إن اللحظات التي تعقب الفاجعة هذه تبدو أكثر الأوقات التي يحتاج خلالها المرء لأن يكون “مرئيًا” و”مسموعًا” بشكل “عام” ولغرض أبعد من الاحتياج إلى التعاطف أو الشفقة أو المواساة .. هدف لا يُدرك، ولكن يُمكن الشعور بغموضه .. أكثر من يعانون من الرهاب الاجتماعي أو الخوف من أن يكونوا محط أنظار الناس، وأكثرهم حرصًا وحذرًا من لفت انتباه الآخرين في الأوقات العادية؛ ربما يكونوا قادرين بتلقائية في ذلك الوقت على الصراخ بالرثاء أمام عدسات المصورين .. كأن “الظهور” أمام “الكاميرات” في هذه اللحظة أشبه بالمشاركة في “عمل فني”، يؤدي خلاله المفجوع “دورًا”، أي يحاول خلق مسافة فاصلة بين ذاته والفجيعة .. يرجو تحويل الفجيعة إلى نوع من الخيال، تجريد الحدث بالغ الإيلام بكل امتداداته وتأثيراته من “واقعيته” الحادة، إزاحته ولو قليلًا عن “فعليته”، أو التخفف بدرجة ما من “حتميته” الوحشية .. كأنها مجاهدة لاكتساب وعي ما بأن الفجيعة ـ على الأقل ـ لا تخص صاحبها بالكامل.
لا يخاطب الظهور هنا هدفًا محددًا (أشخاصًا / متفرجين)، أي لا يريد الحاضر أمام الكاميرا أن يكون مرئيًا لعينٍ خاصة ومسموعًا لأذن معيّنة بقدر ما يرغب بشكل مبهم في أن تحيط به رؤية وإنصات غير مألوفين، ينتميان إلى مصدر مجهول، مخلّص، يستدرك (ما حدث) بصورة تعويضية محصنة .. يحدس الحاضر عفويًا أمام الكاميرا بأن هذا الجسر الخفي لا يتواجد، أو ينعدم تأثيره، أو تعمل إرادته بشكل خاطئ أو مهمل ضمن حدوده الشخصية (الأماكن التي يتحرك داخلها أو يبصرها والأشخاص الذين يعيش بينهم أو يصادفهم) أيًا يكن يقينه حولها، بما أن الفضاء الذي تسيّجه هذه الحدود لم يوفر له الحماية من الفاجعة .. بالتالي، وبإحساس منطقي؛ فإن هذا الجسر لابد أنه يقع في “الخارج” أو في ما هو “عام” أي في ما قد يتصل على نحو ملغز بما وراء الوجود نفسه، ومن ثمّ فإن احتمال النجاة من الألم يزيد مع اتساع النطاق الذي “تظهر” من خلاله .. مع حضورك حسيًا في شمولية ما.
في فيلم “آيس كريم في جليم” 1992 إخراج “خيري بشارة”؛ يشعر “سيف / عمرو دياب” باختناق المهانة في الحفلة التي جلبته إليها سيدة أعمال كمكايدة في صاحبها فيقرر الخروج لينتهز فرصة وجود “آخرين” يقيمون احتفالًا بسيطًا في الحديقة ويغني معهم “أنا حر” .. يختبر “سيف” لحظة أذى تحفر بعمق في جروحه السابقة فيشعر باحتياج لأن يكون في “الخارج”، في مجال مفتوح، كأنه على عتبة “المطلق”، يفترض أنه هكذا سيكون “مرئيًا” و”مسموعًا” أكثر لما يعجز عن فهمه أو التأكد منه، ولكنه قد يمر إليه عبر عيون وآذان “الغرباء” التي تشكّل هذا البراح .. هذا الظهور لسيف يبدو كأنه “خارج نفسه” أي في ما هو أبعد من ذاته المعطلة، المقموعة، وبالضرورة فإنه يكتسب إحساسًا غامضًا باستقرار إمكانية “تغيير” ما للعالم ناجمة عن هذا “الظهور”، كأنه دفاع أخير ـ متكرر ـ ضد اليأس.
لكن “الظهور” كذلك لا يتعلق بالفاجعة ذاتها بقدر ما يتعلق بمحاكمة الحياة التي سبقتها، باستجواب الماضي الذي قاد إليها .. بقدر ما يتعلق بالانتقام من الذاكرة الشخصية التي سمحت بهذه الفاجعة بكل إبهامها وقصورها ومراوغتها .. لذلك فالمحاكمة هذه تقصد بالتالي أن تمتد من الأهداف المحددة “المشاهدين والمستمعين” إلى ذلك المصدر المجهول الذي تنتسب هذه الحياة إليه .. أن يخترق الاستجواب العيون والآذان وصولًا إلى ذلك “المخلّص” الذي لم ينقذ هذا الماضي من “الشر”، سمح به، أوجده وشاء أن يرتكب آثامه غير المبررة .. أن يجتاح الانتقام ما هو “عام” نحو ما هو “مطلق” .. كأن ثمة فهمًا غير محسوس أو إدراكًا غير واع لدى من أصابته الفاجعة بارتباط “الثأر” بـ “النجاة” .. الثأر والنجاة اللذان لا يخصان العناصر المباشرة للفاجعة وإنما “أصلها” الكوني .. ذلك ما يمكن اعتباره “جذر الألم” المدفون عميقًا في النفس دون أن تستوعبه تحت التسلط الظاهري “للإيمان”.
في قصة “الشقاء” لأنطون تشيكوف كان لدى الحوذي “أيونا بوتابوف” احتياج قهري لأن يحكي للغرباء من ركاب زحافته عن موت ابنه .. أن يستمعوا إلى تفاصيل مرضه ووفاته وجنازته .. لكنه لم يجد منهم سوى الغطرسة وقسوة القلب واللامبالاة .. يلجأ الحوذي إلى حصانه فيحكي له عن مصيبته أملًا في أن يمنحه التعاطف الذي لم يحصل عليه من البشر .. “بوتابوف” أراد أن يتكلم عن موت ابنه، إن لم يكن لإنسان فليكن لحيوان، المهم أن يُرى ويُسمع .. صحيح أنه يحتاج إلى المواساة، ولكنه يعرف مسبقًا أن أقصى ما سيناله من شفقة لن يعوضه عن فقدان ابنه .. هذا ما يساوي بين أن تحكي لإنسان أو لحيوان .. الحكي إذن يتعدى الإنسان والحيوان .. العينان اللتان ستراك والأذنان اللتان ستسمعك؛ جميعهم أدوات محتملة لبلوغ ما تخاطبه حقًا .. ما يكمن وراء كل العيون والآذان .. ما أراد لموت ابنه أن يحدث، وما يمكن أن يستدرك هذا الموت، وما ينبغي أن يدفع ثمن ذلك.
جزء من كتاب “المحاكاة الزائفة / الاحتياج لأن تكون مرئيًا” ـ قيد الكتابة