عزيزي أصغر فرهادي
أعلم أنك حصدت من المدائح ما قد يغنيك عن كلماتي، ومع ذلك فلنقل ببساطة أن
لكل منا غنيمته التي تراوغ الأخرى، لا التي تفسدها .. لك فيلمك، ولي حقيقتي ..
حسنًا؛ هذه مزحة! .. حقيقتي في الواقع تفسد فيلمك .. حقيقتي هي التي تغنيني عن
فيلمك، مع اعترافي قطعًا بالبراعة التي كوّنته .. البراعة التي خرّبت وجودي يا
فرهادي .. باختصار؛ كانت هناك جوهرة ثمينة بين يديك ولكنك ألقيتها في البحر.
لا تظن أنني أتعمّد إثارة غضبك أو غيرتك حينما أخبرك بأنه لو كان ثمة مخرج
آخر قد عثر عليّ لربما تعامل معي بشكل مختلف .. لو أن بصيرته قد اقتنصت الظلام
الخفي الذي يشع من داخلي بالفعل لاستخدمني بصورة مناقضة .. لم يكن الأمر سيتطلب
جهدًا كبيرًا .. كل ما كان سيحتاجه هو
حمايتي من الملامح المحددة التي أصررت أنت على إلصاقها بوجهي .. كان سيحرص على منع
أي تعريف من الإشارة إلى هوية دامغة لي .. ذلك لأني طبيعة ولست شخصًا .. أنا الروح
المقموعة الكامنة في كل النساء داخل فيلمك وخارجه ولست امرأة بعينها .. أنا لا شيء
وكل شيء.
لكن ربما كان الأمر سيتطلب جهدًا كبيرًا بالفعل .. ذلك لأنه يتعلق بشجاعة
المقامرة .. أن تتخلى تمامًا عن الشروط الاجتماعية لصالح الغموض .. الغموض الذي يحفّز
الحقيقة على الإشارة لنفسها بشكل أكثر عنفًا مما لو تُركت أسيرة الأنماط الواضحة
.. أن تستعمل هذه الشروط فقط كأكاذيب، مكائد خادعة تستدرج المتفرج نحو الصدمة لا
الألم، نحو الأرق الجائع لا التفسير المشبِع .. كان الأمر سيتطلب جهدًا كبيرًا لو
قررت أن تكشف عن كوني أتظاهر بأني معلمة، وأن لي أم أتحدث معها في الهاتف .. أن
هاتفي لا يحمل أي شخص أو رقم أو حتى شريحة اتصال .. أن "خطيبي" لا وجود
له .. مجرد حيلة أستخدمها في لعبة التقمص .. في مسايرة الصراع التقليدي بين الإذعان لما هو
مفروض، والهرب نحو اختيار حر .. أن من كانت تركض بالطائرة الورقية على الشاطئ هي
الطفلة التي "اختفت" داخل كل امرأة بعد أن فقدت الخيط من يدها .. أن هذه
الطفلة قد أخبرت الجميع بصورة ضمنية بأنه لم يكن أمامها سوى الطيران أو الغرق .. أنها
من أظهرت للنساء كافة بأنه إذا كان الطيران مستحيلًا فعلى الأقل لنسخر من الغرق ..
من وهم الاختيار الحر .. من عبادة الأسرة .. الحب .. الزواج .. أن جثتها لا يمكن
العثور عليها لأنها غارقة فيما لم نفكر أبدًا في أن نطلق عليه "بحرًا"
إلا كمجاز مروِّض.
عزيزي أصغر فرهادي
هل قرأت قصة "إيفيلين" لـ
"جيمس جويس"؟
إنها إحدى قصص مجموعة "أهالي دبلن" 1914 وتحكي عن شابة صغيرة،
ماتت أمها وكان عليها أن تعمل وترعى والدها وشقيقيها قبل أن يموت أحدهما، وأن تعيش
بذكريات طفولتها تحت وطأة المهانات .. كان على كرامتها أن تُنتهك ـ كما كان حال
أمها ـ من أبيها الذي يعنّفها، ويسلبها أجر عملها، دون أن يُبقي لها شيئًا .. أحبت
"إيفيلين" بحارًا لطيفًا، مولعًا بالموسيقى، وأرادت أن تهرب معه بعيدًا
عن التعاسة التي تتنقل بخفقات قلبها بين البيت ومحل عملها لكي تصبح زوجته .. لكنها
بعد أن كتبت رسالتي وداع؛ واحدة لأبيها والأخرى لأخيها، وبعد أن توجهت إلى المرفأ
للرحيل مع حبيبها إلى "بوينس آيرس"؛ وجدت نفسها عاجزة عن الصعود إلى
السفينة وظلت متسمرة في مكانها، تنظر إلى البحار وهو يناديها ويشير إليها أن تعبر
الحاجز لتلحق به.
كيف وصف "جويس" نظرة "إيفلين" في هذه اللحظة؟:
"لا تفصح عيناها الجامدتان بنظرة حب أو وداع وليس فيهما أي نوع من
الرغبة بشيء".
حينما منح "جيمس جويس" هذه النظرة إلى "إيفلين" فقد
جعلها تختفي يا فرهادي .. لم يعد لـ "إيفلين" وجود في هذه اللحظة .. لم
تعد الابنة أو العاملة التي لم تحصل على الاحترام رغم تضحياتها، كما لم تعد
العاشقة التي تسعى للانفلات مع حبيبها من عالمها البائس .. لم تكن
"إيفيلين" حينئذ الشابة التي تفكر في أبيها بعد أن أصبح عجوزًا وفي
افتقاده لها بعد أن ترحل، أو تتذكر حينما كان لطيفًا معها أحيانًا، ومعتنيًا بها
في مرضها، ومرحًا في نزهاتهم الأسرية وهي ما تزال طفلة .. لم تكن الشابة التي قطعت
عهدًا لأمها أن تحيط البيت بأقصى ما تستطيع من رعاية، كما لم تكن الحالمة المتشوّقة
إلى حياة تعويضية سعيدة خارج المكان الذي استعبدها .. كانت "إيفيلين" في
هذه اللحظة عمياء .. لا تستطيع رؤية نفسها .. تختبر ما هو أكثر قسوة من الصراع
التقليدي بين الواجب والعاطفة .. كانت تقول بعينيها المتحجرتين بأنها ـ بالرغم من
كل شيء ـ لم تعد تدرك ما هو "الواجب" وما هي "العاطفة" .. ما
هو الماضي الذي عاشته، وما هو المستقبل الذي تعجز عن العبور إليه .. لا تعرف ما
الذي يجب أن تريده، وما الذي ينبغي ألا ترغب به حتى لا تزيد عتمة العالم .. كانت
"إيفيلن" في هذه اللحظة سرابًا
يا فرهادي.
أنا مثل "إيفيلين" في نهاية قصة "جويس" .. احتمال
متغير لواقع ثابت، يمكن استبدال التفاصيل التي تكوّنه بتفاصيل أخرى وسيظل دائمًا
ما يشير إليه كما هو .. يمكنك أن تضع أي امرأة أخرى مكاني وسأظل أنا .. هذا ما كان
عليك أن تنتهز وجودي لتؤكده .. كان عليك أن تقول للجميع: "هذه ليست قصة واحدة
من النساء .. إنها القصة التي تخبئها كل النساء" .. كان عليك ألا تجعل المرأة
العابرة أمام فيلمك تفكر في أنني أشبهها، بل أن تفكر في أنني هي كما لم يرها أحد
مطلقًا.
يؤسفني القول إن فيلمك قد جعلني مصدرًا لرواية ما هو أقرب لـ "مشكلة
عائلية" في لعبة "الإسقاط" المألوفة بدلًا من أن يُبقيني كشبح
متناثر داخل لعنة وجودية، تاركًا لكل امرأة أن تكسبني ملامحها وجسدها، حياتها
وموتها .. أن تخلقني على صورتها وتودعني كما ودعت نفسها .. تاركًا لكل امرأة ـ
خاصة داخل فيلمك ـ أن تكشف عن أن حياتها التي تبدو "سعيدة" أو
"مُرضية" هي في الحقيقة جثة "إيلي" .. يؤسفني القول إن فيلمك
قد سمح للآخرين بأن ينسجوا حكاية أصلية لي بدلًا من أن يدع كل حكاية تتجلى بواسطة
غيابي.
عزيزي أصغر فرهادي
ما كان يجب عليك أن تستسلم ـ كما يحدث غالبًا ـ لإغراء الحكمة السهلة،
الصدئة، والهزلية بكامل وقاحتها، وأن تعيد تدوير نفايات مضحكة مثل: (أن نتألم قليلًا خير من أن نندم على حياتنا)...
كان عليك أن تفهم
بأنني ـ مثل إيفيلن في قصة جيمس جويس ـ لم أوجد أبدًا.