أنهى محمد خان فيلمه
"موعد على العشاء" 1981
بلقطتين متتابعتين تُظهران نوال "سعاد حسني" وعزت "حسين فهمي"
على طاولة الطعام من خارج الحجرة التي يتواجدان فيها ومن زاويتين مختلفتين، غير
مستقيمتين وعبر مسافتين بعيدتين إلى حد ما .. في تلك الوضعية لا تجعل الكاميرا
المتفرج في حالة رؤية وإنما في حالة "تلصص" .. استراق نظر .. تجعله
متفرجًا خفيًا، غير مُدرَك للجالسين أثناء قيامه بـ "المشاهدة" .. لا
يمكنه الظهور أو الإعلان عن كونه (يرى) لسبب ما.
من الذي يتلصص على نهاية
نوال تحديدًا باعتبارها صنيعتها المحتومة؟:
روحها المقهورة ..
الطفلة في اللوحة .. الرجل العجوز (الأب) في اللوحة ذاتها .. التاريخ البشري الذي
سجنها داخل جسدها وخارجه .. أمها "زوزو ماضي" .. الغرباء في كل لحظة
(اختلاس للرؤية) عبر الزمن .. تاجر التحف الذي اشترى لوحة الطفلة من المزاد ..
صديقاتها .. الماتادور في ملصق مصارعة الثيران على حائط المطعم .. البنت التي كانت
تلعب تحت شرفتها .. مثيلاتها الميتات وهن على قيد الحياة .. الرجال الذين أطبقت
أجسادهم على أنفاسها في الأسانسير .. الفتيات اللاتي يتوعدهن مصيرها .. المرأة
التي رأتها تسقط من البلكونة في الحلم .. قتلتها المتواريين في كل وقت يسبق أو
يزامن أو يعقب حضورها في العالم .. الأب والأم والطفلان الذين كانوا يسيرون فوق الرصيف
بينما تقود سيارتها .. شكري "أحمد ذكي" .. القدر أو المشيئة الغيبية ..
الحياة التي مرت عبر آلامها .. غموض ما بعد الموت.
هكذا يكون التلصص
تلذذًا بالمراقبة، أو خوفًا من التطلع المباشر، أو تبرؤًا من دماء جثة ممزقة.
لكن استراق النظر لا يتعلق
بنهاية "موعد على العشاء" فحسب وإنما تكشف هذه النهاية عن أنه كان طبيعة
جوهرية للفيلم نفسه .. ماهية سرية لتفاصيله وأحداثه كلها .. كانت نوال والموت
يتبادل كل منهما التلصص على الآخر منذ اللحظة الأولى وحتى الصمت الأخير .. ذلك ما
يبرهنه ـ بتجاوز الدلالة التقليدية لقمع حريتها ـ التركيز على وجودها وراء أبواب
ونوافذ وأسطح زجاجية .. كانت نوال تتلصص
على نفسها وعلى كائنات وأشياء الواقع وعلى العيون كافة التي تحدّق في وجهها
كمقاومة غاضبة لعذابها المبهم .. كمحاولة للانتقام من عمائها الراسخ ولو بنزع
الغفلة عن دموعها .. كانت تكافح للعثور على خلاص ما وراء الجدران المعتمة التي
تحاصرها كلعنة أبدية.. أما الموت فكان يختلس الرؤية، ومن خلال كائنات وأشياء
الواقع، إلى ملامح نوال كجائع مخبوء يجهّز وليمة صغيرة لأمعائه.
ترتبط شهوة التلصص
بالطفولة، وكما يشير فرويد إلى كونها توفر الطاقة لدافع المعرفة الذي يضرب بجذوره
في الجنسانية الطفلية بما تنطوي عليه من الحاجة إلى السيطرة .. لنسترجع الحوار بين
نوال وشكري حول لوحة الطفلة حينما أخبرته بأنها لمّا رأتها لأول مرة أحست بأنها
هي، تسير في طريق أشبه بالحلم، لا تعرف بدايته أو أين سيصل بها، وأن التاجر عندما أخذها منها فكأنه أخذ حياتها كلها؛ رد عليها شكري بالتساؤل عن إمكانية أن يرجع
الشخص طفلًا مرة أخرى فأجابته: مستحيل.
نهاية "موعد على
العشاء" كانت إذن اللحظات الأخيرة للتلصص بين نوال والموت .. نوال تغلق
عينيها التائهتين ككل طفلة وفتاة وامرأة قتلها القهر الأسري أو الزوجي أو المجتمعي
بينما يفرغ الموت من إمتاع شهوانيته الطفولية التي لا يمكن كبتها بجسد آخر.