تعرضت خلال السنوات الماضية لغارات محو جزئي وكلي مفاجئة اجتاحت هواتفي المحمولة وأفقدتني الكثير من الملفات الهامة .. شخصيًا لم أعرف أحدًا إلا وتعرضت مقتنياته لهذا النوع من الإبادة وأحيانًا بشكل أكثر فداحة مما واجهته .. الحقيقة أن هذا العدوان الذي يتسبب في خسارتك لمحتويات ثمينة سواء على الهاتف المحمول أو اللابتوب مثلًا لا يفترض منطقيًا اعتباره “غير متوقع”؛ حيث أن هذه الذاكرة التي تعتمد عليها لحفظ أشيائك ليست إلا هدفًا مهدَدًا طوال الوقت.
الجدير بالانتباه أن إمكانية الحماية من تلك الخسائر المذلة متاحة بسهولة عن طريق الاحتفاظ بنسخ من المحتوى الذي تخشى فقدانه في خزائن إلكترونية أخرى .. لماذا لا يفعل الجميع ذلك؟ .. لماذا لا أفعل أنا ذلك؟ .. أعرف أشخاصًا حريصين على توفير هذه الحماية لملفاتهم ولكنهم بالتأكيد ليسوا أغلب من أعرفهم .. أنا أيضًا أقوم بهذا الإجراء الاستباقي ولكن ليس طوال الوقت .. لو أنني أردت تحديد أسبابًا مباشرة لذلك سأقول فورًا: انشغال .. كسل .. تباعد المواعيد المخصصة لأداء هذا التحصين نتيجة المقتضيات الاستحواذية للحياة والعمل .. لكن هل هذه مبررات حقيقية بالفعل أو على الأقل كل المبررات؟
ما أفكر فيه الآن لا يتعلق بي فحسب وإنما أيضًا بأولئك القادرين على حماية مقتنياتهم ومع ذلك يهملون الحفاظ عليها بالرغم من كل مشاعر الحب والتقدير والتعلّق التي يحيطونها بها .. أفكر في أنني ربما أريد ـ دون وعي بذلك ـ أن أفقد هذه الأشياء الثمينة بالنسبة لي .. تكرار الخسارة يصلح كتأكيد وبرهان على هذه الرغبة اللاشعورية في الفقد .. ما هو السبب الذي قد يجعلني أريد ذلك؟
تشكّل مفهوم “غريزة الموت” في التحليل النفسي عند فرويد من خلال “تكرار الصدمة”، “تكرار الفقد” و”التكرار كخبرة معاصرة”، وهو ما يعني حافزًا أكثر بدائية للتدمير .. إن الأمر يبدو إذن وكأنني أتعمّد دون إدراك بذلك أن أترك ملفاتي التي لا شك في أهميتها بالنسبة لي على حافة الفقدان انتظارًا للحظة سقوطها في ظلامه .. كأنني أدبر في خفاء وعيي استعادة للتجارب بالغة الألم التي مررت بها في حياتي والمرتبطة بالفقد المفاجئ .. استعادتها كأحداث حالية عبر وقائع أقل قسوة .. يبدو الأمر انتقامًا مما تمثله هذه المقتنيات .. من الوعود “الإيروسية” للحياة الكامنة فيها والتي لم تتوقف عن خيانتها عبر أجساد وأشياء الماضي .. كأنني أريد بقصدٍ غير مكشوف أن أبقي الآمال التحسينية والاستدراكية للعالم خاضعة لسخريتي.
أستعيد الآن مقطعين من كتابي “الغفلة والإدراك ـ مدخل تفكيكي لفلسفة شوبنهاور”:
(كأن شكسبير يكشف عن أن اللغة هي سر الحصانة المتمنّعة، ولهذا لن يكون تأمل الإرادة انتزاعًا للحماية بل أشبه باحتفاء جدلي متغيّر بالخسران .. أشبه بالرقص الممتن مع الإخفاق المتراكم والمتنقل، المحسوم أزليًا، أي من قبل أدنى جاهزية للاعتقاد الفردي بأنه من الوارد حيازة شيء ما داخل اللغة .. نحن لم نفقد لأننا لم نمتلك من الأصل .. لن يكون تأمل الإرادة إيقافًا لزمن أو قبضًا على معرفة سواء كانت “صورًا خالدة” أو “حقائق كلية”).
(إنه الإدراك الذي لا يتحصن الكاتب نفسه بحماية ثابتة من الاستجابة للذته، بناءً على دوافع ستظل مؤقتة في مواجهة الزمن، ودون تعطيل لخيبة الأمل. هنا تكمن الاحتفالات المتنقلة بما هو متمنع، معجِز، بما هو ليس بمعرفة حتمًا وإنما بالأداءات المتغيرة للجدل، بالتفاوض المحسوم سلفًا مع الخذلان. بتراكم الامتنان لتلك المقدرة على تأمل الفقد مع كل استعداد لتصور أن بوسعك امتلاك شيء ما).
إذن الرغبة اللاواعية في فقد الأشياء الثمينة هي نوع من التأمل السري للخسارة التي تتجاوز ما يمكن محوه بشكل مباغت .. تقويض اللغة التي تحتّم عليّ الإيمان بأن محتويات هاتفي المحمول أو اللابتوب على سبيل المثال مقتنيات بالغة الأهمية .. كأنني أتسلل في ظلام نفسي نحو المتعة الناجمة عن تجريد الحياة من وهم الامتلاك .. عن تفكيك اليقين المسموم الماكر بأنه لدي ما ينتمي لي أو يخصني حقًا فضلًا عن كونه أكثر قيمة من غيره.
في مقابل الحفاظ المحكم على مسودات وأوراق عملي؛ فقدت في أوقات متفرقة الكثير من الصور والفيديوهات والتسجيلات الصوتية وصفحات الإنترنت التي كانت تمثل ذخيرة ثرية لمشاريع لاحقة، ولن تكون إعادة تجميعها اعتمادًا على الذاكرة الشخصية ـ وهو ما يعقب كل إبادة شاملة ـ استردادًا فعليًا لمحتوياتها .. مسودات وأوراق عملي لا ينبغي أن يطالها المحو، فقط لأنها توثق بصور متعددة بصمتي التهكمية تجاه ما “أمتلكه” .. لكن هل يُعقل ألا يكون فقدان هذه المسودات والأوراق أيضًا خسارة حقيقية بالنسبة لي؟ .. أستعيد مجددًا جزءًا من دراستي “هيرمينوطيقا الكسل”:
(“هل تجروء على الكسل!” .. حسناً (رولان بارت) سأحاول الآن أن أرسم لوحة للسلطة التي يقاومها كسلي: إنها تلك التي تترسخ في الجانب المضاد لمغامرة الفكرة في عدم إنجازها .. اختبار توترها العقلي والنفسي نتيجة عدم تجسدها حتى هذه اللحظة .. سأتمادى وأقول المقامرة على نسيانها أحياناً أو على سقوط ملامح هامة تنتمي إليها في الجحيم المظلم للذاكرة .. سأتمادى أكثر وأقول الرهان على ضياعها أي على عدم استردادها، وبالتالي على الفوز بشغف آخر من الرؤى والتكتيكات البديلة النابعة من حضورها المختفي .. من القلق الناجم عن محوها الظاهري وزوالها الخادع .. السلطة التي تتجذر في حصار مناقض لما يمكن أن يعنيه تطابق التجليات المراوغة لموضوع الكتابة الذي لم يُنفّذ بعد .. تمظهر جميع الموضوعات داخل بعضها، وغياب الاختلافات فيما بينها .. أعرف أنني تماديت كثيراً ولكنني أتغذى على الانتهاك والتخريب .. إنني أريد نزع القيمة عن أي فروقات يمكن تقديسها بين ما اعتبره صيغاً متناسخة للهذيان .. أشكالاً فصامية تتبرأ من تماثلها عبر التفافات معقدة .. أريد الوصول إلى التساوي بين التفاصيل التي لا تتفوق أي منها على الأخرى .. إلى إفساد ميزان الجودة وإتلاف مقياس التميز بين ما يُغفل عنه وما يُنتبه إليه .. أريد الوصول إلى انعدام الأفضيلة التي يمكن أن تطارد أي جدوى: سواء كنت تكتب كأنك جالس فوق قنبلة لديك زمن محدد يمضي سريعاً لإيقاف مفعولها عند الوصول إلى كلمة النهاية، أو تكتب كأنما اتضح بالدليل القاطع أن الموت كذبة لن يمكنها أن تخدعنا بعد ذلك .. أن يحدث شيء الآن بطريقة معينة نتيجة صدف خاصة ومزاج ما، أو يحدث لاحقاً بنفس الكيفية أو بطريقة أخرى نتيجة صدف مغايرة ومزاج مختلف).
ما ينطبق على “موضوع الكتابة الضائع” في هذا الجزء من الدراسة ينطبق بالضرورة كذلك على “المقتنيات الثمينة”: الصور والفيديوهات والتسجيلات الصوتية وصفحات الإنترنت المفقودة .. لا يتعلق الأمر بإمكانية استرجاعها ولو جزئيًا، وإنما بأن هذه الأشياء هي بدائلها نفسها مهما كانت .. هي غيابها ذاته.
أعود الآن إلى قراءتي لرواية “أخيلة الظل” لمنصورة عز الدين:
“هذا التوالد القهري تتكفل الكتابة بحمايته من الثبات، وتحافظ على بقائه منذورًا للمحو. يمكننا التفكير في هذا المحو باعتباره قابلية التبدد طوال الوقت بأشكال متغيرة ولانهائية. الكتابة إذن بوسعها أن تمنح تعريفًا للضياع بأنه القدرة الدائمة على أن يظل الاحتمال مراقبًا لكينونته، أن يتتبع تناثرها واختفاءها وإعادة تجسدها بشكل متواصل. يبدو الأمر أشبه بفقدان محسوب للذاكرة، ذلك لأن كل تعمية يتم تعويضها أو استداركها في تمثّل آخر مختلف، وهو ما يجعلها بالضرورة لعبة حضور وغياب، أو طريقة مثالية لتشريح كل ماض. هي الحالة التي يمكن اعتبارها درجة القرب القصوى من هذه السطور التي كتبها (آدم) في قصته (ناسك في غابة):
(فضّل أن يكتب نصوصه في الهواء، أو يخطها على الرمال بيد مرتعشة، ويسارع إلى محوها في الحال. على طريقته الخاصة وبطقوس غير مفهومة لسواه، أخذ يمجد الفناء ويتعبّد في محراب العدم. لطالما كان وسوف يظل ابنًا مخلصًا للعابر والمتطاير)”.
يزداد ألم الفقدان كلما ارتفعت مكانة الأشياء التي خسرناها في حياتنا، أي كلما دفعتنا للمراهنة عليها أكثر مما تفعل أشياء أخرى، ومن ثمّ فإنها ربما تحرّضنا لا شعوريًا على التخلص منها بصورة تنفي عنا الإصرار والترصد، أو على الأقل مراوغة حضورها بوصفها “احتمالات” عاجزة، دائمة التأرجح، بما يعني الاحتفاظ بها على نحو يتخطى وجودها المتعيّن .. ذلك الألم هو محاولة لإرضائنا .. تعزية لنا .. ثأر من رغبتنا اللاواعية في التخلي برد الاعتبار نفسيًا لأشياء نعرف أنها ليست بالقيمة “المنقذة” التي أردناها لها .. ذلك الألم هو رثاء لذواتنا التي لم تمتلك في لحظة تكوّنها ما كان يجدر به أن يغنينا عن كل ما فقدناه.
أراجيك ـ 21 يوليو 2022