"لم يحصل شيء، وأنت لا تحبينه بعد اليوم. تحاولين التثبت. يجب أن
تكوني متأكدة. ولكنك لستِ كذلك. أنت تحبينه، في الحقيقة، ولا تحبينه في الوقت
نفسه. عليكِ أن تقرري، لأن الأمر أصبح مزعجًا بالفعل. تفكرين أنكِ تحبينه، لكنك لا
تتحملين أن يقطع الصالون برداء الحمام. أن يجلس أمام التليفزيون بهذه الهيئة،
وشعره الذي لا يزال مبللًا مسرّحًا إلى الوراء. تحبينه هو، بلا شك، ولكن هذا
المشهد المتكرر يوميًا هو ما يجعلك تنفرين".
حينما أكتب رسالة لنفسي أو لآخر أو لمجهول؛ فهذا يعني أن مستقبِلها في حالة
اختفاء مؤقت أو دائم. أنني متورط بطريقة ما في هذا الاختفاء. ما يحدد طبيعة هذا
الاختفاء ليس مضمون الرسالة نفسها وإنما الكيفية التي كُتبت بها أو الطابع الذي
يميز أصواتها وطرق الاشتباك فيما بينها، وهذا ما قد ينتقل بالرسالة إلى المونولوج
الداخلي. يبدو أن بريجيت جيرو تدرك هذه الخاصية الجمالية جيدًا فاستبعدت أسلوب
الرسالة لتجعل من النبرة وحدها غنيمتها التي تتيح للساردة في قصصها القصيرة حينما
تتحدث إلى أحد ما بداخلها أن تخاطب الجميع أيضًا. جعلت من هذه النبرة صوتًا
متعددًا ومتصدّعًا لشبح كلما حاول الانفصال عما عاشته نسخته الدنيوية كلما أصبح
أكثر احتجازًا في عتمتها. كلما اكتشف غيابه عن جسده المرئي. كلما أيقن أن اختفاءه
ـ كمستقبِل للرسائل التي يكتبها لنفسه ـ حدث في لحظة أبعد من ولادة هذا الجسد.
"ولأننا نحب القصص التي تنتهي نهاية جيدة، فقد تخيلنا أن هذه القصة
ستتخذ لها نهاية جيدة في نهاية الأمر. لقد علمونا أن الأميرة مهما طال نومها
تستيقظ في النهاية. خصوصًا لو أن الأمير ليس بعيدًا".
إن "الساردة" التي يبدو أنها تتحدث إلى نفسها المتعيّنة أو تخاطب
آخر محددًا في قصص المجموعة ليست ذاتًا مؤكدة، ملموسة، تستوعب ماهيتها، وإنما هي
أشبه بطيف أنثوي "ممزق" يحوم حول أوهام تجسّده. تناوش ضبابيته المتناثرة
"المعاني" الاستعبادية لتمثله في صور اعتيادية مختلقة. هذا الطيف هو
الفكرة الغامضة للذات التي تكمن بين أصلها المفترض وادعاءات وجودها في العالم.
الفكرة التي تفكك بالضرورة ما يمكن أن يُشار إليه كحضور واقعي لها، وبالتالي تحاول
أن تتقمص الاحتمال الغيبي المراوغ الذي يتخطّى تجسّدها. الاحتمال الذي يتجاوز وجودها
"البديهي" أو الإكراهات النمطية من الأفكار والمشاعر والصراعات التي كان
على هذه الذات أن تتمثل من خلالها. هذا التقويض إذن يمتد طوال الوقت من لحظة
"المخاطبة" إلى تاريخها السري، أي من مفترق الطرق الذي تتخطى عنده
"الرسالة" الحدود القامعة للذات كـ "موضوع قهري" إلى آمادها
المخاتلة التي لا تُدرك، ولا تبرهن على نفسها إلا بواسطة الهزائم الحسية. لا يبدو
الأمر كفاحًا لاسترداد ما تم استلابه تحت وطأة خداع قدري لا يتعطل وحسب، وإنما
سعيًا غريزيًا لاستعادة ما حُرمت هذه الذات البديلة من امتلاكه من قبل أن يمارسها
"الحياة والموت" حيث كل ما يُكتشف "زيفه" عند مراجعة مشاهد
الماضي ليس إلا دليلًا لهذا الأصل المبهم، المحتجب كلعنة استباقية غير مبررة، لا
موضع الخسارة نفسها.
"أتساءل: أين الخطأ؟ هل أنا من لا تعرف كيف تقول؟ أم أنت الذي لا يعرف
كيف يسمع؟ لست على يقين من أننا نتكلم نفس اللغة. مع أني أحرص على قول كل الكلمات
الضرورية لصنع جملة بسيطة واضحة مباشرة دون قسوة، لتعرف إلى أي حد لم تعد هذه
الحياة تناسبني. أنا لا أتهمك ولكني أطلب منك ببساطة توضيح ما تشعر به".
لكن تقمّص الاحتمال الغيبي الذي يطارده "الشبح" بواسطة
"المونولوج الداخلي" ليس محاولة للتوحد أو المسايرة للأصل المفترض
"الغائب" لذات "الساردة" بقدر ما هو خلق لهذا الأصل على نحو
مضاد، ذلك لأن "المخاطَبة" بعجزها عن استرجاع "المخاطِب"
فإنها لا تملك سوى أن تمحو أقنعته، وهذا تحديدًا ما تؤديه الكتابة. هذا تحديدًا ما
تقوم به "الرسالة" حين تكون "قصة قصيرة". إن الساردة كـ
"طيف" توثق يقينها بأنها تستعير وجوهًا، أصواتًا، صمتًا لا ينتمي إليها،
ذلك لأن تلك الشروط الحتمية هي التي كوّنت "حياتها وموتها" وليس
"غيبيتها". هذه "المعرفة" في حد ذاتها إفاقة مناقضة لأنها
قائمة على الغفلة لا على الفهم. على استيعاب أن الذات "حكاية مجهولة"،
يجدر عدم الاعتراف بأي تعويض عنها حتى تظل حية في مخبأها أي في الرسائل التي تُكتب
تحت أنقاضها.
"سوف نخبر الطفلين أن حياتهما ستتغير، بكلمات مراوغة وجبانة، سنخبرهما
أن لا يقلقا؛ أبوهما وأمهما يحبانهما، وهذا هو المهم، سوف نكرر هذا. الليالي التي
يقضيانها بلا نوم، محاولات إنقاذ العلاقة، أنفاق الغيبوبة المظلمة، الأمل الهارب،
كلها أشياء خربت صحتهما وأنهكتهما، ولكن أبويهما سوف يتماسكان أمامهما، مبتسمين
تقريبًا، وسوف يقولان جملتين، أو ربما أكثر، جملتين أو ثلاث جمل مركبة خصيصى لهذه
المناسبة، سلسلة من الكلمات التي تشرح الحب ونهاية الحب، الحب الذي نكنه لهم،
والحب الذي لم يعد يكنه كلانا للآخر".
إن محو الأقنعة يعني تأكيدها، استنطاقها، استجوابها، كيف تستعمل هذه الأقنعة
الساردة التي فقدت وجهها "الكوني" قبل أن تكون أداة بشرية للفناء. هذا
التأكيد يمثل نوعًا من الإرجاء الذهني لوهم التجسّد، تأجيل هيمنة الصور المختلقة،
كما لو أنه نوع من إعطاب الذاكرة عن طريق التسلل إليها من الباب الخلفي. كما لو أن
"ادعاءات الوجود" كافة لم تحدث بعد، وحينما "يبدأ" الحضور
الواقعي للذات دون خيانة لمداراته السابقة فإن شبح المرأة ربما يكون قادرًا على
التحديق إلى ذلك المتعيّن بكيفية "استثنائية" مغايرة. ربما يكون قادرًا
على فهمه، تعديله، استدراكه، استبدال الزمن بالخيال، رتق التمزق، التحرر من
المعاني، ملامسة الأصل المفترض، تحويل الاحتمال الغيبي إلى حقيقة أبدية، الانتقام
من البداهة، الإكراه. ريما يكون قادرًا على استعمال ذخيرته الوحيدة من الهزائم الحسية
في تحويل "التاريخ السري" للذات إلى آماد مدركة، حصينة، نقية من الخداع
القدري. لتحويل مسار اللعنة إلى مصدرها.
"(بابا) سيكون من جهة، ومن الجهة الأخرى (ماما)، ولن ترياهما أبدًا
معًا، سيكون كل واحد منهما في كوخ، لا تخافا، هذه ليست قصة عقلة الإصبع، (بابا) و(ماما)
لن يتخليا عنكما، بل على العكس، سيتقاتلان ليحصلا عليكما، سيتحولان إلى عدوين
للاحتفاظ بكما".
لا يتعلق الأمر بـ "إنقاذ" فعلي ـ دون استبعاده مهما كان
مستحيلًا أو خارقًا أو يأسًا متنكرًا ـ وإنما بـ "التفكير" في هوية ما
يُسمى بـ "النجاة"، في اللغة التي ينبغي استخدامها عند التفكير في
النجاة. "الرسالة" هي التي تكتب نفسي، تكتب الآخر والمجهول من خلال
كتابتها لنفسي. "الرسالة" ذاتها هي التي في حالة اختفاء أزلي، وذلك فقط
ما يسمح لها بأن "تكتبني" دون تورط في "حياتي وموتي". النبرة
هي السر الحميمي الماكر للرسالة، الذي يجعلني أعتقد بأنني أتحدث، أخاطب نفسي عبر
مسافة آمنة، أكثر قربًا من المطلق الذي كنت عليه قبل أن أكون "جسدًا"،
وأكثر بُعدًا عن عمائي.
"أنت الكاتب الكبير. إنك تستحق أكثر من عائلة، زوجة وأطفال ينتظرونك،
هم رهن إشارتك، القادرون على تحمّل أسوأ ظروفك وأن يتعودوها، دائمًا، غيابك، حاجتك
إلى العزلة، حريتك، كي تستطيع عيش إلهامك حتى آخره. إنك تستحق أفضل من مجرد امرأة
لا يميزها شيء، ليست ممثلة في السينما أو صحافية. امرأة تعمل كموظفة خدمات
اجتماعية، لا شيء يستحق عناءك بالتأكيد! لكنها تحبك مع ذلك، هل تستحق أكثر من
امرأة تحبك؟ من تعتقد نفسك؟".
كيف يمكن إذن أن تكون كتابة الرسالة للساردة في الأساس لعبة الساردة نفسها؟.
حينما تسخر الساردة ولو ضمنيًا من النجاة. حينما تجعل الرسالة تنتهك لغتها لحظة
الكتابة، أي تدفعها لخلخلة الروابط والعلاقات التي طالما أقرتها هذه اللغة. كأنه
ثأر من الاختفاء الأزلي لهذه الرسالة. حينما تكون النبرة لـ "شبح" يدرك
أن مونولوجه الداخلي مجابهًا لكل سياق جاهز للخلاص، خاصة لو كان وعدًا مخبوءًا
خارج العالم.
"لا أريد أن أعارض المسار الثابت للأشياء. يستغرق التهاب الحلق ثمانية
أيام، وعشرة للزكام، وعامين لفقدان الرجل الذي نحب. وبخلاف هذا سوف تتحول الحياة
إلى فوضى. إذن بصفتي مواطنة صالحة، فأنا أظهر وجهًا آخر، لم يعد يناسبه وضع أحمر
الشفاه فوقه. أقدم نسخة مطمئنة من نفسي تطارد النموذج السابق، المنكمش، الباهت،
المدمَّر. لن أكون أبدًا مصدر قلق، أو منبعًا للإزعاج. لن أكون الضحية التي يجب
رعايتها. سأعفيك من تحمل مسؤوليتي يا أبي، لا تخف عليّ أبدًا. سوف أصلح جميع
أعطابي بنفسي".
ثمة سؤال شائع في ورشتي القصصية عن الحيلة التي يمكن للكاتب استخدامها عند
استغراق الشخصية في التحدث إلى نفسها كي لا تصبح قصته "محض استرسال في
التفكير". كانت إجابتي هي جعل الشخصية تقطع تدفق أفكارها من حين لآخر
بالالتفات إلى شيء مادي داخل محيطها أو ذاكرتها. اجعلها تشير أو تنتبه إلى كيان
مرئي، حركة ملموسة عبر الحيز الذي تسكنه أو في ماضيها، على أن يكون ما تلاحظه
متصلًا بذلك التأمل الباطني أو المخاطبة الذاتية دون تكلف أو فضح، بحيث يثبت كل
منهما الآخر ويجادله ويتعدّاه بعفوية ومواربة كأن سر كل شيء يتوزع في جميع
الأشياء. "نبالغ في تقدير الحب" تقدم نماذج عملية لهذه الحيلة؛ فالتحليلات
الذهنية في قصص بريجيت جيرو دائمًا ما تستند إلى ارتباط المجازي بالحسي، إلى المزج
بين تشريح الذكريات والأفكار والعواطف المتناقضة وبين الإيماءات التلقائية نحو ما
هو ظاهري، مقصود دون مباشرة، حيث التأكيد والنزاع المتبادل ينشط بصورة غير محكومة
في خفاء هذه الصلة.
"لم أكن أعلم أن مكان الموتى يتحرك، وأنه يتبع الخطوط العريضة، وأنه
يصبح خائفًا في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يكون سريًا إلى درجة إثارة الحيرة.
كنت أنظر بشيء من الاشمئزاز إلى برناديت لافون، داخل بلوزتها الرقيقة، دون أن أشك
ولو لحظة واحدة أنها تعاني صعوبة في التنفس، وأنها ستتناول بلا شك أدوية مهدئة
لتستطيع النوم تلك الليلة".
عنوان المجموعة "نبالغ في تقدير الحب" هو البصمة الساطعة للسخرية
التي جعلت بها بريجيت جيرو مجموعتها لعبة للساردة في قصصها القصيرة. عنوان مُصاغ
بذلك القالب التهكمي المألوف الذي يُعرّف شيئًا ما بـ "ضرره البسيط"
تأكيدًا واستهزاءً بـ "الوحشية التي لا توصف" لهذا الشيء. هذه السخرية
ليست من "الحب" ومعجزاته فحسب : النفور، الحيرة، الخواء، تعذيب الأطفال،
المهانة، الفقد، الحرمان من العزاء، لكنها سخرية كذلك من الثمن الملغز الذي يحلم
الشبح رغمًا عنه بالحصول عليه بواسطة الرسالة، التي ـ فقط وعلى هذا النحو ـ يقودها
المونولوج الداخلي لأن تكتب نفسها.
أخبار الأدب
الأحد، 01 أكتوبر 2023