يبدأ الرجل المغشي عليه في الإفاقة تدريجيًا .. ينهض من فوق الأرض بإنهاك
كبير، متحسسًا موضع الجرح في رأسه .. يتلفت حوله مستكشفًا سجنه ثم يقترب من الباب
ويطرق عليه بوهن.
الرجل في حجرة
المعيشة بعد سماعه صوت الطرقات: هل أفقت؟
الأسير: أين أنا؟
السجّان: في البيت
الذي حاولت اقتحامه...
ـ هل أنت ...؟
ـ نعم .. أنا الذي جئت
لقتله ...
ـ وما الذي ستفعله الآن؟
(بسخرية) ـ ماذا تتوقع؟
ـ ستقتلني .. أليس
كذلك؟
ـ بالتأكيد .. لم يعد
في عمرك سوى خمس عشرة دقيقة فحسب.
ـ نعم .. لو كنت
مكانك لفعلت نفس الشيء.
ـ كنت سأكون مكانك
ذات يوم .. أنت تعرف؛ كان يتحتم عليّ أنا أيضًا التسلل إلى منزلك ومحاولة قتلك،
وربما كنت قد نجحت أنت في مباغتتي من الخلف بضربة قوية على الرأس وتمكنت من أسري
كما فعلت معك .. كنت ستقتلني بطبيعة الحال .. كل ما في الأمر أنك قمت بذلك أولًا
.. ومن يدري؛ ربما ألاقي مصيرك في بيت آخر على يد أحد هؤلاء الذين يجب عليّ قتلهم.
ـ ولماذا لم تقتلني
على الفور؟
(بسخرية) ـ وأضيّع على نفسي متعة تعذيبك بأن
أجعلك تعيش العد التنازلي لحياتك.
ـ لم تعد الحياة
تهمني الآن .. طالما سأموت بطلًا.
ـ نعم .. كلنا أبطال
في هذه الحرب الأبدية .. القاتل والمقتول.
(يتوجع متحسسا رأسه) ـ هل يمكنني أن أسألك عن شيء؟
ـ أجل ...
ـ لو كنت مكاني .. هل
كنت ستتمنى أن تعيش؟
ـ دون شك.
ـ ألن يكون ذلك باعثًا
للخزي؟
ـ لا أعتقد ذلك ..
طالما أنك تستقبل الموت بشجاعة.
ـ وكيف تكون تلك
الشجاعة بالنسبة لك؟
ـ على الأقل .. مهما
كان الهلع الذي يمزق أحشاءك؛ فلا تتوسل لقاتلك حتى يُبقي على حياتك.
ـ نعم .. هذا صحيح.
(بسخرية) ـ ألن تتوسل لي؟
(يضحك بهستيريا) ـ بالتأكيد لا، فإذا كنت راغبًا
في الحياة؛ فإن الموت في سبيل الواجب أكثر شرفًا من أي حياة.
ـ معك حق .. أنت رجل
شجاع.
ـ حسنًا .. فقط من
باب العلم بالشيء .. هل كنت ستعفو عني لو توسلت لك؟
ـ العفو خيانة كما
تعلم .. لكني لا أعرف .. ربما كنت سأعتبر عفوي عنك نوعًا من التضحية التي يمكن
تعويضها .. الأمر يتوقف على التفاصيل.
ـ أي تفاصيل؟
ـ الكلمات التي
ستستخدمها في التوسل .. نبرة صوتك .. انفعالاتك الجسدية .. هل ستبكي أم لا .. كيف
سيكون بكاؤك .. مساحة الصمت بين عبارة وأخرى .. طريقتك في التنفس .. وهكذا.
ـ أنت كاذب.
(بسخرية) ـ طبعًا .. أنت ميت مهما فعلت.
ـ لن أفعل شيئًا ..
فانا أيضًا كنت سأقتلك مهما توسلت لي.
ـ أجل .. إنه أكثر
الأمور عفوية .. يحدث منذ الأزل بمنتهى البساطة في كل لحظة من كل يوم .. حتى أنه
في الأغلب لا يُلاحَظ.
ـ هل فكرت من قبل في
أننا ربما نكون على خطأ؟
ـ فكرت .. مرة واحدة
فقط.
ـ وبعد ذلك؟
ـ أدركت أن الأمر لا
يتعلق بما قد نظنه عن الصواب والخطأ .. إننا نتبع ضرورة الصواب والخطأ وليس ما يُحتمل
أن يخطر في أذهاننا عنهما من أفكار أو مشاعر .. إنها الضرورة التي تسبق أجسادنا ..
أنت مكلف بالوجود، وطالما أنك كذلك فعليك أن تؤدي ما يتطلبه وجودك فحسب .. وجودنا
يلزمنا بأن أجلس على هذا المقعد، وأن تقف أنت وراء باب هذه الحجرة في انتظار موتك المحتوم
على يدي.
ـ نعم .. أنا أيضًا
فكرت في الأمر مرة واحدة فقط، وأدركت نفس المعنى .. هذا هو الصواب سواء استمتعنا
به أو لا .. سواء شعرنا بطابع القداسة تجاه ما نفعله أو لا .. سواء تذكرنا أحد
ونحن في قبورنا أم خُلِدنا في النسيان .. علينا أن نستجيب لضرورة الوجود حتى لا
نكون مخطئين مهما كان الثمن .. أما إذا أخطأنا وتوقف أي منا لسبب ما عن مطاردة
الآخر وقتله؛ فإن لدينا دائمًا الفرصة للامتثال مجددًا إلى تلك الضرورة.
(صمت)
السجّان يصفّر فجأة لحنًا ما وعلى وجهه ملامح اللامبالاة.
الأسير (متلهفًا): هذه
الأغنية التي تصفّرها .. أنا أعرفها جيدًا...
ـ إنها أغنية طفولتي
المفضلة .. أحب دومًا أن أدندنها من وقت لآخر .. هل تحفظ كلماتها؟
ـ نعم .. (يغني) فتّحي
يا زهور فتّحي .. واضحكي للنور وافرحي .. وافتحي قلبك افتحي ...
(السجان يُكمل الغناء) ـ دي النسمة عبير ..
مرجيحة حرير ...
(يغنيان معًا) ـ بتقول يالا اتمرجحي، واصحي
وصحصحي، واضحكي وافرحي، فتّحي فتّحي، فتّحي يازهور.
(يضحكان).
ينهض السجان من على
كرسيه ويسأل الأسير: هل أنت مستعد؟
الأسير: نعم ...
يتقدّم السجان شاهرًا مسدسه ليفتح باب الحجرة.
يسود المسرح ظلام تام ...
(صوت رصاصة).
(صمت).