ـ لماذا؟
للمرة الثانية يشعر (م) أنه يؤدي واجبًا يتطلبه الموقف أكثر مما هو استفهام حقيقي .. لم يكن يعرف الحقيقة، ولكن كان إحساس مبهم لديه بأن هناك منطق ما فيما يحدث .. إجراء روتيني لم يكن يمتلك استعدادًا أبدًا لمواجهته.
ـ ليس لدينا ما نخبرك به الآن، لكن هذا ما ينبغي أن يتم، وما ستعرفه سيكون ثمينًا وقاطعًا بما لن يكون مسموحًا لك بعده أن تخطئ أبدًا.
كان رجل الصالة قد أغلق الرواية ووضعها فوق فخذه اليمنى، بينما ظلت قبضته مضمومة على غلافها، كأن أصابعه تستريح فوق قرينة دامغة عثرت عليها بعد جهد .. سمع (م) رجل الحجرة وراءه كأنما يُنهي ما بدأه حديث رجل الصالة:
ـ ستعرف كل شيء بالطريقة المناسبة.
نهض رجل الصالة من مقعده، واقترب من (م) كما لو أنه سيلقى تعليماته الأخيرة:
ـ سنحتفظ بهذه الرواية، وبكتبك الأخرى، وعليك أن تتذكر جيدًا أن جميعها، ومع كل ما سيطرأ عليها من تغييرات وهي بحوذتنا ستظل النسخ الأصلية، أي أن النسخ الأخرى كافة التي لديك أو في أي مكان آخر ستكون مزيفة، لا يُعتد بها.
ثم بدا كأن الابتسامة التي يُحضّرها وجهه دائمًا قد أوشكت للغاية على التشكّل، لكن هذا لم يحدث:
ـ هذا النوع من القضايا يُنظر سريعًا. لا تقلق. عليك فقط التحلي بما يكفي من الإيمان والشغف لكي تتمكن الأحكام المطلقة من مساعدتك.
حتى لو كان هناك منطق ما فيما يحدث فإنه يبدو كخطوة أولى في طريق مجهول، مخيف .. ثمة وحشية تتصاعد ببطء .. من هذين الرجلين؟ .. ماذا يعني بالنسخ الأصلية والنسخ المزيفة؟ .. عن أي قضية يتحدث؟ .. هذه المرة لم تكن أسئلة (م) تأدية واجب، بقدر ما كانت استفهامات حقيقية .. فقط ظلت مكتومة بداخله.
كان (م) يعيش في مدينة لم يعد لديه فيها منذ زمن طويل من يمتلك دافعًا لتدبير مزحة كهذه بمناسبة عيد ميلاده .. كان اليوم هو الثالث من يناير، أي أن عمره أصبح أربعين سنة اليوم.
ـ لا تفكر كثيرًا لأننا سنظل أبعد من ظنونك.
التفت (م)، وكان من الغريب ـ الغريب بحق ـ أن الابتسامة التي لم تتشكل أبدًا في وجه رجل الصالة قد ظهرت بوضوح تام فوق الملامح العدائية لرجل الحجرة بعد أن أغمد هذه الكلمات في ظهره .. ابتسامة يعرف (م) المقصود منها تمامًا.
حسنًا .. إنها تبدو ـ شكليًا، ورغم كل غرابتها ـ حالة تقليدية للغاية .. مشهد شائع في الماضي البشري، ولكنه مع ذلك لا يتم بصورة اعتيادية، فهو يبدو كحدث خارج قشرة الواقع، أو بالأحرى داخل فجوة مظلمة بداخله.
ـ مهما كنتما، ليس لديكما الحق فيما تفعلانه.
لم يبد على رجل الصالة أن كلمات (م) قد أحدثت تأثيرًا في نفسه، باستثناء أن اللامبالاة التي تتمطى في صوته قد تسرب إليها قليل من الأسى.
ـ أنت تعرف أنك مخطئ تمامًا يا (م). نحن لدينا الحق في كل شيء، ولا ينبغي أن تتمادى في غفلتك العنيدة إلى حد الاعتقاد بأن ما نفعله هو اعتداء مكلف من نوايا شريرة. عليك أن توقن أن هذا تمهيد ضروري من الخير الخالص لصداقة أنت بالتأكيد في أمسّ الحاجة إليها.
صمت رجل الصالة على نحو شعر معه (م) كأن قوة غيبية قد مدت يدها ووضعت نقطة الختام لكلامه .. لكن رجل الصالة عاد فجأة ليقول بنبرة جعلت من الأسى السابق في صوته أقرب إلى حلم:
ـ من أجل خاطرك .. لا تستفزنا.
جزء من رواية قيد الكتابة