هكذا يحدد فيليب بوطز الأمر بداية في الفصل الأول من كتابه "الأدب الرقمي"، ترجمة محمد أسليم، والمنشور في مجلة "علامات" المغربية، المجلد 2011، العدد 35 (30 يونيو/ حزيران 2011).
السيبرنطيقا (أو علم التحكم) كما ورد في هوامش الفصل المترجم، حقل متعدد التخصصات، ابتكره وينر نوربرت، ويدرس الأنظمة المنظمة ذاتيًا ليس من خلال مكوناتها، ولكن من خلال تفاعلاتها، حيث لا يُنظر سوى لسلوكها الشمولي. يُسمى أيضًا "علم التشابهات المتحكم فيها بين الأجساد والآلات". ويشكل هذا العلم أحد مصادر الأدب الرقمي، حيث لا يتردد البعض في تسميته بـ "الأدب السيبرنطيقي".
هل يمكن للفكر النقدي أن يتخيّل "يوثّق" نصًا "سرديًا مثلًا" لم يُكتب بعد، ويستند في "افتراضه" على "ممارسات رقمية" تبدو ظاهريًا "غير نصّية بالمعنى الأدبي" أي تستعمل الوسيط المعلوماتي، أو الأداة التي تعتمد عليها هذه الممارسات ليس في نقلها بصورة مرئية وحسب وإنما في تكوينها وتحوّلها أيضًا؟
أتحدث عن "الميديا" الشخصية، العفوية، الارتجالية التي يتم إنتاجها وتبادلها كـ "كتابة"، "صوت"، "صورة" بين "كاتب" و"آخر" في إطار ما يبدو أنه محض استعمال ذاتي، اتصال حسي تقليدي بين شخصين في مكانين متباعدين .. على أي شيء يرتكز الفكر النقدي في تخيّل وتوثيق هذا النص "المحتمل"؟
صورة الكاتب وتاريخها: النصوص المنشورة ـ ما كُتب عن أعماله السابقة ـ حياته الخاصة (مشتملة الماضي) كما يُظهرها بنفسه وكما يشير إليها الآخرون أو يتناولونها أو يكشفون عن صلاتهم بها عبر الوسائل المختلفة ـ ما يتداول عنه من "أسرار" إما في شكل "معلومات" أو "أكاذيب" أو "أقاويل".
توظيف الوسائط: استخدام معطيات انتقائية من صورة الكاتب وتاريخها عبر العالم الافتراضي في خلق تصوّر لماهية "الآخر" الذي يشارك الكاتب في هذه الممارسة الرقمية ـ نسج علاقات متعددة بين هذه المعطيات لتشكيل طبيعة التفاعل بين الكاتب وشريك أو شركاء الممارسة الرقمية ـ تعيين الأدوات الملائمة لكل تمثل خيالي ناجم عن هذا التواصل / الصراع المفترض بحسب خصائص كل أداة وكيفية تفاعلها مع الأدوات الأخرى.
يُعرّف فيليب بوطز في الفصل الأول "الموّلِّد" على النحو التالي: "يُسمى البرنامج بالموّلِّد عندما يبني في زمن واقعي، أي أثناء تنفيذه، ميديا أو أكثر (نص، صوت، صورة ...) تُقترح للقراءة. ومن ثمّ فالمولد هو مجموعة خاصة من الخوارزمات".
في هذه الحالة يعمل الفكر النقدي كـ "موَلِّد" استباقي، خفي، غير حاضر إلا بما ينتجه من فائض غير محكوم لتصورات (النص، الصوت، الصورة) المقترحة للقراءة. التمثلات دائمة التغير والتبدل، ليس بناءً على "الخيال" الذي أسس لها فحسب، وإنما على الوسائط التي استخدمها في تغييب حدودها أيضًا. كأن الفكر النقدي يتخذ موضع "التفاعلية المتقدمة" أي أنه يبدأ في صنع تأثير للنص السردي من قبل أن يكون لهذا النص وجود أصلي، وبالتالي تصبح "إعادة الكتابة" التي يؤديها القارئ هي لحظة كتابة أصلية بالمعني الفعلي لا المجازي.
تحت عنوان "كلية الحضور والتغذية الراجعة" كتب فيليب بوطز: "يمكن للنتيجة التي يُنتجها البرنامج أن تظهر متزامنة في عدة أجهزة كمبيوتر، كما هو الحال في الأعمال الموجودة على شبكة الإنترنت، ومن ثمة إذا ما أتاحت التفاعلية للقراء أن يتواصلوا فيما بينهم عبر عمل أدبي، فإنهم يقومون بذلك بحيث كلما تدخل أحدهم إلا وعدّل نسق العلامات التي يقرؤها الآخرون، ومن ثمة تحصل (تغذية راجعة) لنشاط القراءة على العمل؛ قراءة شخص واحد تعدّل العمل الذي سيتلقاه القراء الموالون".
ماذا لو أن هذا "العمل الأدبي" غير متجسّد حتى الآن، وإنما لا يزال خيالًا نقديًا في صورة رؤى، أحلام، إيماءات، استفهامات، شذرات متأرجحة من الاحتمالات الفرضيات؟ سيصبح هذا النص أشبه بخام نص كل قارئ، يُكتب بشكل مستمر، لا نهاية للتدخل في بنائه وتعديله، ولا حد لمساهمة الآخرين في تكوينه، أي أنه سيبقى مُرجئًا دائمًا.
إن اندماج القارئ مع الممارسات الرقمية للنص الخيالي الذي يقدمه الفكر النقدي فضلًا عن استعمال الوسائط ذاتها في كتابته لهذا النص يعني تجاوزًا للحظة تصوّر الكيفية التي خُلق بها .. يعني التورط في شخوص هذا النص، حيواتهم وأجسادهم ولغتهم وصمتهم وتواريخهم وعلاقاتهم وأسرارهم .. يعني كتابة نصوصهم السابقة كما لو كانوا طوال الوقت غافلين عن أنفسهم .. كما لو كان الواقع طوال الوقت غافلًا عن نفسه.