أن أقول شيئًا ـ مهما كان ـ فهذا يعني أنني قررت ـ عن طيب خاطر ـ أن أكون العنصر الحقير في الحكاية .. أنني أصبحت أكثر العبيد المخلصين لهذه المأساة الهزلية .. الصمت المقترن بإبقاء الوجه بعيدًا عن الاتجاه الذي يأتي منه هذا الفصل من الجحيم هو الرد الوحيد المناسب، المثالي، الذي يصنع دائرة لا نهائية مغلقة، لا ينبغي أن يقترب من حصانتها أي رد فعل آخر .. أفكر بعد توقف أختي عن الكلام، واستمرارها في النحيب أن هذه اللحظة هي أكثر الأوقات الملائمة لأن تتأمل اللغة في دنائتها عبر كرامة السكوت .. أنهض من الكرسي .. أتحرك بخطوات مهتزة نحو حجرة أبي .. أفتح الباب الموارب قليلا وأنظر إلى جسده الراقد تحت البطانية في الظلام .. أتقدم نصف خطوة أخرى مع قليل من ضوء الصالة فيظهر رأسه الأصلع وفوداه الشائبين والضمادة الملتصقة التي تغطي أذنه .. أتأمل عينيه المغمصتين .. أين أنت الآن يا أبي؟ .. هل تحلم بشيء؟ .. ألا تتذكر ـ ولو على نحو خاطف ـ أي ماضٍ؟ .. هل ما زلت تسمع أمك وهي تناديك أو تشير إليك بـ “الأستاذ”؟ .. كانت لقسوتك وصرامتك عمق طفولي تعيس، نابعًا من علة قديمة مجهولة في حياتك .. تمر أمامي الآن محاولاتك الساذجة لتمرير يدك إلى جيوب بنطلون شقيقي الأكبر المعلق فوق الشماعة بعد عودته من العمل لكي تعرف ما لديه من نقود .. كنت أراقبك في صباي بتكليف من أمي وكنت فرحًا بذلك، ربما لأنها كانت فرصتي للثأر من انتزاعك للنقود التي كانت تمنحها لي عمتي كعيدية من جيب بنطلوني وأنا طفل دون أن أشعر ثم تعطيني أنت بعد ذلك نقودًا أقل وتحتفظ لنفسك بالفرق الكبير قائلًا لي إنك تدخرها من أجلي .. اكتشفت في بداية مساء ما وأنا أتتبعك أنك لا تحاول أخذ النقود من جيب أخي فحسب وإنما كنت تأخذ خلسة أيضًا من علبة كريم البشرة الخاص بأختي وتدهن يديك .. فضحتني نظرتي وأنا أدقق في أصابعك التي يظهر الكريم الأبيض من بينها .. كنت حينئذ ترفع يدك بساندويتش جبنة بيضاء إلى فمك لتقضم منه بينما كوب الشاي في يدك الأخرى .. انتبهت إلى نظرتي وأنت جالس على كنبة الصالة بالبيجاما فتحولت عيناك أثناء قضمك من الساندويتش إلى حيث كنت أتمعن .. إلى الكريم الواضح في يدك الممسكة بالساندويتش .. كان في عينيك نظرة لا أنساها .. نظرة طفل مسكين كانت نفسه تتوق بشدة لشيء لا يمتلكه فاضطر رغمًا عنه لأخذه في السر حتى لا يلحظه أحد ما ويتسبب في إحراجه أو توبيخه، ولكن “فعلته” كُشفت في النهاية .. كُشفت وهو يقضم من ساندويتش جبنة بيضاء ويرتشف من كوب شاي مرتديًا بيجاما كستور كخليط جسيم من الضعف والغفلة والارتباك .. كطفل عجوز بائس .. هذه النظرة قتلتني في صباي فقررت التوقف عن مراقبتك .. هل تستعيد مشهد وقوفك أمامنا بعد أن طرقت باب شقتنا ثم أخبرتنا بأن أخاك قد مات؟ .. هل تسترجع كل ما حدث لك بعد هذه اللحظة؟ .. ألا تعود إلى وعيك بعض الكلمات التي يمكنها أن تكوّن عبارة واحدة على الأقل عن كل ما حدث، وتستطيع أن تنطقها بشكل مفاجئ كخلاصة لعمرك؟ .. أم أن الدموع المحتبسة في عينيك تكفي جدًا؟أتراجع للخلف ثم أعيد باب الحجرة إلى وضعيته المواربة .. أتوجه للشرفة وأنظر إلى الشارع .. لا أفكر في أن ما حدث لأبي اليوم هو تحقق للصورة المشوشة التي أحسست بها في ذهني منذ سنوات طويلة .. لكنني حينما أترك الشرفة، وأغادر البيت، ثم يموت أبي بعد هذا اليوم بمدة قصيرة، وعندما أحاول كتابة ما حدث خلاله سوف أكتشف هذا النسيان .. سأتذكر أن ما حكته أختي سبق وأن شعرت عقليًا به في الماضي .. هكذا يمكنني أن أكمل مشهد وقوفي أمام سرير أبي وهو نائم في ظلام حجرته بضمادة تغطي أذنه المجروحة .. أستطيع مخاطبته من داخل صمتي التام .. نعم يا أبي؛ أنا أعرف جيدًا كيف يكون الألم في الأذن، وكيف يكون البكاء المكتوم في الصدر .. أنت الآن في نومك تقبّل الخد البارد والسمين للقدر دون أن تدري .. يمكنني أن أكمل مشهد وقوفي في الشرفة والنظر إلى الشارع بعد خروجي من حجرة أبي .. بوسعي أن أخاطب هواء هذا الشارع من داخل الصمت التام نفسه .. لعلك يا هواء الشارع ما زلت تذكر القصاصات التي تناثرت مع حركتك بعد أن ألقيَت من هذه الشرفة قبل سنوات كثيرة .. الهدايا غير المنتظرة للعابرين التي ظل يراقبها طفل أصبح يمتلك جسدًا أكبر من وراء شباك الصالون .. لم تكن قصاصات خطاب نادي القصة الممزق يا هواء الشارع، وإنما كانت أحلام صاحب اليدين الغليظتين التي رماها إليك.
جزء من رواية قيد الكتابة