عبير سليمان
قراءة في قصة بين السابعة والتاسعة لممدوح رزق
بين السابعة والتاسعة مساءً…”قصةأونلاين” :ممدوح رزق
يسترجع الكاتب هنا لمحات من حياة أبيه منذ بداية فقده لوعيه الذاتي وذاكرته وصولا بالنهاية المحتومة ..
هنا تبدو القصة مكررة وتقليدية ، لكنه استطاع – كما رأينا- أن يدخلنا معه إلى هذا العالم المرعب داخل عقل من يصاب بالزهايمر ، ومراحل تطور المرض وتفاصيلها ،
في رحلة مبدو مخيفة ومقبضة .. مليئة بالمعاناة والثقل الجسماني والروحي ، فالمريض هنا لا يعي أنه مريض وهنا تكمن المأساة الإنسانية .
المشهد الأكثر إيلاما هنا أن الإنسان يتحول لطفل ، وليس أقسى على إنسان بعد رحلة حياة ونجاحات وتوهج ونضوج أن يهبط مؤشر نضوجه ، فيعود للذبول ويصبح كما شبهه ممدوح رزق مثل دمية .
**
” كأنه دمية رجل عجوز تحلق في ضباب كثيف وتداعبها أشلاء أجساد وأماكن ولحظات، تطفو من حولها وتتبدد على نحو فوري قبل أن تبوح بأسرار إنتمائها لها “.
” بالنسبة لإنسان آخر فإن التوج للنوم بين السابعة والتاسعة مساءً ربما يعني أنك في وضعية النبذ خارج الحفل الصاخب للعالم “.
” ليس هناك عالم أو حفل أو بشر في دماغ أبي لكنه يدرك نقصانه ، عجزه ، وحدته بالضبط مثلما يدرك الطفل كل هذا قبل أن يتعلم اللغة ، الفارق أن أبي تجرد من قدرة الطفل العفوية على البكاء ، وتحويل جروحه المبهمة إلى دموع ، كأن جسده يعرف بأن ما تبقى له من عمر لم يعد يستدعي ذلك “.
” كان النظر إلى وجه أبي الميت بمثابة تقديم تهنئة لمنتصر وضيع في حرب غير عادلة “.
استوقفني تشبيه منتصر وضيع ؟ لماذا استعمل الكاتب لفظ وضيع لتشبيه الموت !!
او لتشبيه فكرة انتصار الإنسان في صراعه مع الزهايمر .. كأنه في صراع غير عادل مع طرف شرير وخائن وهو الزهايمر
ربما إذا وضعنا التشبيه هنا لوصف المرض وما يفعله يصبح المعنى واضحا فعلا والكلمة معبرة …
هناك أيضا بعض الألفاظ المباشرة بشكل لا يخلو من القسوة..
مثل الخراء
وممارسة الجنس.. لماذا لم يقل ممارسة الحب ..
كان لي علاقة غرامية مع زميلة دراسة مثلا
هل قصد الإشارة بأنه كان يحيا حياة مجون. وطيش الشباب المعتاد
**
القاص هنا يصف أيضا الفارق بين الإنسان في سن الشيخوخة وبينه في مرحلة الشباب ، فالشباب لا يكف عن التساؤلات والرغبة في الاستكشاف ، الشباب من أهم سماته التمرد على القيود ، لذا هو هنا يلمح بأنه بعدما كبر يشعر بالذنب أنه لم يقدم لوالده الرعاية الكافية ، ويعترف أنه ترك العبء لأمه التي سبق أجلها الأب ، ربما لم تتحمل العبء وقررت روحها مغادرة الدنيا قبل رفيقها ، وربما أيضا هي حكمة الخالق ، هنا يترك باب التساؤلات مفتوحا على مصراعيه حول مشاعر الإبن ، لماذا وصف الراوي نفسه بالشاب الذي يمارس حياته بشكل طبيعي ، ولا يحرم نفسه من متع الحياة وربما من هذه النقطة نستنتج أنه بالفعل يريد توصيل رسالة أنه لم يشبع من أبيه قبل رحيله ، وربما أيضا يسكن بداخله الخوف من أن يحدث نفس السيناريو معه ! ووقتها أيضا لم يجد ابنه بجواره !
الجميل في النص أنه مكتوب بلغة عذبة ، وأسلوب سرد مشوق رغم تقليدية الفكرة ، لكن التساؤلات الكامنة فيه ، والمشاعر المتصارعة في عقل الراوي ، والصورة التي رسمها بتفاصيل يبدو بعضها بالغ القسوة ومؤلم لأقصى درجة ، إذ من منا لا يخاف من مواجهة نفس المصير .. ومن منا لم يعش نفس التجربة مع إنسان عزيز بالذات لو كانت امرأة ” بالنسبة لي الجدة للأم ” .
إن أكثر المشاهد إيلاما هو تحول إنسان إلى طفل ، لا حول له ولاقوة ، لا يملك من أمر نفسه شيئا ، لا يقدر على إطعام نفسه ولا القيام بالوظائف الطبيعية مثل الإخراج من تلقاء نفسه ، إن رؤية إنسان مصاب بالعجز ينتظر من يستند عليه ليدخله الحمام ، أو ليدخله إلى فراشه لهو أمر قاسي على النفس لأقصى درجة ، يجعلنا نتأمل عبثية الحياة ونقول أخرجنا منها ونحن بعافيتنا . فلا نثقل على أحد .
**
وتذكرت قصيدة الأبنودي :” يامنة”
اوعى تصدقها الدنيا
غش في غش
إذا جاك الموت يا وليدي موت على طول
اللي اتخطفوا فضلوا أحباب
واللي ماتوا حتة حتة ونشفوا وهم حيين
حتى السلامو عليكو مش بتعدي من بره الأعتاب
**
لكن الكاتب في النهاية يضعنا أمام نهاية عجيبة :” فهل من المعقول أن يفقد الإنسان رغباته في الحياة سريعا ، ويكف عن التمتع بها ، فيبدو لنا كما لو أنه يريد الثأر من نفسه لعدم وفائه بأبيه وتحمله إياه في مرضه قبل توديعه إلى مثواه الأخير ، أم ترى أراد أن يكيف نفسه على المرحلة القادمة وهي ما بعد النضوج وعلى النوم مبكرا لتقبل ما هو آت.