أدرك دون تفسير بأنني يجب أن أرى .. بأنني لا يجب أن أغمض عينيّ مهما كان الأمر.

منذ ذلك اليوم وطوال الفترة التي قضيتها في إعداد المجلات الورقية في قصر ثقافة الطفل ومجلات الحائط بالمدرسة؛ ظللت أبحث عن صور المجازر الإسرائيلية في الجرائد والمجلات والكتب .. أطارد ما يتجنب الآخرون النظر إليه .. كنت أجمع هذه الصور وأنشرها وأكتب مقالات عنها .. كانت لدي ملفات مكتظة بمشاهد القتل والتنكيل الإسرائيلي فضلًا عن الأرشيفات الصحفية التي توثق هذا التاريخ .. ربما ذلك ما جعل الجحيم الفلسطيني موضوعًا أساسيًا في محاولاتي القصصية الأولى، والتي بدأت بعد مشاهدتي للفيلم الوثائقي بسنوات قليلة .. هكذا تجيب القصة القصيرة بنفسها عمليًا على سؤال الماضي: لماذا يجب أن تُبقي عينيك مفتوحتين؟ .. كنت أكتب القصص من قبل استعمال الورقة والقلم بوقت طويل.

في عام 2006، وأثناء متابعتي لأحداث مجزرة قانا الثانية بدأت تداهمني أعراض مرضية، اضطررت مع تزايدها إلى الذهاب للطبيب، والذي أخبرني بضرورة التوقف عن المشاهدة .. كان يبدو أن جسدي يعطي إنذارًا متصاعدًا بأنه لم يعد يتحمّل رؤية ما تعوّد التحديق إليه، وأن الطبيب قد أدرك هذه الشكوى فطلب مني الاستجابة لها .. أراد مني أن أغلق عيني .. غادرت العيادة وعدت إلى بيتي لأواصل الجلوس أمام التليفزيون ومتابعة تفاصيل المذبحة مقررًا تخييب رجاء جسدي .. تحمّلت الأعراض رغم وصولها إلى ذروة مخيفة حتى أجبرتها على التراجع والانسحاب .. كنت أعرف أن جسدي سوف يعاقبني فيما بعد على هذا القمع بصورة مزمنة وأشد ضراوة؛ لكنه ثمن عدم وجود اختيار بالنسبة لي .. يجب أن أرى، ولا شيء غير ذلك.  

حينما شاهدت على الإنترنت لقاءًا أجرته قناة RTarabic مع عجوز من غزة رفض النزوح رغم الغارات الإسرائيلية في أكتوبر 2023 حتى لا يترك القطط التي يرعاها؛ تذكرت على الفور “عجوز على الجسر” لإرنست همنجواي، وهي القصة القصيرة الأولى في مقرر ورشتي القصصية .. كأن العجوز في قصة همنجواي لا يزال جالسًا عند الجسر طوال هذا الزمن، رغم القصف، لأنه غير واثق بأن قططه يمكنها الاعتناء بنفسها .. كأن عيني همنجواي لا تزالا مفتوحتين .. لأنه رأى العجوز في ذلك اليوم .. لأنه كتب هذه القصة محاولًا رؤية نفسه .. لأن القصة كانت تكتب نفسها بواسطة هاتين العينين اللتين لم يغمضهما همنجواي عن العجوز أثناء عمله كمراسل في الحرب الإسبانية .. لأنهما عينان لا يدركهما الموت.

أنظر إلى ابنتي التي لم تكمل عامها الثالث عشر وهي تخبرني ببكائها الذاهل إنها شاهدت أبًا يحمل أشلاء طفليه في كيسين، وطفلة تصرخ حينما تعرفت على جثة أمها من شعرها، وأمًا تبحث عن ابنها وتصفه بأنه “شعره كيرلي وأبيضاني وحلو” حتى عثرت على جثته .. كانت تحكي ما سبق أن رأيته؛ فأصبح مع وصفها أكثر تعذيبًا لي .. أنظر إليها عاجزًا عن النطق .. هل أخبرها بأنني أكره رؤيتها لهذه المشاهد؟ .. هل أخبرها بأنني أخجل من كراهيتي لرؤيتها هذه المشاهد؟ .. هل أطالبها بإغلاق عينيها؟ .. ينبغي أن أواصل النظر إلى ابنتي .. ذلك ما يستحقه العالم حين يكون قصة قصيرة، ما يستحقه الخجل حين يشعر به المقتول لا القاتل، وما تستحقه ابنتي حين تكتب ذات يوم عن السفّاح الكوني.   

السبت، 21 أكتوبر 2023

اكتشاف النسيان

أن أقول شيئًا ـ مهما كان ـ فهذا يعني أنني قررت ـ عن طيب خاطر ـ أن أكون العنصر الحقير في الحكاية .. أنني أصبحت أكثر العبيد المخلصين لهذه المأساة الهزلية .. الصمت المقترن بإبقاء الوجه بعيدًا عن الاتجاه الذي يأتي منه هذا الفصل من الجحيم هو الرد الوحيد المناسب، المثالي، الذي يصنع دائرة لا نهائية مغلقة، لا ينبغي أن يقترب من حصانتها أي رد فعل آخر .. أفكر بعد توقف أختي عن الكلام، واستمرارها في النحيب أن هذه اللحظة هي أكثر الأوقات الملائمة لأن تتأمل اللغة في دنائتها عبر كرامة السكوت .. أنهض من الكرسي .. أتحرك بخطوات مهتزة نحو حجرة أبي .. أفتح الباب الموارب قليلا وأنظر إلى جسده الراقد تحت البطانية في الظلام .. أتقدم نصف خطوة أخرى مع قليل من ضوء الصالة فيظهر رأسه الأصلع وفوداه الشائبين والضمادة الملتصقة التي تغطي أذنه .. أتأمل عينيه المغمصتين .. أين أنت الآن يا أبي؟ .. هل تحلم بشيء؟ .. ألا تتذكر ـ ولو على نحو خاطف ـ أي ماضٍ؟ .. هل ما زلت تسمع أمك وهي تناديك أو تشير إليك بـ “الأستاذ”؟ .. كانت لقسوتك وصرامتك عمق طفولي تعيس، نابعًا من علة قديمة مجهولة في حياتك .. تمر أمامي الآن محاولاتك الساذجة لتمرير يدك إلى جيوب بنطلون شقيقي الأكبر المعلق فوق الشماعة بعد عودته من العمل لكي تعرف ما لديه من نقود .. كنت أراقبك في صباي بتكليف من أمي وكنت فرحًا بذلك، ربما لأنها كانت فرصتي للثأر من انتزاعك للنقود التي كانت تمنحها لي عمتي كعيدية من جيب بنطلوني وأنا طفل دون أن أشعر ثم تعطيني أنت بعد ذلك نقودًا أقل وتحتفظ لنفسك بالفرق الكبير قائلًا لي إنك تدخرها من أجلي .. اكتشفت في بداية مساء ما وأنا أتتبعك أنك لا تحاول أخذ النقود من جيب أخي فحسب وإنما كنت تأخذ خلسة أيضًا من علبة كريم البشرة الخاص بأختي وتدهن يديك .. فضحتني نظرتي وأنا أدقق في أصابعك التي يظهر الكريم الأبيض من بينها .. كنت حينئذ ترفع يدك بساندويتش جبنة بيضاء إلى فمك لتقضم منه بينما كوب الشاي في يدك الأخرى .. انتبهت إلى نظرتي وأنت جالس على كنبة الصالة بالبيجاما فتحولت عيناك أثناء قضمك من الساندويتش إلى حيث كنت أتمعن .. إلى الكريم الواضح في يدك الممسكة بالساندويتش .. كان في عينيك نظرة لا أنساها .. نظرة طفل مسكين كانت نفسه تتوق بشدة لشيء لا يمتلكه فاضطر رغمًا عنه لأخذه في السر حتى لا يلحظه أحد ما ويتسبب في إحراجه أو توبيخه، ولكن “فعلته” كُشفت في النهاية .. كُشفت وهو يقضم من ساندويتش جبنة بيضاء ويرتشف من كوب شاي مرتديًا بيجاما كستور كخليط جسيم من الضعف والغفلة والارتباك .. كطفل عجوز بائس .. هذه النظرة قتلتني في صباي فقررت التوقف عن مراقبتك .. هل تستعيد مشهد وقوفك أمامنا بعد أن طرقت باب شقتنا ثم أخبرتنا بأن أخاك قد مات؟ .. هل تسترجع كل ما حدث لك بعد هذه اللحظة؟ .. ألا تعود إلى وعيك بعض الكلمات التي يمكنها أن تكوّن عبارة واحدة على الأقل عن كل ما حدث، وتستطيع أن تنطقها بشكل مفاجئ كخلاصة لعمرك؟ .. أم أن الدموع المحتبسة في عينيك تكفي جدًا؟

أتراجع للخلف ثم أعيد باب الحجرة إلى وضعيته المواربة .. أتوجه للشرفة وأنظر إلى الشارع .. لا أفكر في أن ما حدث لأبي اليوم هو تحقق للصورة المشوشة التي أحسست بها في ذهني منذ سنوات طويلة .. لكنني حينما أترك الشرفة، وأغادر البيت، ثم يموت أبي بعد هذا اليوم بمدة قصيرة، وعندما أحاول كتابة ما حدث خلاله سوف أكتشف هذا النسيان .. سأتذكر أن ما حكته أختي سبق وأن شعرت عقليًا به في الماضي .. هكذا يمكنني أن أكمل مشهد وقوفي أمام سرير أبي وهو نائم في ظلام حجرته بضمادة تغطي أذنه المجروحة ..  أستطيع مخاطبته من داخل صمتي التام .. نعم يا أبي؛ أنا أعرف جيدًا كيف يكون الألم في الأذن، وكيف يكون البكاء المكتوم في الصدر .. أنت الآن في نومك تقبّل الخد البارد والسمين للقدر دون أن تدري .. يمكنني أن أكمل مشهد وقوفي في الشرفة والنظر إلى الشارع بعد خروجي من حجرة أبي .. بوسعي أن أخاطب هواء هذا الشارع من داخل الصمت التام نفسه .. لعلك يا هواء الشارع ما زلت تذكر القصاصات التي تناثرت مع حركتك بعد أن ألقيَت من هذه الشرفة قبل سنوات كثيرة .. الهدايا غير المنتظرة للعابرين التي ظل يراقبها طفل أصبح يمتلك جسدًا أكبر من وراء شباك الصالون .. لم تكن قصاصات خطاب نادي القصة الممزق يا هواء الشارع، وإنما كانت أحلام صاحب اليدين الغليظتين التي رماها إليك.

جزء من رواية قيد الكتابة

الأحد، 15 أكتوبر 2023

المحاكاة الزائفة

ربما يصعب على البعض تصديق أو استيعاب قدرة أفراد من أسرة مجني عليه ـ خاصة لو كانوا أمهات أو آباءً لأطفال تم قتلهم ـ على الوقوف أمام كاميرات التصوير التي تغطي الحادثة بعد أيام قليلة، وأحيانًا مجرد ساعات من وقوعها للتحدث عن تفاصيلها.

إن اللحظات التي تعقب الفاجعة هذه تبدو أكثر الأوقات التي يحتاج خلالها المرء لأن يكون “مرئيًا” و”مسموعًا” بشكل “عام” ولغرض أبعد من الاحتياج إلى التعاطف أو الشفقة أو المواساة .. هدف لا يُدرك، ولكن يُمكن الشعور بغموضه .. أكثر من يعانون من الرهاب الاجتماعي أو الخوف من أن يكونوا محط أنظار الناس، وأكثرهم حرصًا وحذرًا من لفت انتباه الآخرين في الأوقات العادية؛ ربما يكونوا قادرين بتلقائية في ذلك الوقت على الصراخ بالرثاء أمام عدسات المصورين .. كأن “الظهور” أمام “الكاميرات” في هذه اللحظة أشبه بالمشاركة في “عمل فني”، يؤدي خلاله المفجوع “دورًا”، أي يحاول خلق مسافة فاصلة بين ذاته والفجيعة .. يرجو تحويل الفجيعة إلى نوع من الخيال، تجريد الحدث بالغ الإيلام بكل امتداداته وتأثيراته من “واقعيته” الحادة، إزاحته ولو قليلًا عن “فعليته”، أو التخفف بدرجة ما من “حتميته” الوحشية .. كأنها مجاهدة لاكتساب وعي ما بأن الفجيعة ـ على الأقل ـ لا تخص صاحبها بالكامل.

لا يخاطب الظهور هنا هدفًا محددًا (أشخاصًا / متفرجين)، أي لا يريد الحاضر أمام الكاميرا أن يكون مرئيًا لعينٍ خاصة ومسموعًا لأذن معيّنة بقدر ما يرغب بشكل مبهم في أن تحيط به رؤية وإنصات غير مألوفين، ينتميان إلى مصدر مجهول، مخلّص، يستدرك (ما حدث) بصورة تعويضية محصنة .. يحدس الحاضر عفويًا أمام الكاميرا بأن هذا الجسر الخفي لا يتواجد، أو ينعدم تأثيره، أو تعمل إرادته بشكل خاطئ أو مهمل ضمن حدوده الشخصية (الأماكن التي يتحرك داخلها أو يبصرها والأشخاص الذين يعيش بينهم أو يصادفهم) أيًا يكن يقينه حولها، بما أن الفضاء الذي تسيّجه هذه الحدود لم يوفر له الحماية من الفاجعة .. بالتالي، وبإحساس منطقي؛ فإن هذا الجسر لابد أنه يقع في “الخارج” أو في ما هو “عام” أي في ما قد يتصل على نحو ملغز بما وراء الوجود نفسه، ومن ثمّ فإن احتمال النجاة من الألم يزيد مع اتساع النطاق الذي “تظهر” من خلاله .. مع حضورك حسيًا في شمولية ما.

في فيلم “آيس كريم في جليم” 1992 إخراج “خيري بشارة”؛ يشعر “سيف / عمرو دياب” باختناق المهانة في الحفلة التي جلبته إليها سيدة أعمال كمكايدة في صاحبها فيقرر الخروج لينتهز فرصة وجود “آخرين” يقيمون احتفالًا بسيطًا في الحديقة ويغني معهم “أنا حر” .. يختبر “سيف” لحظة أذى تحفر بعمق في جروحه السابقة فيشعر باحتياج لأن يكون في “الخارج”، في مجال مفتوح، كأنه على عتبة “المطلق”، يفترض أنه هكذا سيكون “مرئيًا” و”مسموعًا” أكثر لما يعجز عن فهمه أو التأكد منه، ولكنه قد يمر إليه عبر عيون وآذان “الغرباء” التي تشكّل هذا البراح .. هذا الظهور لسيف يبدو كأنه “خارج نفسه” أي في ما هو أبعد من ذاته المعطلة، المقموعة، وبالضرورة فإنه يكتسب إحساسًا غامضًا باستقرار إمكانية “تغيير” ما للعالم ناجمة عن هذا “الظهور”، كأنه دفاع أخير ـ متكرر ـ ضد اليأس.

لكن “الظهور” كذلك لا يتعلق بالفاجعة ذاتها بقدر ما يتعلق بمحاكمة الحياة التي سبقتها، باستجواب الماضي الذي قاد إليها .. بقدر ما يتعلق بالانتقام من الذاكرة الشخصية التي سمحت بهذه الفاجعة بكل إبهامها وقصورها ومراوغتها .. لذلك فالمحاكمة هذه تقصد بالتالي أن تمتد من الأهداف المحددة “المشاهدين والمستمعين” إلى ذلك المصدر المجهول الذي تنتسب هذه الحياة إليه .. أن يخترق الاستجواب العيون والآذان وصولًا إلى ذلك “المخلّص” الذي لم ينقذ هذا الماضي من “الشر”، سمح به، أوجده وشاء أن يرتكب آثامه غير المبررة .. أن يجتاح الانتقام  ما هو “عام” نحو ما هو “مطلق” .. كأن ثمة فهمًا غير محسوس أو إدراكًا غير واع لدى من أصابته الفاجعة بارتباط “الثأر” بـ “النجاة” .. الثأر والنجاة اللذان لا يخصان العناصر المباشرة للفاجعة وإنما “أصلها” الكوني .. ذلك ما يمكن اعتباره “جذر الألم” المدفون عميقًا في النفس دون أن تستوعبه تحت التسلط الظاهري “للإيمان”.

في قصة “الشقاء” لأنطون تشيكوف كان لدى الحوذي “أيونا بوتابوف” احتياج قهري لأن يحكي للغرباء من ركاب زحافته عن موت ابنه .. أن يستمعوا إلى تفاصيل مرضه ووفاته وجنازته .. لكنه لم يجد منهم سوى الغطرسة وقسوة القلب واللامبالاة .. يلجأ الحوذي إلى حصانه فيحكي له عن مصيبته أملًا في أن يمنحه التعاطف الذي لم يحصل عليه من البشر .. “بوتابوف” أراد أن يتكلم عن موت ابنه، إن لم يكن لإنسان فليكن لحيوان، المهم أن يُرى ويُسمع .. صحيح أنه يحتاج إلى المواساة، ولكنه يعرف مسبقًا أن أقصى ما سيناله من شفقة لن يعوضه عن فقدان ابنه .. هذا ما يساوي بين أن تحكي لإنسان أو لحيوان .. الحكي إذن يتعدى الإنسان والحيوان .. العينان اللتان ستراك والأذنان اللتان ستسمعك؛ جميعهم أدوات محتملة لبلوغ ما تخاطبه حقًا .. ما يكمن وراء كل العيون والآذان .. ما أراد لموت ابنه أن يحدث، وما يمكن أن يستدرك هذا الموت، وما ينبغي أن يدفع ثمن ذلك.

جزء من كتاب “المحاكاة الزائفة / الاحتياج لأن تكون مرئيًا” ـ قيد الكتابة

الجمعة، 6 أكتوبر 2023

مذكرات السعادة

 بعد أن وصل إلى الأربعين؛ قرر كتابة كل ما اعتبر أنه لزم تحقيقه قبل عشرين عامًا .. لكنه لم يدوّن هذا الماضي المتخيل كتقرير نادم من المتع المهدرة التي لا سبيل لتعويضها بل كمذكرات لشخص عاش هذه السعادة بالفعل .. ظل يكتب على فترات متباعدة مشاهد تلك الحياة المختلفة التي كانت جديرة بأن تحدث منذ زمن طويل باعتبارها تجارب حقيقية، حتى بدأت مواعيد التدوين في التقارب .. أصبحت طقسًا يوميًا لا يمكن إهماله ثم استمرت في التمدد إلى أن هيمنت على كامل أيامه المتعاقبة منذ استيقاظه في الصباح الباكر، وحتى عودته للنوم آخر المساء .. لم يعد يفعل ـ باستثناء الأداءات الضرورية الأخرى ـ سوى كتابة أدق تفاصيل ما يدعي أنه قام به حقًا قبل عشرين سنة، وبذلك لم تعد لديه حياة خارج هذه المذكرات .. أصبحت مذكراته عمرًا أصليًا كلما استمر في تدوينه كلما أمعن في إزاحة واقعه المتعيّن نحو هامش أقرب إلى النسيان.

لكنه بشكل مفاجئ، وبينما كان يكتب وقائع أحد الأيام المتخيلة؛ وصل إلى لحظات مقبضة، أيقن أنها تمهيد لموته .. وصل إليها بلا قدرة على التراجع أو النجاة، ودون أن يستوعب سر هذا العجز، بالرغم من أن تلك اللحظات لم تكن سوى كتابة فحسب .. مع ذلك كان يدرك أن تلك الماهية تحديدًا هي ما يجعلها تجهيزًا لموت فعلي .. أنها لحظات اقتراب حقيقي من نهاية حتمية لكونها مكتوبة بيده .. هل كانت لحظات مغايرة لتلك التي يتصوّر أنها ستسبق موته في الواقع؟ .. كان جحيم تلك اللحظات يكمن تحديدًا في الإجابة على هذا الاستفهام .. الإجابة التي استقرت كصدمة من قبل أن يحضر الاستفهام في ذهنه محترقًا باليأس .. أيقن أن التمهيد الكتابي لموته متطابقًا مع ما كان يتوقعه لموته الواقعي .. تنتهي حياته المدوّنة مثلما تنتهي حياته الواقعية؛ بلا أي أثر ولو شاحب للمتع المتخيلة .. دون أن تغيّر السعادة التي عاشها كأحلام لغوية من الأمر شيئًا.

لم يعد لديه سوى أن يعود إلى وصيته التي كان قد فرغ من توثيقها منذ وقت بعيد .. من قبل أن يبدأ في تدوين الأيام التي تظاهر أنه عاشها فعليًا منذ عشرين عامًا .. راح يدمج كلمات تلك الوصية بلحظات ما قبل موته في الكتابة .. وبعد أن انتهى بقي صامتًا .. أوقفه الموت المكتوب الذي أدركه عن استعمال المزيد من الكلمات .. ليست الكلمات التي يخطها فحسب وإنما التي ينبغي أن ينطقها أيضًا .. ظل الآخرون يحدثونه بصورة عادية كأنه يجيبهم .. كأنه يتكلم مثلهم .. لكنه كان واثقًا من أنه ما عاد يستطيع النطق حتى لو اعتقد من حوله غير ذلك .. كان يرى فحسب .. كأن جسده كله قد تحوّل إلى عينين زجاجيتين، لكل عين منهما ذاكرة مختلفة، ولكنهما لا تبصران طوال الوقت إلا نفس الطفل وهو يجري ضاحكًا ليصعد سلالم جسر مرتفع في ظهيرة ساطعة قبل أن يختفي عند قمته.

جريدة "الدستور"

السبت 30/سبتمبر/2023

نبالغ فى تقدير الحب مونولوج داخلى لشبح

ثمة نبرة "رسالية" ثاقبة تسود مجموعة "نبالغ في تقدير الحب" للكاتبة الفرنسية بريجيت جيرو التي صدرت بترجمة وئام غداس عن منشورات حياة. لكن هذه النبرة لا تحوّل القصة القصيرة إلى "رسالة" بالشكل التقليدي، وإنما تجعلها أقرب إلى "مونولوج داخلي لشبح"، ذلك لأنها ليست نتاج "مخاطَبة" فحسب، وإنما لأنها ناجمة أيضًا عن انتباه "المخاطِبة" إلى غيابها، إلى السر "الماورائي" المحتمل لغيابها.

"لم يحصل شيء، وأنت لا تحبينه بعد اليوم. تحاولين التثبت. يجب أن تكوني متأكدة. ولكنك لستِ كذلك. أنت تحبينه، في الحقيقة، ولا تحبينه في الوقت نفسه. عليكِ أن تقرري، لأن الأمر أصبح مزعجًا بالفعل. تفكرين أنكِ تحبينه، لكنك لا تتحملين أن يقطع الصالون برداء الحمام. أن يجلس أمام التليفزيون بهذه الهيئة، وشعره الذي لا يزال مبللًا مسرّحًا إلى الوراء. تحبينه هو، بلا شك، ولكن هذا المشهد المتكرر يوميًا هو ما يجعلك تنفرين".

حينما أكتب رسالة لنفسي أو لآخر أو لمجهول؛ فهذا يعني أن مستقبِلها في حالة اختفاء مؤقت أو دائم. أنني متورط بطريقة ما في هذا الاختفاء. ما يحدد طبيعة هذا الاختفاء ليس مضمون الرسالة نفسها وإنما الكيفية التي كُتبت بها أو الطابع الذي يميز أصواتها وطرق الاشتباك فيما بينها، وهذا ما قد ينتقل بالرسالة إلى المونولوج الداخلي. يبدو أن بريجيت جيرو تدرك هذه الخاصية الجمالية جيدًا فاستبعدت أسلوب الرسالة لتجعل من النبرة وحدها غنيمتها التي تتيح للساردة في قصصها القصيرة حينما تتحدث إلى أحد ما بداخلها أن تخاطب الجميع أيضًا. جعلت من هذه النبرة صوتًا متعددًا ومتصدّعًا لشبح كلما حاول الانفصال عما عاشته نسخته الدنيوية كلما أصبح أكثر احتجازًا في عتمتها. كلما اكتشف غيابه عن جسده المرئي. كلما أيقن أن اختفاءه ـ كمستقبِل للرسائل التي يكتبها لنفسه ـ حدث في لحظة أبعد من ولادة هذا الجسد.

"ولأننا نحب القصص التي تنتهي نهاية جيدة، فقد تخيلنا أن هذه القصة ستتخذ لها نهاية جيدة في نهاية الأمر. لقد علمونا أن الأميرة مهما طال نومها تستيقظ في النهاية. خصوصًا لو أن الأمير ليس بعيدًا".

إن "الساردة" التي يبدو أنها تتحدث إلى نفسها المتعيّنة أو تخاطب آخر محددًا في قصص المجموعة ليست ذاتًا مؤكدة، ملموسة، تستوعب ماهيتها، وإنما هي أشبه بطيف أنثوي "ممزق" يحوم حول أوهام تجسّده. تناوش ضبابيته المتناثرة "المعاني" الاستعبادية لتمثله في صور اعتيادية مختلقة. هذا الطيف هو الفكرة الغامضة للذات التي تكمن بين أصلها المفترض وادعاءات وجودها في العالم. الفكرة التي تفكك بالضرورة ما يمكن أن يُشار إليه كحضور واقعي لها، وبالتالي تحاول أن تتقمص الاحتمال الغيبي المراوغ الذي يتخطّى تجسّدها. الاحتمال الذي يتجاوز وجودها "البديهي" أو الإكراهات النمطية من الأفكار والمشاعر والصراعات التي كان على هذه الذات أن تتمثل من خلالها. هذا التقويض إذن يمتد طوال الوقت من لحظة "المخاطبة" إلى تاريخها السري، أي من مفترق الطرق الذي تتخطى عنده "الرسالة" الحدود القامعة للذات كـ "موضوع قهري" إلى آمادها المخاتلة التي لا تُدرك، ولا تبرهن على نفسها إلا بواسطة الهزائم الحسية. لا يبدو الأمر كفاحًا لاسترداد ما تم استلابه تحت وطأة خداع قدري لا يتعطل وحسب، وإنما سعيًا غريزيًا لاستعادة ما حُرمت هذه الذات البديلة من امتلاكه من قبل أن يمارسها "الحياة والموت" حيث كل ما يُكتشف "زيفه" عند مراجعة مشاهد الماضي ليس إلا دليلًا لهذا الأصل المبهم، المحتجب كلعنة استباقية غير مبررة، لا موضع الخسارة نفسها.

"أتساءل: أين الخطأ؟ هل أنا من لا تعرف كيف تقول؟ أم أنت الذي لا يعرف كيف يسمع؟ لست على يقين من أننا نتكلم نفس اللغة. مع أني أحرص على قول كل الكلمات الضرورية لصنع جملة بسيطة واضحة مباشرة دون قسوة، لتعرف إلى أي حد لم تعد هذه الحياة تناسبني. أنا لا أتهمك ولكني أطلب منك ببساطة توضيح ما تشعر به".

لكن تقمّص الاحتمال الغيبي الذي يطارده "الشبح" بواسطة "المونولوج الداخلي" ليس محاولة للتوحد أو المسايرة للأصل المفترض "الغائب" لذات "الساردة" بقدر ما هو خلق لهذا الأصل على نحو مضاد، ذلك لأن "المخاطَبة" بعجزها عن استرجاع "المخاطِب" فإنها لا تملك سوى أن تمحو أقنعته، وهذا تحديدًا ما تؤديه الكتابة. هذا تحديدًا ما تقوم به "الرسالة" حين تكون "قصة قصيرة". إن الساردة كـ "طيف" توثق يقينها بأنها تستعير وجوهًا، أصواتًا، صمتًا لا ينتمي إليها، ذلك لأن تلك الشروط الحتمية هي التي كوّنت "حياتها وموتها" وليس "غيبيتها". هذه "المعرفة" في حد ذاتها إفاقة مناقضة لأنها قائمة على الغفلة لا على الفهم. على استيعاب أن الذات "حكاية مجهولة"، يجدر عدم الاعتراف بأي تعويض عنها حتى تظل حية في مخبأها أي في الرسائل التي تُكتب تحت أنقاضها.

"سوف نخبر الطفلين أن حياتهما ستتغير، بكلمات مراوغة وجبانة، سنخبرهما أن لا يقلقا؛ أبوهما وأمهما يحبانهما، وهذا هو المهم، سوف نكرر هذا. الليالي التي يقضيانها بلا نوم، محاولات إنقاذ العلاقة، أنفاق الغيبوبة المظلمة، الأمل الهارب، كلها أشياء خربت صحتهما وأنهكتهما، ولكن أبويهما سوف يتماسكان أمامهما، مبتسمين تقريبًا، وسوف يقولان جملتين، أو ربما أكثر، جملتين أو ثلاث جمل مركبة خصيصى لهذه المناسبة، سلسلة من الكلمات التي تشرح الحب ونهاية الحب، الحب الذي نكنه لهم، والحب الذي لم يعد يكنه كلانا للآخر".

إن محو الأقنعة يعني تأكيدها، استنطاقها، استجوابها، كيف تستعمل هذه الأقنعة الساردة التي فقدت وجهها "الكوني" قبل أن تكون أداة بشرية للفناء. هذا التأكيد يمثل نوعًا من الإرجاء الذهني لوهم التجسّد، تأجيل هيمنة الصور المختلقة، كما لو أنه نوع من إعطاب الذاكرة عن طريق التسلل إليها من الباب الخلفي. كما لو أن "ادعاءات الوجود" كافة لم تحدث بعد، وحينما "يبدأ" الحضور الواقعي للذات دون خيانة لمداراته السابقة فإن شبح المرأة ربما يكون قادرًا على التحديق إلى ذلك المتعيّن بكيفية "استثنائية" مغايرة. ربما يكون قادرًا على فهمه، تعديله، استدراكه، استبدال الزمن بالخيال، رتق التمزق، التحرر من المعاني، ملامسة الأصل المفترض، تحويل الاحتمال الغيبي إلى حقيقة أبدية، الانتقام من البداهة، الإكراه. ريما يكون قادرًا على استعمال ذخيرته الوحيدة من الهزائم الحسية في تحويل "التاريخ السري" للذات إلى آماد مدركة، حصينة، نقية من الخداع القدري. لتحويل مسار اللعنة إلى مصدرها.

"(بابا) سيكون من جهة، ومن الجهة الأخرى (ماما)، ولن ترياهما أبدًا معًا، سيكون كل واحد منهما في كوخ، لا تخافا، هذه ليست قصة عقلة الإصبع، (بابا) و(ماما) لن يتخليا عنكما، بل على العكس، سيتقاتلان ليحصلا عليكما، سيتحولان إلى عدوين للاحتفاظ بكما".

لا يتعلق الأمر بـ "إنقاذ" فعلي ـ دون استبعاده مهما كان مستحيلًا أو خارقًا أو يأسًا متنكرًا ـ وإنما بـ "التفكير" في هوية ما يُسمى بـ "النجاة"، في اللغة التي ينبغي استخدامها عند التفكير في النجاة. "الرسالة" هي التي تكتب نفسي، تكتب الآخر والمجهول من خلال كتابتها لنفسي. "الرسالة" ذاتها هي التي في حالة اختفاء أزلي، وذلك فقط ما يسمح لها بأن "تكتبني" دون تورط في "حياتي وموتي". النبرة هي السر الحميمي الماكر للرسالة، الذي يجعلني أعتقد بأنني أتحدث، أخاطب نفسي عبر مسافة آمنة، أكثر قربًا من المطلق الذي كنت عليه قبل أن أكون "جسدًا"، وأكثر بُعدًا عن عمائي.

"أنت الكاتب الكبير. إنك تستحق أكثر من عائلة، زوجة وأطفال ينتظرونك، هم رهن إشارتك، القادرون على تحمّل أسوأ ظروفك وأن يتعودوها، دائمًا، غيابك، حاجتك إلى العزلة، حريتك، كي تستطيع عيش إلهامك حتى آخره. إنك تستحق أفضل من مجرد امرأة لا يميزها شيء، ليست ممثلة في السينما أو صحافية. امرأة تعمل كموظفة خدمات اجتماعية، لا شيء يستحق عناءك بالتأكيد! لكنها تحبك مع ذلك، هل تستحق أكثر من امرأة تحبك؟ من تعتقد نفسك؟".

كيف يمكن إذن أن تكون كتابة الرسالة للساردة في الأساس لعبة الساردة نفسها؟. حينما تسخر الساردة ولو ضمنيًا من النجاة. حينما تجعل الرسالة تنتهك لغتها لحظة الكتابة، أي تدفعها لخلخلة الروابط والعلاقات التي طالما أقرتها هذه اللغة. كأنه ثأر من الاختفاء الأزلي لهذه الرسالة. حينما تكون النبرة لـ "شبح" يدرك أن مونولوجه الداخلي مجابهًا لكل سياق جاهز للخلاص، خاصة لو كان وعدًا مخبوءًا خارج العالم.

"لا أريد أن أعارض المسار الثابت للأشياء. يستغرق التهاب الحلق ثمانية أيام، وعشرة للزكام، وعامين لفقدان الرجل الذي نحب. وبخلاف هذا سوف تتحول الحياة إلى فوضى. إذن بصفتي مواطنة صالحة، فأنا أظهر وجهًا آخر، لم يعد يناسبه وضع أحمر الشفاه فوقه. أقدم نسخة مطمئنة من نفسي تطارد النموذج السابق، المنكمش، الباهت، المدمَّر. لن أكون أبدًا مصدر قلق، أو منبعًا للإزعاج. لن أكون الضحية التي يجب رعايتها. سأعفيك من تحمل مسؤوليتي يا أبي، لا تخف عليّ أبدًا. سوف أصلح جميع أعطابي بنفسي".

ثمة سؤال شائع في ورشتي القصصية عن الحيلة التي يمكن للكاتب استخدامها عند استغراق الشخصية في التحدث إلى نفسها كي لا تصبح قصته "محض استرسال في التفكير". كانت إجابتي هي جعل الشخصية تقطع تدفق أفكارها من حين لآخر بالالتفات إلى شيء مادي داخل محيطها أو ذاكرتها. اجعلها تشير أو تنتبه إلى كيان مرئي، حركة ملموسة عبر الحيز الذي تسكنه أو في ماضيها، على أن يكون ما تلاحظه متصلًا بذلك التأمل الباطني أو المخاطبة الذاتية دون تكلف أو فضح، بحيث يثبت كل منهما الآخر ويجادله ويتعدّاه بعفوية ومواربة كأن سر كل شيء يتوزع في جميع الأشياء. "نبالغ في تقدير الحب" تقدم نماذج عملية لهذه الحيلة؛ فالتحليلات الذهنية في قصص بريجيت جيرو دائمًا ما تستند إلى ارتباط المجازي بالحسي، إلى المزج بين تشريح الذكريات والأفكار والعواطف المتناقضة وبين الإيماءات التلقائية نحو ما هو ظاهري، مقصود دون مباشرة، حيث التأكيد والنزاع المتبادل ينشط بصورة غير محكومة في خفاء هذه الصلة.

"لم أكن أعلم أن مكان الموتى يتحرك، وأنه يتبع الخطوط العريضة، وأنه يصبح خائفًا في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يكون سريًا إلى درجة إثارة الحيرة. كنت أنظر بشيء من الاشمئزاز إلى برناديت لافون، داخل بلوزتها الرقيقة، دون أن أشك ولو لحظة واحدة أنها تعاني صعوبة في التنفس، وأنها ستتناول بلا شك أدوية مهدئة لتستطيع النوم تلك الليلة".

عنوان المجموعة "نبالغ في تقدير الحب" هو البصمة الساطعة للسخرية التي جعلت بها بريجيت جيرو مجموعتها لعبة للساردة في قصصها القصيرة. عنوان مُصاغ بذلك القالب التهكمي المألوف الذي يُعرّف شيئًا ما بـ "ضرره البسيط" تأكيدًا واستهزاءً بـ "الوحشية التي لا توصف" لهذا الشيء. هذه السخرية ليست من "الحب" ومعجزاته فحسب : النفور، الحيرة، الخواء، تعذيب الأطفال، المهانة، الفقد، الحرمان من العزاء، لكنها سخرية كذلك من الثمن الملغز الذي يحلم الشبح رغمًا عنه بالحصول عليه بواسطة الرسالة، التي ـ فقط وعلى هذا النحو ـ يقودها المونولوج الداخلي لأن تكتب نفسها.

أخبار الأدب

الأحد، 01 أكتوبر 2023 

الممارسات الرقمية والنص المُرجأ

"لقد ولد الأدب الرقمي في فلك السيبرنطيقا"

هكذا يحدد فيليب بوطز الأمر بداية في الفصل الأول من كتابه "الأدب الرقمي"، ترجمة محمد أسليم، والمنشور في مجلة "علامات" المغربية، المجلد 2011، العدد 35 (30 يونيو/ حزيران 2011).

السيبرنطيقا (أو علم التحكم) كما ورد في هوامش الفصل المترجم، حقل متعدد التخصصات، ابتكره وينر نوربرت، ويدرس الأنظمة المنظمة ذاتيًا ليس من خلال مكوناتها، ولكن من خلال تفاعلاتها، حيث لا يُنظر سوى لسلوكها الشمولي. يُسمى أيضًا "علم التشابهات المتحكم فيها بين الأجساد والآلات". ويشكل هذا العلم أحد مصادر الأدب الرقمي، حيث لا يتردد البعض في تسميته بـ "الأدب السيبرنطيقي".

هل يمكن للفكر النقدي أن يتخيّل "يوثّق" نصًا "سرديًا مثلًا" لم يُكتب بعد، ويستند في "افتراضه" على "ممارسات رقمية" تبدو ظاهريًا "غير نصّية بالمعنى الأدبي" أي تستعمل الوسيط المعلوماتي، أو الأداة التي تعتمد عليها هذه الممارسات ليس في نقلها بصورة مرئية وحسب وإنما في تكوينها وتحوّلها أيضًا؟

أتحدث عن "الميديا" الشخصية، العفوية، الارتجالية التي يتم إنتاجها وتبادلها كـ "كتابة"، "صوت"، "صورة" بين "كاتب" و"آخر" في إطار ما يبدو أنه محض استعمال ذاتي، اتصال حسي تقليدي بين شخصين في مكانين متباعدين .. على أي شيء يرتكز الفكر النقدي في تخيّل وتوثيق هذا النص "المحتمل"؟

صورة الكاتب وتاريخها: النصوص المنشورة ـ ما كُتب عن أعماله السابقة ـ حياته الخاصة (مشتملة الماضي) كما يُظهرها بنفسه وكما يشير إليها الآخرون أو يتناولونها أو يكشفون عن صلاتهم بها عبر الوسائل المختلفة ـ ما يتداول عنه من "أسرار" إما في شكل "معلومات" أو "أكاذيب" أو "أقاويل".

توظيف الوسائط: استخدام معطيات انتقائية من صورة الكاتب وتاريخها عبر العالم الافتراضي في خلق تصوّر لماهية "الآخر" الذي يشارك الكاتب في هذه الممارسة الرقمية ـ نسج علاقات متعددة بين هذه المعطيات لتشكيل طبيعة التفاعل بين الكاتب وشريك أو شركاء الممارسة الرقمية ـ تعيين الأدوات الملائمة لكل تمثل خيالي ناجم عن هذا التواصل / الصراع المفترض بحسب خصائص كل أداة وكيفية تفاعلها مع الأدوات الأخرى.

يُعرّف فيليب بوطز في الفصل الأول "الموّلِّد" على النحو التالي: "يُسمى البرنامج بالموّلِّد عندما يبني في زمن واقعي، أي أثناء تنفيذه، ميديا أو أكثر (نص، صوت، صورة ...) تُقترح للقراءة. ومن ثمّ فالمولد هو مجموعة خاصة من الخوارزمات".

في هذه الحالة يعمل الفكر النقدي كـ "موَلِّد" استباقي، خفي، غير حاضر إلا بما ينتجه من فائض غير محكوم لتصورات (النص، الصوت، الصورة) المقترحة للقراءة. التمثلات دائمة التغير والتبدل، ليس بناءً على "الخيال" الذي أسس لها فحسب، وإنما على الوسائط التي استخدمها في تغييب حدودها أيضًا. كأن الفكر النقدي يتخذ موضع "التفاعلية المتقدمة" أي أنه يبدأ في صنع تأثير للنص السردي من قبل أن يكون لهذا النص وجود أصلي، وبالتالي تصبح "إعادة الكتابة" التي يؤديها القارئ هي لحظة كتابة أصلية بالمعني الفعلي لا المجازي.

تحت عنوان "كلية الحضور والتغذية الراجعة" كتب فيليب بوطز: "يمكن للنتيجة التي يُنتجها البرنامج أن تظهر متزامنة في عدة أجهزة كمبيوتر، كما هو الحال في الأعمال الموجودة على شبكة الإنترنت، ومن ثمة إذا ما أتاحت التفاعلية للقراء أن يتواصلوا فيما بينهم عبر عمل أدبي، فإنهم يقومون بذلك بحيث كلما تدخل أحدهم إلا وعدّل نسق العلامات التي يقرؤها الآخرون، ومن ثمة تحصل (تغذية راجعة) لنشاط القراءة على العمل؛ قراءة شخص واحد تعدّل العمل الذي سيتلقاه القراء الموالون".

ماذا لو أن هذا "العمل الأدبي" غير متجسّد حتى الآن، وإنما لا يزال خيالًا نقديًا في صورة رؤى، أحلام، إيماءات، استفهامات، شذرات متأرجحة من الاحتمالات الفرضيات؟ سيصبح هذا النص أشبه بخام نص كل قارئ، يُكتب بشكل مستمر، لا نهاية للتدخل في بنائه وتعديله، ولا حد لمساهمة الآخرين في تكوينه، أي أنه سيبقى مُرجئًا دائمًا.

إن اندماج القارئ مع الممارسات الرقمية للنص الخيالي الذي يقدمه الفكر النقدي فضلًا عن استعمال الوسائط ذاتها في كتابته لهذا النص يعني تجاوزًا للحظة تصوّر الكيفية التي خُلق بها .. يعني التورط في شخوص هذا النص، حيواتهم وأجسادهم ولغتهم وصمتهم وتواريخهم وعلاقاتهم وأسرارهم .. يعني كتابة نصوصهم السابقة كما لو كانوا طوال الوقت غافلين عن أنفسهم .. كما لو كان الواقع طوال الوقت غافلًا عن نفسه.

العمر ليلة

في المدينة الساحلية الصغيرة؛ يوجد بيت قديم، ينتمي إلى ذلك الجانب شاحب الإضاءة، ثقيل الصمت ليلًا، والذي يسكنه قليل من أبنائها، ولا تمتد إليه خطوات الغرباء العابرين لشاطئها خلال شهور الصيف. بيت متصدّع، لا يعرف أكبر سكان المدينة عمرًا من الذين كانوا يقيمون به قبل أن يصبح مهجورًا. يتكوّن ذلك البيت من طابق واحد، وينكمش بمساحته المحدودة داخل منطقة تشبه المدافن من المنازل المنخفضة المتماثلة، يكاد ظلامها أن يكون حالكًا في المساء. ذات ليلة فُتحت نافذته الوحيدة. كانت ضلفتاها الخشبيتين متآكلتين ومغبرتين، لكن انفراجتهما المفاجئة بدت أشبه باسترداد للحياة في عمرٍ مبكر.

في اللحظة نفسها؛ توجّه رجل في منتصف العمر من أولئك الغرباء غير المقيمين في المدينة إلى أحد المقاهي المطلة على البحر. زائر بوجه متجهم ونظرة تائهة، ترنحت خطواته داخل ذلك الجزء الكرنفالي المزدحم، بالغ الصخب والسطوع من المدينة، حتى وصلت به إلى مقعد وطاولة عند الشاطئ. جلس الغريب وحده، مُحدّقًا إلى الامتداد المعتم لتوحد السماء والبحر.     

ظهرت من نافذة البيت القديم حجرة ضيقة، تتناثر الشقوق المتعرجة في حوائطها ذات الطلاء الوردي الباهت والمتقشّر، ويتدلى من سقفها مصباح صغير، يكشف نوره الأصفر الأقرب إلى صدأ لامع عن امرأة عجوز، تجلس ممددة على سرير لا يتسع لغيرها. امرأة ممتلئة قليلًا، تغطي رأسها بإيشارب انطفأ لونه الرملي، يلتف طرفاه حول وجهها بصورة أمومية، ويحتضن كتفيها شال كبير من الكروشيه الرمادي، ينسدل بإحكام على صدرها. كانت تسند ظهرها إلى وسادة بيضاء مستطيلة، نحيلة وعارية، وبطانية بُنّية خفيفة مهترئة مفرودة فوق جسدها، تُخفي تقريبًا جلبابها المنزلي الثقيل، المائل لزرقة السماء. وجهها الأسمر إلى حد ما تكسوه مسحة مرض، ولكن عيناها كانتا مبتهجتين، وعلى شفتيها ابتسامة جذلة، يخدشها شيء من الوهن، بينما يداها تصفقان بانسجام ملتذ مع نغمات “ألف ليلة وليلة” لأم كلثوم، المنبعثة من مسجّل صغير فوق طاولة مجاورة للسرير. نظرة العجوز كانت تتطلع بتركيز كامل إلى البنت التي ترقص أمامها على إيقاعات الأغنية.

بصوت خافت ومرتعش طلب الرجل من النادل فنجان قهوة ثم انتظر حتى جاء به إليه ليُخرج علبة سجائره ويمد بواحدة منها له فسحبها النادل بكلمة شكر مقتضبة قبل أن يبتعد فورًا بعفوية معتادة. أشعل الزائر سيجارته ثم ارتشف قدرًا من القهوة وعاد ليتمعن في العتمة. قال لنفسه كتذكير بما تعوّد نسيانه أن عليه تناول ما تبقى من الفنجان برشفات أصغر.

بنت متوسطة الطول، لا يبدو أنها تجاوزت الخامسة عشرة كثيرًا، شعرها الأسود الطويل الناعم معقوص خلف رأسها برباط أحمر سميك، وترتدي جلباب بيت أبيض، ضيّقًا، بفتحة صدر صغيرة، وكُمّين قصيرين، وبلا نقوش، نُسِج من قماش شعبي رخيص، ويوشك أن يكون شفافًا. كان طيف السمار باطشًا في ملامحها الطفولية الفاتنة وهي غائبة كليًا في رقصتها بعينين نصف مغمضتين، تختلجان مع دورانها الحريري داخل الحجرة بقدمين حافيتين، دون أن تتشكل أي ابتسامة على فمها المنفرج قليلًا ـ حيث يمكن تخيل العبير الناري لأنفاسها المتلاحقة ـ كأنها مستغرقة في صلاة خاصة لجسدها الفائر.

انتهى الغريب من فنجان قهوته ثم أطفأ سيجارته ونهض واقفًا دون أن يتلفّت حوله، كأنما لم يعد هناك مبرر لبقائه فحسب. أشار إلى النادل ثم أخرج حافظة نقوده من جيبه الخلفي ليأخذ منها ما يزيد قليلًا عن ثمن فنجان القهوة ويعطيه له. لكنه لم يُعِد حافظة النقود إلى جيبه، وإنما وضعها بجوار علبة السجائر والولاعة فوق الطاولة.

أصبح هناك بشر كثيرين أمام النافذة. ناس أكثر مما كان يُعتقد أنه عدد سكان المدينة يقفون في ظلام الليل، تحدق عيونهم إلى البنت التي ترقص على “ألف ليلة وليلة” تحت الضوء الأصفر أمام العجوز الجالسة ممددة في سريرها، وتصفق بنشوة منهكة مع صوت أم كلثوم، وابتسامتها تعانق جسد البنت الذي يطوي الحجرة الضيقة داخل الثنيات الغائرة لجلبابها المنزلي وفراغاته المتأرجحة. كانوا يستطيعون النظر بقوة فقط. لم يكن بوسعهم التحرك أو النطق. تسمّرت أقدامهم أمام النافذة بعيون مفتوحة وأفواه مطبقة وأبدان متخشّبة حتى انتهت الأغنية. عندئذ أُغلقت النافذة فجأة، كأنها لم تُفتح أبدًا، وعاد البيت القديم يبدو مهجورًا. رجع الصمت، واستردوا معه قدرتهم على الكلام والحركة. ظلوا بدماء متجمدة، وقلوب مذعورة، وألسنة مختنقة بالذهول يسألون بعضهم عن حقيقة ما حدث.

ربما كانوا هم أنفسهم العابرين الذين شاهدوا ذلك الرجل في منتصف العمر، الذي ترك علبة السجائر والولاعة وحافظة نقوده فوق طاولة المقهى، وبدلًا من أن يعود إلى منزل ما؛ تقدّم بخطوات متسارعة نحو الشاطئ، ثم توغل داخل الامتداد المعتم لتوحد السماء والبحر حتى اختفى تمامًا قبل أن يستوعب أحد منهم الأمر.

السبت، 16 سبتمبر 2023

كيف كتبت قصة “الهواء الطيب”

ذات ظهيرة شتوية؛ وقفت ـ كالعادة ـ داخل الشرفة للاستمتاع بالمطر والغيوم والهواء البارد .. كان الشارع خاليًا حينما انتبهت إلى كرة كبيرة، خفيفة، ذات ألوان متعددة يدفعها الهواء فوق الأرض المبتلة بماء المطر .. لم يكن هناك أي أطفال في الشارع فخمّنت أنها سقطت من شرفة أحدهم .. تنقلت عينيّ بين الشرفات فلم أجد أحدًا .. في هذه اللحظة رأيت رجلًا في منتصف العمر يعبر الشارع، وكانت خطواته تتحرّك باتجاه الكرة .. تساءلت: هل ستلفت الكرة نظر الرجل بألوانها الزاهية ووحدتها في شارع فارغ تحت المطر؟ .. هل سيتوقف عندها؟ .. هل سيبحث ولو بعينيه عن من فقدها؟ .. وجدت الرجل يمر بجوار الكرة التي مازال الهواء يبادلها بين التطوّح والسكون، لكنه اكتفى بالتطلع إليها بشكل عابر وهو يواصل سيره ليبتعد عنها ويختفى .. حينئذ تخيلت مشهدًا بديلًا لما حدث في الواقع: توقف هذا الرجل أمام الكرة ثم التقطها وأخرج منديلًا ليجففها من الماء والطين ثم وضعها داخل حقيبة بلاستيكية ـ أعطاها خيالي له حتى يستطيع حملها في أمان ـ قبل أن يعود بها إلى بيته .. لماذا يفعل ذلك؟ .. ببساطة، لأن لديه طفلًا.

لكن ماذا عن الطفل الذي ضاعت منه الكرة؟ .. كان ذلك هو الاستفهام الذي شغل ذهني بعدما غيّب الهواء الكرة عن بصري في نهاية الشارع .. فكرت في أنه ربما كان يلعب بها في شرفته بلذة الانسجام مع المطر، وأنه كان يقذفها عاليًا ويعود لالتقاطها، لكن الهواء القوي أطاح بها إلى الشارع حيث يصعب أو يستحيل على الطفل أن يخرج من بيته في هذا الوقت لاستردادها.

هكذا بدأت تلك الفكرة الأساسية في تكوين بداية القصة داخل وعيي: ذهبت الكرة من طفل إلى طفل آخر لا يعرفه بواسطة هواء الشتاء .. الفكرة التي ستخلق سؤالًا تحدد إجابته موضوع القصة وبالضرورة نهايتها: كيف يمكن للكرة أن تشيّد جسرًا بين الطفلين؟

بما أن لدي طفلة؛ سأجعل الفكرة “ذهبت الكرة من طفلة إلى طفلة أخرى لا تعرفها بواسطة هواء الشتاء” .. والآن، لابد أن تحمل الكرة بصمة تميزها عن الكرات المماثلة .. هوية دامغة تخص صاحبتها التي فقدتها .. لماذا؟ .. لأن الكرة الملوّنة هنا أصبحت رسالة بعثت بها غريبة إلى غريبة أخرى دون قصد، وحتى يتم التواصل بينهما ينبغي أن يكون هناك دليل على أن الرسالة تنتمي إلى هذه الطفلة تحديدًا وليس إلى أحد آخر .. فكرت في أن هذه البصمة يجب أن تكون شخصية أكثر منها رمزية، ليس فقط حتى تتناسب مع كونها لطفلة، ولكن من أجل أن يكون تواصلها مع الطفلة الأخرى أكثر سهولة وقوة .. حسنًا، ليست هناك هوية شخصية تفوق الوجه .. سأجعل الطفلة إذن ترسم ملامحها المبتسمة على الكرة قبل أن تضيع منها.

ماذا عن الطفلة التي حمل أبوها الكرة إليها؟ .. فكرت في أن الكرة الملوّنة بعدما لم تعد مجرد كرة، وأصبحت وجه طفلة أخرى؛ فإن هذه الكرة أصبحت صديقة للطفلة، وبما أن الصداقة لا يتجلى معناها وأثرها أكثر من الأوقات السيئة فإن هذه الطفلة تحتاج إلى مشكلة .. أزمة تتعلق بالفقد أيضًا ولكن بصورة أعنف يكون الاحتياج خلالها إلى الصداقة بالغ الإلحاح .. لتكن مأساة إذن تتطلب بشدة الحصول على عزاء غير تقليدي .. سأجعل الطفلة تفقد أباها الذي أتى لها بالكرة .. كأنه أحضر مواساة صامتة لها قبل رحيله الوشيك .. ليس هذا فحسب .. فكرت أيضًا في أنه ينبغي لهذا النوع من التواصل بين الطفلة التي حُرمت من أبيها وصديقتها التي لا تدري عنها سوى ملامحها المبتسمة المرسومة على الكرة الملوّنة؛ ينبغي أن يكون لهذا التواصل خصوصية ما .. ينبغي أن يكون بينهما ما يُعادل السر الذي يحتفظ به الأصدقاء فيما بينهم ولا يعلم به أي شخص آخر حتى ـ أو خصوصًا ـ من أُسرهم .. كيف يمكن فعل ذلك؟ .. ما الذي يمكن أن تخبر به طفلة فقدت أباها لوجه طفلة أخرى مرسومًا على كرة ولا تقوله لأمها مثلًا؟ .. لماذا لا أترك هذا البوح مبهمًا دون تحديد وأكتفي بالإشارة إليه فحسب ليكون سرًا حقيقيًا لا يعلمه القارئ؟ .. سأجعل الطفلة التي فقدت أباها مريضة، عاجزة عن الكلام، تحكي بلا صوت عن أبيها الغائب لوجه الطفلة المرسوم على الكرة .. الكلمات التي لا يمكن لأحد سوى تخيلها وصياغتها بنفسه باعتبارها تُشكّل حكايته الخاصة .. ذلك ما لا ينتج سرًا مُحكمًا فقط، ولكنه يتسق ويضاعف أيضًا مأساة الطفلة واحتياجها إلى ملامح الطفلة الأخرى .. إلى التحدث مع صديقة تشاركها نفس اللغة “الصمت”.

كيف ستعرف الطفلة التي كانت تلعب في الشرفة أن وجهها المرسوم على كرتها الضائعة أصبح صديقًا لطفلة أخرى على هذا النحو؟ .. يجب أن يحدث لقاء بينهما إذن .. ما الذي يمكن أن يجمع بين طفلتين غريبتين عن بعضهما؟ .. فكرت في استثمار فكرة “التشارك” ولكن بشكل آخر، جماعي، يتيح لهذا اللقاء أن يحدث من خلاله، وفي نفس الوقت يشير إلى الجوهر الأشمل لهذه الفكرة .. الجوهر الذي يتجاوز المنح المباشر إلى التضامن في الألم، غير المقيّد بالحدود الشخصية أو بحواجز المكان والزمن .. كأن هذه التجربة تمثل انتباهًا عمليًا للطفلة صاحبة الكرة بأن بوسعها أن تفعل شيئًا يلوذ به شخص آخر في مكان بعيد عنها، وفي زمن غير متعيّن، ودون أن يكون لها أي معرفة به .. هكذا نشأت فكرة الزيارة التي تقوم بها معلمة المدرسة بصحبة مجموعة من التلاميذ إلى بيوت يحتاج ساكنوها، خصوصًا من الأطفال، إلى هذا التشارك، وحينئذ سيمكن لهذه الطفلة الشغوفة بالعطاء أن تعثر على الطفلة الأخرى التي حُرمت من أبيها داخل أحد هذه البيوت .. سيمكن لها أن تدرك بأن وجهها المرسوم على كرتها الملوّنة كان صديقًا لهذه الطفلة .. أن ملامحها كانت رفيقة الطفلة التي لا تستطيع الكلام في ليالي الفقد .. سيمكن لهذه الطفلة أن تدرك بأن الهواء الذي أطاح بكرتها من الشرفة لم يكن شريرًا، لأنه لم يكن هواءً شتويًا وحسب وإنما كان خيالها الذي يريد أن يصل كروح طيبة إلى كل من يحتاج إلى مساندته.

بالعودة إلى البداية، أي إلى الحدث الواقعي الذي نتج عنه كتابة قصتي “الهواء الطيب” يجدر القول بأن الشتاء نفسه بالنسبة لي وتحديدًا عند سقوط المطر هو عزاء الطفولة .. الكرة الملوّنة في الشارع الخالي كانت في هذه اللحظة تمثيلًا لكل ما ضاع مني أثناء اللعب فأدركت بأنني لم أكن أمتلكه .. كل ما كافح خيالي لتحويله من فقدان إلى مواساة من نفسي إلى نفسي، ومن نفسي إلى آخر لا أعرفه .. لهذا، حينما تخيلت الرجل العابر يلتقط الكرة ويعود بها إلى طفلته؛ فإنني كنت أخلق المشهد الذي تمنيت أن يحدث، المناقض لما حدث بالفعل .. كنت ألخص حياتي، التي لا تسترد ما يضيع، وإنما تبحث عنه في ذات أخرى، طفل آخر يُحتمل أن يستعيدني من غياب أزلي.

نبوءتي الكامنة في نهايتك

الأطفال يحاولون تجربة كل شيء كلعبة، وأنا كنت أحاول تجربة كل شيء كاسترضاء .. خطر في ذهني أن أسير وراءك داخل البيت .. في أي مكان تتحرك إليه .. هل كان الوعي بالسوء الذي تجثم به على حياتنا منعدمًا أم ضبابيًا أم ساطعًا؟ .. هل فعلت ذلك عن غفلة أم حيرة أم خوف؟ .. ربما حدث ذلك في إحدى الفترات القصيرة النادرة التي كانت الأمور تبدو خلالها ظاهريًا على ما يرام، أو على الأقل في حالة تعطيل مؤقت للشرور الروتينية: تتحدث مع الجميع بشكل عادي نسبيًا – عدا شقيقتك الكبرى – لا تصيح ولا تشتم ولا تفتح المطواة ولا تصفع الأبواب ولا تحطم الأشياء .. تشاركنا كعائلة لحظات من الحميمية التقليدية كالفرجة على فيلم السهرة أو الخروج للتنزه أو الاحتفال بمناسبة ما .. كان هذا نادرًا جدًا، وربما تركزت أغلب تلك اللحظات في مرحلة مبكرة من طفولتي .. المرحلة التي ربما ينسجم معها قراري أن أمشي وراءك طول الوقت .. لم أفكر أن أفعل ذلك مع شخص آخر داخل البيت أي مع مخاطرة أقل .. قررت أن أفعل ذلك معك أنت .. ظللت أتبعك من الصالون إلى الصالة إلى المطبخ ثم إلى الصالة ثانية، وعندما وصلت إلى عتبة حجرتك جاءت استجابتك حاسمة .. التفت نحوي ونظرت بملامحك المتجهمة لأسفل حيث عيني اللتين تترقبان رد فعلك ،وبنبرة حادة وتحذيرية، عالية قليلًا سألتني: “انت لازق في طيظي ليه؟” …

تجربة لم تستمر إلا لثوان معدودة، انتهت بصدمة لم أضحك عليها إلا بعد مرور زمن طويل .. حينما بدأت أنا الآخر في استخدام كلمة “طيظ” في عبارات تمزج بين السخرية والغضب .. كنت شخصًا يسهل عليه بالطبع استعمال تلك المفردات وهو يخاطب طفلًا صغيرًا، أما أنا فلم أتوقف عند الاستفهام التوبيخي نفسه بقدر مواجهتي لما يشبه يقظة غريبة .. إفاقة مباغتة من شرود غير منطقي على حقيقة أنه ما كان يجب حقًا أن أتبعك .. كأنني انتبهت بشكل مفاجئ، وكنبوءة مراوغة، على ما سيصير إليه زمنك القصير اللاحق لتلك اللحظة.. كأن مصيرك قد تكشّف بطريقة غامضة أمام بصيرتي الطفولية، وكان يجب حينئذ أن أوقن بحتمية الابتعاد عن طريقك تفاديًا لتلك النهاية المأساوية التي تخاتلت في عينيك وأنت تنهرني عن الالتصاق بطيظك .. كأنما كنت تربد أن تنقذني بطريقتك المعهودة.

توقفت عن المشي وراءك طوال ما تبقى من حياتك، ولسنوات كثيرة جدًا بعد موتك .. حاولت التحرك في مسارات بعيدة عن تلك التي تركت خطواتك أثرًا دامغًا للهلاك في عتمتها .. كنت أتصور ذلك .. لكن الحقيقة أنني منذ ذلك اليوم البعيد في طفولتي ظللت أدور في مدارات فنائك .. أتوهم الابتعاد عن قبرك، ولكن كانت هذه المدارات تقربني إليه أكثر .. ببطء تام وعماء خالص .. لم أتوقف عن محاولة استرضاء جحيمك دون أن أشعر .. الاسترضاء الذي سيصبح لعبة طفولية لاختبار الموت بعدما أدركت في الأربعين من عمري أن قدمي الصغيرتين كانتا في باطن خطواتك .. أنني كنت أعيش هلاكك نفسه بمظهر مختلف ولمسافة مغايرة من الوقت .. بعدما أدركت أنني كنت أتبع نبوءتي الكامنة في نهايتك.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

السبت، 9 سبتمبر 2023

محاضرة في المطر: مسودات الغضب

في روايته “محاضرة في المطر” الصادرة عن منشورات تكوين بترجمة مارك جمال يقدم الكاتب المكسيكي خوان بيورو خلخلة لـ “مفهوم المحاضرة”، سواء على مستوى فضائها المكاني أو ذات “المُحاضِر” أو بنية المحاضرة نفسها. تعمل هذه الخلخلة على إزاحة الأصل المفترض للمحاضرة ـ أيًا يكن التصوّر الذي يحدده ـ وكذلك الغاية التي يجدر أن تنتهي إليها، أو ما يمكن أن يكون مقصدًا مصيريًا وحاسمًا لها.

“يقرأ للحظات، ويبتعد عن الصفحات للحظات، فلا يبدو عليه أنه يجهل فحواها وحسب، بل يبدو وكأنه يعيبها أيضًا. وعلى المكتب، تتجلى في بعض التفاصيل مظاهر الاستخدام الشخصي غير المعهودة في مُحاضِر يلقي محاضرته على الملأ. ربما كانت هناك كرة تنس يتلهَّى بها المُحاضِر، أضف إلى ذلك فأرًا يعمل بالزنبرك، وبضع قطع من الكعك. أما حضور تلك العناصر المنزلية، الذي يبعث على الحيرة في البدء، فيعزز المغزى النهائي الذي تنطوي عليه الحجرة، ما يسري بالمثل على ثياب المُحاضِر، الثياب التي لا تليق بلقاء عام على نحوٍ ما”.

تنزع هذه الخلخلة بالضرورة اليقين عن “المخاطب إليه”، أي من تتوجه إليه المحاضرة؛ فيصبح احتمالًا متعددًا ومتغيرًا داخل الذات “المتصدعة” للمُحاضِر من قبل أن يكون “آخر” مجسدًا في مواجهته. بذلك تتحوّل “المحاضرة في المطر” إلى “المطر الذي يحاول أن يتكلم / يكتب” نفسه بعد “استرداد” المحاضرة لطبيعة المطر نتيجة هذه الخلخلة. تصبح المحاضرة في حالة محو مستمرة لصالح “المطر”.

“(المُحاضِر): لقد أضعتُ الأوراق! (يقلِّب الصفحات). أجل، لقد أضعت المحاضرة. أطلب المعذرة. إن فقد المرء أوراقه، فقد وقاره. لا أدري ما الذي يجري لي. إن حياتي كلها تدور حول النظام، فأنا أشتغل في ترتيب مكتبة، وعلى الرغم من ذلك، تنسل الأشياء من بين يديّ”.

إن عدم ملاءمة التفاصيل المكانية لطقس “المحاضرة”، كما يتطلب المشهد التقليدي لإلقائها، لا يعني فقط الإمكانية غير المحدودة لاستبدال المكان، وإنما الإيحاء أيضًا بأن “المحاضرة” في صورتها “التخريبية” تحديدًا هي التي تخلق مكانها. تكتشف باستمرار الأنقاض الجمالية للمكان مثلما تكتشف الأشلاء المعرفية للمُحاضِر ذاته وراء المظهر النمطي للمحاضرة. “ضياع المحاضرة” إذن أو “تضييعها” هو إغواء دائم لتخطي “الشكل المستقر” نحو الحضور المرتجل أو “الوهم الطائش للحضور” الكامن في أغوار ما هو “طبيعي” و”لائق” و”متزن”، والذي تتوحد وتتجادل من خلاله أنقاض المكان بأشلاء المُحاضِر بفعل “كتابة” المحاضرة لنفسها. الكتابة التي تفكك نفسها بما ينسجم مع كونها “مطرًا”.

“لم أفكر في قراءة محتوى الأوراق، وإنما الارتجال مستعينًا على ذلك بالمسودة. فأنا في حاجة إلى تدوين الترتيب الذي أسرد به الموضوعات، والاقتباسات، والأسماء المراوِغة”.

أي علاقة تربط بين “إزاحة الأصل والغاية” للمحاضرة وبين “ألم الغاضبين” الذي كان يتأمله دانتي: “أصحاب الطباع الحادة العالقين في سريرة النفس”، والذين يرى “المُحاضِر” فيهم ذاته إلى حد بعيد؟ إنه ذلك الغضب الذي لا يكتفي برفض حكمة الأصل وإنما يتجاوزه نحو الانتقام من هيمنتها. الذي لا يقنع بعدم الاعتراف بالغاية القدرية وإنما يتعداه إلى الثأر من إكراهاتها. “المطر! الكائن الحر قادر على تغيير السماء”، هكذا تبدو المحاضرة في “تمزقها” نوعًا من المجابهة الساخرة لما يكوّن “الأصل” و”الغاية”. للمبررات والإلزامات المحصنة بالقداسة التي تُشكل “البداية” و”النهاية”. لما يختبئ وراء كل البدايات والنهايات.

“(يتوجّه المُحاضِر بالحديث إلى أحد الحضور). من أكون في نظر ذلك الشارد الذي يسعى إلى الاحتماء من المطر بجريدة، فيصل إلى القاعة وقد التصق شطر من الملحق الرياضي بوجنته؟ إنه لا يعرفني، ولا يهتم بالموضوعات التي أطرحها، ولكن حتى ذلك الشخص قد ينشأ بيني وبينه رابط ما”.

المخاطب إليه أو “الاحتمال” داخل ذات “المُحاضِر” ليس شخصًا مٌتعيّنًا قابلًا للتبدل إلى شخص آخر يتسم بـ “واقعية” ما، ولكنه بالأحرى الأشباح المتعددة والمراوغة داخل هذا المتعيّن. الأشباح التي لا تتمثل حسيًا وتُشكّل العتمة الباطنية لـ “المُحاضِر” التي يحاول تقويضها.

“(يشرب ماء). إن حيلة المُحاضِر الكبرى: أن يشرب الماء. الأمر الذي يُظهِر أنه ممسك بزمام الموقف، كما يُشعره بالارتياح. وربما لجأ المُحاضِر إلى الوقفة أيضًا.

يُلاحظ أن خوان بيورو يدفع “المُحاضِر” للحديث والحركة كما لو أنه ـ ظاهريًا ـ يسعى لإلقاء محاضرة حقيقية. يطارد السيطرة، ويؤدي الحيل المألوفة لبلوغها، كما يراوده الأسى والارتباك أمام العثرات الرابضة في طريق كلماته؛ لكن ذلك يبدو تقمصًا هازئًا لصفة “راعي المتن” التي لا يتوقف من ورائها عن هدم رصانته وبعثرة دمائه.

“لعلك تتساءل عمّا إذا كانت فكرة تأليف كتاب قد أغوتني، وعمّا إذا كنت أرغب في الانتماء بدوري إلى ذلك المتحور الراقي من الثدييات: أي المؤلف. كلا البتة! لست في حاجة إلى وسم كتاب باسمي، كما توسم الأغنام المنساقة إلى المجزر”.

“المحاضرة” ـ بهذه الكيفية ـ هي ما يضمن للصفحات أن تبقى مطرًا فعليًا، وليس “مطرًا مجازيًا” بين دفتي كتاب. “إن العالم قائم على قيد الوجود حتى يصير كتابًا”. يستند “المُحاضِر” إلى مقولة مالارميه في شرح سبب رفضه لأن يقترن اسمه بكتاب. “إن كل ما يحيط بنا كتاب، والمكتبة نبذة توجزه للقارئ”. ربما يرى في ذلك الطريقة الأنسب للانغماس في تصدعه، للعب بهذا التصدع، لاستعماله كطريقة مُثلى لمخاطبة الأشباح اللاهية في أعماقه. لتحريض الأشباح على مخاطبته. مازلنا بالطبع نتحدث عن “الغضب”.

“بالمطر يتحرر الشعراء من العالم، ويثيرون في النفوس شجنًا هيّنًا على النفس، يليق بيوم غائم، حين لا تُعتبر حتى أسوأ الأشياء مروّعة تمامًا. هكذا يتخيّل الشاعر ثيسار بايّيخو أنفاسه الأخيرة: “سأموت في باريس تحت وابل من المطر، في يوم تحضرني ذكراه قبل أن يجيء”. جميل هو الحزن الذي يمكن تذكّره. والشاعر يستبق نهايته وكأنها شيء قد لقيه في ما مضى، بل ويذكره أيضًا، ذات خميس، تحت المطر. إنه الخيال السامي”.

هل يمكن عزل ما يُعد جوهرًا “رومانسيًا” ربما للمطر عن كونه “تفكيكًا وتناثرًا” للكلمات / الجسد / العالم أو لـ “الحضور المتوهم”؟ ربما يكمن سر هذا الاستفهام في محاولة الإجابة على تساؤل آخر: إلى أي مدى يمكن للشعور بـ “الشجن الهيّن على النفس” أن يصمد؟ الشعور الناجم عن المطر “حين لا تُعتبر حتى أسوأ الأشياء مروعة تمامًا”. هكذا تُعيد “المحاضرة” تعريف “الرومانسية” بشكل مناقض، يعتمد على عدم الاستسلام لها. ليس هناك ما يضمن لـ “الشجن” أن يبقى مروّضًا لحظة أن نكون “مطرًا”، حتى لو كان “مطرًا مائلًا لا يُفسد شيئًا” كما كان يحب فرناندو بيسوا. ليس هناك ما يضمن أن تبقى أسوأ الأشياء “غير مروّعة تمامًا” حين نتحوّل إلى ما يُسمّى بـ “الخيال السامي”. إن “اليوم الغائم” قد يتيح لنا ـ ببساطة ـ أن نشعر ونفكر ونفعل أي شيء ممكن، فقط ثمة ذاكرة حينئذ إما أنها هنا أو عالقة في الغياب. ذاكرة “الخلخلة” التي ربما ليس بوسعها أن تسمح أو تمنع، ولكنها تمثل حال وميضها انتباهًا شاحبًا إلى أننا مجرد “محو لما لم يوجد أصلًا”. أن المطر دليل دامغ لذلك. بهذا تأمن رومانسية “اليوم الغائم” من التهديد والنبذ. حين تكون مضادة لوعدها بأن تكون أمانًا أو شيئًا منه. حين تُقيّد “غيبيتها”.

“قلّما تفوّق شيء على استسلام المرأة التي أمضت يومها كاملًا بمزاج عكر. إنها مرتبة عليا من مراتب النصر، كأن يكتشف المرء واحة بعد أن قطع الصحراء. وهكذا كانت سوليداد تترك في نفسي ذلك الأثر المتباين: اللذة المؤجلة طويلًا، شبه المستحيلة، النابعة من مزاجها شديد السوء”.

عندما نفكر في الغضب تجاه الأصل والغاية فنحن نفكر بالتالي في الشبق الوحشي للاستحواذ الشامل على النقائض الذي يكوّن الغاضب، خاصة لما يُعد مستحيلًا وعسيرًا وبالغ العناد والغرابة كاستعادة المُحاضِر لأبيه بصورة “حقيقية” خارج الظلام، متخلصًا من الكراهية والفناء. للامتلاك المطلق كقرين للانتقام من الحكمة. كأنها الغريزة الكلية لدى الغاضب في خلق قدر تدميري لـ “القدر”. القبض على النشوة الإعجازية التي تستبعد ما يتأسس عليه ويعنيه ويُحتّمه “القدر”.

“لم أتمكن من رؤية وجهه، حتى وإن ألفت عيناي الظلام. ربما كان السبب في ذلك خوفي من رؤية أمارات الكراهية والإحباط بادية على وجهه. أحيانًا أفكر في أن ذلك الوجه الذي عجزت عن رؤيته، وأردت الهرب منه، كامن في جميع الكتب التي قرأتها… وجه أبي الذي كره الآخرين، وكره نفسه أكثر من كل من عداه، من دون أن يدري ما العمل ولا إلى أين الذهاب، وهو الغارق في المطبخ، بينما أسرته مستغرقة في النوم. لا تحدثت إلى أبي يومًا، ولا عرفت كيف أتحدث إليه”.

لكن الاستحواذ ليس مُدرَكًا لدى الغاضب، ولا ينبغي أن يكون كذلك. إنه كفاح “سيزيفي” يدمج بين الإيمان والإنكار ويتجاوزهما. ذلك ما يجعل “الشبق الوحشي للاستحواذ على النقائض” مطرًا. تأرجحًا تهكميًا ومأساويًا بين الأفكار والتدابير والمحاولات والمشاعر والمسودات. ذلك ما يجعل تشريح العجز عن الامتلاك المطلق هو “الانتقام الفعلي” من الحكمة. كأن “القدر التدميري” غير القادر على التجسد يستهدف ذات الغاضب، باعتبار أن هذه الذات هي “القدر الذي لا ينتمي إليه الغاضب”. ما ينتجه الفشل في القبض على “النشوة الإعجازية التي تستبعد ما يتأسس عليه ويحتّمه القدر” هو الشرود الجمالي الذي لا يستعبده “الجمال”. فوضى الفكر التي تراوغ نظامه المنشود. ما ينتجه هذا الفشل هو الأحلام. الشذرات الخاطفة، بكامل حميميتها الاستثنائية وعذابها المتفرد، كـ “مطر” يخط احتضارًا غامضًا لحياته التي لم تحدث.

“لم يكن صمت سوليداد شديد الوطأة، وما كان يجب كسر ذلك الصمت. “تروقينني متى سكتِّ، إذ تصبحين كالغائبة” … مرة أخرى، نيرودا. كانت الحياة عند نيرودا غرَق المرء في ذاته. أحتفط بذكريات طيبة تركتها سوليداد، ولكن الفأر قد قرّب كلًا منا إلى الآخر بطريقة خاطئة”.

هل تصلح الاقتباسات التي “أحرق المُحاضِر أهدابه” بحثًا عنها كثأر؟ كبدائل للثأر؟ أتحدث عن الهيمنة الكونية المجهولة التي سُلبَت من المُحاضِر قبل ولادته فأصبح خاضعًا للموت. كل استدعاء للاقتباس هو كتابة مختلفة له، طريقة “لغوية” محتملة لـ “تغيير السماء” بما يمتلكه المطر من قدرة على ذلك. مراقبة للتمزق. تفحص ما يحيل إليه “التغيير”. السماء لا “تتغير” إلا حين يساهم الاقتباس في حفل السخرية الذاتي بين الولادة والموت. هكذا يُنظر للثأر كبصمة هازئة، عادلة، حُرم صاحبها من “الغيب”؛ فقرر ألا يكون “مؤقتًا” وحسب، بل أن يستعمل جحيمه العابر في انتهاك ما يختبئ وراء كل البدايات والنهايات.

“أما لاورا فجرّعتني عقابًا راقيًا، عذابًا شهيًا، لا يُحتمل، عذاب السعادة المنقوصة دومًا. أذاقتني لذة اسثنائية، ولكنها منقوصة دائمًا. في حين قنعت هي بذلك”.

“أصابت في قولها: فلقد أردت امتلاك حكاياتها”.

“كانت إحدى النوافذ مضاءة. إنها نافذة القدر. أيملك أحدهم مقاومة بريق مؤطر في الظلام؟ لك أن تتخيّل ما فعلت: ألقيت نظرة حيث لا يجدر بي ذلك. فرأيت أسوأ ما يمكن رؤيته: كانت لاورا سعيدة بعيدة عني”.

المطر لا يُنظر له وإنما يُسترَق النظر إليه مهما بلغت حدة التحديق في ما يبدو تجليًا ناصعًا لانهماره. ما تضمره وما يتنكر وما يخفى عنك من نفسك. ما تحدس به وما تحفر داخلك لانتزاعه وما تتبينه فجأة في روحك. أنت ومسودات غضبك التي تغرق فيها، بالرجوع إلى اقتباس كورتاثار: “أنت لا تختار دفقة المطر التي سوف تغرق فيها حتى أذنيك”. القلب ودموعه عند استرجاع اقتباس آخر للشاعر فرلان: “يذرف قلبي الدموع كما ينهمر المطر في المدينة”. المتلصص والنافذة وما يبقى ضبابيًا مخاتلًا دائمًا ورائها فلا يمكن امتلاكه. المطر هو أنت والقط والفأر والمطاردة التي لا تكشف سرًا مهما كشفت.

أخبار الأدب

2 سبتمبر 2023

الثلاثاء، 29 أغسطس 2023

كيف يُصنع التاريخ الأدبي؟ (1)

في الآونة الأخيرة أثيرت تساؤلات حول الأسباب التي تقف وراء المبالغة في المديح والاحتفاء بعمل أدبي، والدوافع الـ “سوسيو ـ ثقافية” المسؤولة عن خلق “أمر واقع تكريمي” لكاتب معين.

هذه المحاضرة التي أتناول خلالها جانبًا من مشروعي النقدي “التاريخ الأدبي … سياقات التمييز والهيمنة” والذي بدأت العمل به منذ فترة طويلة وأوشَك على الانتهاء؛ هذه المحاضرة لا تُسائل معنى الجدارة أو تناقش مفهوم الاستحقاق، وإنما تستهدف الإجابة على تلك التساؤلات المتوالدة، أي تفكيك العوامل السلطوية التي تمنح كاتبًا أو كتابًا قيمة وشهرة بعيدًا عن الكتابة نفسها، أو بتعبير آخر تحليل الأسباب والدوافع لتكريس وهم “الزعامة الأدبية” أو “البطولة الثقافية” الزائفة في ضوء علاقات القوة داخل المدن المركزية مثل “القاهرة” وخاصة ـ بالضرورة ـ لو كانت هذه المدينة موضوعًا أساسيًا للعمل الأدبي.

بتحديد أفكار وملاحظات مختصرة يتناولها الكتاب يمكن القول إن الكاتب الذي ينتمي إلى جماعة أدبية من الشخصيات التي تمتلك “مكانة مركزية” ـ وهو المصطلح الذي يتضمن المشروع النقدي المُشار إليه تعريفًا تشريحيًا له، كما لا أقصد هنا النموذج الرسمي للجماعة وإنما كيانات التشارك الإنساني وبنيات العلاقات الشائعة كالصداقة أو الزمالة مثلًا ـ هذا الكاتب يضمن عمله الأدبي من الأخبار والمقالات والتدوينات والمراجعات المصوّرة والمنشورات التفاعلية على وسائل التواصل الاجتماعي ما لا يضمنه عمل أدبي لكاتب خارج المركز سواء على مستوى الوفرة أو طبيعة التداول .. أتحدث هنا عن لمعان النفوذ التأثيري الذي يحظى به أفراد الجماعة الأدبية التي ينتمي إليها ذلك الكاتب، أي الأسماء التي لابد من الثقة في خطاباتها نظرًا لكونها “معروفة” و”ناجحة” أو “حصلت على اعتراف وتقدير المؤسسات الثقافية المرموقة” بما يعني أن احتفاءها بعمل أدبي سيدفع كُتّابًا آخرين ونقادًا ومدونين وقراءً وفي تزايد غير محكوم للاحتفاء بهذا العمل من أجل اكتساب قدر من ذلك اللمعان الذي يحظى به أفراد الجماعة الأدبية التي ينتمي إليها ذلك الكاتب .. هكذا ستتوالى المقالات والتدوينات والتقارير المصوّرة فضلًا عن الحوارات والاقتباسات وإعادات النشر لذلك العمل وهو ما يمثل الممارسات الجماعية لـ “صُنع التاريخ الأدبي” والتي لم يكن بمقدورها أن تحقق ذلك لولا انطلاقها أو بدء انتشارها من داخل تحالفات “مدينة مركزية”.

سيفتح كل ما سبق أبوابًا لا حصر لها نحو الماضي الأدبي للكاتب: كتبه ونصوصه ومقالاته إلخ .. سيُعاد اكتشافه مع كل إصدار، ليس فقط ككاتب، وإنما ككاتب في موضع اهتمام “رأي عام”، يدعمه “مثقفون كبار” .. سيكون ضروريًا حينئذ أن يسعى إليه الناشرون أكثر، وأن يُكتب المزيد عن إصدارته، وأن تتسابق إليه اللقاءات الصحفية، ودعوات المناقشة، وحفلات التوقيع، والجوائز، والترجمات على نطاق أوسع .. سيتم تثبيت “التاريخ الأدبي” بفضل تلك التوالدات المستمرة، التي لا تخضع للتحديد، بوصفه “وعيًا جماعيًا رسميًا” يتنقل عبر الزمن.

يكمن السر في ثنائية الزخم والإلحاح .. وفرة العناصر التي لديها “منزلة مميزة” داخل “الوسط الثقافي”، وتعمّدها الكتابة عن ذلك العمل الأدبي والترويج له لأطول وقت ممكن بحيث يصل إلى مستوى التجذّر الذي يجعله قادرًا على خلق نتائجه بنفسه، ومراكمة آثاره بلا عطل، ودون حاجة لمزيد من التدخل.

تمثل المدينة المركزية ماكينة إعلامية وثقافية موظفة لكتابة التاريخ الأدبي الرسمي، ذلك لأنها صاحبة الفضل في تمييز كتّاب وأعمال أدبية عن كتّاب آخرين وأعمال أدبية أخرى سواء على مستوى الانتشار أو الرواج النقدي أو الفوز بالجوائز والترجمات إلخ .. فلو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما كانت تلك الاستحقاقات متفاوتة بين مدينة وأخرى أي أن تُحرم مدينة من الإمكانات والبدائل التي تمنحها مدينة أخرى للمقيمين داخلها، وأن يكابد من هم خارجها في حفر بصمة خاصة ضمن حدود الفضاء العام الرسمي المكلف بديهيًا بالنبذ والإقصاء والتعتيم على أي بصمات لا تمر عبر سياقاته مقارنة بالتوطيدات السهلة والمجانية لخطوات العاملين واللاعبين في مسارحه الثقافية وكواليسها.

إن “المكانة الأدبية المركزية” تعني وبشكل دقيق أن ذلك الكاتب الذي يتمتع بها ما كان ليبلغها لو أنه قد أنتج أعماله وهو مازال مقيمًا في قرية أو في عاصمة إقليمية مثلًا .. تلك حقيقة بسيطة ومختصرة ووافية حيث أنه ـ وهو ما أعيد التأكيد عليه ـ لو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما كان هناك فرق بين المسارات التي يقطعها النص أو الدراسة النقدية أو العمل المترجم إذا ما كان الكاتب يسكن في بلد ما أو في بلد آخر، لو كان يدرس في مكان ما أو في مكان آخر، لو كان يعمل في وظيفة ما أو في وظيفة أخرى.. تلك حقيقة بسيطة ومختصرة ووافية لا يخدشها التغاضي المتعمّد أو الجاهل عن تأثير المزايا التي توافرت في نطاق جغرافي معين، وحُرم منها نطاق جغرافي آخر.

خلق قارئ ميت

في مقابل لقطة احتفالية “كيتشية” كهذه؛ سيكتب ذلك القارئ الذي أوقّع نسخته من روايتي “خلق الموتى” على ظهر “قوّاد الكتب” المُسمّى جودريدز: (يحاول ممدوح رزق أن يخرج عن كل مألوف تقليدي في البناء الروائي فينجح إلى حد كبير ولكنه يقع سهوا في تضمين نصوص وأفكار خاصة لا تساعد على استمرار حركة السرد وتتابعه بشكل منطقي في بعض الأجزاء ولكن العمل رغم هذا يعد “تحديا” كبيرا لمن يريد الجدة والتميز).

صورة أيقونية مبتذلة “كاتب يوقّع روايته الجديدة لقارئ في إحدى المكتبات” سيكون ثمنها حُكمًا استسهاليًا ساذجًا لشخص لا يكتفي بتحويل عجزه عن استيعاب دوافع “التعمّد” لتضمين “النصوص والأفكار الخاصة” في الرواية إلى “سهو” للكاتب فحسب؛ وإنما يؤمن أيضًا بضرورة أن يستجيب للإغراء الانتهازي الوضيع لجودريدز بتوثيق هذا الجهل المتبطل والهزلي على صفحة الرواية في الموقع والذي يضاعف أرباحه اعتمادًا على نفس الأسباب التي من أجلها تضمن منصات تقييم السلع والخدمات والأماكن الترفيهية زيادة مكاسبها.

لماذا تكون هذه اللقطة ثمنًا لإدانة غافلة، بلهاء وسمجة كتلك، سيقرؤها الكثيرون ويصدقونها دون إرجاء أو محاولة للتيقن؟ .. ألم يكن من المحتمل أن يكتب الحماقة البائسة ذاتها قارئ آخر، لم يحضر حفل توقيع “خلق الموتى” بمكتبة “كلمات” في مساء 4 مايو 2013، وبالتالي لم توقّع نسخته من الرواية أثناء التقاط “صورة تذكارية”؟ .. كان يمكن أن يحدث هذا حقًا، ولكن بما أن ذلك القارئ الذي يشاركني الكادر هو من كتب تلك الكلمات الغبية والوقحة على جودريدز فإن ذلك ليس ناجمًا إلا عن هذه الصورة .. عن ما لا تعترف به هذه الصورة .. لأنني سايرت الوعد المظهري الخبيث للتناغم بين “كاتب” و”قارئ”، المكرّس في لقطة من “حفل توقيع” .. لأنني تقمصت الادعاء المخادع للألفة بين روايتي وبصيرة شخص آخر، والمجسّد في مشهد ليس عليه سوى التثبيت الشكلي لتلك الألفة .. لأنني كنت أعرف بطريقة ما، وبينما أوقّع نسخة “خلق الموتى” في تلك اللحظة أن هذا ما سيحدث .. لا يتعلق الأمر بهذا القارئ تحديدًا وإنما بـ “قراءة” روايتي بشكل عام .. كنت أدرك أن صورة كهذه هي تمثيل للمفارقة المعهودة بين ما تحاول الإيهام به من تجانس، وبين اعتداءاتي السردية الساخرة على الخمول المسالم لذهن القارئ، الذي سيحاول عفويًا الدفاع عن أمانه الخرب برد فعل مضاد يحصّن رعشته البليدة.

أن يقرؤك أحد؛ فهذا في حد ذاته ما قد يخلق فرصة متكررة لاختطافك داخل جحيم انتقامي كالذي تفحصته قصيدة “محمد الماغوط”:    

“يخيَّل لي أنَّني أتهاوى على الأرصفة
سأموت عند الـمنعطف ذات ليلة
وأصابعي تتلوَّى على الحجارة كديدان التفَّاح
دون أنْ ينظر إليَّ أحد.
إنَّني أرى نهايتي
ألـمح خنجراً ما في الظلام مصوَّباً إلى قلبي
عربة مطفأة
تقلُّ طاولتي وأوراقي إلى عرض الصحراء.
ستهب ريح قويَّة آنذاك
تداعب أظافري القصيرة
وتكنس قصائدي في الشوارع كقشور الخضروات”.

ماذا لو لم تكن مقروءًا فقط، بل ومرئيًا في الوقت نفسه كشخص عادي ولا يبدو مؤذيًا أيضًا؟

من كتاب “وهم الحضور” / مذكرات الكادر الضال

يصدر قريبًا

الأربعاء، 16 أغسطس 2023

ما يخبئه “جرح الأسلوب”

من حين لآخر أنشر في مدونتي الشخصية أجزاءً من روايتي “نصفي حجر” التي أعمل على كتابتها منذ سنوات .. أجزاء تبدو “جاهزة للنشر” .. في أحد الأيام وقع اختياري على جزء يتضمن هذا المقطع:

“لماذا لم تشطب تلك الأيام بالكامل بحيث لا يظهر أثر لها؟ .. هل لأنك لا تريد الاعتراف بفقدانها؟ .. هل لأنك متشبث برجاء استردادها؟ .. هل لأنك تريد أن تتذكرها؟ .. هل لأنك تعرف أنها لم تتبدد وإنما أنت الذي حُرمت منها فحسب؟ .. هل لأنك تعرف أن “حقيقتها” ستظل حية داخلك؟ .. لماذا هذه الأيام تحديدًا؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام سنة 1984؟ .. عن بقية أيام حياتك؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام العالم؟”.

بعد نشر هذا الجزء من الرواية أعدت ـ كما هي العادة ـ قراءته على المدونة .. شعرت فجأة بأن تكرار أداة الاستفهام “هل” في بداية بعض الجُمل بالمقطع السابق “يثقل” السرد بشكل غير مبرر، أي أنه من الأفضل الاستغناء عنه .. فكرت في الأمر ثم قررت إجراء هذا التعديل، وبالفعل أصبح المقطع المنشور هكذا:

“لماذا لم تشطب تلك الأيام بالكامل بحيث لا يظهر أثر لها؟ .. هل لأنك لا تريد الاعتراف بفقدانها؟ .. لأنك متشبث برجاء استردادها؟ .. لأنك تريد أن تتذكرها؟ .. لأنك تعرف أنها لم تتبدد وإنما أنت الذي حُرمت منها فحسب؟ .. لأنك تعرف أن “حقيقتها” ستظل حية داخلك؟ .. لماذا هذه الأيام تحديدًا؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام سنة 1984؟ .. عن بقية أيام حياتك؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام العالم؟”.

التفكير في الأمر لم يكن يعني فقط الإجابة على سؤال: “هل ينبغي أن أفعل هذا حقًا أم لا؟” وإنما كان يعني أيضًا ـ وبصورة أقوى ـ تأمل الفرق بين اللحظتين: لحظة الكتابة الأولى والاستقرار على ما انتهت إليه، ولحظة النشر التي طالبتني بإعادة الكتابة بطريقة أخرى وفقًا لهذا التغيير.

لكل لحظة كتابتها دون مقارنات تفاضلية مع لحظة أخرى تسبقها أو تخلفها .. كل لحظة مختلفة وغير منتهية حين تكون نصًا، أي تخلق مبرراتها أو دوافعها اللغوية المستقلة عن لحظات أخرى”.  

في كتابي “استراقات الكتابة” هناك محاضرة لي عنوانها “الصفات العقابية للكتابة” تضمنت هذه الكلمات التي تفسر الشعور بـ “الانزعاج” الذي تملكني من تكرار “هل” عند نشر مقطع الرواية، وهو بالطبع ما لم يكن حاضرًا عند كتابتي له قبل وقت طويل .. كلمات تفكك الحكم العفوي بأن “شيئًا خاطئًا” يجدر “تصحيحه” في بنية السرد، لتكشف عن أن المسألة لا تتعلق بالصواب والخطأ وإنما بـ “التباين” بين حالتين للكتابة لكل منهما قراراتها اللغوية الخاصة .. بين ما يُفترض أنني كنت عليه عند كتابة هذا الجزء في الماضي، وبين ما يُفترض أنني كنت عليه عند كتابته في الحاضر.

إن الفرق بين اللحظتين ـ كما فكرت في الأمر ـ يكمن في أنني أردت للنسخة الأولى من المقطع أن تكون استجوابًا فعليًا .. رغبة وحشية للسارد في الحصول على إجابة حاسمة، مصيرية، يرجوها ويتوقعها ويلح عليها بإصرار بالغ الحسرة .. أنني أردت للنسخة الثانية من المقطع أن تكون استجوابًا شاحبًا، واعيًا بالخذلان .. يأس معاتب لسارد يترنح بعدم تصديق أنه لن يحصل أبدًا على الإجابة التي يهلك روحه من أجلها .. هذا ما يخلقه تكرار أداة الاستفهام “هل”، وما يخلقه حذف هذا التكرار .. تغيرت النبرة، الإيقاع، طبيعة الاستفهام نفسه.

إن ما يبدو للوهلة الأولى للكاتب ـ امتثالًا لغريزة التقييم القهرية ـ جرحًا أسلوبيًا في نصه عند مراجعة ما؛ هو في حقيقته “عدم توافق” بين العبارة أو الفقرة التي خطها الانسجام واليقين في وقت سابق، وبين ما تختبره بصيرة الكاتب وقت المراجعة من “مزاج” وجودي وخيالي آخر، والذي بالتالي يحرّض ويقود نحو الاستجابة إلى ضرورة سردية أخرى .. “عدم التوافق” الذي يتحتم عليه التنكر تلقائيًا في زيف “ثقل غير مبرر يجب الاستغناء عنه” .. حاجز التعمية ـ الدائم أو المؤقت ـ أمام استيعاب أن “الأسلوب هو جزء عضوي في الكاتب” بتعبير “هاري بينغهام”.

لا أعرف أي نسخة من المقطعين ستحتفظ بمكانها في الرواية عند نشرها .. النسخة التي مازالت في مسودتي، أم النسخة التي تعيش في مدونتي .. لكنني أعرف أن أيًا من النسختين لن تستبعد الأخرى .. كل نسخة تنطوي على الأخرى، تذكّر بها وتشير إليها .. ربما ستقرر الرواية في النهاية الاحتفاظ بالنسختين معًا.

هذا مثال لما أحرص دائمًا على تأكيده لدى طلاب ورشتي القصصية .. إن التمرين على الحذف ليس أداءً شكليًا “آليًا” فحسب ولكنه في المقام الأول وقبل أي شيء اكتساب القدرة على التفكير في المعاني المتعددة، التأمل في المقاصد المختلفة، التنقل بين المسارات المتباينة، تفحص البدائل .. لذا فالحذف لا يقترن بمجرد الوعي بالسبب أو الدافع الذي يفرضه في لحظة معينة، وإنما باستبصار وإدراك الأبعاد والعلاقات الأخرى التي تحوم حول ما يتم حذفه وتكمن في أغواره.  

هذا مثال أيضًا لما يتعذر فهمه على كل محرر أدبي أو ناقد أو قارئ لا ينعم سوى بالغباء المحصّن بالوقاحة، ومن ثمّ فإنه حين يقارب نصًا ما لا يعثر خلاله على “نسخته” المُشبِعة أو المُرضية فإن الأمر سيبدو كما لو أنه فرصة ثمينة عليه انتهازها بنطاعة متأصلة لتشييد حفل عدائي كي يستعرض بكل ما ينتفخ به من خواء سمج عجزه عن “اكتشاف / كتابة” النسخ المخبوءة لهذا النص.