السبت، 27 نوفمبر 2021

رواية (إثر حادث أليم).. فِتنةُ الثمانينيات وبَداهةُ الانتقام!

لحظاتٌ متعاقبة متسلسلة تطفح بمشاعر الغيظ والغبن أيقظها الانفلات الأعمى للوقت/العمر في اتجاهٍ وحيد، إلى الخلف، إلى النهاية مع ذلك.. مشاعر تبقى مغلّفةً بغموض ميتافيزيقي كثيف ومرعب في انتظارٍ إجباريّ لموت غير مشكوك في اقترابه بسبب التعاقب الآليّ الذي لا يتوقّف لنفس اللحظات، دون أن تملك إزاء ذلك ردة فعلٍ كمقاومة أو تصحيح مسار اللهم إلا ما فعله ممدوح رزق في روايته (إثر حادث أليم): أن تمدّ يديك بالغيظ نفسه داخل بئر ذكريات الذكريات لتنحت بيتًا من تفاصيل التفاصيل تختبئ فيه من وحش نهاية النهاية، حتى لو لم تُفضِ الإقامة في البيت الجديد (الجميل والمزعوم!) ظاهريًا إلا إلى مزيد من مشاعر التحسّر والفوات والندم على الذي انفرط للأبد، لأننا سنتباهى بعدم إنكار وقوعنا في الضحك واللعب والجدّ والحب (والكَشْف) مع الطفل الذي كانَهُ ممدوح رزق في حقبة الثمانينيات المجيدة!

نعم أقول “الثمانينيات المجيدة”؛ لأني مولود قبل ممدوح رزق بثلاث سنوات، وحُمِّلتُ وعيَ طفولتي الغضّ في ذلك العقد، فكان الانتقال من مسودة إلى أخرى بالرواية بمثابة طرقات مطرقة على أعصاب الرّوح، المشدودة أصلا، لتجميع ما تناثر والتذكير بما نُسِي من (كل المتعلّقات الشخصية، ذاتًا وموضوعًا) التي تمّ بها إنجاز العلاقة الأولى، القديمة والمتواصلة، بالعالم.. ولأني كتبتُ قبل سبع سنوات قصة قصيرة (ليلةُ الأربعين) تتحول فيها مفاجأةُ بلوغ الأربعين إلى استرجاع نوستالجي ناقم لمشاهد “ثمانينية على وجه التحديد” (مناسبات كروية وأفلام سينما ومسلسلات تليفزيون وأطياف ناس العائلة).. ومع ذلك فإني لا أنادي أولئك الذين تصادف لهم أن جرّبوا طفولتهم داخل تلك القطرة من بحر الزمان: “هذه روايتكم فخذوها بقوة” وحدهم.. فالتفاصيل الكثيرة بزخمها الإنساني (منزلية، مدرسية، شعبية، صحفية، تليفزيونية، سينمائية، خيالية) التي صبرتْ ذاكرة ممدوح رزق طويلا على استنهاضها وابتعاثها باقتدار لافت كما لو أنه ينتقم من ثبات وبديهية فكرة استحالة معايشتها من جديد، والأداء السّردي الذي بقي موضوعًا تحت المراقبة من قِبل الكاتب، إذ يكتب ويكتب ثم فجأة يحيلنا إلى كتابة أخرى (قصة من قصصه أو قصيدة من قصائده، وفي مواضع قليلة من غيره) كأنما يتوافق في الظاهر مع طريقة الاستدلال الفقهية لتأكيد الحكم الشرعي (أقصد تأكيد الهاجس!) بينما في الباطن ينظّم مسألة وعيه بالكتابة لإنجاز روايته في المسار الذي أراده لها.. يفتحان -التفاصيل والأداء السرديّ- نافذة التلقي حتى للذين انتخبتْهم أقدارهم لاختبار طفولتهم في عقودٍ سابقة أو لاحقة دون التّأثر بحماستي المتحيّزة لأطفال الثمانينيات الذين صاروا كُهولا الآن!

بعد العشاء أمي جالسة على الكنبة أمام فيلم السهرة.. أشعر بالنعاس.. أقترب منها، وأدخل في حضنها ثم أنام بين ذراعيها.. حضنها كان يشبه سحابة دافئة، تتسع كلما توغلت داخل نعومتها المتينة.. كأنني كنت أعاود الدخول إلى جسدها حيث لا يمكن لأحد أن يراني، أو لتهديد أن يطالني..”

كفّي الصغيرة داخل كف أمي الكبيرة، القوية، الحنونة، العميقة، المحكمة كحارس أمين، يدرك تماما يد مَن تلك التي يحتضنها، مثلما يثق في قدرته على حماية صاحب هذه اليد.. كان يشعرني بأنه لا يحتوي كفي فحسب بل جسدي كله.. كنت أحس أن روحي مُركزة الآن داخل كفي المستقرة في أمان داخل كفها وأنا أسير بجسدي الضئيل بصحبتها إلى المدرسة في الصباح الباكر”  

لم أستحضر هذين المقتطَعيْن من (إثر حادث أليم) للإشارة إلى التنويع والمعرفة والتّفرد والحساسية في إنتاج خصوصية علاقة الطفل بالأم في هذه السيرة الروائية على سائر متعلّقاته (أشياؤه وشخوصه)، مع أن إشارةً من هذا النوع ستكون في محلّها تماما للحد الذي يجعلنا نقرأ باستمراء وخفّة أربع صفحات تقريبا في تحليل وتفنيد وتشريح اللحظة التي ربما لم تتجاوز الثانية، بكل الأبعاد النفسية والواقعية والتخييلية الممكنة، لحظة تردد الأم في ترك ماتبقّى بين أصابع يدها من قطعة الحلاوة السمسمية الخاصة بها لينتزعها طفلها الذي أنهى قطعته ولا يزال يشتهي المزيد.. استحضرتُهما لأقول إن الأم للطفل داخل دائرة السرد هي الطفولة لكاتب هذه السيرة خارجها..  سحابة الحضن الدافئة تظلل كليهما واحدةَ الأثر مع اعتبارات المخالفة.. يتوغّل الطفل في نعومتها المتينة فيشعر كأنه يعاود الدخول إلى جسد الأم -هذه المعاودة المستحيلة- ليضمن الحماية ويبتعد عن التهديد وهما أقصى ما ترتجيه روح طفل، فيما كاتبنا يحارب على جبهةٍ أخرى إذ يتوغّل في حشد تفاصيله، تفاصيل طفولته في المنصورة، متحاشيًا أن تهرب منه تفصيلةٌ واحدة حتى يمتصّ كل دفء طفولته السارب كأنه على هذا النحو ينزح إليها ثانيةً زمانًا ومكانًا -هذا النزوح المستحيل- ليضمن الحماية من صهد نيران إحساسه بكِبَر السنّ ويبتعد -تحايُلا وحتى إشعار آخر- عن تهديد غول الموت الذي تنجلي أماراته المتوالية، وتيار وعي تفاصيله الهادر يلاحق ذاكرته وذكرياته ويسيل متدفّقًا بمَن وبما حضرَ مخافة النسيان (مثلا، يتوقف فجأة عن متابعة حكايته مع الأقلام ليذيع خبرا عن شقيقه مجدي الزملكاوي الوحيد في الأسرة ثم يستأنف عرض أقلامه).. خاصةً أن رواية (إثر حادث أليم) كُتبت بوعيٍ منقسم، فلا هي سردية قُدِّرَ لها أن ينتجها وعيُ طفل كاختيار محسوم لأن ممدوح رزق حاضرٌ بإحالتنا إلى نصوص سابقة له ولآخرين ولأنه لا يني يقول، على سبيل المثال “في الثمانينيات، كانت هناك…….” ولأن لدينا معضلة فاتنة أخرى كملحق أخير بالرواية اسمها (لغز كاتب المسرح) فضلا عن (غابة العزاء الحقيرة) التي تسبق المسودة الأولى.. ولا هي سردية خالصة مخلَّصة لوعي ساردها الآنيّ لأننا حين نعايش معه حدثًا يخصّ طفله ينسحب تدريجيّا دون أن نفتقده لتصير مراوحات الطفولة بين العبث والفضول والإحجام واللعب و…. هي الأبقى حضورًا، قبل أن يظهر من جديد بإحالاته واستشهاداته أو بنتفِ العذاب الأكبر التي يرصُّها رصًّا بين قوسين في ختام كل مسودة.. يحتوي القوسان ما يتاح للذاكرة استجلابه من بقايا مشاهدات تليفزيونية ومطالعات في مجلات الأطفال توثيقًا وتخليدًا وعضًّا على الأيدي من الندم.. وما زلت مُصرّا على أن أكثر من ينالهم هذا العذاب هم المتحسِّرون من أطفال الثمانينيات، أمثالي!

قرأت لممدوح رزق عددًا من أعماله ما بين مجموعة قصصية ورواية وإسهامات نقدية، وكانت في مجملها بيانًا حول شغفه وولعه وخصوصيته، ناهيك  بهوايته المفضّلَة في تكسير الأصنام، لكن (إثر حادث أليم) ستقف طويلا ظهيرًا لنا في أوقات الشِّدة! على الأقل هذا ما أستشعره لنفسي.

محمد أبو الدهب
موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 26 نوفمبر 2021

حكمة الشاي

وحده الطفل ربما الذي لا يرى غضاضة في أن يجد نفسه بين أشخاص يكوّنون ما يُسمى "أسرة واحدة" ويجلسون لتناول فناجين أو أكواب الشاي بعد الاستيقاظ من القيلولة اليومية في شرفة البيت أو داخل حجرة المعيشة خاصة في الأماسي الشتائية الباردة .. أسرة عادية مكوّنة من أب وأم وأخوين لذلك الطفل الذي لا يخطر في ذهنه أو على الأقل لا ينتابه شعور خفي بوجود خطأ ما في هذا الطقس المتكرر .. على العكس ربما الطفل وحده أكثر من يدرك الحميمية النقية لتلك الجلسة المعهودة التي يتجلى دفئها كلما تزايدت البرودة في الخارج .. لكن طفوليته التي قد تبقى على حالها وهو يكبر من الممكن أن تنبهه في لحظة مفاجئة إلى ذلك الاستفهام: على ماذا تعتمد الثقة الصافية التي تجعل هؤلاء الأفراد يجلسون بتلك الطريقة؟ .. استفهام محكوم بالتوالدات المتصاعدة بدءً من التلصص على الخدوش الصغيرة وحتى الانغماس التام في المآسي المضجرة: هل يعرف كل منهم الآخر حقًا؟ .. هل يعلم بكل ما في داخله؟ .. هل يستطيع أي منهم أن يكشف للآخر عن كل ما في نفسه؟ .. هل يضمن أحدهم الحماية من الألم سواءً لذاته أو لمن يشاركونه ذلك المشهد المغلف بالطمأنينة الرائقة؟ .. هل ثمة حصانة ما تمنعهم من قتل أنفسهم أو قتل كل منهم للآخر؟ .. الطفولية نفسها التي ستجعل ذلك الشخص يدرك بأن الأمر لا يتعلق بتلك الأسئلة وإنما بشرب الشاي .. بالحياة التي تتلخص قيمتها في السماح لنا بذلك .. ستفهمه طفوليته المعنى الحقيقي للحياة .. أنه طالما لا نستطيع أن نطرح تساؤلات كهذه، أو أن نجيب عنها إذا ما ناوشت عقولنا، وطالما أن محاولاتنا للإجابة عنها ـ إذا ما سعينا لذلك بشكل ما ـ سوف تجعلنا أكثر قربًا من الموت؛ فعلى الأقل يمكننا أن نشرب الشاي.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 26 نوفمبر 2021 

الخميس، 18 نوفمبر 2021

التجرد من السماء

أصدقائي الأعزاء على فيسبوك ...

أنا أعلم كل شيء عنكم .. جميع أسراركم .. لكن اطمئنوا؛ فإنني أمتلك من النُبل والتعاطف ما يمنعني من الكشف ـ مثلًا ـ عن الروائية التي تنام مع ناقد أصغر عمرًا منها، والروائي الذي يعلم أن رجالًا آخرين يضاجعون زوجته، والشاعرة التي ترتبط بعلاقة جنسية مع ناشر، وكاتب القصة الذي يحاول إغواء المحررة الأدبية زوجة صديقه الصحفي، والشاعر الذي يأخذه في مؤخرته.
عرفت كل شيء بواسطة المراقبة المستمرة وعبر سنوات طويلة للإعجابات والتعليقات والمشاركات المتبادلة بينكم، ومقارنتها بما تتضمنه رواياتكم وقصصكم القصيرة وقصائدكم من شخصيات وأحداث وعلاقات .. باعترافاتكم المخبوءة داخل الفراغات الصامتة في نصوصكم .. لا أتحدث عن تخيلات بل حقائق .. براهين دامغة .. قرائن لا ينازعها الشك.
كل ما أفعله ـ إلى الآن وحتى آخر لحظة من عمري ـ أنني أستخدم هذه المعرفة في الكتابة، مع ترك إشارات دالة على كل واحد منكم عند توظيف المعلومة التي تخصه .. أما إذا أدرك قارئ ما ذلك الشخص المقصود فتلك ليست مسؤليتي .. أنا لم أفضح أي شيء.
هذا ما أردت القيام به منذ البداية .. ما يكفيني .. ما يسعدني .. هذا ما تأكدت أن عليّ ارتكابه خلال اللحظة التي دخلت فيها شقيقتي حجرة مكتبي فجأة ورأتني أستمني على مشهد جنسي في قصة قصيرة لمحمد البساطي منشورة بـ "أخبار الأدب" في التسعينيات .. حينما انتبهتُ إلى تعمّدي ترك باب الحجرة غير موصد، وإلى مسارعتي العفوية للخروج ورائها بعد أن تراجعت مصدومة على الفور حتى أنظر في عينيها وأتفحص تأثير ما رأته على ملامحها.
هل كنتم تعتقدون أنني حينما لا أغادر منزلي، ولا أتكلم مع أحد سأكون غافلًا عنكم! .. هل كنتم تظنون أنني حينما لا أعيش في بيوتكم ولا أرافقكم إلى الأماكن التي تتنقلون بينها، ولا أستمع إلى مكالماتكم الهاتفية أو أطّلع على رسائلكم وأحاديثكم مع أنفسكم والآخرين؛ أنني لن أعرف! .. أنكم ستظلون مختبئين مني!.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 18 نوفمبر 2021 

الخميس، 11 نوفمبر 2021

تجهيز "ليلة حب"

تجتمع في قصة "ليلة حب" من مجموعتي القصصية "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" / مؤسسة بتانة 2017؛ تجتمع فيها كل ما قمت بتدريسه في ورشتي القصصية حول "اكتشاف الأفكار" من خلال: أسئلة الشخصيات ـ أسئلة الذاكرة ـ أسئلة المَشاهد ـ أسئلة المعرفة ـ أسئلة الاختلاق.

كنت في زيارة مع أحد أصدقائي إلى شركة (صوت القاهرة) للصوتيات والمرئيات من أجل مساعدته على اختيار هدايا يعود بها إلى زملاء العمل في دولة عربية بعد انتهاء أجازته .. كان الموظف الوحيد داخل الشركة جالسًا أمام شاشة كمبيوتر، وبعد لحظات قصيرة من التحدث معه حول احتياجاتنا دخلت المرأة بطلة القصة من باب الشركة وكانت تحمل السمات التي ذكرتها في سطورها الأولى مع قدر من الاختلافات:

"كانت تغطي شعرها بإيشارب أزرق، بدا كأنه سماء صغيرة تلتف حول وجهها دون طائر واحد .. كان سمارها باهتاً، زادت لمسات المكياج الخفيفة من كموده، أما جسدها فكان قصيراً، بديناً بثديين كبيرين، وكان لها جبهة عريضة، وحاجبان رفيعان، وعينان يعطي ضيقهما انطباعاً بضعف البصر .. بدت كموظفة حكومية بفستانها البسيط، الذي تتلاحم طولياً داخل قماشه السميك خطوط كبيرة من الأسود والنبيتي، وكان انسجامه مع ملامحها يدعم صلاحيته بالفعل كزي رسمي للعاملات في الدولة .. الموظف الذي نهض من فوق الكرسي، وخرج من وراء المكتب بدأ يتأمل أنفها الأفطس، وخديها الممتلئين بقدر من التهدل، وفمها العريض بشفتيه السمينتين، المطبقتين على تنفس ثقيل .. فكر في أن عمرها ينتمي إلى تلك المسافة الزمنية المبهمة بين أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات".

أعطاني وجودها على الفور إدراكًا بأن ثمة قصة قصيرة تُخلق، خاصة حينما:

"كانت عيناها تنظران لأعلى، تستكشفان وجوه المطربين والمطربات، وأسماء الشرائط على الأغلفة الراقدة داخل العلب المتراصة فوق الرفوف العريضة، المغلقة بنوافذ زجاجية .. توقفت أمام ما بدا أنه قسم خاص لـ (أم كلثوم) .. بدأت نظرتها تمعن في التركيز، وهي تضع فوق السطح الزجاجي للفاترينة الأمامية الواطئة، التي تفصلها عن الرفوف حقيبة يد جلدية، ذات سواد قاتم، وتحمل زخارفاً ذهبية تشبه السلاسل الضئيلة، التي يكوّن تشابكها أوراقاً لوردة كبيرة بلا ساق .. وضعت أيضاً فوق الفاترينة كيساً أسود كانت تحمله في يدها الأخرى، ويحوي شيئاً تقارب هيئته من الخارج بنية الزجاجة الكبيرة، دون أن تُبعد بصرها عن الشرائط .. نظرت إلى الموظف .. لم تنظر في عينيه، وإنما ظل بصرها يتنقل بتسارع مرتبك بين نقاط متناثرة في وجهه .. كانا وحدهما، ورغم ذلك سألته بصوت خافت جداً، مختنق بالحذر، كأنها تستفسر عن بضاعة محرمة، أو تخشى أن يسمعها كائن غير مرئي:

ـ شريط (ليلة حب) موجود؟

خرجت حروف سؤالها مضغوطة من بين شفتيها .. كأنها تقاوم بمشقة كتماناً طويلاً، وفي نفس الوقت تؤكد قوة الاحتياج".

كانت تشبه شقيقتي الكبرى وجهًا وجسمًا .. في عمرها تقريبًا .. ترتدي مثلها .. لها نفس النظرة .. تتكلم حين توشك على البكاء بالطريقة ذاتها .. شقيقتي التي تعيش حياة جحيمية مع زوجها.

بعدما أخذت المرأة الشريط ودفعت ثمنه ثم غادرت الشركة؛ فكّرت على النحو التالي:

هذه امرأة تعادل شقيقتي .. ستستمع إلى "ليلة حب" على شريط كاسيت وليس على كمبيوتر أو هاتف محمول .. سوف تسترجع أغنية الماضي عبر الوسيط القديم نفسه، أي كمحاولة لاستعادة الذكرى كما حدثت أول مرة .. ستعود إلى البيت حيث ينتظرها زوج يعذبها وجوده في كل لحظة .. لم يعد لديها أدنى قدرة على تحمّل اليأس أو التعايش مع عجزها المخبوء عن فهم أو تصديق حطامها في هذا العُمر .. نظرًا لانشغالي بالموضوع وبأسبابه التي تبدو للبعض بسيطة أحيانًا؛ يوجد على اللاب توب الخاص بي ملف يضم حوادث انتحار النساء وقتل الأزواج على يد زوجاتهم خلال السنوات الماضية .. هذه المرأة ستقتل زوجها وستنتحر أيضًا، وستكون أغنية "ليلة حب" احتفالًا بالنهاية ربما مثلما كانت احتفالًا بالبداية .. كيف ستفعل ذلك؟ .. كانت المرأة تحمل كيسًا أسود .. سأضع في داخله زجاجة بنزين (لن أصرّح بذلك طبعًا ولكن سأعطي انطباعًا غامضًا به من خلال الوصف المقتضب) .. هل سأجعلها تنفّذ تدبيرها على الفور؟ .. حتمًا لا .. سأخفي كل شيء يدل على ذلك، وسأظهرها في اللحظات الأخيرة كأنها في حالة قبول لحياة عادية، مستوعبة، ولا تُضمر تهديدًا لاستمراريتها .. كأنها تساير جحيمها أو تتقمّص حتى النهاية دورها القهري في متاهاته قبل مغادرتها .. سأمنح هذه المرأة ابنة وحفيدين .. سأجعل هذه الابنة تعيش مع أسرتها خارج المدينة التي تعيش فيها الأم (الوحدة التي اكتشفت خلالها المرأة لماذا عليها قتل زوجها والانتحار، وتسمح لها في الوقت ذاته بتحقيق ذلك دون عائق) .. سأكشف عن أن المرأة تستعمل (سكايب) في التحدث مع ابنتها؛ أي أن لديها جهاز كمبيوتر، وهذا ما يؤكد الدافع وراء استماعها لـ "ليلة حب" من خلال الكاسيت .. سأجعل المرأة تتحدث مع ابنتها بنفس الكلمات الواقعية التي تتكلم بها شقيقتي الكبرى مع زوجتي في الهاتف: الشكوى من ابن أخيها ـ المشروع التجاري الصغير لزميلتها في الوظيفة الحكومية ـ تبلّد سكان العمارة إزاء مشكلة السباكة ـ البيجامات الجديدة التي اشترتها لطفلتي ... إلخ .. ولكي أُكسب الصدمة مزيدًا من القوة (أي أشكّلها كانفجار، يتحتم حدوثه في قلب المعيشة التقليدية أو الأمان الظاهري عند لحظة غير متوقعة)؛ سأجعلها تتفق مع ابنتها على يوم الزيارة القادمة لها مع الحفيدين كأنما تطمئنها / تطمئن الجميع بأن الأمر سيظل (على ما يرام) .. سأجعلها تتعرى تمامًا كأنما تتجرد من كل ما حدث بعد لحظة الاستماع الأولى لـ "ليلة حب" بينما تسمعها الآن للمرة الأخيرة .. سأختار موعد التنفيذ عند الإعادة الثالثة لـ "تعال حب العمر كله نخلصه حب الليلة دي .. تعال شوق العمر كله نعيشه م القلب الليلة دي .. ما تخليش أشواقنا لبكره، ما تخليش فرحتنا لبكره .. كأن أول ليلة للحب الليلة دي" .. موعد الاحتفال بالوعد المغدور للأغنية، وكأنه سيتحقق الآن بطريقة أخرى  .. لماذا يحدث ذلك؟ .. لأنها اللعبة اللامبالية للعالم .. لعبة؟ .. كان موظف شركة (صوت القاهرة) جالسًا أمام شاشة الكمبيوتر عند دخولنا .. ربما كان يشعر بالملل مع ساعات العمل الطويلة وندرة الزبائن .. ربما كان يتسلى باللعب .. ماذا كان يلعب؟ .. ربما اعتاد مثلي على لعبة الورق "سوليتير" .. هل هي لعبة تناسب أداءاتها ذلك الإيحاء: التحكم العفوي، المرح، غير المكترث، لفائز دائم، محصّن، لا يمكن أن تناوشه هزيمة ما؟ ..  نعم .. ما هي اللحظة الأكثر إثباتًا لهذه المواءمة وتليق بالمرأة والرجل في القصة (وفي كل قصة)؟ .. عند وضع ورقة الآس فوق الورقة التي تحمل قلبين .. ما هو اللون المتسق مع الفكرة؟ .. الأحمر (رومانسي، شبقي، ودموي) .. حسنًا؛ سأجعل الموظف يلعب السوليتير .. سأجعله عند دخول المرأة إلى الشركة لشراء "ليلة حب" يضع الآس الأحمر فوق الورقة ذات القلبين الأحمرين، وسأجعله يكرر ذلك بعدما يطالع بأحد المواقع خبر مصرع المرأة وزوجها في حريق .. لن أجعله يتذكرها.

 أراجيك ـ 10 نوفمبر 2021

الأحد، 7 نوفمبر 2021

فأر ميت

وجدت زوجتي فأرًا ميتًا داخل الشرفة .. كانت على وشك إغلاقها آخر المساء حين رأته مرتميًا في ركن منها بجوار أحد أصص النباتات .. كنت أستعد للنوم عندما سمعتها ترفع صوتها لتخبرني بالأمر .. سألتها إن كانت في حاجة لمساعدتي فأرسلت عبر الصالة والردهة استنكارًا للسؤال .. كنت أتمنى يائسًا أن تقول "لا" .. غادرت السرير وتوجهت إليها حيث كانت قد أضاءت مصباح الشرفة وظلت واقفة أمام جثة الفأر .. للحظات قليلة تفحصت جسده الضئيل الهامد بعينيه الصغيرتين المفتوحتين ثم أدرت بصري نحوها وسألتها إن كانت قد وضعت سُمًّا داخل الشرفة فردت بالنفي .. "ما الذي قتله إذن؟" .. سألتها مجددًا وأنا أعاود معاينته .. كان جسده سليمًا، لا وجود فيه لجرح .. بدا كأنه مستيقظ، ولكنه لا يتنفس .. قالت: لا أعرف .. ثم طلبت مني أن أدفع جثته بالمقشة نحو الجاروف ثم ألقي بها في الشارع .. كنت أعرف أنها ستطلب مني ذلك وهو ما لم أكن أريد فعله، ولكني بعدما رأيت الفأر ميتًا دون سبب واضح شعرت بالرغبة في القيام بالأمر .. رغبة تتجاوز الرضوخ لزوجة يصيبها الغثيان من مجرد التفكير في أداء هذه المهمة الحتمية .. كانت ضرورة خاصة بي .. أحضرت زوجتي المقشة والجاروف، وبعد محاولات عدة لإزاحة جثة الفأر نحو السطح العريض المغلف بكيس بلاستيكي والمستقر على الأرض؛ نجحت في سحبها .. تركت المقشة وأمسكت بالجاروف ثم رفعت الجثة نحو مزيد من الضوء .. نظرت في عيني الفأر ثم ألقيت به في الشارع على الفور .. أغلقت زوجتي الشرفة وعدت إلى السرير بنشوة خفية .. لم أكن أنوي مضاجعة زوجتي هذه الليلة لكنني فعلت ثم وضعت رأسي فوق الوسادة وأغمصت عيني.

الصورة: depression-self-portraits-photography-edward-honaker

أنطولوجيا السرد العربي ـ 6 نوفمبر 2021 

الثلاثاء، 2 نوفمبر 2021

لعبة التلصص في "موعد على العشاء"

أنهى محمد خان فيلمه "موعد على العشاء" 1981 بلقطتين متتابعتين تُظهران نوال "سعاد حسني" وعزت "حسين فهمي" على طاولة الطعام من خارج الحجرة التي يتواجدان فيها ومن زاويتين مختلفتين، غير مستقيمتين وعبر مسافتين بعيدتين إلى حد ما .. في تلك الوضعية لا تجعل الكاميرا المتفرج في حالة رؤية وإنما في حالة "تلصص" .. استراق نظر .. تجعله متفرجًا خفيًا، غير مُدرَك للجالسين أثناء قيامه بـ "المشاهدة" .. لا يمكنه الظهور أو الإعلان عن كونه (يرى) لسبب ما.

من الذي يتلصص على نهاية نوال تحديدًا باعتبارها صنيعتها المحتومة؟:

روحها المقهورة .. الطفلة في اللوحة .. الرجل العجوز (الأب) في اللوحة ذاتها .. التاريخ البشري الذي سجنها داخل جسدها وخارجه .. أمها "زوزو ماضي" .. الغرباء في كل لحظة (اختلاس للرؤية) عبر الزمن .. تاجر التحف الذي اشترى لوحة الطفلة من المزاد .. صديقاتها .. الماتادور في ملصق مصارعة الثيران على حائط المطعم .. البنت التي كانت تلعب تحت شرفتها .. مثيلاتها الميتات وهن على قيد الحياة .. الرجال الذين أطبقت أجسادهم على أنفاسها في الأسانسير .. الفتيات اللاتي يتوعدهن مصيرها .. المرأة التي رأتها تسقط من البلكونة في الحلم .. قتلتها المتواريين في كل وقت يسبق أو يزامن أو يعقب حضورها في العالم .. الأب والأم والطفلان الذين كانوا يسيرون فوق الرصيف بينما تقود سيارتها .. شكري "أحمد ذكي" .. القدر أو المشيئة الغيبية .. الحياة التي مرت عبر آلامها .. غموض ما بعد الموت.

هكذا يكون التلصص تلذذًا بالمراقبة، أو خوفًا من التطلع المباشر، أو تبرؤًا من دماء جثة ممزقة.

لكن استراق النظر لا يتعلق بنهاية "موعد على العشاء" فحسب وإنما تكشف هذه النهاية عن أنه كان طبيعة جوهرية للفيلم نفسه .. ماهية سرية لتفاصيله وأحداثه كلها .. كانت نوال والموت يتبادل كل منهما التلصص على الآخر منذ اللحظة الأولى وحتى الصمت الأخير .. ذلك ما يبرهنه ـ بتجاوز الدلالة التقليدية لقمع حريتها ـ التركيز على وجودها وراء أبواب ونوافذ وأسطح زجاجية  .. كانت نوال تتلصص على نفسها وعلى كائنات وأشياء الواقع وعلى العيون كافة التي تحدّق في وجهها كمقاومة غاضبة لعذابها المبهم .. كمحاولة للانتقام من عمائها الراسخ ولو بنزع الغفلة عن دموعها .. كانت تكافح للعثور على خلاص ما وراء الجدران المعتمة التي تحاصرها كلعنة أبدية.. أما الموت فكان يختلس الرؤية، ومن خلال كائنات وأشياء الواقع، إلى ملامح نوال كجائع مخبوء يجهّز وليمة صغيرة لأمعائه.

ترتبط شهوة التلصص بالطفولة، وكما يشير فرويد إلى كونها توفر الطاقة لدافع المعرفة الذي يضرب بجذوره في الجنسانية الطفلية بما تنطوي عليه من الحاجة إلى السيطرة .. لنسترجع الحوار بين نوال وشكري حول لوحة الطفلة حينما أخبرته بأنها لمّا رأتها لأول مرة أحست بأنها هي، تسير في طريق أشبه بالحلم، لا تعرف بدايته أو أين سيصل بها، وأن التاجر عندما أخذها منها فكأنه أخذ حياتها كلها؛ رد عليها شكري بالتساؤل عن إمكانية أن يرجع الشخص طفلًا مرة أخرى فأجابته: مستحيل.

نهاية "موعد على العشاء" كانت إذن اللحظات الأخيرة للتلصص بين نوال والموت .. نوال تغلق عينيها التائهتين ككل طفلة وفتاة وامرأة قتلها القهر الأسري أو الزوجي أو المجتمعي بينما يفرغ الموت من إمتاع شهوانيته الطفولية التي لا يمكن كبتها بجسد آخر.

 أراجيك ـ 2 نوفمبر 2021

 

الاثنين، 1 نوفمبر 2021

"مكان في الزمن" في الصين


بعد الولايات المتحدة الأمريكية 🇺🇸 ومصر 🇪🇬 وإيطاليا والمغرب؛ يعرض فيلم "مكان في الزمن" في الصين بالدورة التاسعة لمهرجان كانتون الدولي للفيلم القصير ، والذي يعقد في الفترة من 29 أكتوبر إلى 1 نوفمبر 2021 .. الفيلم للمخرج نواف الجناحي عن قصة لممدوح رزق.

السبت، 30 أكتوبر 2021

تحميل كتاب "راي آرمانتروت ـ مختارات شعرية" / ترجمة: ممدوح رزق


https://drive.google.com/file/d/1gNAIlCIqSUUAo3I6QhOEXP_yz-IAMqlK/view?usp=sharing

عادة غيبية

يعجبني أنك تفهمني جيًدا .. تدرك تمامًا ما أريده وتنفّذه بدقة ومهارة ...

تجلس أمامك امرأة تلو الأخرى فوق مقعد الاستغاثة: زوجة تعرضت للضرب والإهانة على يد شريك حياتها .. أم اختطف طليقها أبنائهما .. ربة منزل استولى زوجها على مشغولاتها الذهبية وطردها من المنزل .. المآسي المضجرة التي تُحصّن الحياة .. تبدأ في تصوير كل واحدة كأنك تؤدي مهمتك الروتينية كمصوّر لموقع صحفي .. لكنك تعرف أن عليك أن تبدأ من أسفل .. أن تمر عدستك أولًا ببطء فوق فخذيها .. البطء الذي تزيد قيمته عندما ترتدي المرأة ثوبًا ضيقًا .. في الطريق إلى وجهها تتوقف كاميرتك لحظة واحدة عند مفترق الفخذين .. مجرد لحظة واحدة قد لا تُلاحظ ولكنني بالطبع أكون في انتظارها .. ثم تكرر التوقف نفسه عند ثدييها لزمن أطول قليلًا .. وبعدما تبدأ المرأة في الحكي والبكاء ستستمر عدستك بين حين وآخر في التنقل بين وجهها المحترق بالدموع وفخذيها .. بين ملامحها المحطمة وثدييها .. تنقلات تثير وتمتع كلما تصاعدت قوة النحيب وهي تتوسل لإنقاذها من مصيبتها .. ربما تستوعب أن تلك الأداءات التصويرية تعيد اكتشاف عينيها .. تمنح وجهها جمالًا شهوانيًا خاصًا.. كأنك بحركة كاميرتك أمام جسدها قد جعلتها تعرفني .. تعرف أنني أراها، وأن عليها لذلك أن تظهر كما يليق بإيمانها بوجودي .. كأنك تجعلها برجاءاتها المقهورة تمارس تعريًا سريًا .. تقوم بإغواء ضمني عبر استنجاداتها المكلومة .. تجعلها تبدو مهتاجة من أجلي .. تتوق لي .. تحلم بالخلاص في مخدعي.
أنت بارع في تبليغ الرسالة التي أيقنتها وحدك .. تؤدي الأمانة كما لو أنني قد كلفتك بها حقًا من حيث أتوارى ولا يستطيع أن يراني أحد.
اللوحة لـ Edward Hopper

أنطولوجيا السرد العربي ـ 29 أكتوبر 2021 

الثلاثاء، 26 أكتوبر 2021

ضد "تأويل" سوزان سونتاج

كتبت سوزان سونتاج مقالها الشهير "ضد التأويل" عام 1964 بدافع الاستياء والضجر من الغريزة القرائية التي تخلق البشر كماكينات للتفسير وإنتاج المعرفة .. الغريزة التي أنتجت طبيعة نمطية للنقد وهي "الاستقراء الدلالي" أي اتخاذ قرارات حاسمة بشأن الأفكار التي تُشكل العمل الأدبي أو الفني، وتكوّن جمالياته .. تطويع ما هو شعوري أو حسي إلى مبدأ محدد أو مفهوم ثابت.

لكن ذلك ليس تأويلًا وإنما هو "قمع للتأويل"؛ إذ أن تفسير وترجمة عناصر القصيدة أو المسرحية أو الرواية أو القصة إلى شيء آخر، أو الفهم المحصور لنقاد الأدب عن مهمتهم كما تقول سونتاج؛ هو كبت للاحتمالات والإلهامات غير المحكومة التي يثيرها النص، وإخضاع استفهاماته لقوالب صارمة أو سياقات جاهزة تمثل الحقيقة في وعي "المفسِر" .. هو إخماد للفرضيات المتعددة للعمل الفني والتي ينبغي أن تكون مكونات للعبة لانهائية غير مشروطة بقواعد .. سونتاج تخلط بين "التأويل" كتحريض على تفكيك "المعنى"، وبين "التفسير" كتقييد لجموح التلقي أو إعادة الكتابة .. لماذا تفعل ذلك؟ .. ما أكتبه ليس إجابة على هذا السؤال، ولكنه "تفكير" في الإجابة بما يعني توليد المزيد من الأسئلة.

هل كانت سوزان سونتاج تحلم بسلطة كونية إعجازية أو قدرة غيبية خارقة تُجبر مثلًا قارئ قصة "أمام القانون" لكافكا على عدم الاستجابة العفوية لاستدعاء صورة "القانون" في ذاكرته أو ما تمثله تلك الكلمة في تجربة حياته أثناء قراءة القصة، أو تُحتم على مشاهد لوحة man in a bowler hat لرينيه ماجريت الامتناع التام عن الاسترجاع التلقائي لما يعنيه "الطائر" في نفسه خلال تلك اللحظة، أو لما تثيره رؤيته وفقًا لخبرة ماضيه؟ .. إن هناك من يتوقف عند حدود اليقين الخاص بردود الأفعال البديهية تلك، وفي المقابل هناك من يتجاوزها .. هناك من يستقر عند الإدراك الفوري المروّض للنص أو اللوحة اعتمادًا على ما يُنظر إليه كـ "أصل" معرفي، وهناك من يراوغ الحضور الاستباقي لهذا الإدراك .. هناك من يظل محتجزًا داخل التعريف التقليدي لـ "القانون" في قصة كافكا، وهناك من يتخطى ذلك التعريف، كما كتبت في قراءتي النقدية للقصة والتي تضمنها كتابي "هل تؤمن بالأشباح؟ ـ قراءات في كلاسيكيات القصة القصيرة": "هو يتفحص القانون الأكثر اتساعاً ومراوغة وتوحشاً من إمكانية التعريف .. الذي لا تؤسسه يقينيات حاسمة، ولا تنظم حركته مشيئة أخلاقية مفهومة، ولا يسعى لتحقيق أهداف يمكن استيعابها" .. هناك من تمتلكه الإحالات المألوفة لـ "الطائر"، وهناك من يحاكم هذه الإحالات في لوحة رينيه ماجريت لتجعله ـ كالقانون ـ لغزًا لا يُجسّده إلا الظنون المتغيرة.

إن "الابتذال" ـ وبتجاهل الحكم الأخلاقي في الوصف الذي استعملته سونتاج ـ لا يكمن في المرجعية الاجتماعية أو السياسية أو النفسية أو الدينية التي تبدأ مسارات "فهم" النص منها، وإنما ـ ودون إدانة قيمية ـ في انتهاء تلك المسارات عندها .. سيطرة "الإيمان" على "الفهم" الأمر الذي يمنع تحوّله إلى "لعب" .. الذي يُبقي النقد وظيفة إيدولوجية بشكل ما وليس مقاومة للمطلق باستخدام أدوات همينته نفسها .. مرة أخرى هذا هو الفرق بين "التفسير" أو الرغبة في الشعور بالرضا، وبين "التأويل" أو الرغبة في تحفيز القلق .. ما جعلتهما سوزان سونتاج شيئًا واحدًا.

ربما نعتقد أن سوزان سونتاج كانت تحلم بهذه السلطة الكونية أو القدرة الغيبية حقًا حين نفكر في دعوتها لعدم طرح الأسئلة عما يعنيه النص .. مشكلة سونتاج كما كتبت من قبل في عدم قدرتها على التفرقة بين التفسير والتأويل من حيث أن التفسير يتعلق بالمعني بينما التأويل يرتبط بانتهاكه .. لاحظ أن استشهاداتها الخاصة بالأساطير تدعم عدم قدرتها على هذه التفرقة: زيوس يمثل السلطة، الهجرة الجماعية في سفر الخروج والوصول إلى أرض الميعاد تمثل الخلاص النهائي إلخ (تفسيرات جامدة تصفها "بسذاجة" بالتأويلات) .. إن "إيروسية الفن" أو الاكتفاء بوصف شكل العمل الفني أو مظهره، أو بالقراءة المجردة للنص الأدبي كما تقترح سونتاج ستتطلب حتمًا استعمال كلمات، والكلمات تمتلك أنساقًا لغوية طالما أن "الواصف أو "القارئ" لديه ذاكرة، وبالتالي فالأنساق ستعلن عن نفسها كبنية غير مكتملة أي كمحتوى من الغموض، إما أن يجاب على أسئلته فورًا أو يتم تحريض أسئلته على التناسل، أي أن ما تقترحه سونتاج لن يتم إلا باستخدام الاستفهام كباطن أو جوهر لكل ممارسة لغوية يحتاجها الوصف أو القراءة المجردة، المسألة تتعلق بالتعامل مع الاستفهام: هل نقنع بالردود المشبعة أم نعتني بالأرق؟.  

يبدو الأمر أقرب إلى عاطفة انفعالية فحسب عند سوزان سونتاج، احتاجت للتعبير عنها استعمال مفردات لا يوجد ما يمكنه أن يعوق عمل دلالاتها وتساؤلاتها في وعي متلقيها، حلم باختفاء الأفكار، بتنقية الذهن من لعنة اللغة، أن تصير "الحسية" خارج ثقل الكلمات التي يمكن أن تحيلها إلى شيء آخر، ومن أجل إكساب هذا الحلم موضوعية ملفقة لم يكن عليها بالضرورة تحرير مفهومها عن "التأويل" باعتباره "الخيال" الذي يحقق "إيروسية التلقي" أو محاولة ضمان عدم رضوح الرؤية الحسية لنمط أو عقيدة متعالية، بالتناقض مع "التفسير" الذي يجرد الحسية من المرونة ويحرمها من إمكانات طيشها .. هذا التحرير كان سيمنعها من استعراض حلمها الحسي في رداء نظري "مهترئ" .. إن وجهة النظر الاستبدادية هو ذلك الإجراء المتسلط العبثي اللامنطقي وغير القابل للتحقق الذي تريد سونتاج من "الفرد اللغوي" ـ أي الذي خلقته وكوّنت ذاكرته وشكّلت وعيه اللغة ـ بإعطاب خواصه العقلية عمدًا بحيث يمحو على نحو قاطع ماضي الكلمة وماضي المشهد حين يقرأ أو ينظر .. ما يبرز تناقض سونتاج هو دفاعها عن رغبتها: "الاقتراب المباشر بوعي حسي عال يجسّد معاني واحتمالات عديدة" .. حسنًا هذا هو التأويل، ومضاده التفسير الذي يفترض أنها تجابهه مع افتقارها للتمييز بينهما .. المعاني والاحتمالات العديدة التي تطمح إليها ـ مع تجنّب المناهج والقوانين ـ ستمر أولًا على عتبة بديهية اسمها "كلمات الحواس" أي الأثر الذي سبق أن تركته عناصر المحتوى الأدبي أو الفني في الذاكرة .. المعاني والاحتمالات العديدة هي ما ستصير إليه تلك الكلمات، أي ما لا يجب أن يبقى مؤطرًا، بل في حالة استعداد دائم لتجاوز نفسه .. سوزان سونتاج لديها مشكلة في تحديد ماهية "التأويل"، "التفسير"، "المضمون"، "الحواس"، "القوانين" .. لكنها مشكلة غير متعمدة لإنها مرتبطة بانفعالها "الوجداني" الذي اشترط "سياقًا كتابيًا" لطرحه .. السياق الذي لم ينجح ـ لأنه قائم على الانفعال المحض ـ في إخفاء ثغراته الساطعة وأبرزها "أنا أتحدث عن القوانين فقط / افتراض وجود مضمون خطأ" .. لو كان خطابها إدانة للقوانين فهي تقر بوجود مضمون ولكنها ترفض مقاربته بالقوانين "التفسير كما يغيب عن فهم سونتاج"، ولو كان خطابها إدانة لافتراض وجود مضمون فهي تقر بأنه ليست هناك مقاربة بالقوانين أو بغيرها إزاء هذا الغياب لأن الحسية ذاتها تفترض كيانًا يمكن "لمسه" بطريقة ما، وهذا اللمس حين يثير شعورًا فإن عدم القدرة حتى على تحديده سيترجم إلى كلمات تلقائية، وبما أن الكلمات ليست كائنات مستقلة، مبتورة الأطراف في التاريخ الشخصي فإنها ستفرض "مضمونًا"، هذا "المضمون" ليس ظاهريًا ولا مجازيًا كما تتصوّر سونتاج بقدر ما هو "إيهامي" حيث "كل ما يبدو عليه العمل الفني" ليس فضاءً من الصمت فاقد الذاكرة بل ذخيرة صراع وجدل تشير إلى حاملها الخفي (التجارب والخبرات)، أشباح من الرموز والعلامات التي يستحضرها الذهن عفويًا حين يتم تنبيهه إلى ما يرتبط بها (نعم التفاحة ليست ما تبدو عليه في اللوحة سواء بالنسبة لي أو للرسام لأنها ببساطة استدعت ذكريات جعلتها شريكًا في تأثيرات وجودية تؤسس رؤيتي للوحة مثلما كانت بالنسبة لرسامها؛ إما أن أنتهز مفترق الطرق هذا في تحويله إلى متاهة أو في جعله مجرد محطة وصول آمن) .. أما المضحك فعلًا أن سونتاج حينما أرادت استعمال كلمة "راديكالية" جعلتها وصفًا "اتهاميًا" لإعادة الكتابة / محو النص / تعديله / تغييره، أي ـ بحسب وجهة نظرها ـ ما يستتر وراء ادعاء جعل النص واضحًا ومفهومًا فحسب بالكشف عن معناه الحقيقي  .. إن إعادة الكتابة أو المحو أو التعديل أو التغيير هي مهام "تأويلية" تحمي النص من أن يكون واضحًا ومفهومًا "مخصيًا"، أو خاضعًا لـ "معنى حقيقي"، أي تحميه من "التفسير" .. كأن سونتاج تدافع عن "التفسير" ـ وهو المضحك في الأمر ـ من حيث أرادت إدانة "التأويل" المناقض له.

كان يمكن لسوزان سونتاج أن تفكر في الأمر كرجاء رومانسي فحسب .. أمنية أسطورية .. لكنها أرادت ـ بنزق طفولي ـ تحويلها إلى "قانون" واقعي، ولمنحه "مشروعية" ما تعاملت مع "التأويل" بمنظور قاصر ربما يدفعنا للتفكير في أن الناقد المشغول بإيروسية الفن حقًا ينبغي أن يكون "ضد ما تعتقده سونتاج عن التأويل" وإلا ظل ناقدًا مفسِّرًا.

أراجيك ـ 26 أكتوبر 2021

 

الجمعة، 22 أكتوبر 2021

“مرجيحة حرير” .. مسرحية قصيرة في فصل واحد

المسرح منقسم إلى جانبين: غرفة منزلية صغيرة، شاحبة الإضاءة، وخالية إلا من أشياء قليلة قديمة ومتكسّرة، بما يشير إلى استخدامها كمخزن للأغراض غير المستعملة، ملقى على أرضها مغشيًا عليه رجل في منتصف العمر، يرتدي ملابس غير مهندمة، وتسيل دماء من رأسه .. على الجانب الآخر حجرة معيشة تقليدية، مضاءة تمامًا، يجلس فوق أحد مقاعدها رجل في منتصف العمر أيضًا، يرتدي ملابس البيت، يدخن سيجارة، ويُمسك مسدسًا في يده .. يفصل بين الجانبين جدار كبير، في منتصفه باب الحجرة المغلق.

يبدأ الرجل المغشي عليه في الإفاقة تدريجيًا .. ينهض من فوق الأرض بإنهاك كبير، متحسسًا موضع الجرح في رأسه .. يتلفت حوله مستكشفًا سجنه ثم يقترب من الباب ويطرق عليه بوهن.

الرجل في حجرة المعيشة بعد سماعه صوت الطرقات: هل أفقت؟

الأسير: أين أنا؟

السجّان: في البيت الذي حاولت اقتحامه...

ـ هل أنت ...؟

ـ نعم .. أنا الذي جئت لقتله ...

ـ وما الذي ستفعله الآن؟

(بسخرية) ـ ماذا تتوقع؟

ـ ستقتلني .. أليس كذلك؟

ـ بالتأكيد .. لم يعد في عمرك سوى خمس عشرة دقيقة فحسب.

ـ نعم .. لو كنت مكانك لفعلت نفس الشيء.

ـ كنت سأكون مكانك ذات يوم .. أنت تعرف؛ كان يتحتم عليّ أنا أيضًا التسلل إلى منزلك ومحاولة قتلك، وربما كنت قد نجحت أنت في مباغتتي من الخلف بضربة قوية على الرأس وتمكنت من أسري كما فعلت معك .. كنت ستقتلني بطبيعة الحال .. كل ما في الأمر أنك قمت بذلك أولًا .. ومن يدري؛ ربما ألاقي مصيرك في بيت آخر على يد أحد هؤلاء الذين يجب عليّ قتلهم.

ـ ولماذا لم تقتلني على الفور؟

(بسخرية) ـ وأضيّع على نفسي متعة تعذيبك بأن أجعلك تعيش العد التنازلي لحياتك.

ـ لم تعد الحياة تهمني الآن .. طالما سأموت بطلًا.

ـ نعم .. كلنا أبطال في هذه الحرب الأبدية .. القاتل والمقتول.

(يتوجع متحسسا رأسه) ـ هل يمكنني أن أسألك عن شيء؟

ـ أجل  ...

ـ لو كنت مكاني .. هل كنت ستتمنى أن تعيش؟

ـ دون شك.

ـ ألن يكون ذلك باعثًا للخزي؟

ـ لا أعتقد ذلك .. طالما أنك تستقبل الموت بشجاعة.

ـ وكيف تكون تلك الشجاعة بالنسبة لك؟

ـ على الأقل .. مهما كان الهلع الذي يمزق أحشاءك؛ فلا تتوسل لقاتلك حتى يُبقي على حياتك.

ـ نعم .. هذا صحيح.

(بسخرية) ـ ألن تتوسل لي؟

(يضحك بهستيريا) ـ بالتأكيد لا، فإذا كنت راغبًا في الحياة؛ فإن الموت في سبيل الواجب أكثر شرفًا من أي حياة.

ـ معك حق .. أنت رجل شجاع.

ـ حسنًا .. فقط من باب العلم بالشيء .. هل كنت ستعفو عني لو توسلت لك؟

ـ العفو خيانة كما تعلم .. لكني لا أعرف .. ربما كنت سأعتبر عفوي عنك نوعًا من التضحية التي يمكن تعويضها .. الأمر يتوقف على التفاصيل.

ـ أي تفاصيل؟

ـ الكلمات التي ستستخدمها في التوسل .. نبرة صوتك .. انفعالاتك الجسدية .. هل ستبكي أم لا .. كيف سيكون بكاؤك .. مساحة الصمت بين عبارة وأخرى .. طريقتك في التنفس .. وهكذا.

ـ أنت كاذب.

(بسخرية) ـ طبعًا .. أنت ميت مهما فعلت.

ـ لن أفعل شيئًا .. فانا أيضًا كنت سأقتلك مهما توسلت لي.

ـ أجل .. إنه أكثر الأمور عفوية .. يحدث منذ الأزل بمنتهى البساطة في كل لحظة من كل يوم .. حتى أنه في الأغلب لا يُلاحَظ.

ـ هل فكرت من قبل في أننا ربما نكون على خطأ؟

ـ فكرت .. مرة واحدة فقط.

ـ وبعد ذلك؟

ـ أدركت أن الأمر لا يتعلق بما قد نظنه عن الصواب والخطأ .. إننا نتبع ضرورة الصواب والخطأ وليس ما يُحتمل أن يخطر في أذهاننا عنهما من أفكار أو مشاعر .. إنها الضرورة التي تسبق أجسادنا .. أنت مكلف بالوجود، وطالما أنك كذلك فعليك أن تؤدي ما يتطلبه وجودك فحسب .. وجودنا يلزمنا بأن أجلس على هذا المقعد، وأن تقف أنت وراء باب هذه الحجرة في انتظار موتك المحتوم على يدي.

ـ نعم .. أنا أيضًا فكرت في الأمر مرة واحدة فقط، وأدركت نفس المعنى .. هذا هو الصواب سواء استمتعنا به أو لا .. سواء شعرنا بطابع القداسة تجاه ما نفعله أو لا .. سواء تذكرنا أحد ونحن في قبورنا أم خُلِدنا في النسيان .. علينا أن نستجيب لضرورة الوجود حتى لا نكون مخطئين مهما كان الثمن .. أما إذا أخطأنا وتوقف أي منا لسبب ما عن مطاردة الآخر وقتله؛ فإن لدينا دائمًا الفرصة للامتثال مجددًا إلى تلك الضرورة.

(صمت)

السجّان يصفّر فجأة لحنًا ما وعلى وجهه ملامح اللامبالاة.

الأسير (متلهفًا): هذه الأغنية التي تصفّرها .. أنا أعرفها جيدًا...

ـ إنها أغنية طفولتي المفضلة .. أحب دومًا أن أدندنها من وقت لآخر .. هل تحفظ كلماتها؟

ـ نعم .. (يغني) فتّحي يا زهور فتّحي .. واضحكي للنور وافرحي .. وافتحي قلبك افتحي ...

(السجان يُكمل الغناء) ـ دي النسمة عبير .. مرجيحة حرير ...

(يغنيان معًا) ـ بتقول يالا اتمرجحي، واصحي وصحصحي، واضحكي وافرحي، فتّحي فتّحي، فتّحي يازهور.

(يضحكان).

ينهض السجان من على كرسيه ويسأل الأسير: هل أنت مستعد؟

الأسير: نعم ...

يتقدّم السجان شاهرًا مسدسه ليفتح باب الحجرة.

يسود المسرح ظلام تام ...

(صوت رصاصة).

(صمت).

السبت، 16 أكتوبر 2021

سيرة الاختباء (33)

كنت ومحمد محفوظ عضوين في قصر ثقافة الطفل بالمنصورة بداية التسعينيات.. كنا في المرحلة الإعدادية، ونكتب قصصنا القصيرة الأولى، ونحلم ـ منطقيًا ـ بنشرها.. لا أتذكر أننا كنا قد أرسلنا أيًا من تلك القصص القليلة المبكرة إلى الصحافة حينما أخذنا نسخًا بخط اليد منها وتوجهنا ذات يوم كصبيين رومانسيين إلى دار سنابل في شارع بورسعيد وعرضناها على صاحبها علاء وحيد طالبين منه أن ينشرها لنا في كتاب.. أخبرنا الرجل بتعاطف أبوي حاسم بأننا مازلنا صغيرين، وأن علينا الاستمرار في الكتابة، وأنه يجب نشر أعمالنا في الصحف والمجلات أولًا ثم بعد ذلك نفكر في إصدار مجموعة قصصية.. شعرنا بالإحباط ونحن عائدين إلى القصر في تلك الظهيرة الصيفية البعيدة بعدما أدركنا أن حلم رؤية اسمينا مطبوعًا على غلاف كتاب سوف يتأخر.. استقبلتنا مشرفة المكتبة في القصر بإعلان عن مسابقة في القصة القصيرة على مستوى محافظة الدقهلية.. سلّم كل منا قصة من أعماله التي رفض صاحب مكتبة سنابل طباعتها إلى المشرفة دون حماس.. لم يكن هذا هو الهدف الذي غادر كل منا بيته في ذلك اليوم من أجله، وربما كان اشتراكنا في المسابقة فقط حتى لا نعود بتلك القصص التي خرجنا بها كما هي.

بعد فترة أخبرتنا المشرفة ذات صباح بأنه على أعضاء قصر ثقافة الطفل التوجه معها إلى احتفال تقيمه المحافظة بمكتبة المنصورة العامة.. بدأ الحفل الذي حضره المحافظ مصطفى كامل وبعض المسؤولين وكثير من الأطفال والصبية الآخرين من خارج القصر؛ بدأ بتوزيع جوائز مسابقة القصة القصيرة.. حتى ذهابي إلى المكتبة وجلوسي بين الحاضرين؛ لم يكن لدي علم بأن توزيع الجوائز سيتم في ذلك الحفل، ولم يكن لدي علم بأن قصتي قد فازت إلا عند النداء على اسمي لكي أصعد إلى المنصة وأتسلم شهادة التقدير من المحافظ، ولم يكن لدي علم بأنني حصلت على المركز الأول إلا بعدما فتحت مظروف الشهادة وقرأت التهنئة المدوّنة بها.. كانت المفاجأة الأدبية السعيدة الأولى في حياتي وأنا في عُمر الثالثة عشر.. لحظتها شعرت بنوع من الانتصار على صاحب مكتبة سنابل، وبأنني لا أريد مواصلة البقاء في المكتبة ومتابعة بقية فقرات الحفل مثل بقية الحاضرين.. شعرت بأن عليّ العودة فورًا إلى البيت حتى أطلع أفراد أسرتي على جائزتي.. بالفعل تسللت خارج المكتبة وعدت إلى البيت وأنا أفكر في أن قصة محمد محفوظ لم تفز.

في العام التالي حصلت على شهادة تقدير في القصة القصيرة أيضًا من المركز القومي للثقافة وكانت جائزة على مستوى الوطن العربي وتسلمتها في حفل مسائي بدار الأوبرا مع زملاء لي في قصر ثقافة الطفل من الفائزين في مجالات أخرى.

بعد ذلك وفي السنة الدراسية الأولى بمدرسة جمال عبد الناصر الثانوية العسكرية حصلت على شهادة تقدير بعد الفوز بمسابقة القصة القصيرة التي أقامتها المدرسة.

وبعد خروجي من قصر ثقافة الطفل؛ حصلت كذلك على شهادة تقدير في القصة القصيرة بالمسابقة الأدبية التي أقامها نادي الأدب بالمنصورة في العام الأول لانضمامي له.

مازلت أحتفظ بشهادات تقدير البدايات تلك، وحينما أفتح في إحدى الجولات المتباعدة لتنظيم الأغراض القديمة ذلك الصندوق الكارتوني المترب الذي تستقر في خفائه؛ لا أتأملها كجوائز، وإنما كتعزيزات بدائية لروح التنافس التي طالما حاولت قتلها بداخلي.. لم أخلق منعدم الإحساس بالمنافسة مثلما كتب جون شتاينبك في رسالته إلى جون أوهارا، بل إنني لست واثقًا بشكل كامل في وجود هذا “الانعدام” بالمعني الحرفي للكلمة.. إن الأمر أشبه بأن تعاود أجزاء من نفسك النمو طوال استمرارك في قطعها بسكين ثلم.. ما تجذّر وتراكم وتشعّب وتوطد وتواطأ مع الهيمنة المبتذلة والخرقاء للتنازع وإثبات الأفضلية في “الحياة الثقافية العامة”.. ما أنت مُجبر عليه ومدفوع إليه غصبًا بسلطة الماضي الذي يسبق وجودك، والواقع المتجاوز لحلبات المصارعة التي يجذبك إليها رغمًا عنك آلهة التفوق الأدبي الرسمي من ناحية والمتفاخرون برضى تلك الآلهة عنهم من ناحية أخرى.

لكن محاولة قتل روح التنافس قد لا تعني سوى الاستمتاع بمراقبتها وهي تتمادى.. بتشريحها بينما تمعن في ترسيخ سيطرتها وقهرها لحظة بعد أخرى.. بالسخرية (المنتهكة للحياء) من موظفي الكتابة، المسجونين في القيمة، وعبيد المقارنات التي يرعاها أولياء أمور الثقافة حيث لابد أن تنحاز معاييرها الزائفة والانتهازية إليهم؛ لأنهم من دونها لا يستطيعون النظر إلى أنفسهم بعين التقدير.

      موقع "الكتابة" ـ 16 أكتوبر 2021