هذه المحاضرة التي أتناول خلالها جانبًا من مشروعي النقدي “التاريخ الأدبي … سياقات التمييز والهيمنة” والذي بدأت العمل به منذ فترة طويلة وأوشَك على الانتهاء؛ هذه المحاضرة لا تُسائل معنى الجدارة أو تناقش مفهوم الاستحقاق، وإنما تستهدف الإجابة على تلك التساؤلات المتوالدة، أي تفكيك العوامل السلطوية التي تمنح كاتبًا أو كتابًا قيمة وشهرة بعيدًا عن الكتابة نفسها، أو بتعبير آخر تحليل الأسباب والدوافع لتكريس وهم “الزعامة الأدبية” أو “البطولة الثقافية” الزائفة في ضوء علاقات القوة داخل المدن المركزية مثل “القاهرة” وخاصة ـ بالضرورة ـ لو كانت هذه المدينة موضوعًا أساسيًا للعمل الأدبي.
بتحديد أفكار وملاحظات مختصرة يتناولها الكتاب يمكن القول إن الكاتب الذي ينتمي إلى جماعة أدبية من الشخصيات التي تمتلك “مكانة مركزية” ـ وهو المصطلح الذي يتضمن المشروع النقدي المُشار إليه تعريفًا تشريحيًا له، كما لا أقصد هنا النموذج الرسمي للجماعة وإنما كيانات التشارك الإنساني وبنيات العلاقات الشائعة كالصداقة أو الزمالة مثلًا ـ هذا الكاتب يضمن عمله الأدبي من الأخبار والمقالات والتدوينات والمراجعات المصوّرة والمنشورات التفاعلية على وسائل التواصل الاجتماعي ما لا يضمنه عمل أدبي لكاتب خارج المركز سواء على مستوى الوفرة أو طبيعة التداول .. أتحدث هنا عن لمعان النفوذ التأثيري الذي يحظى به أفراد الجماعة الأدبية التي ينتمي إليها ذلك الكاتب، أي الأسماء التي لابد من الثقة في خطاباتها نظرًا لكونها “معروفة” و”ناجحة” أو “حصلت على اعتراف وتقدير المؤسسات الثقافية المرموقة” بما يعني أن احتفاءها بعمل أدبي سيدفع كُتّابًا آخرين ونقادًا ومدونين وقراءً وفي تزايد غير محكوم للاحتفاء بهذا العمل من أجل اكتساب قدر من ذلك اللمعان الذي يحظى به أفراد الجماعة الأدبية التي ينتمي إليها ذلك الكاتب .. هكذا ستتوالى المقالات والتدوينات والتقارير المصوّرة فضلًا عن الحوارات والاقتباسات وإعادات النشر لذلك العمل وهو ما يمثل الممارسات الجماعية لـ “صُنع التاريخ الأدبي” والتي لم يكن بمقدورها أن تحقق ذلك لولا انطلاقها أو بدء انتشارها من داخل تحالفات “مدينة مركزية”.
سيفتح كل ما سبق أبوابًا لا حصر لها نحو الماضي الأدبي للكاتب: كتبه ونصوصه ومقالاته إلخ .. سيُعاد اكتشافه مع كل إصدار، ليس فقط ككاتب، وإنما ككاتب في موضع اهتمام “رأي عام”، يدعمه “مثقفون كبار” .. سيكون ضروريًا حينئذ أن يسعى إليه الناشرون أكثر، وأن يُكتب المزيد عن إصدارته، وأن تتسابق إليه اللقاءات الصحفية، ودعوات المناقشة، وحفلات التوقيع، والجوائز، والترجمات على نطاق أوسع .. سيتم تثبيت “التاريخ الأدبي” بفضل تلك التوالدات المستمرة، التي لا تخضع للتحديد، بوصفه “وعيًا جماعيًا رسميًا” يتنقل عبر الزمن.
يكمن السر في ثنائية الزخم والإلحاح .. وفرة العناصر التي لديها “منزلة مميزة” داخل “الوسط الثقافي”، وتعمّدها الكتابة عن ذلك العمل الأدبي والترويج له لأطول وقت ممكن بحيث يصل إلى مستوى التجذّر الذي يجعله قادرًا على خلق نتائجه بنفسه، ومراكمة آثاره بلا عطل، ودون حاجة لمزيد من التدخل.
تمثل المدينة المركزية ماكينة إعلامية وثقافية موظفة لكتابة التاريخ الأدبي الرسمي، ذلك لأنها صاحبة الفضل في تمييز كتّاب وأعمال أدبية عن كتّاب آخرين وأعمال أدبية أخرى سواء على مستوى الانتشار أو الرواج النقدي أو الفوز بالجوائز والترجمات إلخ .. فلو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما كانت تلك الاستحقاقات متفاوتة بين مدينة وأخرى أي أن تُحرم مدينة من الإمكانات والبدائل التي تمنحها مدينة أخرى للمقيمين داخلها، وأن يكابد من هم خارجها في حفر بصمة خاصة ضمن حدود الفضاء العام الرسمي المكلف بديهيًا بالنبذ والإقصاء والتعتيم على أي بصمات لا تمر عبر سياقاته مقارنة بالتوطيدات السهلة والمجانية لخطوات العاملين واللاعبين في مسارحه الثقافية وكواليسها.
إن “المكانة الأدبية المركزية” تعني وبشكل دقيق أن ذلك الكاتب الذي يتمتع بها ما كان ليبلغها لو أنه قد أنتج أعماله وهو مازال مقيمًا في قرية أو في عاصمة إقليمية مثلًا .. تلك حقيقة بسيطة ومختصرة ووافية حيث أنه ـ وهو ما أعيد التأكيد عليه ـ لو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما كان هناك فرق بين المسارات التي يقطعها النص أو الدراسة النقدية أو العمل المترجم إذا ما كان الكاتب يسكن في بلد ما أو في بلد آخر، لو كان يدرس في مكان ما أو في مكان آخر، لو كان يعمل في وظيفة ما أو في وظيفة أخرى.. تلك حقيقة بسيطة ومختصرة ووافية لا يخدشها التغاضي المتعمّد أو الجاهل عن تأثير المزايا التي توافرت في نطاق جغرافي معين، وحُرم منها نطاق جغرافي آخر.