ثمة ارتحال تومئ بضرورته المجموعة الشعرية “ذاكرة بيضاء” لمؤمن سمير الصادرة عن هيئة الكتاب رفقة “الكلمة” والظل”. في باطن الصراع اللامتناهي بينهما. ذلك لأن كلًا منهما منسوج من عتمة الآخر؛ فكيف لا يقوى أحدهما إذًا على رسم وجوده إلا بكفاحه لطمس ما يخطه الآخر؟
“الدموع يا صديقي جملة منسية في جيب فنان غامض وشفيف، خطفها مجنون وألقاها فاستقرت في ذلك القلب الذي يحيا على الخوف والنسيان .. عبارات مثل هذه تجعلني أعيد النظر في أشيائي القريبة والبعيدة: أليس من الممكن أن تكون أقنعة لقنابل قد تمزق أمي وتحرق صوتي وسجادتي التي اختبأت في نقوشها لأنجو من الزلزال؟”.
تمنح قصيدة “عجوز يغفو وسط الكلام” تعريفًا للدموع: “جملة منسية في جيب فنان غامض وشفيف”. لماذا “جملة” تحديدًا؟. لأن “الفنان” نفسه هو بنية “كلامية ” متعالية. غيب من الكلمات. الجملة المنسية “الدموع” هي دليل غموضها وشفافيتها. لكن “الغموض” لا يؤشر لسمة “الكشف” في “الشفافية” وإنما إلى “التجريد”. إلى النقاء من “التجسد”. لذا؛ فالبنية الكلامية المتعالية / “الفنان” محصنة بما يتجاوز اللغة ذاتها. لا تتسق معها “الدموع” فتصبح “نسيانًا”. لكنها تلائم “القلب”، وفي هذه الملاءمة تتحوّل من “جملة منسية” إلى “لغة الحياة والموت”. يحاول “الكلام” إعادة اللغة إلى غيبيتها، أي أن “يسترد” المتكلم كينونته كـ “فنان” دون “جيوب تحمل جُملًا منسية / دموع”. إعادة اللغة إلى غيبيتها أي إزاحتها تمامًا من قلب المتكلم. بهذه الكيفية تُخلق مسارات العمل لتفسير غموض “الفنان”، لحل لغزه “التجريدي”، لتقمصه كمطلق، للتوحد بشموليته المبهمة وتقويضها، لكشف السر الأزلي للدموع كـ “جملة منسية”. كيف يفعل المتكلم ذلك؟ بنزع الأقنعة عن الأشياء القريبة والبعيدة. الأقنعة التي تُضمر الهلاك وراء وعدها المحتمل بأمان ما.
“ألا يصح أن تكون يد أبي التي تُحكم الغطاء من حولي وأنا أتظاهر بالنوم هي صاعقة الله الذي مل من ضجيجنا وبكائنا”.
التفكير في “صاعقة الله” تحفزه “يد الأب” تحديدًا، وفي لحظة العناية بالابن على الأخص، مقترنًا هذا التفكير بـ “الضجيج والبكاء” باعتبارهما سببًا للملل. توليفة عدائية تزعج وحدة “الفنان”. نلاحظ “هي” الإثباتية في منتصف الطريق الذي تقطعه “اليد” نحو التعري كـ “صاعقة”. الطريق الذي يقطعه “الأب” نحو “البطش المجرد”. المتظاهر بالنوم إذًا هو مصدر الضجيج والبكاء. الذي لا يتعلق ضجيجه وبكاؤه بأبٍ تقليدي، وإنما بـ “فنان” يريد أن يمارس عمله في هدوء.
“أنفخ وأشمّر وأقول لنفسي أنا قادر بما يكفي ثم أبدأ بتكسير الجبال وإزاحتها من على صدري وكأنها سماوات من الدخان .. لكنني للأسف، أغفو كأي عجوز في وسط الكلام، فتتسرب جبال أخرى بدالها واسمها الظلال .. ليس في غرفتي إلا الظلال .. تتناسل بهمة وتملأ حائطًا وحائطًا والحوائط لها عيون والعيون لا تشغلني بما تراه ولكنها ترعبني بكل ما تقبض عليه ثم تصر ألا تحكي .. حتى في ليالي الشتاء”.
يستعمل “المتكلم” لغته في تكسير “الجبال” أي ما ستسمى مع كل انتباه متكرر “ظلالًا”. كلماته مغلقة على تفككها الاستباقي، أو ما يتقدم على أي محاولة لاستعمال اللغة، وحين تعلن عن ذلك فإنه سيتمثل كـ “غفوة”. يدرك المتكلم أن “الجبال” ليست إلا كلمات أيضًا أي ظلالًا متنكرة في صورة أثقال حسية يمكن هدمها. يستخدم ما لا يُلمس لإزاحة ما لا يُفهم. نتذكر؛ كل منهما منسوج من عتمة الآخر. تحاول “الكلمة” أن توظف حطامها الأزلي في تقويض “الظل”. الظل المصنوع من حطام الكلمة ويتناسل بتوالد دلالتها الاحتجازية المنسجمة مع الحوائط. اللغة المعطوبة تسعى لانتهاك صمتها المتعيّن في الظلال. تريد بـ “سردها” أن تستنطق “السرد المحتحب” لأشباحها. لماذا تريد ذلك؟ لأن العيون الخفية للظلال تنتمي لذلك الفنان الغامض الذي (لا يتكلم)، والدموع جملة منسية في جيبه. لأن ثمة رغبة غريزية لدى المتكلم في تغيير اتجاه “الصاعقة” نحو “حقيقته”. لكن بما أن هذه الحقيقة تظل كامنة في “الظلال” أو أنقاض وأشلاء اللغة؛ فإن الصاعقة لا تفارق “الكلمات” المتناثرة في “ليالي الشتاء” دون أمل في القبض على “حكايتها المخلصة” أي على ذلك “الدفء” الإعجازي الذي لا تناله “غفوة”.
“بقعة دم وجدتها على الحائط في بيتي
بقعة تنبض، كبيرة وطازجة
تقول كلامًا مختلطًا
ثم تزفر بملل وتزووم..”.
في قصيدة “ذائقة الحروب” يتخذ الظل شكل “بقعة دم” في مكانه اللائق والمعتاد كما في قصيدة “عجوز يغفو وسط الكلام”: الحائط. ومثلما كان الحال في القصيدة السابقة أيضًا يكشف الظل في صورة بقعة الدم عن كونه “كلمات مفككة”: “تقول كلامًا مختلطًا”، وبالتالي فالمتكلم يتساءل أيضًا عن سرها. بقعة الدم مكوّنة من لغة السؤال؛ لذا فبقعة الدم والسؤال منذورين للبقاء كلعنتين من الخام الغيبي نفسه، يتجابهان بمشيئته حيث “لا يقوى أحدهما على رسم وجوده إلا بكفاحه لطمس ما يخطه الآخر”.
“ردهتي العجوز
التي أكلت العناكب آخر ظلين ارتعشا فيها،
كيف تصلح لألغام ستنهشها الرطوبة في الأعياد ..
أو لدبابة تتوه تحت النافذة وتنسى ماذا كان اسمها بالأمس
أو لصاروخ يحب اللعب مع الفراشات المختبئات في فستان أختي؟
ثم أن أسرتي قديمة هنا
جاءت من المجهول مبكرًا
قبل أن تستيقظ الأشباح وتتمطى..”.
يحشد المتكلم ما يظنها مبررات “منطقية” للحصول على الإجابة: الردهة ـ العناكب ـ الألغام ـ الدبابة ـ الصاروخ؛ يحشد ما يجربه ويختبره، ما يعتقد أنه يعرفه، ذلك لأنه يتحدث عن نفسه: “بيته ـ أخته ـ أسرته”، أي الكلمات التي يتصورها ليست مجرد كلمات، في حين لا تتوقف بقعة الدم / الظل عن إثبات كونها كذلك. لهذا لا يتعلق الأمر بالحصول على إجابة فحسب، وإنما، على نحو أكثر مراوغة، بالاحتياج القهري لدفع ثمن عدم الحصول عليها، بالمقابل “العادل” لخراب اللغة الذي يمنعها من أن تصل بـ “المتكلم” إلى الحماية الأبدية من شر “الصمت” الرابض في المطلق. هل تمثل “الحكاية التي تُربى في الخيال” تعويضًا في حد ذاتها للعجز عن اغتنام هذا الثأر؟ ليست الحكاية نفسها، وإنما الوعي بالصدوع البدائية التي تؤلف تفاصيلها. الوعي الذي ـ هكذا ـ لن يجعل الحكاية بديلًا للثمن الذي لم يُدفع، وإنما سيجعلها الثمن نفسه.
“تقبلي أيتها الروح شكرنا
وعرفاننا الصادق
لكل من يموت في الجدران منذ الأزل
ويعود يبتسم كل حين”.
كيف يمكن تأويل “الألفة” التي تتسم بها علاقة المتكلم بالكلمات؟ الألفة التي تستند حتميتها إلى الظلال؟ إن “الألفة” مسايرة إجبارية لما لا يمتلك المتكلم “يقينًا” مغايرًا له. ما ليس في وسعه سوى أن يعتبره يقينًا. “الألفة” هنا ليست امتنانًا للحياة بقدر ما هي سعي للاختباء من الموت. من الفناء الذي تنتهي عنده “الكلمة” كـ “ظل”. من هنا ينشأ ويعيش ويتجذر شعور كالحنين. التشبث بماضي الظلال حين كانت كلمات. حين كان المتكلم مازال يقاوم الإدراك بأن الجبال لا يمكن تكسيرها.
“صحوت فوجدت خبزًا قاسيًا
قطرت دمي وغمسته
وانتظرت..
في الردهة قابلت ظلًا تائهًا
فاختبأت حتى وقع في الفخ
ثم أسلمته للشيطان”.
يعيد مؤمن سمير في قصيدة “أشواك تنبض للآن” التأكيد على الكيفية التي يتحوّل به تفكك الكلمات / صدوع الحكاية إلى ما يشبه احتفالًا بما لم يحدث. بالوجود الغيبي الذي حُرم المتكلم من أن يكونه. “الظل التائه” يسلّم للشيطان، “اللغة المتهدمة” تُدفع نحو أيدي “المروق في ذاته”. المصير المستحق للحكمة. هنا يصبح “الشر” أساسًا لفضيلة مضادة. فضيلة فاضحة لخداع المعجزات. يستطيع المتكلم حينئذ أن يتفاخر بإثمه من حيث اعتباره “خيرًا مناقضًا” تقوده السخرية من المبررات والتدابير “المثالية” للقدر. يستطيع أن يتفاخر بذنبه من حيث اعتباره “كرامة استثنائية” يجدر بألمه أن يتوّج بها.
“طلعت نخلة وقالت أنا أمك
ثم تنهدت ودثرتني بالأشواك
كي أقوم من الأموات وأصعد
قبل أن يهبط حول بيتنا
البرصان والمجذومون
وتحوطنا الغيمة الطيبة..”.
إن صراع “الكلمة” و”الظل” في قصائد مؤمن سمير هو ممارسة “محو” ينتظر المتكلم نهايتها؛ اللحظة التي ينتهي كل منهما من طمس الآخر فلا يبقى بعدها سوى ما قبل الحياة وما بعد الموت. ما خسره المتكلم قبل أن يختطفه الزمن، وما يستعيده بعدما ينفلت من أسره. صراع “الكلمة” و”الظل” هو مطاردة “ذاكرة بيضاء”.
أخبار الأدب
6أغسطس 2023