الأربعاء، 22 يونيو 2022

زغرودة للموتى .. قراءة في قصة ممدوح رزق

 بقلم :محمد عبدالقادر التوني

بين السابعة والتاسعة مساءً…”قصةأونلاين” :ممدوح رزق

قراءة في قصة بين السابعة والتاسعة للكاتب ممدوح رزق

ـ ـ من الممكن أن نطلق على قصة : ” بين السابعة والتاسعة مساءً ” ؛ أنها قصة كل بيت ؛ لأنها تمس صميم المشاعر الإنسانية التي تتعرض لها الأسر ليس على المستوى المحلى فقط ؛ ولكن في كل بقعة من بقاع المعمورة ، ولا خلاف عليها ؛ لأن المشاعر الإنسانية لا تتجزأ . وقد أضفى عليها السرد الذاتي صدقاً فنياً مما جعلها قصة خاصة لكل من يقرأها ، فهيّ قصتي وقصتك ؛ وقصة غيري وغيرك ؛ ومن لم يشاهدها في بيته ؛ شاهدها في بيت قريب له أو عند جار من جيرانه ،

كان الوصف دقيقاً وبارعاً في تصوير الحالة المرضية ومراحل تطورها ؛ وانعكاساتها على الأسرة ، كما كان بارعاً أيضاً في تصوير حالة المريض قبل هذا المرض وأسلوبه في تدبير الحياة المعيشية لأسرته من طعام وشراب وإشرافه الشخصي على ذلك ، وعلى جانب آخر أكثر براعة في تصوير حالة الابن الجامعي الذي كان في واد والأسرة في واد آخر ؛ والمفارقة في تصويره بعد موت والده وحالة التقمص التي عاشها .

الوعي الأسري :

ــــــــــــــــــــــــ

حيث أظهر لنا ( السارد = الابن ) الوعي الأسري بطريقة غير مباشرة متمثلاً في سلوك ” الأم ”  ومتابعتها لوالده وفهمها لطبيعة الحالة والتصرف بهدوء ،

” ذات يوم فرد أبي سجادة الصلاة داخل حجرته ووقف عليها ، لكنه بدلاً من أن يصلي ظل واقفاً في صمت .. انتبهت إليه أمي فسألته : لماذا لا يصلي .. رد عليها بصوت خافت ونظرة تائهة بأنه لا يعرف كيف يفعل ذلك .. حينئذ أيقنت أمي أن ( الزهايمر ) قد أحكم قبضته الباردة على رأس أبي ؛ فأعادت طوي السجادة وأخذته من يده ثم أجلسته في حجرة المعيشة ” .

ـ وفي ربط محكم بين صرامة الوالد وبين ضغوط الحياة التي تفرضها المسئولية تجاه الأسرة والتي جعلته يتصرف بحذر في ترتيبه واشرافه على الطعام خوفاً من أن يتفلت منه قدره ويصبح عاجزاً عن اكمال المسيرة أو أن يقع في خانة المدينين وهذا هو المستحيل ؛ لأن هذا الصنف الذي يشبه هذه الشخصية عصامي جداً ؛ لذا كان لابد أن يفعل ما كان يفعل ؛ وكان لابد من تأثير لذلك على أعصابه وخلايا المخ .

” كان يقطع الجبن الأبيض إلى شذرات ضئيلة ويوزعها بترتيب خاص في علب الثلاجة ولا يسمح لأحد بالإخلال بنظامه في الانتهاء من محتويات علبة قبل الأخرى ، كذلك الخبز كان يشتري كميات كبيرة من الأرغفة ويضعها في أكياس بلاستيكية داخل الثلاجة بأعداد متساوية لكل كيس .. ويشرف بنفسه على منحها لنا وقت الوجبات كي يضمن ألا يتناول فرد منا خبزاً من الكيس الخاطئ ” .  

هذا الفعل ليس غريباً ، ولا هو ناتج عن شح أو تقتير ، إنما هو الجيل الذي نشأ على الصدق ، والتكيف تحت أي ظرف من الظروف ، دون الحاجة إلى أحد ، والذي كان يراه ( قدره الذاتي ) مما يدل على الفوارق المادية الكبيرة مقارنة بغيره ، كما أن شراء الخبز بكميات كبيرة يؤكد على محدودية الدخل ؛ ويؤكد على أن الفقراء لا يعنيهم إلا الرغيف الذي يشبع جوعهم ؛ فماذا يحدث لو ارتفع ثمنه مثل السلع الأخرى ؟ ! ،

” بدا كأنه بواسطة تلك الممارسات الانضباطية تجاه الأشياء البسيطة كان يريد كفرصة أخيرة .. أن يثبت لنفسه واقعياً ما ظل يتضاعف في يقينه على مدار العمر كوهم : التحكم في قدره الذاتي ” .

ـ نعم : التحكم في قدره الذاتي .. إنها حقيقة وليست وهماً ؛ فهذا الجيل الذي نشأ على الإيمان ؛ ولا يعرف الغش أو الخداع أو السرقة والتزوير ؛ تراه مؤمناً وراضياً برزقه مهما كان ضئيلاً ، كما أنه يؤمن ببشاعة الإسراف .

الضغوط النفسية الواقعة على الأسرة :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مما لا شك فيه أن مريض ( الزهايمر ) يسبب حرجاً كبيراً لأفراد أسرته دون قصد منه ، وذلك من خلال تصرفاته مع الناس سواء من الجيران الذين يسكنون معه في نفس العمارة ؛ أو في الشارع مع الغرباء ؛ خاصة إذا صادف هذا الفعل مع بعض الظرفاء الذين لا يعرفون إلا السخرية ؛ مما يؤدي إلى دخول أفراد أسرة المريض في مشاجرات مع مثل هؤلاء ، وهذا هو ما كان يسبب حرجاً وخوفاً لابنه أن يتورط في مشاجرة كهذه .

” كان ذلك في بداية الأمر قبل أن يتحول أبي إلى بطل لفقرة كوميدية شهيرة تبدأ عند ظهوره في الشارع ، أو فوق سلالم العمارة ، كنت أحياناً أشاهد تلك الفقرة بالصدفة ، وأسمع بعضاً من كلماتها بعد خروجي من المنزل أو أثناء عودتي ؛ فأسرع بالهرب خجلاً وغضباً وقبل أي تورط ” .

الوصف الدقيق لتطور المرض :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جاء وصف تطور الحالة المرضية بصورة أكثر دقة وبترتيب قد يخطئ فيه المتخصص ؛ وكأن السارد = الابن كان منكباً على المتابعة والتسجيل ، وإن دل هذا فإنما يدل على فرط خبرة القاص بمثل هذه المشاهد في الحياة ؛ فبدأ بفقد الكلمات ، ثم فقد الوعي ، ثم الصمت ، ثم التحديق فيما حوله ؛ وصولاً إلى الشرود في غياب الذهن .

” في ذلك الوقت كان أبي قد بدأ يفقد الكلمات .. أسماءنا وأسماء الأشياء وأسماء المشاعر التي تتملكه .. ثم بدأ يفقد السياق ؛ الصلاة التي تربط بين ما تشير إليه الكلمات الضائعة والمعنى الناتج عن تجاورها في ترتيب معين .. ثم بدأ يفقد وعيه بالأشخاص والأشياء والمشاعر ، إذ لم يعد قادراً على تذكر هويات البشر الذين يراهم ووظائف الموجودات المحيطة به والأفكار التي تلائم أحاسيسه لذا أصبح أبي صامتاً .. صامتاً تماماً لسنوات كثيرة .. توقف أبي عن أن يسأل أحداً وأصبح يحدق فيما حوله وحسب .. كأنه لا يرى أي شيء .. لم تعد في عينيه نظرة الذهن الشارد ، وإنما نظرة الشارد في غياب ذهنه ” .

الرعاية الأسرية للمريض :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 ـ ومثلما صور لنا ( السارد = الابن ) وعي الأم بطبيعة حالة والده المرضية ؛ صور لنا دورها في رعايته وما كانت تبذله من جهد في العناية بنظافته الشخصية مما علق بجسده وثيابه من ” بول وخراء ” ، رغم أنني أتحفظ على كلمة ” خراء ” إذ كان بإمكانه استئصالها أو الاستعاضة عنها بما يدل عليها وذلك حرصاً على عدم تنفير القارئ ،

ثم صور لنا دورها ” الأم ” أيضاً في عنايتها بالوالد من الناحية الغذائية ؛ وتوفير غذاء مطحون يناسب فمه الفارغ من الأسنان ، ثم إعطاءه الدواء ، وفسحة في داخل الشقة بعيداً عن سريره الخاص ،

ـ ومع طول فترة المرض وموت ” الأم = الزوجة ” ؛ قامت البنت الكبرى بنفس الدور الذي كانت تقوم به الأم ، ليثبت لهؤلاء الجهلاء الذين ما يزالون يكرهون انجاب البنات ؛ أنهم لا يعقلون .

” مات أبي في الرابعة والسبعين من عمره .. ذات يوم دخلت حجرته شقيقتي الكبرى .. التي تولت رعايته بعد موت أمي .. في تلك الفترة بين السابعة والتاسعة مساءً كالعادة لتطمئن عليه .. وجدته مستلقياً في السرير على ظهره بعينين مفتوحتين ، فارغاً من الحياة ” .

الرؤية الفلسفية للسارد :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وربما كان ذلك هو الأساس في القصة ؛ فما قرأناه سلفاً يعد هو العادي والموجود في كل بيت ؛ ولذا كانت القصة أشبه بالسهل الممتنع ؛ فما تخفيه القصة أعظم ، والذي يعبر بكل تأكيد عما نعانيه من جهل وعدم معرفة بأن موت الإنسان ليس هو نهاية المطاف ؛ إنما هو بداية لحياة جديدة ،

” ليس هناك عالم أو حفل أو بشر في دماغ أبي .. لكنه يدرك نقصانه ، عجزه ، وحدته ، بالضبط مثلما يدرك الطفل كل هذا قبل أن يتعلم اللغة .. الفرق أن البكاء هو التعبير التلقائي للطفل عن احساسه الغامض بالنبذ .. كأنه يطالب الحياة دون قصد أن تسمح لعمره البادئ التكوين بالمرور دون ألم “

ـ فالعمر البادئ التكوين في الفقرة تشير إلى الطفل وإلى هذا الرجل الذي ينتظر الموت أيضاً ، فالموت بداية لحياة جديدة ،

وقد وضع السارد مفاتيح للألغاز والشفرات التي لا ينتبه إليها أحد ؛ ولا يفكر أحد في السؤال عنها ، وإذا فكر أحد في السؤال عنها ؛ ستقابل أسئلته بالسخرية والتجاهل أو بإجابات غير منطقية لا أساس لها من الصحة ؛ تماماً مثل أسئلة ” السارد = الابن ” التي كان يطرحها دوماً على أصدقائه وكل من يقابله ؛ ونتيجة للتجاهل والسخرية والإجابات غير المقنعة قرر أن يحتفظ بها لنفسه ،

والسارد يأخذنا هنا بطريقة غير مباشرة إلى نظرية الحيوات المتعددة والتي اعتبرها لغزاً يعجز الناس عن اكتشافه مثل عجز والده تماماً ؛ والذي يرجع في الأساس إلى عدم المعرفة ،

” لكن أبي تجرد من تلك القدرة العفوية على تحويل جروحه المبهمة إلى دموع .. انتزعت من روحه الإرادة الغريزية لاكتشاف اللغز .. كأن جسده يعرف ما تبقى له من عمر لم يعد يستدعي ذلك ” .

ـ ومن بين الأسئلة التي كان يطرحها السارد ولا يجد لها اجابات ؛ نختار منها سؤالاً واحداً يتضح لنا من خلاله أن هذه القضية كانت تشغله بصفة عامة وكان يفكر فيها قبل أن تنتقل إليه بموت الوالد وتصبح قضية خاصة .

والسؤال هو : ” ما الذي تخفيه الصرخة عن النعش ؟ ” ،

والإجابة : ربما كانت : زغرودة ، وربما كانت تهنئة كما جاءت على لسان السارد ،

” كان الجميع يدخلون إليه لإلقاء النظرة الأخيرة ، أما بالنسبة لي فقد كان ذلك أمراً مستحيلاً .. كان النظر إلى وجه أبي الميت بمثابة تقديم تهنئة لمنتصر وضيع في حرب غير عادلة ” .

  ـ ثم تأتي النهاية مؤكدة على ما يريد السارد توصيله بالنسبة لنظرية الحيوات المتكررة من خلال حالة التقمص التي وجد متعته فيها من خلال أخذه للصفات الحميدة في والده وتوحده معها من خلال حلول روحه في جسده ،

” عمري الآن خمسة وأربعون عاماً .. ما زالت ذاكرتي جيدة ، وربما أكثر مما يجب .. ما زلت أتعامل مع الجبن والخبز والبيض والصابون ومسحوق الغسيل كما يتعامل الشخص العادي .. لكنني توقفت عن الخروج من البيت منذ سنوات بإرادتي .. كان هذا منطقياً أيضاً .. احتفظت بالأسئلة التي لم يستطع أحد الإجابة عنها لنفسي ، وأصبحت راضخاً لمتعة تقليدية بأن أتوجه للسرير فيما بين السابعة والتاسعة مساءً ” .  

  ـ وفي الأخير :  فإن القصة دعوة للمعرفة ؛ فربما كانت هي الدواء الشافي لتحسين وجه العالم وقبوله ،

ـ ودعوة لتعديل فكرتنا عن الموت ؛ من خلال المعرفة ، والفهم الصحيح ، والحوار البناء بعيداً عن التعصب والتشدد ؛ ربما تنقلب الصرخة إلى زغرودة . 

موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 20 يونيو 2022