الجمعة، 15 يوليو 2022

حرب منتهية

لم يكن لديهم مكان آخر .. صارت الكنبة الخشبية وعداً إذن بتحقيق الحد الأدنى من الأحلام التي تثقلهم الليلة .. الإضاءة الخافتة سمحت لهم بالحصول على مكسب ملائم من الظلام فضلاً عن ابتعاد الجالس الوحيد في الحديقة لمسافة مريحة .. الرجل العجوز لا يتذكر إذا ما كان قد أخبر الشاب الذي يجلس بينه وبين المومس بأنه لم ينجح أبدًا في الحصول على مكان مناسب للنوم معها أم لا .. الشاب يتذكر جيداً أن العجوز أخبره بذلك .. بتلقائية دالة على التعوّد وضعت المومس فخذها الأيمن على فخذها الأيسر .. كان ذلك يعني أنه على يد الشاب التي تستعد لتحسس مؤخرتها أن تطمئن؛ فالغريب الذي يجلس بعيداً لو التفت ناحيتهم لن يتمكن في هذه الوضعية من رؤية اليد التي أمسكت بمؤخرتها فعلاً الآن …

العجوز يراقب يد الشاب فوق مؤخرة المومس وفي عينيه نظرة تشبه (أنا ياما دعكتها قبلك يابن الوسخة) .. لم يُظهر الشاب انتباهه لتلك النظرة، كما نجح في قطع الطريق على الشخرة الخافتة التي تحررت بدايتها من داخله دون أن يلحظها العجوز .. المومس تفكر في أن هناك خمسة وعشرين جنيهًا مضمونة وعدها العجوز أن يعطيها لها قبل رجوعها البيت …
العجوز حاول إبعاد عينيه عن يد الشاب وإبداء عدم الاهتمام، لكنه لم يقدر فظل يتخيل إحساس تلك اليد بالاستدارة الغنية بإحكام وبالدفء الكريم لطراوتها، رغم أن يده تذوقت حنان نفس المؤخرة كثيراً من قبل ويعرف جيداً أنها متاحة له في أي وقت .. لم يكن يريد الشاب أن يخسره بل على العكس زاد تمسّكه بصداقة العجوز خاصة أن المتعة الآن لم تعد قاصرة على اكتشاف يده لمؤخرة المومس فحسب .. المومس تنظر في عيني الشاب أملاً في استنتاج صحيح للمبلغ الذي سيعطيه لها بعد أن تنتهي يده من عملها، لكنها قررت أنه أياً يكن الرقم سيكون في النهاية إضافة للخمسة وعشرين جنيه التي لم تتوقع زيادة عنها في هذا المشوار …
ابتسم العجوز بارتباك حينما اكتشف أنه لا يرغب في تحسس مؤخرة المومس بقدر رغبته في الحصول على يد الشاب .. اليد التي تمنى الآن لو استعارها منه ليمسك بها هذه المؤخرة ثم يعيدها إليه ..صارت المتعة هزلية أيضًا، وأصبح جسد الشاب مُعبّراً عن هذا التمازج السحري؛ فبينما كان عضوه منتصبًا، بدت ملامحه كأنما يسترجع في صمت كافة النكات التي عرفها طوال حياته .. المومس تسأل نفسها هل عليها إظهار إحساس واضح بالإثارة أم أن الشاب لا ينتظر تلك الهدية منها.
شعر العجوز باضطراب في دقات قلبه مصحوباً بدوار خفيف حينما أصبح فجأة غير قادر على تذكر أين هو، ولا ما الذي جاء به إلى هذه الحديقة، ولم يعد يعرف من ذلك المنهمك في أخذ مقاسات طيظ المرأة المبتسمة بجانبه .. فكر الشاب في أنه ليست هناك لحظة يمكن للواحد فيها أن يشعر بانتمائه للعالم تفوق تلك التي يعيشها الآن؛ حينما ترغب في وقت واحد أن تضاجع من تحت وتضحك من فوق .. المومس لا تدري ما الذي جعلها تسترجع الآن ما كتبه أحد أصدقائها على فيسبوك بأن الشراميط هم الدليل الأقوى على الفشل التاريخي للبرجوازية المصرية في تقديم تبرير اجتماعي مقنع للرأسمالية.
لم يعد تركيز بصر العجوز على يد الشاب، ولا مؤخرة المومس، وإنما أخذت عيناه تتنقلان بين وجهيهما بخوف كأنه تحت تأثير اختطاف غامض أخذه من القطار حيث كان عائدًا من الجامعة إلى قريته، ويحكي لصديقه عن البنت الريفية التي يحبها من بعيد لبعيد؛ فأخرج صديقه خطاباً وأعطاه له ليكتشف أنه جواب عاطفي من هذه البنت لصديقه تُعبّر فيه عن امتنانها ليديه التي اعتصرتا مؤخرتها داخل أحد الغيطان ليلاً.

كان الشاب يلتفت أحياناً إلى العجوز ليتأمل نظرته التائهة المكسورة بهياج حاقد ومكتوم فتزيد قوة رغبته في الضحك خاصة بينما يفكر في أن العجوز هو الذي عرّفه على المومس، وهو الذي أصر على جلوسه بينهما، بل وهو الذي قال له بصراحة عالية الصوت (إلزق فيها) .. تنظر المومس حولها ثم ترفع بصرها إلى السماء وتبتسم متذكرة الـ (أحاااا) الغليظة التي كتبتها تعليقًا على مقولة صديقها على فيسبوك معتبرة ـ بقدر كبير من السعادة ـ أن وجودها في الحديقة الآن خطوة في طريق التحرر التام للشرمطة المصرية التي بدأ نضالها منذ زمن لا تعرف بدايته، لكنه اقترب من الوصول لانتصاره الخاص …
حينما استرد العجوز وجوده داخل اللحظة وعلاقته بتفاصيلها انشغل دون صوت، وبمزيج من الندم والتوسل في إخبار الإله الذي يعبده بأن الموت الذي أصبح قريبًا منه أكثر من أي وقت مضى هو الذي جعل من حرصه على التعارف بين الشاب والمومس واجبًا وضرورة حتمية .. تخيّل الشاب طفلة صغيرة ـ قد تكون طفلته ـ تجلس في مكان كهذا بعد سنوات طويلة ملتصقة بشاب لا يزال طفلًا الآن .. لكن هذا التخيّل لم يمثّل تهديداً لمتعته لأنها كانت محصنة باستعادة تلقائية لحلمه القديم بأن يقدم يوماً ما عرض ستاند أب كوميدي، ويفتتحه بجملة (لماذا لا يضع “باولو كويلو” شمعة في فتحة شرجه، ويسير أمامنا حتى لا يجد أي منا حجة للهروب من “الاستنارة”) .. المومس لا تعرف هل تشعر بالإثارة حقًا أم لا، لكنها على أي حال تثق بأن الشرمطة ستنتهي ـ كعنف أخلاقي ـ مع اختفاء الحياة التي تتحول فيها الشرموطة ـ كما خُلقت جميع النساء أصلًا ـ إلى امرأة فحسب، وهذا سبب تفاؤلها بحكم الإسلاميين .
نهض ثلاثتهم، ومشوا باتجاه الخروج من الحديقة؛ العجوز يفكر في موعده القادم مع طبيب أمراض الذكورة .. الشاب يشعر بالاعتزاز لقدرته على السخرية من يقينه بأنه سيجد مكاناً ينام فيه مع المومس .. المومس تخبر نفسها بفرح بأن يوماً آخر قد مر دون أن يعرف أحد من زبائنها بأنها عذراء.
مروا على الغريب الوحيد الذي كان جالسًا بعيداً عنهم لمسافة مريحة .. لم ينتبهوا أنه ميت.

اللوحة: Marc Chagall

الأحد، 3 يوليو 2022

"سيّان" لأغوتا كريستوف: شعرية البلادة


 يمكن اعتبار قصص مجموعة "سيّان" للكاتبة الهنغارية "أغوتا كريستوف" والصادرة عن منشورات الجمل بترجمة محمد آيت حنا؛ يمكن اعتبارها احتفالًا سرديًا بالتطابق، بالطمس الأزلي للفروق والناجم عن البلادة تحديدًا .. عن الجمود كقدر حيث يتساوى أن يحدث أمر بطريقة أو بأخرى .. البلادة ليست مجرد إطار شامل أو نسيج عام يقبض على كل ما هو مختلف ومتناقض ولكنه ـ كما ترسمه قصص المجموعة ـ الجوهر الكوني المكرّس لتماثل الموجودات .. الأصل الذي يفرض تمنّعها ويحتّم المشابهة والتواطؤ فيما بينها على التخلي .. على الغدر بوصفه كينونة مترصدة لها .. هوية أدائية حاكمة لطبيعتها.

"اعذرني، السرير غير مرتّب. أنت بالطبع تتفهمني، لقد ذهلت قليلًا حين رأيت كل هذا الدم. أتساءل أنّى ستواتيني الشجاعة لتنظيف كل هذا. أعتقد أني سأذهب بالأحرى للعيش في مكان آخر. هي ذي الغرفة. تعال. إنه هنا، بجانب السرير، على البساط. ثمة ساطور مغروس في جمجمته. هل تريد فحصه؟ أجل، افحصه. إنه حقًا حادث بليد، أليس كذلك؟ سقط من سريره أثناء نومه، ووقع على هذا الساطور".

في قصة "الساطور" يتطابق قتل المرأة لزوجها مع موته في حادث .. انتهاء حياته أو بقائها .. ذلك ما يقرره وصفها للأمر حيث تعرض للطبيب ـ كما لو أنه مونولوج داخلي أكثر منه خطابًا لآخر ـ الإصابة القاتلة لزوجها بالساطور بما يتنافى مع المعطيات الواضحة والحاسمة للمشهد .. تحكي المرأة تفاصيل غير معقولة لما حدث كما لو أنها تسرد قصة صادقة حتى لو كانت قائمة على غياب المنطق .. ذلك لأنه لا فرق بين ما يبدو جليًا ومفهومًا في عيني الطبيب وبين ما ترويه المرأة .. بين أن تغرس المرأة ساطورًا في جمجمة زوجها، وبين أن يسقط الزوج من سريره أثناء نومه فوق الساطور .. بين أن يُقتل أو لا يُقتل .. أن يموت أو يواصل الحياة ..  لهذا تتحدث المرأة كأنما تعترف بقتل زوجها ولكن على النحو الذي يكشف عن هذا الـ "سيّان" .. بالطريقة التي تساوي بين وقوع القتل وعدم وقوعه رغم "النوم العميق والسعادة برؤية السحب عبر النافذة والإحساس بالتخفف من ثقل السنوات".. تتكلم المرأة في إطار إدراكها باستمرارية الواقع المألوف الذي عاشته لزمن طويل مع زوجها، كأن "الحادث" أو "القتل" ليس إلا جانب بديهي من هذا الواقع .. تخاطب المرأة الطبيب الذي حضر لمعاينة جثة زوجها مثلما تستقبل ضيفًا في زيارة عادية لمنزلها حيث تنسجم "الدماء" مع "السرير غير المرتب" في سياق منزلي تقليدي .. حيث "الدماء" ليست أكثر من مبرر محتمل للعيش في مكان آخر إذا لم تكن هناك قدرة كافية على تنظيف البيت منها .. القتل إذن وما ينجم عنه من تجارب شعورية "غير معهودة" هو محاولة لتعرية التطابق بين البدائل .. كأن هذه التعرية في حد ذاتها هي المقاومة الوحيدة للطمس الأزلي للفروق .. محاولة لانتزاع "اختلاف إعجازي" عبر تأكيد التماثل .. مجابهة البلادة بواسطة اللغة التي تتفحص الوحشة العدمية الغامضة في ما يدعي أنه تغيّر مفاجئ للعالم .. الاعتيادية الراسخة التي تحتجز الحياة حتى مع ما يقدم نفسه كانقلاب أو تحوّل بالغ العنف والجذرية .. ذلك ما يجعل المرأة تصف الأمر كما لو أنه لم يتم .. كما لو أن الأشياء التي تكوّنه غير موجودة في الأساس .. أن تفاصيل الواقع ليست إلا تجسيدات لغياب استباقي حيث أن ما وقع في تلك الليلة مع زوجها هو ما يحدث دائمًا، حتى أنه لا يحدث أصلًا.

"عليّ الذهاب بالقطار. لقد كتبت رسائل إلى أمي. وإلى زوجتي أيضًا. أخبرتهما أني سأصل في قطار الثامنة مساءً. زوجتي تنتظرني في المحطة صحبة الأطفال. أمي تنتظرني أيضًا. منذ أن مات أبي وهي تنتظرني كي أحضر مراسم الدفن. وعدتها أن أحضر الدفن. أنوي أيضًا رؤية زوجتي وأطفالي الذين ... تخليت عنهم. نعم، تخليت عنهم، كي أصير فنانًا عظيمًا. مارست الرسم والنحت. والآن أرغب في العودة".

يتشابه الأمر تمامًا في قصة "قطار إلى الشمال" .. لا فرق بين أن تمتلك كلبًا (إغواءً بتحرر فني من أسر العائلة مثلًا) أو لا .. أن يكون هذا الكلب حجرًا أو لا .. أن تكون أنت حجرًا أو من لحم ودم .. أن تنتظر قطارًا أو لا تنتظر .. أن يكون هناك قطار متجهًا إلى المكان الذي تريد السفر إليه أو لا يوجد .. أن تسافر أو لا تسافر .. أن ينتظرك أحد في المحطة أو لا ينتظرك .. أن تبقى أو تعود .. التمثال "الحجري" للرجل والكلب نٌحت من قبل أن تتوهم وجودك .. من قبل أن تتوهم وجود الكلب .. من قبل أن تتوهم الخيارات بين هذا وذاك .. البلادة تسبقك .. البلادة جهّزت وشكّلت انعدامك .. "سيّان" أن تعيش في صورة أو أخرى .. لأنك مجرد من الحضور .. لأن الكلب (سراب التباين) سيبقيك أسيرًا لنمطية كلية صلبة تتجاوز فرديتك .. الكلب دليل الطمس بين الاختلافات .. جامد في مكانه كأثر دامغ لهيمنة البلادة .. كأنه تمثال سيزيف والصخرة في مرآة "أغوتا كريستوف" .. أي أن الكلب لا يمكن قتله .. أي يمكنك فقط أن تتصوّر قتله .. الحياة تتظاهر بالتحقق داخل عالم مهجور في حقيقته .. تتظاهر بالتعدد، بالحركة في مسارات بين بداية ونهاية، لكنها ليست سوى خذلانًا هائلًا، مصمتًا، غير مؤطر، لا يبرح مكانًا ولا زمنًا لأنه بلا مكان أو زمن .. الكلب ربح اللعبة مسبقًا لمجرد أنه أجبرك على الاعتقاد في كونه انفلاتًا "فاتنًا وحميميًا" من الحياة .. لأنه جعلك تبصر قبرك كما لم تفعل من قبل.

"في ما مضى، كنت أبحث، أتنقّل طيلة الوقت. كنت أرقب شيئًا. ما هو؟ لست أدري لكني كنت أحسب أن الحياة لا يمكن أن تكون فقط هذا، كأنها لا شيء. لابد أن تكون الحياة شيئًا، وأنا كنت أترقب هذا الشيء، لابد بل إني كنت أبحث عنه. أحسب الآن أن ليس ثمة ما يمكن ترقبه، لذا أجلس في غرفتي، جالسًا على كرسيّ، لا أفعل شيئًا. أحسب أن في الخارج حياة، لكن لا شيء يحدث في هذه الحياة، لا شيء مما يخصني".

تمثّل قصة "أحسب" عرضًا كاشفًا لما ينتجه التشابه الحتمي بين الموجودات، والتواطؤ فيما بينها على التخلي أو ما تتناثر قصص المجموعة في عمائه .. نتتبع مونولوجًا داخليًا جديدًا حول تضاؤل الأمل، غياب المعنى، عدم القدرة على الفعل، عدم جدوى أي فعل، الانفصال عن الآخرين، عن الذات، عدم الاكتراث، عدم إدراك ما يتعيّن القيام به، الاعتياد على الرتابة، عدم الرغبة في أداء شيء، الامتلاء التام ببلادة العالم إلى الدرجة التي يصبح معها حجم القيء مضاعفًا لكمية الأكل العادية .. الرغبة في أن يتوقف الأحياء عن التحرك، حيث كل حركة بلا طائل، مجرد إهدار للجهد .. التحايل على الغدر بتصرف طفولي، منهك، بائس، يضمن تزايد الوعي بهذا الغدر .. الألم إذن يستهلك أجسادنا في محاولاتها العبثية، المخذولة سلفًا لانتزاع ذلك المفارق والاستثنائي الملغز والمخلّص .. كأن تقمص البلادة هو فقط الشكل الممكن لرثاء الذات .. المخاطبة التوسلية الصامتة التي ربما بوسعنا قراءتها بين سطور المجموعة لذلك المجهول (الناجي) الذي كان يمكن أن يكونه كل منا ... كأن تقمص البلادة أشبه برد اعتبار ساخر من ذلك المجهول.

نستطيع أن نبصر الساطور في القصة التي تحمل اسمه كأنه المصنع في قصة "موت عامل" والذي ينتج جثثًا مثلما يصنع الساعات حيث "السرطان" ليس نتيجة للعمل وإنما هو العمل نفسه .. السرطان الذي لا يتعلق بإغماض العينين أو بإبقائهما مفتوحتين .. المصنع يستخدم العمال في القتل مثلما يستعمل الساطور المرأة للغرض ذاته .. الساطور / المصنع هو الـ "سيّان" حيث لا يكون هناك فرق بين النوم والموت، بين الكلام والصمت، بين التذكر والنسيان .. الساطور / المصنع لا يترك ماضيًا قابلًا للاستعادة.

"ثم مات، ومثلما ظن، اضطر سنوات طويلة ـ إلى الأبد ـ إلى أن يعود ويسكن الأزقة التي لم يكن قد أحبها بعد، على ما يعتقد، بما يكفي. أما فيما يخص الأطفال، فقد كان همّه مجانًا، لأن عيونهم كانت تنظر إليه باعتباره شيخُا مثل غيره من الشيوخ، وبالنسبة لهم لم يكن ثمة فرق بين أن يكون ميتًا أو حيًا".

إن ذلك الحب الحسي العنيد الراسخ للأزقة، "الذي يكاد يكون فاحشًا" في قصة "الأزقة" لا يتعلق بالأزقة نفسها وإنما بالشبق الوحشي لدى الشغوف بها لامتلاك باطنها .. للقبض على سرها الغيبي الذي تسكنه فرادتها .. تمايزها القادر ـ حين يبلغ ذلك الاستحواذ ـ على تحريره من ورطة الطمس .. من مأزق التشابه .. كان يستنطق بموسيقاه في القصة أسطورية هذه الأزقة لتصبح ممرات حقيقية "خارقة" نحو ما يتجاوز الحياة والموت .. ما يتخطى فعليًا لعنة غياب الفرق بين أن يكون ميتًا أو حيًا.

إن الطمس الأكثر أساسية لدى "أغوتا كريستوف" في هذه المجموعة يتعلق باللغة .. كأن قصصها تأكيدات على أنه لا فرق بين أن تتحدث عن شيء بصيغة أو بأخرى .. لكن ذلك التيقن يبدو عند "كريستوف" بوصفه الكيفية المتاحة لأخذ مسافة "حلمية" من التطابق .. لتحريض الأشياء على تعيين الفروق فيما بينها .. الفروق العصية والمخبوءة في غيب الجمود أي الخام الذي تستعمله اللغة .. الفروق المنقذة .. تلك المسايرة هي موضوع الاحتفال .. تحويل البلادة من حتمية قدرية إلى لعبة جمالية .. مطاردة السرد للتماثل من خلال التوحد اللغوي بالتماثل نفسه .. مناوشة الفكرة عبر التناغم والتجانس مع القرائن الحسية التي تثبتها .. ومع ذلك فالارتكابات السردية لا ترتكز على "الحكي" بقدر ما تراهن على الشعرية المستقرة في خفائها .. تكوّن الأحداث المكثفة واللغة المقتضبة نوعًا من العاطفة الشبحية الناقمة لصوت منعزل، مدفون في "اللاحضور"، في الصلابة المعتمة والفارغة للتيه .. تستخدم "أغوتا كريستوف" السرد كإشارات لتمرير ذلك الصوت الوحيد وليس كاستناد عفوي على الوقائع ومدلولاتها .. كأن الإشارات هي تفكيك لمفهوم "الحدث" بما يوطد الاشتباك مع "البلادة" التي تدعي وقوعه وتمنعه في الوقت ذاته .. شعرية البلادة في قصص "سيّان" انتهاك للمشابهة عن طريق إعادة خلق "التخلي".. تمثيل "الغدر" كأنه الجسد الفعلي الذي لا يراوغ كينونته القهرية، وإنما يقتحمها .. يجتاح الهوية الكونية التي تعيش داخله كروح سرية، وتوظّف أداءاته المكرهة كسلوك "طبيعي" .. يفضح ـ بالحدة الواجبة ـ الفناء المحصن، الممهد للموت.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 2 يوليو 2022

صدى ذاكرة القصة المصرية (قصة أونلاين) " بين السابعة والتاسعة مساء " ممدوح رزق


الخميس، 30 يونيو 2022

ميّادة

لم أعرف أي شيء عن حياة ميادة قبل زواجها .. عائلتها .. مدينتها الأصلية .. الكلية التي تخرجت منها .. تعمدت ألا تخبرني بأي شيء .. تعمدت ألا تترك أثرًا لتلك الحياة في طريقي .. أنا كذلك لم أحاول أن أعرف، وكانت تدرك هذا جيدًا .. كل ما أخبرتني به ـ وكان ذلك في لقائنا الثالث ـ أن أباها قد أعطاها هذا الاسم احتفالًا بميلادها في العام الذي غنت فيه ميادة الحناوي “الحب إللي كان” .. كانت هذه المعلومة كافية بالنسبة لي .. تعوضني عن عدم معرفة أي تفاصيل أخرى من ماضيها .. كانت هذه المعلومة تتخطى دون حد كل ما يمكن أن أعرفه عن ذلك الماضي .. بالضبط كأن ميادة قد أخبرتني بأنني أنا الذي أسميتها ولهذا السبب تحديدًا وليس أبوها .. لحظتها نظرت في عينيها لأول مرة .. لم أتطلع إلى ملامحها متجنبًا بتلقائية معتادة المواجهة المباشرة مع عينيها مثلما حدث في اللقائين السابقين .. نظرت في عينيها دون خجل أو خوف كأنما أستعيد لحظة ميلادها عام 1980 .. كأنني أسترد خطواتي المبكرة في صمت طويل لم يقطعه سوى سؤالها المستغرب من شرودي المفاجئ: مالك؟

 أخبرتها بكل شيء .. حاولت أن أخبرها بكل شيء .. ما فعلته هذه الأغنية بحياتي منذ الطفولة .. تعويذة الروعة والغموض التي لاحقتني في كل مكان .. يكفي أن أخبرك يا ميادة بأنني لا أتذكر أين سمعت “الحب إللي كان” للمرة الأولى وأن الأغنية نفسها هي التي تريدني ألا أتذكر .. هي التي تمنعني من ذلك التيقن لأنني ببساطة كنت أسمعها منذ اللحظة الأولى في كل حيّز وفي كل مرة كان يبدو كأنني لم أسمعها من قبل .. داخل البيت، في الشارع، في المدرسة، في شقق الجيران، في منازل أقاربي، في سيارات الأجرة، أسمعها في أحلامي، في توهان اليقظة حتى دون أن تُدار .. نعم يا ميادة كنت أسمع “الحب إللي كان” في كل وقت وفي كل مكان دون يُشغّلها أحد كأنها تعيد نفسها داخلي بالرقة العتيدة التي تجسدها بسهولة في أذنيّ .. كانت “النداهة” التي اختطفت روحي وجعلتني أبصر من وراء غلالتها السحرية كيف أجبرت الجميع على أن يختلي كل منهم بكلماتها ونغماتها وراء الأبواب المغلقة، كيف جعلته يبكي وهو جالس وحده بجوار النوافذ غير الموصدة بالكامل، كيف جعلتهم يغيبون عن الدنيا بعيون مفتوحة وأفواه مطبقة .. جعلتني “الحب إللي كان” أبصر ما فعلته بأبي وأمي وأشقائي وأفراد عائلتي وبسكان العمارة وبأصحاب الدكاكين والمحلات وبالعابرين أمامهم أسفل الشرفة التي أراقب العالم من وراء حافتها .. كانت “الحب إللي كان” هي شرفتي السرية، وحينما أخبرتيني يا ميادة بحكاية اسمك فإنني حاولت عفويًا أن اكتشف في عينيك ما كان مجهولًا لي حين كنت هناك .. في ذلك الوقت الذي كانت تبدأ فيه حياتي مع تلك التعويذة المنغمة .. كنت أحاول اكتشاف ذلك من خلال كينونتك التي خلقها اسمك وتاريخ ميلادك .. كان عمري ثلاث سنوات حين بدأت حياتك؛ فهل كنتِ تحملين وجودنا معًا بعد أربعين سنة في تلك الكينونة التي شكلتها “الحب إللي كان”؟ .. هل كنتِ تخبئين الطريق الذي يقطع جسدينا الآن؟ .. هل سيمكنك أن تخبريني حقًا بما لا أعرفه؟

    من رواية “البصق في البئر” ـ قيد الكتابة

الثلاثاء، 28 يونيو 2022

فقدان الوعي بالذات..بداية لفقد الحياة

 عبير سليمان

قراءة في قصة بين السابعة والتاسعة لممدوح رزق

بين السابعة والتاسعة مساءً…”قصةأونلاين” :ممدوح رزق

يسترجع الكاتب هنا لمحات من حياة أبيه منذ بداية فقده لوعيه الذاتي وذاكرته وصولا بالنهاية المحتومة ..
هنا تبدو القصة مكررة وتقليدية ، لكنه استطاع – كما رأينا- أن يدخلنا معه إلى هذا العالم المرعب داخل عقل من يصاب بالزهايمر ، ومراحل تطور المرض وتفاصيلها ،

في رحلة مبدو مخيفة ومقبضة .. مليئة بالمعاناة والثقل الجسماني والروحي ، فالمريض هنا لا يعي أنه مريض وهنا تكمن المأساة الإنسانية .
المشهد الأكثر إيلاما هنا أن الإنسان يتحول لطفل ، وليس أقسى على إنسان بعد رحلة حياة ونجاحات وتوهج ونضوج أن يهبط مؤشر نضوجه ، فيعود للذبول ويصبح كما شبهه ممدوح رزق مثل دمية .
**
” كأنه دمية رجل عجوز تحلق في ضباب كثيف وتداعبها أشلاء أجساد وأماكن ولحظات، تطفو من حولها وتتبدد على نحو فوري قبل أن تبوح بأسرار إنتمائها لها “.
” بالنسبة لإنسان آخر فإن التوج للنوم بين السابعة والتاسعة مساءً ربما يعني أنك في وضعية النبذ خارج الحفل الصاخب للعالم “.
” ليس هناك عالم أو حفل أو بشر في دماغ أبي لكنه يدرك نقصانه ، عجزه ، وحدته بالضبط مثلما يدرك الطفل كل هذا قبل أن يتعلم اللغة ، الفارق أن أبي تجرد من قدرة الطفل العفوية على البكاء ، وتحويل جروحه المبهمة إلى دموع ، كأن جسده يعرف بأن ما تبقى له من عمر لم يعد يستدعي ذلك “.
” كان النظر إلى وجه أبي الميت بمثابة تقديم تهنئة لمنتصر وضيع في حرب غير عادلة “.
استوقفني تشبيه منتصر وضيع ؟ لماذا استعمل الكاتب لفظ وضيع لتشبيه الموت !!
او لتشبيه فكرة انتصار الإنسان في صراعه مع الزهايمر .. كأنه في صراع غير عادل مع طرف شرير وخائن وهو الزهايمر
ربما إذا وضعنا التشبيه هنا لوصف المرض وما يفعله يصبح المعنى واضحا فعلا والكلمة معبرة …
هناك أيضا بعض الألفاظ المباشرة بشكل لا يخلو من القسوة..
مثل الخراء
وممارسة الجنس.. لماذا لم يقل ممارسة الحب ..
كان لي علاقة غرامية مع زميلة دراسة مثلا
هل قصد الإشارة بأنه كان يحيا حياة مجون. وطيش الشباب المعتاد
**
القاص هنا يصف أيضا الفارق بين الإنسان في سن الشيخوخة وبينه في مرحلة الشباب ، فالشباب لا يكف عن التساؤلات والرغبة في الاستكشاف ، الشباب من أهم سماته التمرد على القيود ، لذا هو هنا يلمح بأنه بعدما كبر يشعر بالذنب أنه لم يقدم لوالده الرعاية الكافية ، ويعترف أنه ترك العبء لأمه التي سبق أجلها الأب ، ربما لم تتحمل العبء وقررت روحها مغادرة الدنيا قبل رفيقها ، وربما أيضا هي حكمة الخالق ، هنا يترك باب التساؤلات مفتوحا على مصراعيه حول مشاعر الإبن ، لماذا وصف الراوي نفسه بالشاب الذي يمارس حياته بشكل طبيعي ، ولا يحرم نفسه من متع الحياة وربما من هذه النقطة نستنتج أنه بالفعل يريد توصيل رسالة أنه لم يشبع من أبيه قبل رحيله ، وربما أيضا يسكن بداخله الخوف من أن يحدث نفس السيناريو معه ! ووقتها أيضا لم يجد ابنه بجواره !
الجميل في النص أنه مكتوب بلغة عذبة ، وأسلوب سرد مشوق رغم تقليدية الفكرة ، لكن التساؤلات الكامنة فيه ، والمشاعر المتصارعة في عقل الراوي ، والصورة التي رسمها بتفاصيل يبدو بعضها بالغ القسوة ومؤلم لأقصى درجة ، إذ من منا لا يخاف من مواجهة نفس المصير .. ومن منا لم يعش نفس التجربة مع إنسان عزيز بالذات لو كانت امرأة ” بالنسبة لي الجدة للأم ” .
إن أكثر المشاهد إيلاما هو تحول إنسان إلى طفل ، لا حول له ولاقوة ، لا يملك من أمر نفسه شيئا ، لا يقدر على إطعام نفسه ولا القيام بالوظائف الطبيعية مثل الإخراج من تلقاء نفسه ، إن رؤية إنسان مصاب بالعجز ينتظر من يستند عليه ليدخله الحمام ، أو ليدخله إلى فراشه لهو أمر قاسي على النفس لأقصى درجة ، يجعلنا نتأمل عبثية الحياة ونقول أخرجنا منها ونحن بعافيتنا . فلا نثقل على أحد .
**
وتذكرت قصيدة الأبنودي :” يامنة”
اوعى تصدقها الدنيا
غش في غش
إذا جاك الموت يا وليدي موت على طول
اللي اتخطفوا فضلوا أحباب
واللي ماتوا حتة حتة ونشفوا وهم حيين
حتى السلامو عليكو مش بتعدي من بره الأعتاب
**
لكن الكاتب في النهاية يضعنا أمام نهاية عجيبة :” فهل من المعقول أن يفقد الإنسان رغباته في الحياة سريعا ، ويكف عن التمتع بها ، فيبدو لنا كما لو أنه يريد الثأر من نفسه لعدم وفائه بأبيه وتحمله إياه في مرضه قبل توديعه إلى مثواه الأخير ، أم ترى أراد أن يكيف نفسه على المرحلة القادمة وهي ما بعد النضوج وعلى النوم مبكرا لتقبل ما هو آت.

موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 23 يونيو 2022

الجمعة، 24 يونيو 2022

فيلم "مكان في الزمن" يحصد جائزة لجنة التحكيم بمهرجان الداخلية السينمائي الدولي


فاز فيلم "مكان في الزمن" للمخرج نواف الجناحي عن قصة ممدوح رزق بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان الداخلية السينمائي الدولي الذي أقيم مؤخرا بسلطنة عمان - يونيو 2022


الأربعاء، 22 يونيو 2022

زغرودة للموتى .. قراءة في قصة ممدوح رزق

 بقلم :محمد عبدالقادر التوني

بين السابعة والتاسعة مساءً…”قصةأونلاين” :ممدوح رزق

قراءة في قصة بين السابعة والتاسعة للكاتب ممدوح رزق

ـ ـ من الممكن أن نطلق على قصة : ” بين السابعة والتاسعة مساءً ” ؛ أنها قصة كل بيت ؛ لأنها تمس صميم المشاعر الإنسانية التي تتعرض لها الأسر ليس على المستوى المحلى فقط ؛ ولكن في كل بقعة من بقاع المعمورة ، ولا خلاف عليها ؛ لأن المشاعر الإنسانية لا تتجزأ . وقد أضفى عليها السرد الذاتي صدقاً فنياً مما جعلها قصة خاصة لكل من يقرأها ، فهيّ قصتي وقصتك ؛ وقصة غيري وغيرك ؛ ومن لم يشاهدها في بيته ؛ شاهدها في بيت قريب له أو عند جار من جيرانه ،

كان الوصف دقيقاً وبارعاً في تصوير الحالة المرضية ومراحل تطورها ؛ وانعكاساتها على الأسرة ، كما كان بارعاً أيضاً في تصوير حالة المريض قبل هذا المرض وأسلوبه في تدبير الحياة المعيشية لأسرته من طعام وشراب وإشرافه الشخصي على ذلك ، وعلى جانب آخر أكثر براعة في تصوير حالة الابن الجامعي الذي كان في واد والأسرة في واد آخر ؛ والمفارقة في تصويره بعد موت والده وحالة التقمص التي عاشها .

الوعي الأسري :

ــــــــــــــــــــــــ

حيث أظهر لنا ( السارد = الابن ) الوعي الأسري بطريقة غير مباشرة متمثلاً في سلوك ” الأم ”  ومتابعتها لوالده وفهمها لطبيعة الحالة والتصرف بهدوء ،

” ذات يوم فرد أبي سجادة الصلاة داخل حجرته ووقف عليها ، لكنه بدلاً من أن يصلي ظل واقفاً في صمت .. انتبهت إليه أمي فسألته : لماذا لا يصلي .. رد عليها بصوت خافت ونظرة تائهة بأنه لا يعرف كيف يفعل ذلك .. حينئذ أيقنت أمي أن ( الزهايمر ) قد أحكم قبضته الباردة على رأس أبي ؛ فأعادت طوي السجادة وأخذته من يده ثم أجلسته في حجرة المعيشة ” .

ـ وفي ربط محكم بين صرامة الوالد وبين ضغوط الحياة التي تفرضها المسئولية تجاه الأسرة والتي جعلته يتصرف بحذر في ترتيبه واشرافه على الطعام خوفاً من أن يتفلت منه قدره ويصبح عاجزاً عن اكمال المسيرة أو أن يقع في خانة المدينين وهذا هو المستحيل ؛ لأن هذا الصنف الذي يشبه هذه الشخصية عصامي جداً ؛ لذا كان لابد أن يفعل ما كان يفعل ؛ وكان لابد من تأثير لذلك على أعصابه وخلايا المخ .

” كان يقطع الجبن الأبيض إلى شذرات ضئيلة ويوزعها بترتيب خاص في علب الثلاجة ولا يسمح لأحد بالإخلال بنظامه في الانتهاء من محتويات علبة قبل الأخرى ، كذلك الخبز كان يشتري كميات كبيرة من الأرغفة ويضعها في أكياس بلاستيكية داخل الثلاجة بأعداد متساوية لكل كيس .. ويشرف بنفسه على منحها لنا وقت الوجبات كي يضمن ألا يتناول فرد منا خبزاً من الكيس الخاطئ ” .  

هذا الفعل ليس غريباً ، ولا هو ناتج عن شح أو تقتير ، إنما هو الجيل الذي نشأ على الصدق ، والتكيف تحت أي ظرف من الظروف ، دون الحاجة إلى أحد ، والذي كان يراه ( قدره الذاتي ) مما يدل على الفوارق المادية الكبيرة مقارنة بغيره ، كما أن شراء الخبز بكميات كبيرة يؤكد على محدودية الدخل ؛ ويؤكد على أن الفقراء لا يعنيهم إلا الرغيف الذي يشبع جوعهم ؛ فماذا يحدث لو ارتفع ثمنه مثل السلع الأخرى ؟ ! ،

” بدا كأنه بواسطة تلك الممارسات الانضباطية تجاه الأشياء البسيطة كان يريد كفرصة أخيرة .. أن يثبت لنفسه واقعياً ما ظل يتضاعف في يقينه على مدار العمر كوهم : التحكم في قدره الذاتي ” .

ـ نعم : التحكم في قدره الذاتي .. إنها حقيقة وليست وهماً ؛ فهذا الجيل الذي نشأ على الإيمان ؛ ولا يعرف الغش أو الخداع أو السرقة والتزوير ؛ تراه مؤمناً وراضياً برزقه مهما كان ضئيلاً ، كما أنه يؤمن ببشاعة الإسراف .

الضغوط النفسية الواقعة على الأسرة :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مما لا شك فيه أن مريض ( الزهايمر ) يسبب حرجاً كبيراً لأفراد أسرته دون قصد منه ، وذلك من خلال تصرفاته مع الناس سواء من الجيران الذين يسكنون معه في نفس العمارة ؛ أو في الشارع مع الغرباء ؛ خاصة إذا صادف هذا الفعل مع بعض الظرفاء الذين لا يعرفون إلا السخرية ؛ مما يؤدي إلى دخول أفراد أسرة المريض في مشاجرات مع مثل هؤلاء ، وهذا هو ما كان يسبب حرجاً وخوفاً لابنه أن يتورط في مشاجرة كهذه .

” كان ذلك في بداية الأمر قبل أن يتحول أبي إلى بطل لفقرة كوميدية شهيرة تبدأ عند ظهوره في الشارع ، أو فوق سلالم العمارة ، كنت أحياناً أشاهد تلك الفقرة بالصدفة ، وأسمع بعضاً من كلماتها بعد خروجي من المنزل أو أثناء عودتي ؛ فأسرع بالهرب خجلاً وغضباً وقبل أي تورط ” .

الوصف الدقيق لتطور المرض :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جاء وصف تطور الحالة المرضية بصورة أكثر دقة وبترتيب قد يخطئ فيه المتخصص ؛ وكأن السارد = الابن كان منكباً على المتابعة والتسجيل ، وإن دل هذا فإنما يدل على فرط خبرة القاص بمثل هذه المشاهد في الحياة ؛ فبدأ بفقد الكلمات ، ثم فقد الوعي ، ثم الصمت ، ثم التحديق فيما حوله ؛ وصولاً إلى الشرود في غياب الذهن .

” في ذلك الوقت كان أبي قد بدأ يفقد الكلمات .. أسماءنا وأسماء الأشياء وأسماء المشاعر التي تتملكه .. ثم بدأ يفقد السياق ؛ الصلاة التي تربط بين ما تشير إليه الكلمات الضائعة والمعنى الناتج عن تجاورها في ترتيب معين .. ثم بدأ يفقد وعيه بالأشخاص والأشياء والمشاعر ، إذ لم يعد قادراً على تذكر هويات البشر الذين يراهم ووظائف الموجودات المحيطة به والأفكار التي تلائم أحاسيسه لذا أصبح أبي صامتاً .. صامتاً تماماً لسنوات كثيرة .. توقف أبي عن أن يسأل أحداً وأصبح يحدق فيما حوله وحسب .. كأنه لا يرى أي شيء .. لم تعد في عينيه نظرة الذهن الشارد ، وإنما نظرة الشارد في غياب ذهنه ” .

الرعاية الأسرية للمريض :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 ـ ومثلما صور لنا ( السارد = الابن ) وعي الأم بطبيعة حالة والده المرضية ؛ صور لنا دورها في رعايته وما كانت تبذله من جهد في العناية بنظافته الشخصية مما علق بجسده وثيابه من ” بول وخراء ” ، رغم أنني أتحفظ على كلمة ” خراء ” إذ كان بإمكانه استئصالها أو الاستعاضة عنها بما يدل عليها وذلك حرصاً على عدم تنفير القارئ ،

ثم صور لنا دورها ” الأم ” أيضاً في عنايتها بالوالد من الناحية الغذائية ؛ وتوفير غذاء مطحون يناسب فمه الفارغ من الأسنان ، ثم إعطاءه الدواء ، وفسحة في داخل الشقة بعيداً عن سريره الخاص ،

ـ ومع طول فترة المرض وموت ” الأم = الزوجة ” ؛ قامت البنت الكبرى بنفس الدور الذي كانت تقوم به الأم ، ليثبت لهؤلاء الجهلاء الذين ما يزالون يكرهون انجاب البنات ؛ أنهم لا يعقلون .

” مات أبي في الرابعة والسبعين من عمره .. ذات يوم دخلت حجرته شقيقتي الكبرى .. التي تولت رعايته بعد موت أمي .. في تلك الفترة بين السابعة والتاسعة مساءً كالعادة لتطمئن عليه .. وجدته مستلقياً في السرير على ظهره بعينين مفتوحتين ، فارغاً من الحياة ” .

الرؤية الفلسفية للسارد :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وربما كان ذلك هو الأساس في القصة ؛ فما قرأناه سلفاً يعد هو العادي والموجود في كل بيت ؛ ولذا كانت القصة أشبه بالسهل الممتنع ؛ فما تخفيه القصة أعظم ، والذي يعبر بكل تأكيد عما نعانيه من جهل وعدم معرفة بأن موت الإنسان ليس هو نهاية المطاف ؛ إنما هو بداية لحياة جديدة ،

” ليس هناك عالم أو حفل أو بشر في دماغ أبي .. لكنه يدرك نقصانه ، عجزه ، وحدته ، بالضبط مثلما يدرك الطفل كل هذا قبل أن يتعلم اللغة .. الفرق أن البكاء هو التعبير التلقائي للطفل عن احساسه الغامض بالنبذ .. كأنه يطالب الحياة دون قصد أن تسمح لعمره البادئ التكوين بالمرور دون ألم “

ـ فالعمر البادئ التكوين في الفقرة تشير إلى الطفل وإلى هذا الرجل الذي ينتظر الموت أيضاً ، فالموت بداية لحياة جديدة ،

وقد وضع السارد مفاتيح للألغاز والشفرات التي لا ينتبه إليها أحد ؛ ولا يفكر أحد في السؤال عنها ، وإذا فكر أحد في السؤال عنها ؛ ستقابل أسئلته بالسخرية والتجاهل أو بإجابات غير منطقية لا أساس لها من الصحة ؛ تماماً مثل أسئلة ” السارد = الابن ” التي كان يطرحها دوماً على أصدقائه وكل من يقابله ؛ ونتيجة للتجاهل والسخرية والإجابات غير المقنعة قرر أن يحتفظ بها لنفسه ،

والسارد يأخذنا هنا بطريقة غير مباشرة إلى نظرية الحيوات المتعددة والتي اعتبرها لغزاً يعجز الناس عن اكتشافه مثل عجز والده تماماً ؛ والذي يرجع في الأساس إلى عدم المعرفة ،

” لكن أبي تجرد من تلك القدرة العفوية على تحويل جروحه المبهمة إلى دموع .. انتزعت من روحه الإرادة الغريزية لاكتشاف اللغز .. كأن جسده يعرف ما تبقى له من عمر لم يعد يستدعي ذلك ” .

ـ ومن بين الأسئلة التي كان يطرحها السارد ولا يجد لها اجابات ؛ نختار منها سؤالاً واحداً يتضح لنا من خلاله أن هذه القضية كانت تشغله بصفة عامة وكان يفكر فيها قبل أن تنتقل إليه بموت الوالد وتصبح قضية خاصة .

والسؤال هو : ” ما الذي تخفيه الصرخة عن النعش ؟ ” ،

والإجابة : ربما كانت : زغرودة ، وربما كانت تهنئة كما جاءت على لسان السارد ،

” كان الجميع يدخلون إليه لإلقاء النظرة الأخيرة ، أما بالنسبة لي فقد كان ذلك أمراً مستحيلاً .. كان النظر إلى وجه أبي الميت بمثابة تقديم تهنئة لمنتصر وضيع في حرب غير عادلة ” .

  ـ ثم تأتي النهاية مؤكدة على ما يريد السارد توصيله بالنسبة لنظرية الحيوات المتكررة من خلال حالة التقمص التي وجد متعته فيها من خلال أخذه للصفات الحميدة في والده وتوحده معها من خلال حلول روحه في جسده ،

” عمري الآن خمسة وأربعون عاماً .. ما زالت ذاكرتي جيدة ، وربما أكثر مما يجب .. ما زلت أتعامل مع الجبن والخبز والبيض والصابون ومسحوق الغسيل كما يتعامل الشخص العادي .. لكنني توقفت عن الخروج من البيت منذ سنوات بإرادتي .. كان هذا منطقياً أيضاً .. احتفظت بالأسئلة التي لم يستطع أحد الإجابة عنها لنفسي ، وأصبحت راضخاً لمتعة تقليدية بأن أتوجه للسرير فيما بين السابعة والتاسعة مساءً ” .  

  ـ وفي الأخير :  فإن القصة دعوة للمعرفة ؛ فربما كانت هي الدواء الشافي لتحسين وجه العالم وقبوله ،

ـ ودعوة لتعديل فكرتنا عن الموت ؛ من خلال المعرفة ، والفهم الصحيح ، والحوار البناء بعيداً عن التعصب والتشدد ؛ ربما تنقلب الصرخة إلى زغرودة . 

موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 20 يونيو 2022

الاثنين، 20 يونيو 2022

قتل السفّاح الأصلي

(حينما سقط “أدوارد” ميتاً، ثمة من فراغ قد تغلغل فيها، رعشة اجتاحت كيانها، رفعتها وكأنّها ملاك. نهداها العاريان شبّا في كنيسة حلم حيث أنهكها الشعور بالأمر المحتوم. واقفةً، بالقرب من الميت، غائبة، على علو من نفسها، بنشوة وجدٍ طويلة، مُذهلة. أدركت بأنها يائسة لكنها فلتت من يأسها. أثناء موته، ألتمسها “أدوارد” أن تكون عاريةً.

لم يكن بمقدورها القيام بذلك في حينه! كانت هناك، مُشعث الشعر: صدرها وحده كان قد أنهدَ من فستانها المنزوعِ).

ثمة غضب غير اعتيادي يقف وراء موت “أدوارد” .. الغضب المتوحّد بالرغبة الحقيقية في قتل السفّاح الأصلي .. غضب شبقي يتخطى الحدود البشرية .. وهم المشهد يُخلق وفقًا لقوة العنف المتصاعدة في الخفاء .. استدعاء ما يشبه العناصر المألوفة، المهيّأة لتكوين منظر طبيعي .. لكن أشلاء المناظر كلها تحضر في تلك الومضات المتناثرة، المضادة لاستقرار العنصر المشهدي .. “أدوارد” يسقط مقتولًا بفعل نشوة الغضب .. شهوانية الانتقام من المقدس .. لا دخل لما هو إنساني في الأمر .. هناك لغة يُستعمل هيكلها العظمي فحسب لتوليد رعشة تتقمّص اللذة الخالدة للصمت السماوي .. تتأرجح عظام اللغة في الفراغ كلعبة سيرك .. تتبادل التركيب والتفتت وإعادة التكوّن في صورة أطياف مخاتلة .. الثأر من الجمال أو التوقع المخادع للغة .. نهدان عاريان يختبران طقس الألوهة في ظل موت السفّاح الأصلي .. نهدان عاريان لملاك يراوغ قدره .. يراوغ “المشهد” باعتباره الفخ الحتمي للإله .. ليس حلمًا كما يبدو، ولكنها الحقيقة التي أقرها الغضب المخبوء .. طاقة العنف في استخدامها للجسد المقاوم لطهارته في سبيل الارتقاء الغيبي .. مسايرة الدنس كجوهر كوني يكمن في الجسد .. في اللغة التي تنتج الجسد .. يدعي المنظر حدوثه ولكنه لا يتم قطعًا .. يكشف عن ضياعه الأزلي بواسطة شبقية الغضب .. بواسطة تغييب الأنا في السمو النجس .. تحويل الإدراك إلى انقطاعات ضبابية متنافرة .. الألم والحسرة واليأس يصبحون عريًا انتقاميًا منتشيًا .. كشفًا مقصودًا للجوهر الإلهي المشين، الراسخ في الأجسام المؤقتة حين تغدر بوعد المشهدية .. تفجر شذريتها ثأرًا من أكاذيب التماسك للمقدس.

مقطع من دراسة حول شبقية الغضب في سرد “جورج باطاي” ـ قيد الكتابة

الخميس، 16 يونيو 2022

ممدوح رزق يفوز بجائزة مؤسسة ناجي نعمان الأدبية

فاز الكاتب والناقد المصري ممدوح رزق بجائزة مؤسسة ناجي نعمان الأدبية بلبنان 2022 تكريمًا عن الأعمال الكاملة.

يُذكر أن ممدوح رزق قد صدر له مؤخرًا المجموعة القصصية “سماء القبو” عن دار عرب للنشر والتوزيع، ويستعد لإصدار كتابه النقدي “الشر عاريًا ـ دراسة مقارنة بين يانيس ريتسوس ورينيه ماغريت” عن دار ميتا للنشر والتوزيع.

موقع "الكتابة" الثقافي

15 يونيو 2022

السبت، 11 يونيو 2022

الطائرة الورقية والبحر

وصلنا إلى الشاطئ .. لم نتكلم طوال الطريق، وحتى عندما جلسنا متقاربين على الرمال لم نتبادل كلمة واحدة .. فجأة وجدنا أمامنا الطائرة الورقية تلمع ألوانها تحت ضوء الشمس .. نظر كل منا إلى الآخر ثم بدأت الابتسامات ترتسم على وجوهنا .. بعد قليل نهض أخي الأكبر والتقط خيط الطائرة .. راح يجذبه وقدماه تخطوان سريعًا فبدأت الطائرة ترتفع بالتدريج مع تقدمه المتسارع داخل البحر .. نهضنا جميعًا ووقفنا نراقبه ونضحك ونصفق بحماس وهو يتوغل بخيط الطائرة بين الأمواج حتى اختفى تمامًا .. عندئذ رأينا الطائرة تعود وارتفاعها يتقلص مع تناقص سرعتها إلى أن هبطت أمامنا على الشاطئ ثانية .. تقدمت أمي وأمسكت بالخيط .. ومثلما فعل أخي الأكبر؛ جعلت الطائرة تحلق عاليًا بينما تخطو داخل البحر وضحكاتنا المقترنة بتصفيقنا الحماسي ترافقها حتى اختفت هي الأخرى قبل أن تعود الطائرة إلينا بنفس الطريقة السابقة .. تكرر الأمر بشكل مطابق مع أبي وأخي الآخر وشقيقتي بالترتيب .. أصبحت وحدي على الشاطئ والطائرة الورقية أمامي على الرمال .. تلفت حولي للحظات ثم أمسكت بالخيط ونزعته عن الطائرة قبل أن أكمل تمزيقها كليًا .. ظللت أتأمل الأشلاء الملونة التي يبعثرها الهواء ثم رحت أتقدم داخل البحر.

الاثنين، 6 يونيو 2022

الخميس، 2 يونيو 2022

"اللعب بالفقاعات" في كتاب "أصوات معاصرة" عن جامعة جورج تاون

مطلع العام القادم (يناير 2023) يصدر عن مطبعة جامعة جورج تاون الأمريكية كتاب "أصوات معاصرة" لطلاب المستوى المتقدم ويضم 55 قصة قصيرة باللغة العربية من عشرين دولة من الشرق الأوسط .. تم تنظيم القصص في فصول بناءً على بلدهم الأصلي. كما تسبق كل قصة سيرة المؤلف وتليها تمارين لمساعدة الطلاب على استخدام المفردات والفهم واستكشاف التقاليد الأدبية وإتقان التحليل الأدبي .. اختار قصص الكتاب جوناس البوستي وهو مدير الدراسات الجامعية وبرنامج الصيف العربي في الخارج بجامعة ييل، وكتب مقدمته روجر ألين وهو أستاذ فخري بجامعة بنسلفانيا .. يضم الكتاب 3 قصص قصيرة من مصر بحسب ترتيب النشر:
نجيب محفوظ: حكمة الموت
ممدوح رزق: اللعب بالفقاعات ... من مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة".
عايدة بدر: الجسر