في اللحظة نفسها؛ توجّه رجل في منتصف العمر من أولئك الغرباء غير المقيمين في المدينة إلى أحد المقاهي المطلة على البحر. زائر بوجه متجهم ونظرة تائهة، ترنحت خطواته داخل ذلك الجزء الكرنفالي المزدحم، بالغ الصخب والسطوع من المدينة، حتى وصلت به إلى مقعد وطاولة عند الشاطئ. جلس الغريب وحده، مُحدّقًا إلى الامتداد المعتم لتوحد السماء والبحر.
ظهرت من نافذة البيت القديم حجرة ضيقة، تتناثر الشقوق المتعرجة في حوائطها ذات الطلاء الوردي الباهت والمتقشّر، ويتدلى من سقفها مصباح صغير، يكشف نوره الأصفر الأقرب إلى صدأ لامع عن امرأة عجوز، تجلس ممددة على سرير لا يتسع لغيرها. امرأة ممتلئة قليلًا، تغطي رأسها بإيشارب انطفأ لونه الرملي، يلتف طرفاه حول وجهها بصورة أمومية، ويحتضن كتفيها شال كبير من الكروشيه الرمادي، ينسدل بإحكام على صدرها. كانت تسند ظهرها إلى وسادة بيضاء مستطيلة، نحيلة وعارية، وبطانية بُنّية خفيفة مهترئة مفرودة فوق جسدها، تُخفي تقريبًا جلبابها المنزلي الثقيل، المائل لزرقة السماء. وجهها الأسمر إلى حد ما تكسوه مسحة مرض، ولكن عيناها كانتا مبتهجتين، وعلى شفتيها ابتسامة جذلة، يخدشها شيء من الوهن، بينما يداها تصفقان بانسجام ملتذ مع نغمات “ألف ليلة وليلة” لأم كلثوم، المنبعثة من مسجّل صغير فوق طاولة مجاورة للسرير. نظرة العجوز كانت تتطلع بتركيز كامل إلى البنت التي ترقص أمامها على إيقاعات الأغنية.
بصوت خافت ومرتعش طلب الرجل من النادل فنجان قهوة ثم انتظر حتى جاء به إليه ليُخرج علبة سجائره ويمد بواحدة منها له فسحبها النادل بكلمة شكر مقتضبة قبل أن يبتعد فورًا بعفوية معتادة. أشعل الزائر سيجارته ثم ارتشف قدرًا من القهوة وعاد ليتمعن في العتمة. قال لنفسه كتذكير بما تعوّد نسيانه أن عليه تناول ما تبقى من الفنجان برشفات أصغر.
بنت متوسطة الطول، لا يبدو أنها تجاوزت الخامسة عشرة كثيرًا، شعرها الأسود الطويل الناعم معقوص خلف رأسها برباط أحمر سميك، وترتدي جلباب بيت أبيض، ضيّقًا، بفتحة صدر صغيرة، وكُمّين قصيرين، وبلا نقوش، نُسِج من قماش شعبي رخيص، ويوشك أن يكون شفافًا. كان طيف السمار باطشًا في ملامحها الطفولية الفاتنة وهي غائبة كليًا في رقصتها بعينين نصف مغمضتين، تختلجان مع دورانها الحريري داخل الحجرة بقدمين حافيتين، دون أن تتشكل أي ابتسامة على فمها المنفرج قليلًا ـ حيث يمكن تخيل العبير الناري لأنفاسها المتلاحقة ـ كأنها مستغرقة في صلاة خاصة لجسدها الفائر.
انتهى الغريب من فنجان قهوته ثم أطفأ سيجارته ونهض واقفًا دون أن يتلفّت حوله، كأنما لم يعد هناك مبرر لبقائه فحسب. أشار إلى النادل ثم أخرج حافظة نقوده من جيبه الخلفي ليأخذ منها ما يزيد قليلًا عن ثمن فنجان القهوة ويعطيه له. لكنه لم يُعِد حافظة النقود إلى جيبه، وإنما وضعها بجوار علبة السجائر والولاعة فوق الطاولة.
أصبح هناك بشر كثيرين أمام النافذة. ناس أكثر مما كان يُعتقد أنه عدد سكان المدينة يقفون في ظلام الليل، تحدق عيونهم إلى البنت التي ترقص على “ألف ليلة وليلة” تحت الضوء الأصفر أمام العجوز الجالسة ممددة في سريرها، وتصفق بنشوة منهكة مع صوت أم كلثوم، وابتسامتها تعانق جسد البنت الذي يطوي الحجرة الضيقة داخل الثنيات الغائرة لجلبابها المنزلي وفراغاته المتأرجحة. كانوا يستطيعون النظر بقوة فقط. لم يكن بوسعهم التحرك أو النطق. تسمّرت أقدامهم أمام النافذة بعيون مفتوحة وأفواه مطبقة وأبدان متخشّبة حتى انتهت الأغنية. عندئذ أُغلقت النافذة فجأة، كأنها لم تُفتح أبدًا، وعاد البيت القديم يبدو مهجورًا. رجع الصمت، واستردوا معه قدرتهم على الكلام والحركة. ظلوا بدماء متجمدة، وقلوب مذعورة، وألسنة مختنقة بالذهول يسألون بعضهم عن حقيقة ما حدث.
ربما كانوا هم أنفسهم العابرين الذين شاهدوا ذلك الرجل في منتصف العمر، الذي ترك علبة السجائر والولاعة وحافظة نقوده فوق طاولة المقهى، وبدلًا من أن يعود إلى منزل ما؛ تقدّم بخطوات متسارعة نحو الشاطئ، ثم توغل داخل الامتداد المعتم لتوحد السماء والبحر حتى اختفى تمامًا قبل أن يستوعب أحد منهم الأمر.