كنت في زيارة مع أحد
أصدقائي إلى شركة (صوت القاهرة) للصوتيات والمرئيات من أجل مساعدته على اختيار
هدايا يعود بها إلى زملاء العمل في دولة عربية بعد انتهاء أجازته .. كان الموظف
الوحيد داخل الشركة جالسًا أمام شاشة كمبيوتر، وبعد لحظات قصيرة من التحدث معه حول
احتياجاتنا دخلت المرأة بطلة القصة من باب الشركة وكانت تحمل السمات التي ذكرتها
في سطورها الأولى مع قدر من الاختلافات:
"كانت
تغطي شعرها بإيشارب أزرق، بدا كأنه سماء صغيرة تلتف حول وجهها دون طائر واحد ..
كان سمارها باهتاً، زادت لمسات المكياج الخفيفة من كموده، أما جسدها فكان قصيراً،
بديناً بثديين كبيرين، وكان لها جبهة عريضة، وحاجبان رفيعان، وعينان يعطي ضيقهما
انطباعاً بضعف البصر .. بدت كموظفة حكومية بفستانها البسيط، الذي تتلاحم طولياً
داخل قماشه السميك خطوط كبيرة من الأسود والنبيتي، وكان انسجامه مع ملامحها يدعم
صلاحيته بالفعل كزي رسمي للعاملات في الدولة .. الموظف الذي نهض من فوق الكرسي،
وخرج من وراء المكتب بدأ يتأمل أنفها الأفطس، وخديها الممتلئين بقدر من التهدل،
وفمها العريض بشفتيه السمينتين، المطبقتين على تنفس ثقيل .. فكر في أن عمرها ينتمي
إلى تلك المسافة الزمنية المبهمة بين أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات".
أعطاني وجودها على
الفور إدراكًا بأن ثمة قصة قصيرة تُخلق، خاصة حينما:
"كانت
عيناها تنظران لأعلى، تستكشفان وجوه المطربين والمطربات، وأسماء الشرائط على
الأغلفة الراقدة داخل العلب المتراصة فوق الرفوف العريضة، المغلقة بنوافذ زجاجية
.. توقفت أمام ما بدا أنه قسم خاص لـ (أم كلثوم) .. بدأت نظرتها تمعن في التركيز،
وهي تضع فوق السطح الزجاجي للفاترينة الأمامية الواطئة، التي تفصلها عن الرفوف
حقيبة يد جلدية، ذات سواد قاتم، وتحمل زخارفاً ذهبية تشبه السلاسل الضئيلة، التي
يكوّن تشابكها أوراقاً لوردة كبيرة بلا ساق .. وضعت أيضاً فوق الفاترينة كيساً
أسود كانت تحمله في يدها الأخرى، ويحوي شيئاً تقارب هيئته من الخارج بنية الزجاجة
الكبيرة، دون أن تُبعد بصرها عن الشرائط .. نظرت إلى الموظف .. لم تنظر في عينيه،
وإنما ظل بصرها يتنقل بتسارع مرتبك بين نقاط متناثرة في وجهه .. كانا وحدهما، ورغم
ذلك سألته بصوت خافت جداً، مختنق بالحذر، كأنها تستفسر عن بضاعة محرمة، أو تخشى أن
يسمعها كائن غير مرئي:
ـ شريط
(ليلة حب) موجود؟
خرجت
حروف سؤالها مضغوطة من بين شفتيها .. كأنها تقاوم بمشقة كتماناً طويلاً، وفي نفس
الوقت تؤكد قوة الاحتياج".
كانت تشبه شقيقتي
الكبرى وجهًا وجسمًا .. في عمرها تقريبًا .. ترتدي مثلها .. لها نفس النظرة ..
تتكلم حين توشك على البكاء بالطريقة ذاتها .. شقيقتي التي تعيش حياة جحيمية مع
زوجها.
بعدما أخذت المرأة
الشريط ودفعت ثمنه ثم غادرت الشركة؛ فكّرت على النحو التالي:
هذه امرأة تعادل
شقيقتي .. ستستمع إلى "ليلة حب" على شريط كاسيت وليس على كمبيوتر أو
هاتف محمول .. سوف تسترجع أغنية الماضي عبر الوسيط القديم نفسه، أي كمحاولة
لاستعادة الذكرى كما حدثت أول مرة .. ستعود إلى البيت حيث ينتظرها زوج يعذبها
وجوده في كل لحظة .. لم يعد لديها أدنى قدرة على تحمّل اليأس أو التعايش مع عجزها
المخبوء عن فهم أو تصديق حطامها في هذا العُمر .. نظرًا لانشغالي بالموضوع
وبأسبابه التي تبدو للبعض بسيطة أحيانًا؛ يوجد على اللاب توب الخاص بي ملف يضم
حوادث انتحار النساء وقتل الأزواج على يد زوجاتهم خلال السنوات الماضية .. هذه
المرأة ستقتل زوجها وستنتحر أيضًا، وستكون أغنية "ليلة حب" احتفالًا بالنهاية
ربما مثلما كانت احتفالًا بالبداية .. كيف ستفعل ذلك؟ .. كانت المرأة تحمل كيسًا
أسود .. سأضع في داخله زجاجة بنزين (لن أصرّح بذلك طبعًا ولكن سأعطي انطباعًا
غامضًا به من خلال الوصف المقتضب) .. هل سأجعلها تنفّذ تدبيرها على الفور؟ ..
حتمًا لا .. سأخفي كل شيء يدل على ذلك، وسأظهرها في اللحظات الأخيرة كأنها في حالة
قبول لحياة عادية، مستوعبة، ولا تُضمر تهديدًا لاستمراريتها .. كأنها تساير جحيمها
أو تتقمّص حتى النهاية دورها القهري في متاهاته قبل مغادرتها .. سأمنح هذه المرأة
ابنة وحفيدين .. سأجعل هذه الابنة تعيش مع أسرتها خارج المدينة التي تعيش فيها
الأم (الوحدة التي اكتشفت خلالها المرأة لماذا عليها قتل زوجها والانتحار، وتسمح
لها في الوقت ذاته بتحقيق ذلك دون عائق) .. سأكشف عن أن المرأة تستعمل (سكايب) في
التحدث مع ابنتها؛ أي أن لديها جهاز كمبيوتر، وهذا ما يؤكد الدافع وراء استماعها
لـ "ليلة حب" من خلال الكاسيت .. سأجعل المرأة تتحدث مع ابنتها بنفس
الكلمات الواقعية التي تتكلم بها شقيقتي الكبرى مع زوجتي في الهاتف: الشكوى من ابن
أخيها ـ المشروع التجاري الصغير لزميلتها في الوظيفة الحكومية ـ تبلّد سكان
العمارة إزاء مشكلة السباكة ـ البيجامات الجديدة التي اشترتها لطفلتي ... إلخ ..
ولكي أُكسب الصدمة مزيدًا من القوة (أي أشكّلها كانفجار، يتحتم حدوثه في قلب
المعيشة التقليدية أو الأمان الظاهري عند لحظة غير متوقعة)؛ سأجعلها تتفق مع
ابنتها على يوم الزيارة القادمة لها مع الحفيدين كأنما تطمئنها / تطمئن الجميع بأن
الأمر سيظل (على ما يرام) .. سأجعلها تتعرى تمامًا كأنما تتجرد من كل ما حدث بعد
لحظة الاستماع الأولى لـ "ليلة حب" بينما تسمعها الآن للمرة الأخيرة ..
سأختار موعد التنفيذ عند الإعادة الثالثة لـ "تعال حب العمر كله نخلصه حب
الليلة دي .. تعال شوق العمر كله نعيشه م القلب الليلة دي .. ما تخليش أشواقنا
لبكره، ما تخليش فرحتنا لبكره .. كأن أول ليلة للحب الليلة دي" .. موعد
الاحتفال بالوعد المغدور للأغنية، وكأنه سيتحقق الآن بطريقة أخرى .. لماذا يحدث ذلك؟ .. لأنها اللعبة اللامبالية
للعالم .. لعبة؟ .. كان موظف شركة (صوت القاهرة) جالسًا أمام شاشة الكمبيوتر عند
دخولنا .. ربما كان يشعر بالملل مع ساعات العمل الطويلة وندرة الزبائن .. ربما كان
يتسلى باللعب .. ماذا كان يلعب؟ .. ربما اعتاد مثلي على لعبة الورق "سوليتير"
.. هل هي لعبة تناسب أداءاتها ذلك الإيحاء: التحكم العفوي، المرح، غير المكترث، لفائز
دائم، محصّن، لا يمكن أن تناوشه هزيمة ما؟ .. نعم .. ما هي اللحظة الأكثر إثباتًا لهذه
المواءمة وتليق بالمرأة والرجل في القصة (وفي كل قصة)؟ .. عند وضع ورقة الآس فوق
الورقة التي تحمل قلبين .. ما هو اللون المتسق مع الفكرة؟ .. الأحمر (رومانسي،
شبقي، ودموي) .. حسنًا؛ سأجعل الموظف يلعب السوليتير .. سأجعله عند دخول المرأة
إلى الشركة لشراء "ليلة حب" يضع الآس الأحمر فوق الورقة ذات القلبين
الأحمرين، وسأجعله يكرر ذلك بعدما يطالع بأحد المواقع خبر مصرع المرأة وزوجها في
حريق .. لن أجعله يتذكرها.