أخبرتها بكل شيء .. حاولت أن أخبرها بكل شيء .. ما فعلته هذه الأغنية بحياتي منذ الطفولة .. تعويذة الروعة والغموض التي لاحقتني في كل مكان .. يكفي أن أخبرك يا ميادة بأنني لا أتذكر أين سمعت “الحب إللي كان” للمرة الأولى وأن الأغنية نفسها هي التي تريدني ألا أتذكر .. هي التي تمنعني من ذلك التيقن لأنني ببساطة كنت أسمعها منذ اللحظة الأولى في كل حيّز وفي كل مرة كان يبدو كأنني لم أسمعها من قبل .. داخل البيت، في الشارع، في المدرسة، في شقق الجيران، في منازل أقاربي، في سيارات الأجرة، أسمعها في أحلامي، في توهان اليقظة حتى دون أن تُدار .. نعم يا ميادة كنت أسمع “الحب إللي كان” في كل وقت وفي كل مكان دون يُشغّلها أحد كأنها تعيد نفسها داخلي بالرقة العتيدة التي تجسدها بسهولة في أذنيّ .. كانت “النداهة” التي اختطفت روحي وجعلتني أبصر من وراء غلالتها السحرية كيف أجبرت الجميع على أن يختلي كل منهم بكلماتها ونغماتها وراء الأبواب المغلقة، كيف جعلته يبكي وهو جالس وحده بجوار النوافذ غير الموصدة بالكامل، كيف جعلتهم يغيبون عن الدنيا بعيون مفتوحة وأفواه مطبقة .. جعلتني “الحب إللي كان” أبصر ما فعلته بأبي وأمي وأشقائي وأفراد عائلتي وبسكان العمارة وبأصحاب الدكاكين والمحلات وبالعابرين أمامهم أسفل الشرفة التي أراقب العالم من وراء حافتها .. كانت “الحب إللي كان” هي شرفتي السرية، وحينما أخبرتيني يا ميادة بحكاية اسمك فإنني حاولت عفويًا أن اكتشف في عينيك ما كان مجهولًا لي حين كنت هناك .. في ذلك الوقت الذي كانت تبدأ فيه حياتي مع تلك التعويذة المنغمة .. كنت أحاول اكتشاف ذلك من خلال كينونتك التي خلقها اسمك وتاريخ ميلادك .. كان عمري ثلاث سنوات حين بدأت حياتك؛ فهل كنتِ تحملين وجودنا معًا بعد أربعين سنة في تلك الكينونة التي شكلتها “الحب إللي كان”؟ .. هل كنتِ تخبئين الطريق الذي يقطع جسدينا الآن؟ .. هل سيمكنك أن تخبريني حقًا بما لا أعرفه؟
من رواية “البصق في البئر” ـ قيد الكتابة