بحسب “لاكان” فأنا (مهني أزاول وظيفة رمزية)، وهذا يحتم عليّ أحياناً محاولة كسر التماهي بيني وبينه، وتحويل خيالاته إلى رموز من الكلمات .. لكن بما أن تلك الإجراءات، أو الممارسات لا تنبع من يقين حاسم، بل تنتمي إلى رغبة في تحرير التفسيرات والتأويلات التي تتعطل في جدالاتها، وإلهاماتها التعريفات والمفاهيم الدقيقة المنضبطة؛ فإن الأمر يتطلّب مني إذن السعي إلى محو صورتي من خياله وأنا أمتطي الخيول البيضاء والبنية في القرون الوسطى داخل ضباب شتائي .. عليه أن يظل وحده فوق تلك الخيول، وأن يقاوم الخوف من السقوط، وأن يصبر قليلاً على الضباب .. اللذة الكامنة في تشريح الحصار المحكم للشهوات المتناقضة وراء عينيه المغلقتين .. هناك يكمن الزهو السحري، المتقطّع، الذي لا يجب أن يخسره حتى لو فقدته ذاكرته أحياناً، لأنه لن يعثر أبداً على ما يعوّض ذلك الألم الاستثنائي.
في إطار تحليلنا للكراهية؛ قلت له إنني لا أعرف عن الكراهية أكثر من شمولها، استهدافها للوجود المنفصل عن حياة إنسانية مثالية توجد في مكان مجهول .. أكره الجميع فعلاً، بمعنى أصح أكره بشاعة حضورهم المتعيّن الذي لا يزال يرسّخ إيماني بأنه لا أحد يصلح لي مثلما لا أصلح لأحد .. وجودهم الذي يعيش معي كبديل للمخلوقات الصحيحة التي لم تأت إلى العالم بمن فيهم أنا قطعاً .. أُحب كتّابًا، وممثلين، ومطربين، وموسيقيين، وأبطالًا كارتونيين، وشخصيات تاريخية وخيالية .. ليس لأنني أُحب أعمالهم وحكاياتهم، وإنما بدرجة أكبر لأنني عشت معهم دون أن يعرفونني .. كان هناك بشر يؤكدون على تلك الفكرة بوضوح تام في الأقمشة التي كانت تُطبع من اللوحات الخشبية المحفورة في العصور الوسطى.
مثلما أصبح مدمناً على مفاجئتي؛ يتحدث بلا مقدمات عن فيلم (On est corps vivant)، وعن الأجساد الحية التي تحل في الأجساد الساكنة، المرسومة داخل اللوحات .. يخبرني أنه لا يمتطي حصان القرون الوسطى، وإنما يخلع ملابسه كلها، ويتخذ نفس وضعيته، متماهياً معه وهو معلّق على الحائط داخل اللوحة .. يقول أنه يعدو ببطء داخل الضباب الشتائي عاجزاً عن تذكر طعم السُكَر، ومنتظراً سهماً، أو رصاصة من أي اتجاه.
يُخرج ورقة من جيبه مدوّن بها كلمات من قصيدة (أنا متعبة للغاية من جسدي) لـ (كريستين هامان): (الموسيقى الشائعة، سهرات الشرب / لحظات رومانتيكية / يمكن أن يُستخدَم ساعات / متظاهراً بأنه يتناسل).
لم أجد حرجاً في الاعتراف له بأن فهمي بطيء في أغلب الأحوال، وأنني عادةً أصل إلى الحلول متأخراً .. يمكنك أن تضع التربية المغلقة كتفسير، ولن تكون مخطئاً تماماً .. التي تتحكم في طبيعتك طوال الحياة، مهما زادت سنوات العمر، ومهما حدث لك خلالها، وبشكل لا يمكن تصديقه .. التي شيّدت سوراً متيناً حول طفولتي، منعني من الخروج إلى عالم الغرباء، وأجبرني على الاختباء في الخيال تعويضاً عن واقع لم أتمكن من الاتصال به، فصار عدواً فاجراً، لا يقبل بالغنائم البسيطة حينما خرجت إليه وأنا أبيض، دون أدنى خبرة في مجاراة أبطاله المجرّبين، أو في التوافق مع آلياته المعقدة .. سيكون أهم تلك الغنائم هو القهر الذي يتركه دائماً في نفسك إدعاؤك المستمر، المضحك، والبائس بأنك واحد من هؤلاء الأبطال .. فهمي البطيء ـ مثلما يبدو لي ـ ليس راجعاً إلى خلل عقلي، أو عُقد نفسية، كما أنه ليس نتيجة سذاجة أصيلة في تكويني، أو طيبة مكتسبة من إرث متعدد، وإنما أيضاً لأنني صرت كفيفاً منذ اللحظة التي أيقنت فيها بأنه لا يوجد فهم ولا حل ناجح .. تحت السماء ليس هناك فرق بين عماءٍ وعماءٍ آخر، وليس هناك من يصل أبداً في الوقت المناسب.
من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ـ دار الحضارة 2014