الأحد، 3 يوليو 2022

"سيّان" لأغوتا كريستوف: شعرية البلادة


 يمكن اعتبار قصص مجموعة "سيّان" للكاتبة الهنغارية "أغوتا كريستوف" والصادرة عن منشورات الجمل بترجمة محمد آيت حنا؛ يمكن اعتبارها احتفالًا سرديًا بالتطابق، بالطمس الأزلي للفروق والناجم عن البلادة تحديدًا .. عن الجمود كقدر حيث يتساوى أن يحدث أمر بطريقة أو بأخرى .. البلادة ليست مجرد إطار شامل أو نسيج عام يقبض على كل ما هو مختلف ومتناقض ولكنه ـ كما ترسمه قصص المجموعة ـ الجوهر الكوني المكرّس لتماثل الموجودات .. الأصل الذي يفرض تمنّعها ويحتّم المشابهة والتواطؤ فيما بينها على التخلي .. على الغدر بوصفه كينونة مترصدة لها .. هوية أدائية حاكمة لطبيعتها.

"اعذرني، السرير غير مرتّب. أنت بالطبع تتفهمني، لقد ذهلت قليلًا حين رأيت كل هذا الدم. أتساءل أنّى ستواتيني الشجاعة لتنظيف كل هذا. أعتقد أني سأذهب بالأحرى للعيش في مكان آخر. هي ذي الغرفة. تعال. إنه هنا، بجانب السرير، على البساط. ثمة ساطور مغروس في جمجمته. هل تريد فحصه؟ أجل، افحصه. إنه حقًا حادث بليد، أليس كذلك؟ سقط من سريره أثناء نومه، ووقع على هذا الساطور".

في قصة "الساطور" يتطابق قتل المرأة لزوجها مع موته في حادث .. انتهاء حياته أو بقائها .. ذلك ما يقرره وصفها للأمر حيث تعرض للطبيب ـ كما لو أنه مونولوج داخلي أكثر منه خطابًا لآخر ـ الإصابة القاتلة لزوجها بالساطور بما يتنافى مع المعطيات الواضحة والحاسمة للمشهد .. تحكي المرأة تفاصيل غير معقولة لما حدث كما لو أنها تسرد قصة صادقة حتى لو كانت قائمة على غياب المنطق .. ذلك لأنه لا فرق بين ما يبدو جليًا ومفهومًا في عيني الطبيب وبين ما ترويه المرأة .. بين أن تغرس المرأة ساطورًا في جمجمة زوجها، وبين أن يسقط الزوج من سريره أثناء نومه فوق الساطور .. بين أن يُقتل أو لا يُقتل .. أن يموت أو يواصل الحياة ..  لهذا تتحدث المرأة كأنما تعترف بقتل زوجها ولكن على النحو الذي يكشف عن هذا الـ "سيّان" .. بالطريقة التي تساوي بين وقوع القتل وعدم وقوعه رغم "النوم العميق والسعادة برؤية السحب عبر النافذة والإحساس بالتخفف من ثقل السنوات".. تتكلم المرأة في إطار إدراكها باستمرارية الواقع المألوف الذي عاشته لزمن طويل مع زوجها، كأن "الحادث" أو "القتل" ليس إلا جانب بديهي من هذا الواقع .. تخاطب المرأة الطبيب الذي حضر لمعاينة جثة زوجها مثلما تستقبل ضيفًا في زيارة عادية لمنزلها حيث تنسجم "الدماء" مع "السرير غير المرتب" في سياق منزلي تقليدي .. حيث "الدماء" ليست أكثر من مبرر محتمل للعيش في مكان آخر إذا لم تكن هناك قدرة كافية على تنظيف البيت منها .. القتل إذن وما ينجم عنه من تجارب شعورية "غير معهودة" هو محاولة لتعرية التطابق بين البدائل .. كأن هذه التعرية في حد ذاتها هي المقاومة الوحيدة للطمس الأزلي للفروق .. محاولة لانتزاع "اختلاف إعجازي" عبر تأكيد التماثل .. مجابهة البلادة بواسطة اللغة التي تتفحص الوحشة العدمية الغامضة في ما يدعي أنه تغيّر مفاجئ للعالم .. الاعتيادية الراسخة التي تحتجز الحياة حتى مع ما يقدم نفسه كانقلاب أو تحوّل بالغ العنف والجذرية .. ذلك ما يجعل المرأة تصف الأمر كما لو أنه لم يتم .. كما لو أن الأشياء التي تكوّنه غير موجودة في الأساس .. أن تفاصيل الواقع ليست إلا تجسيدات لغياب استباقي حيث أن ما وقع في تلك الليلة مع زوجها هو ما يحدث دائمًا، حتى أنه لا يحدث أصلًا.

"عليّ الذهاب بالقطار. لقد كتبت رسائل إلى أمي. وإلى زوجتي أيضًا. أخبرتهما أني سأصل في قطار الثامنة مساءً. زوجتي تنتظرني في المحطة صحبة الأطفال. أمي تنتظرني أيضًا. منذ أن مات أبي وهي تنتظرني كي أحضر مراسم الدفن. وعدتها أن أحضر الدفن. أنوي أيضًا رؤية زوجتي وأطفالي الذين ... تخليت عنهم. نعم، تخليت عنهم، كي أصير فنانًا عظيمًا. مارست الرسم والنحت. والآن أرغب في العودة".

يتشابه الأمر تمامًا في قصة "قطار إلى الشمال" .. لا فرق بين أن تمتلك كلبًا (إغواءً بتحرر فني من أسر العائلة مثلًا) أو لا .. أن يكون هذا الكلب حجرًا أو لا .. أن تكون أنت حجرًا أو من لحم ودم .. أن تنتظر قطارًا أو لا تنتظر .. أن يكون هناك قطار متجهًا إلى المكان الذي تريد السفر إليه أو لا يوجد .. أن تسافر أو لا تسافر .. أن ينتظرك أحد في المحطة أو لا ينتظرك .. أن تبقى أو تعود .. التمثال "الحجري" للرجل والكلب نٌحت من قبل أن تتوهم وجودك .. من قبل أن تتوهم وجود الكلب .. من قبل أن تتوهم الخيارات بين هذا وذاك .. البلادة تسبقك .. البلادة جهّزت وشكّلت انعدامك .. "سيّان" أن تعيش في صورة أو أخرى .. لأنك مجرد من الحضور .. لأن الكلب (سراب التباين) سيبقيك أسيرًا لنمطية كلية صلبة تتجاوز فرديتك .. الكلب دليل الطمس بين الاختلافات .. جامد في مكانه كأثر دامغ لهيمنة البلادة .. كأنه تمثال سيزيف والصخرة في مرآة "أغوتا كريستوف" .. أي أن الكلب لا يمكن قتله .. أي يمكنك فقط أن تتصوّر قتله .. الحياة تتظاهر بالتحقق داخل عالم مهجور في حقيقته .. تتظاهر بالتعدد، بالحركة في مسارات بين بداية ونهاية، لكنها ليست سوى خذلانًا هائلًا، مصمتًا، غير مؤطر، لا يبرح مكانًا ولا زمنًا لأنه بلا مكان أو زمن .. الكلب ربح اللعبة مسبقًا لمجرد أنه أجبرك على الاعتقاد في كونه انفلاتًا "فاتنًا وحميميًا" من الحياة .. لأنه جعلك تبصر قبرك كما لم تفعل من قبل.

"في ما مضى، كنت أبحث، أتنقّل طيلة الوقت. كنت أرقب شيئًا. ما هو؟ لست أدري لكني كنت أحسب أن الحياة لا يمكن أن تكون فقط هذا، كأنها لا شيء. لابد أن تكون الحياة شيئًا، وأنا كنت أترقب هذا الشيء، لابد بل إني كنت أبحث عنه. أحسب الآن أن ليس ثمة ما يمكن ترقبه، لذا أجلس في غرفتي، جالسًا على كرسيّ، لا أفعل شيئًا. أحسب أن في الخارج حياة، لكن لا شيء يحدث في هذه الحياة، لا شيء مما يخصني".

تمثّل قصة "أحسب" عرضًا كاشفًا لما ينتجه التشابه الحتمي بين الموجودات، والتواطؤ فيما بينها على التخلي أو ما تتناثر قصص المجموعة في عمائه .. نتتبع مونولوجًا داخليًا جديدًا حول تضاؤل الأمل، غياب المعنى، عدم القدرة على الفعل، عدم جدوى أي فعل، الانفصال عن الآخرين، عن الذات، عدم الاكتراث، عدم إدراك ما يتعيّن القيام به، الاعتياد على الرتابة، عدم الرغبة في أداء شيء، الامتلاء التام ببلادة العالم إلى الدرجة التي يصبح معها حجم القيء مضاعفًا لكمية الأكل العادية .. الرغبة في أن يتوقف الأحياء عن التحرك، حيث كل حركة بلا طائل، مجرد إهدار للجهد .. التحايل على الغدر بتصرف طفولي، منهك، بائس، يضمن تزايد الوعي بهذا الغدر .. الألم إذن يستهلك أجسادنا في محاولاتها العبثية، المخذولة سلفًا لانتزاع ذلك المفارق والاستثنائي الملغز والمخلّص .. كأن تقمص البلادة هو فقط الشكل الممكن لرثاء الذات .. المخاطبة التوسلية الصامتة التي ربما بوسعنا قراءتها بين سطور المجموعة لذلك المجهول (الناجي) الذي كان يمكن أن يكونه كل منا ... كأن تقمص البلادة أشبه برد اعتبار ساخر من ذلك المجهول.

نستطيع أن نبصر الساطور في القصة التي تحمل اسمه كأنه المصنع في قصة "موت عامل" والذي ينتج جثثًا مثلما يصنع الساعات حيث "السرطان" ليس نتيجة للعمل وإنما هو العمل نفسه .. السرطان الذي لا يتعلق بإغماض العينين أو بإبقائهما مفتوحتين .. المصنع يستخدم العمال في القتل مثلما يستعمل الساطور المرأة للغرض ذاته .. الساطور / المصنع هو الـ "سيّان" حيث لا يكون هناك فرق بين النوم والموت، بين الكلام والصمت، بين التذكر والنسيان .. الساطور / المصنع لا يترك ماضيًا قابلًا للاستعادة.

"ثم مات، ومثلما ظن، اضطر سنوات طويلة ـ إلى الأبد ـ إلى أن يعود ويسكن الأزقة التي لم يكن قد أحبها بعد، على ما يعتقد، بما يكفي. أما فيما يخص الأطفال، فقد كان همّه مجانًا، لأن عيونهم كانت تنظر إليه باعتباره شيخُا مثل غيره من الشيوخ، وبالنسبة لهم لم يكن ثمة فرق بين أن يكون ميتًا أو حيًا".

إن ذلك الحب الحسي العنيد الراسخ للأزقة، "الذي يكاد يكون فاحشًا" في قصة "الأزقة" لا يتعلق بالأزقة نفسها وإنما بالشبق الوحشي لدى الشغوف بها لامتلاك باطنها .. للقبض على سرها الغيبي الذي تسكنه فرادتها .. تمايزها القادر ـ حين يبلغ ذلك الاستحواذ ـ على تحريره من ورطة الطمس .. من مأزق التشابه .. كان يستنطق بموسيقاه في القصة أسطورية هذه الأزقة لتصبح ممرات حقيقية "خارقة" نحو ما يتجاوز الحياة والموت .. ما يتخطى فعليًا لعنة غياب الفرق بين أن يكون ميتًا أو حيًا.

إن الطمس الأكثر أساسية لدى "أغوتا كريستوف" في هذه المجموعة يتعلق باللغة .. كأن قصصها تأكيدات على أنه لا فرق بين أن تتحدث عن شيء بصيغة أو بأخرى .. لكن ذلك التيقن يبدو عند "كريستوف" بوصفه الكيفية المتاحة لأخذ مسافة "حلمية" من التطابق .. لتحريض الأشياء على تعيين الفروق فيما بينها .. الفروق العصية والمخبوءة في غيب الجمود أي الخام الذي تستعمله اللغة .. الفروق المنقذة .. تلك المسايرة هي موضوع الاحتفال .. تحويل البلادة من حتمية قدرية إلى لعبة جمالية .. مطاردة السرد للتماثل من خلال التوحد اللغوي بالتماثل نفسه .. مناوشة الفكرة عبر التناغم والتجانس مع القرائن الحسية التي تثبتها .. ومع ذلك فالارتكابات السردية لا ترتكز على "الحكي" بقدر ما تراهن على الشعرية المستقرة في خفائها .. تكوّن الأحداث المكثفة واللغة المقتضبة نوعًا من العاطفة الشبحية الناقمة لصوت منعزل، مدفون في "اللاحضور"، في الصلابة المعتمة والفارغة للتيه .. تستخدم "أغوتا كريستوف" السرد كإشارات لتمرير ذلك الصوت الوحيد وليس كاستناد عفوي على الوقائع ومدلولاتها .. كأن الإشارات هي تفكيك لمفهوم "الحدث" بما يوطد الاشتباك مع "البلادة" التي تدعي وقوعه وتمنعه في الوقت ذاته .. شعرية البلادة في قصص "سيّان" انتهاك للمشابهة عن طريق إعادة خلق "التخلي".. تمثيل "الغدر" كأنه الجسد الفعلي الذي لا يراوغ كينونته القهرية، وإنما يقتحمها .. يجتاح الهوية الكونية التي تعيش داخله كروح سرية، وتوظّف أداءاته المكرهة كسلوك "طبيعي" .. يفضح ـ بالحدة الواجبة ـ الفناء المحصن، الممهد للموت.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 2 يوليو 2022