السبت، 16 سبتمبر 2023

كيف كتبت قصة “الهواء الطيب”

ذات ظهيرة شتوية؛ وقفت ـ كالعادة ـ داخل الشرفة للاستمتاع بالمطر والغيوم والهواء البارد .. كان الشارع خاليًا حينما انتبهت إلى كرة كبيرة، خفيفة، ذات ألوان متعددة يدفعها الهواء فوق الأرض المبتلة بماء المطر .. لم يكن هناك أي أطفال في الشارع فخمّنت أنها سقطت من شرفة أحدهم .. تنقلت عينيّ بين الشرفات فلم أجد أحدًا .. في هذه اللحظة رأيت رجلًا في منتصف العمر يعبر الشارع، وكانت خطواته تتحرّك باتجاه الكرة .. تساءلت: هل ستلفت الكرة نظر الرجل بألوانها الزاهية ووحدتها في شارع فارغ تحت المطر؟ .. هل سيتوقف عندها؟ .. هل سيبحث ولو بعينيه عن من فقدها؟ .. وجدت الرجل يمر بجوار الكرة التي مازال الهواء يبادلها بين التطوّح والسكون، لكنه اكتفى بالتطلع إليها بشكل عابر وهو يواصل سيره ليبتعد عنها ويختفى .. حينئذ تخيلت مشهدًا بديلًا لما حدث في الواقع: توقف هذا الرجل أمام الكرة ثم التقطها وأخرج منديلًا ليجففها من الماء والطين ثم وضعها داخل حقيبة بلاستيكية ـ أعطاها خيالي له حتى يستطيع حملها في أمان ـ قبل أن يعود بها إلى بيته .. لماذا يفعل ذلك؟ .. ببساطة، لأن لديه طفلًا.

لكن ماذا عن الطفل الذي ضاعت منه الكرة؟ .. كان ذلك هو الاستفهام الذي شغل ذهني بعدما غيّب الهواء الكرة عن بصري في نهاية الشارع .. فكرت في أنه ربما كان يلعب بها في شرفته بلذة الانسجام مع المطر، وأنه كان يقذفها عاليًا ويعود لالتقاطها، لكن الهواء القوي أطاح بها إلى الشارع حيث يصعب أو يستحيل على الطفل أن يخرج من بيته في هذا الوقت لاستردادها.

هكذا بدأت تلك الفكرة الأساسية في تكوين بداية القصة داخل وعيي: ذهبت الكرة من طفل إلى طفل آخر لا يعرفه بواسطة هواء الشتاء .. الفكرة التي ستخلق سؤالًا تحدد إجابته موضوع القصة وبالضرورة نهايتها: كيف يمكن للكرة أن تشيّد جسرًا بين الطفلين؟

بما أن لدي طفلة؛ سأجعل الفكرة “ذهبت الكرة من طفلة إلى طفلة أخرى لا تعرفها بواسطة هواء الشتاء” .. والآن، لابد أن تحمل الكرة بصمة تميزها عن الكرات المماثلة .. هوية دامغة تخص صاحبتها التي فقدتها .. لماذا؟ .. لأن الكرة الملوّنة هنا أصبحت رسالة بعثت بها غريبة إلى غريبة أخرى دون قصد، وحتى يتم التواصل بينهما ينبغي أن يكون هناك دليل على أن الرسالة تنتمي إلى هذه الطفلة تحديدًا وليس إلى أحد آخر .. فكرت في أن هذه البصمة يجب أن تكون شخصية أكثر منها رمزية، ليس فقط حتى تتناسب مع كونها لطفلة، ولكن من أجل أن يكون تواصلها مع الطفلة الأخرى أكثر سهولة وقوة .. حسنًا، ليست هناك هوية شخصية تفوق الوجه .. سأجعل الطفلة إذن ترسم ملامحها المبتسمة على الكرة قبل أن تضيع منها.

ماذا عن الطفلة التي حمل أبوها الكرة إليها؟ .. فكرت في أن الكرة الملوّنة بعدما لم تعد مجرد كرة، وأصبحت وجه طفلة أخرى؛ فإن هذه الكرة أصبحت صديقة للطفلة، وبما أن الصداقة لا يتجلى معناها وأثرها أكثر من الأوقات السيئة فإن هذه الطفلة تحتاج إلى مشكلة .. أزمة تتعلق بالفقد أيضًا ولكن بصورة أعنف يكون الاحتياج خلالها إلى الصداقة بالغ الإلحاح .. لتكن مأساة إذن تتطلب بشدة الحصول على عزاء غير تقليدي .. سأجعل الطفلة تفقد أباها الذي أتى لها بالكرة .. كأنه أحضر مواساة صامتة لها قبل رحيله الوشيك .. ليس هذا فحسب .. فكرت أيضًا في أنه ينبغي لهذا النوع من التواصل بين الطفلة التي حُرمت من أبيها وصديقتها التي لا تدري عنها سوى ملامحها المبتسمة المرسومة على الكرة الملوّنة؛ ينبغي أن يكون لهذا التواصل خصوصية ما .. ينبغي أن يكون بينهما ما يُعادل السر الذي يحتفظ به الأصدقاء فيما بينهم ولا يعلم به أي شخص آخر حتى ـ أو خصوصًا ـ من أُسرهم .. كيف يمكن فعل ذلك؟ .. ما الذي يمكن أن تخبر به طفلة فقدت أباها لوجه طفلة أخرى مرسومًا على كرة ولا تقوله لأمها مثلًا؟ .. لماذا لا أترك هذا البوح مبهمًا دون تحديد وأكتفي بالإشارة إليه فحسب ليكون سرًا حقيقيًا لا يعلمه القارئ؟ .. سأجعل الطفلة التي فقدت أباها مريضة، عاجزة عن الكلام، تحكي بلا صوت عن أبيها الغائب لوجه الطفلة المرسوم على الكرة .. الكلمات التي لا يمكن لأحد سوى تخيلها وصياغتها بنفسه باعتبارها تُشكّل حكايته الخاصة .. ذلك ما لا ينتج سرًا مُحكمًا فقط، ولكنه يتسق ويضاعف أيضًا مأساة الطفلة واحتياجها إلى ملامح الطفلة الأخرى .. إلى التحدث مع صديقة تشاركها نفس اللغة “الصمت”.

كيف ستعرف الطفلة التي كانت تلعب في الشرفة أن وجهها المرسوم على كرتها الضائعة أصبح صديقًا لطفلة أخرى على هذا النحو؟ .. يجب أن يحدث لقاء بينهما إذن .. ما الذي يمكن أن يجمع بين طفلتين غريبتين عن بعضهما؟ .. فكرت في استثمار فكرة “التشارك” ولكن بشكل آخر، جماعي، يتيح لهذا اللقاء أن يحدث من خلاله، وفي نفس الوقت يشير إلى الجوهر الأشمل لهذه الفكرة .. الجوهر الذي يتجاوز المنح المباشر إلى التضامن في الألم، غير المقيّد بالحدود الشخصية أو بحواجز المكان والزمن .. كأن هذه التجربة تمثل انتباهًا عمليًا للطفلة صاحبة الكرة بأن بوسعها أن تفعل شيئًا يلوذ به شخص آخر في مكان بعيد عنها، وفي زمن غير متعيّن، ودون أن يكون لها أي معرفة به .. هكذا نشأت فكرة الزيارة التي تقوم بها معلمة المدرسة بصحبة مجموعة من التلاميذ إلى بيوت يحتاج ساكنوها، خصوصًا من الأطفال، إلى هذا التشارك، وحينئذ سيمكن لهذه الطفلة الشغوفة بالعطاء أن تعثر على الطفلة الأخرى التي حُرمت من أبيها داخل أحد هذه البيوت .. سيمكن لها أن تدرك بأن وجهها المرسوم على كرتها الملوّنة كان صديقًا لهذه الطفلة .. أن ملامحها كانت رفيقة الطفلة التي لا تستطيع الكلام في ليالي الفقد .. سيمكن لهذه الطفلة أن تدرك بأن الهواء الذي أطاح بكرتها من الشرفة لم يكن شريرًا، لأنه لم يكن هواءً شتويًا وحسب وإنما كان خيالها الذي يريد أن يصل كروح طيبة إلى كل من يحتاج إلى مساندته.

بالعودة إلى البداية، أي إلى الحدث الواقعي الذي نتج عنه كتابة قصتي “الهواء الطيب” يجدر القول بأن الشتاء نفسه بالنسبة لي وتحديدًا عند سقوط المطر هو عزاء الطفولة .. الكرة الملوّنة في الشارع الخالي كانت في هذه اللحظة تمثيلًا لكل ما ضاع مني أثناء اللعب فأدركت بأنني لم أكن أمتلكه .. كل ما كافح خيالي لتحويله من فقدان إلى مواساة من نفسي إلى نفسي، ومن نفسي إلى آخر لا أعرفه .. لهذا، حينما تخيلت الرجل العابر يلتقط الكرة ويعود بها إلى طفلته؛ فإنني كنت أخلق المشهد الذي تمنيت أن يحدث، المناقض لما حدث بالفعل .. كنت ألخص حياتي، التي لا تسترد ما يضيع، وإنما تبحث عنه في ذات أخرى، طفل آخر يُحتمل أن يستعيدني من غياب أزلي.

نبوءتي الكامنة في نهايتك

الأطفال يحاولون تجربة كل شيء كلعبة، وأنا كنت أحاول تجربة كل شيء كاسترضاء .. خطر في ذهني أن أسير وراءك داخل البيت .. في أي مكان تتحرك إليه .. هل كان الوعي بالسوء الذي تجثم به على حياتنا منعدمًا أم ضبابيًا أم ساطعًا؟ .. هل فعلت ذلك عن غفلة أم حيرة أم خوف؟ .. ربما حدث ذلك في إحدى الفترات القصيرة النادرة التي كانت الأمور تبدو خلالها ظاهريًا على ما يرام، أو على الأقل في حالة تعطيل مؤقت للشرور الروتينية: تتحدث مع الجميع بشكل عادي نسبيًا – عدا شقيقتك الكبرى – لا تصيح ولا تشتم ولا تفتح المطواة ولا تصفع الأبواب ولا تحطم الأشياء .. تشاركنا كعائلة لحظات من الحميمية التقليدية كالفرجة على فيلم السهرة أو الخروج للتنزه أو الاحتفال بمناسبة ما .. كان هذا نادرًا جدًا، وربما تركزت أغلب تلك اللحظات في مرحلة مبكرة من طفولتي .. المرحلة التي ربما ينسجم معها قراري أن أمشي وراءك طول الوقت .. لم أفكر أن أفعل ذلك مع شخص آخر داخل البيت أي مع مخاطرة أقل .. قررت أن أفعل ذلك معك أنت .. ظللت أتبعك من الصالون إلى الصالة إلى المطبخ ثم إلى الصالة ثانية، وعندما وصلت إلى عتبة حجرتك جاءت استجابتك حاسمة .. التفت نحوي ونظرت بملامحك المتجهمة لأسفل حيث عيني اللتين تترقبان رد فعلك ،وبنبرة حادة وتحذيرية، عالية قليلًا سألتني: “انت لازق في طيظي ليه؟” …

تجربة لم تستمر إلا لثوان معدودة، انتهت بصدمة لم أضحك عليها إلا بعد مرور زمن طويل .. حينما بدأت أنا الآخر في استخدام كلمة “طيظ” في عبارات تمزج بين السخرية والغضب .. كنت شخصًا يسهل عليه بالطبع استعمال تلك المفردات وهو يخاطب طفلًا صغيرًا، أما أنا فلم أتوقف عند الاستفهام التوبيخي نفسه بقدر مواجهتي لما يشبه يقظة غريبة .. إفاقة مباغتة من شرود غير منطقي على حقيقة أنه ما كان يجب حقًا أن أتبعك .. كأنني انتبهت بشكل مفاجئ، وكنبوءة مراوغة، على ما سيصير إليه زمنك القصير اللاحق لتلك اللحظة.. كأن مصيرك قد تكشّف بطريقة غامضة أمام بصيرتي الطفولية، وكان يجب حينئذ أن أوقن بحتمية الابتعاد عن طريقك تفاديًا لتلك النهاية المأساوية التي تخاتلت في عينيك وأنت تنهرني عن الالتصاق بطيظك .. كأنما كنت تربد أن تنقذني بطريقتك المعهودة.

توقفت عن المشي وراءك طوال ما تبقى من حياتك، ولسنوات كثيرة جدًا بعد موتك .. حاولت التحرك في مسارات بعيدة عن تلك التي تركت خطواتك أثرًا دامغًا للهلاك في عتمتها .. كنت أتصور ذلك .. لكن الحقيقة أنني منذ ذلك اليوم البعيد في طفولتي ظللت أدور في مدارات فنائك .. أتوهم الابتعاد عن قبرك، ولكن كانت هذه المدارات تقربني إليه أكثر .. ببطء تام وعماء خالص .. لم أتوقف عن محاولة استرضاء جحيمك دون أن أشعر .. الاسترضاء الذي سيصبح لعبة طفولية لاختبار الموت بعدما أدركت في الأربعين من عمري أن قدمي الصغيرتين كانتا في باطن خطواتك .. أنني كنت أعيش هلاكك نفسه بمظهر مختلف ولمسافة مغايرة من الوقت .. بعدما أدركت أنني كنت أتبع نبوءتي الكامنة في نهايتك.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

السبت، 9 سبتمبر 2023

محاضرة في المطر: مسودات الغضب

في روايته “محاضرة في المطر” الصادرة عن منشورات تكوين بترجمة مارك جمال يقدم الكاتب المكسيكي خوان بيورو خلخلة لـ “مفهوم المحاضرة”، سواء على مستوى فضائها المكاني أو ذات “المُحاضِر” أو بنية المحاضرة نفسها. تعمل هذه الخلخلة على إزاحة الأصل المفترض للمحاضرة ـ أيًا يكن التصوّر الذي يحدده ـ وكذلك الغاية التي يجدر أن تنتهي إليها، أو ما يمكن أن يكون مقصدًا مصيريًا وحاسمًا لها.

“يقرأ للحظات، ويبتعد عن الصفحات للحظات، فلا يبدو عليه أنه يجهل فحواها وحسب، بل يبدو وكأنه يعيبها أيضًا. وعلى المكتب، تتجلى في بعض التفاصيل مظاهر الاستخدام الشخصي غير المعهودة في مُحاضِر يلقي محاضرته على الملأ. ربما كانت هناك كرة تنس يتلهَّى بها المُحاضِر، أضف إلى ذلك فأرًا يعمل بالزنبرك، وبضع قطع من الكعك. أما حضور تلك العناصر المنزلية، الذي يبعث على الحيرة في البدء، فيعزز المغزى النهائي الذي تنطوي عليه الحجرة، ما يسري بالمثل على ثياب المُحاضِر، الثياب التي لا تليق بلقاء عام على نحوٍ ما”.

تنزع هذه الخلخلة بالضرورة اليقين عن “المخاطب إليه”، أي من تتوجه إليه المحاضرة؛ فيصبح احتمالًا متعددًا ومتغيرًا داخل الذات “المتصدعة” للمُحاضِر من قبل أن يكون “آخر” مجسدًا في مواجهته. بذلك تتحوّل “المحاضرة في المطر” إلى “المطر الذي يحاول أن يتكلم / يكتب” نفسه بعد “استرداد” المحاضرة لطبيعة المطر نتيجة هذه الخلخلة. تصبح المحاضرة في حالة محو مستمرة لصالح “المطر”.

“(المُحاضِر): لقد أضعتُ الأوراق! (يقلِّب الصفحات). أجل، لقد أضعت المحاضرة. أطلب المعذرة. إن فقد المرء أوراقه، فقد وقاره. لا أدري ما الذي يجري لي. إن حياتي كلها تدور حول النظام، فأنا أشتغل في ترتيب مكتبة، وعلى الرغم من ذلك، تنسل الأشياء من بين يديّ”.

إن عدم ملاءمة التفاصيل المكانية لطقس “المحاضرة”، كما يتطلب المشهد التقليدي لإلقائها، لا يعني فقط الإمكانية غير المحدودة لاستبدال المكان، وإنما الإيحاء أيضًا بأن “المحاضرة” في صورتها “التخريبية” تحديدًا هي التي تخلق مكانها. تكتشف باستمرار الأنقاض الجمالية للمكان مثلما تكتشف الأشلاء المعرفية للمُحاضِر ذاته وراء المظهر النمطي للمحاضرة. “ضياع المحاضرة” إذن أو “تضييعها” هو إغواء دائم لتخطي “الشكل المستقر” نحو الحضور المرتجل أو “الوهم الطائش للحضور” الكامن في أغوار ما هو “طبيعي” و”لائق” و”متزن”، والذي تتوحد وتتجادل من خلاله أنقاض المكان بأشلاء المُحاضِر بفعل “كتابة” المحاضرة لنفسها. الكتابة التي تفكك نفسها بما ينسجم مع كونها “مطرًا”.

“لم أفكر في قراءة محتوى الأوراق، وإنما الارتجال مستعينًا على ذلك بالمسودة. فأنا في حاجة إلى تدوين الترتيب الذي أسرد به الموضوعات، والاقتباسات، والأسماء المراوِغة”.

أي علاقة تربط بين “إزاحة الأصل والغاية” للمحاضرة وبين “ألم الغاضبين” الذي كان يتأمله دانتي: “أصحاب الطباع الحادة العالقين في سريرة النفس”، والذين يرى “المُحاضِر” فيهم ذاته إلى حد بعيد؟ إنه ذلك الغضب الذي لا يكتفي برفض حكمة الأصل وإنما يتجاوزه نحو الانتقام من هيمنتها. الذي لا يقنع بعدم الاعتراف بالغاية القدرية وإنما يتعداه إلى الثأر من إكراهاتها. “المطر! الكائن الحر قادر على تغيير السماء”، هكذا تبدو المحاضرة في “تمزقها” نوعًا من المجابهة الساخرة لما يكوّن “الأصل” و”الغاية”. للمبررات والإلزامات المحصنة بالقداسة التي تُشكل “البداية” و”النهاية”. لما يختبئ وراء كل البدايات والنهايات.

“(يتوجّه المُحاضِر بالحديث إلى أحد الحضور). من أكون في نظر ذلك الشارد الذي يسعى إلى الاحتماء من المطر بجريدة، فيصل إلى القاعة وقد التصق شطر من الملحق الرياضي بوجنته؟ إنه لا يعرفني، ولا يهتم بالموضوعات التي أطرحها، ولكن حتى ذلك الشخص قد ينشأ بيني وبينه رابط ما”.

المخاطب إليه أو “الاحتمال” داخل ذات “المُحاضِر” ليس شخصًا مٌتعيّنًا قابلًا للتبدل إلى شخص آخر يتسم بـ “واقعية” ما، ولكنه بالأحرى الأشباح المتعددة والمراوغة داخل هذا المتعيّن. الأشباح التي لا تتمثل حسيًا وتُشكّل العتمة الباطنية لـ “المُحاضِر” التي يحاول تقويضها.

“(يشرب ماء). إن حيلة المُحاضِر الكبرى: أن يشرب الماء. الأمر الذي يُظهِر أنه ممسك بزمام الموقف، كما يُشعره بالارتياح. وربما لجأ المُحاضِر إلى الوقفة أيضًا.

يُلاحظ أن خوان بيورو يدفع “المُحاضِر” للحديث والحركة كما لو أنه ـ ظاهريًا ـ يسعى لإلقاء محاضرة حقيقية. يطارد السيطرة، ويؤدي الحيل المألوفة لبلوغها، كما يراوده الأسى والارتباك أمام العثرات الرابضة في طريق كلماته؛ لكن ذلك يبدو تقمصًا هازئًا لصفة “راعي المتن” التي لا يتوقف من ورائها عن هدم رصانته وبعثرة دمائه.

“لعلك تتساءل عمّا إذا كانت فكرة تأليف كتاب قد أغوتني، وعمّا إذا كنت أرغب في الانتماء بدوري إلى ذلك المتحور الراقي من الثدييات: أي المؤلف. كلا البتة! لست في حاجة إلى وسم كتاب باسمي، كما توسم الأغنام المنساقة إلى المجزر”.

“المحاضرة” ـ بهذه الكيفية ـ هي ما يضمن للصفحات أن تبقى مطرًا فعليًا، وليس “مطرًا مجازيًا” بين دفتي كتاب. “إن العالم قائم على قيد الوجود حتى يصير كتابًا”. يستند “المُحاضِر” إلى مقولة مالارميه في شرح سبب رفضه لأن يقترن اسمه بكتاب. “إن كل ما يحيط بنا كتاب، والمكتبة نبذة توجزه للقارئ”. ربما يرى في ذلك الطريقة الأنسب للانغماس في تصدعه، للعب بهذا التصدع، لاستعماله كطريقة مُثلى لمخاطبة الأشباح اللاهية في أعماقه. لتحريض الأشباح على مخاطبته. مازلنا بالطبع نتحدث عن “الغضب”.

“بالمطر يتحرر الشعراء من العالم، ويثيرون في النفوس شجنًا هيّنًا على النفس، يليق بيوم غائم، حين لا تُعتبر حتى أسوأ الأشياء مروّعة تمامًا. هكذا يتخيّل الشاعر ثيسار بايّيخو أنفاسه الأخيرة: “سأموت في باريس تحت وابل من المطر، في يوم تحضرني ذكراه قبل أن يجيء”. جميل هو الحزن الذي يمكن تذكّره. والشاعر يستبق نهايته وكأنها شيء قد لقيه في ما مضى، بل ويذكره أيضًا، ذات خميس، تحت المطر. إنه الخيال السامي”.

هل يمكن عزل ما يُعد جوهرًا “رومانسيًا” ربما للمطر عن كونه “تفكيكًا وتناثرًا” للكلمات / الجسد / العالم أو لـ “الحضور المتوهم”؟ ربما يكمن سر هذا الاستفهام في محاولة الإجابة على تساؤل آخر: إلى أي مدى يمكن للشعور بـ “الشجن الهيّن على النفس” أن يصمد؟ الشعور الناجم عن المطر “حين لا تُعتبر حتى أسوأ الأشياء مروعة تمامًا”. هكذا تُعيد “المحاضرة” تعريف “الرومانسية” بشكل مناقض، يعتمد على عدم الاستسلام لها. ليس هناك ما يضمن لـ “الشجن” أن يبقى مروّضًا لحظة أن نكون “مطرًا”، حتى لو كان “مطرًا مائلًا لا يُفسد شيئًا” كما كان يحب فرناندو بيسوا. ليس هناك ما يضمن أن تبقى أسوأ الأشياء “غير مروّعة تمامًا” حين نتحوّل إلى ما يُسمّى بـ “الخيال السامي”. إن “اليوم الغائم” قد يتيح لنا ـ ببساطة ـ أن نشعر ونفكر ونفعل أي شيء ممكن، فقط ثمة ذاكرة حينئذ إما أنها هنا أو عالقة في الغياب. ذاكرة “الخلخلة” التي ربما ليس بوسعها أن تسمح أو تمنع، ولكنها تمثل حال وميضها انتباهًا شاحبًا إلى أننا مجرد “محو لما لم يوجد أصلًا”. أن المطر دليل دامغ لذلك. بهذا تأمن رومانسية “اليوم الغائم” من التهديد والنبذ. حين تكون مضادة لوعدها بأن تكون أمانًا أو شيئًا منه. حين تُقيّد “غيبيتها”.

“قلّما تفوّق شيء على استسلام المرأة التي أمضت يومها كاملًا بمزاج عكر. إنها مرتبة عليا من مراتب النصر، كأن يكتشف المرء واحة بعد أن قطع الصحراء. وهكذا كانت سوليداد تترك في نفسي ذلك الأثر المتباين: اللذة المؤجلة طويلًا، شبه المستحيلة، النابعة من مزاجها شديد السوء”.

عندما نفكر في الغضب تجاه الأصل والغاية فنحن نفكر بالتالي في الشبق الوحشي للاستحواذ الشامل على النقائض الذي يكوّن الغاضب، خاصة لما يُعد مستحيلًا وعسيرًا وبالغ العناد والغرابة كاستعادة المُحاضِر لأبيه بصورة “حقيقية” خارج الظلام، متخلصًا من الكراهية والفناء. للامتلاك المطلق كقرين للانتقام من الحكمة. كأنها الغريزة الكلية لدى الغاضب في خلق قدر تدميري لـ “القدر”. القبض على النشوة الإعجازية التي تستبعد ما يتأسس عليه ويعنيه ويُحتّمه “القدر”.

“لم أتمكن من رؤية وجهه، حتى وإن ألفت عيناي الظلام. ربما كان السبب في ذلك خوفي من رؤية أمارات الكراهية والإحباط بادية على وجهه. أحيانًا أفكر في أن ذلك الوجه الذي عجزت عن رؤيته، وأردت الهرب منه، كامن في جميع الكتب التي قرأتها… وجه أبي الذي كره الآخرين، وكره نفسه أكثر من كل من عداه، من دون أن يدري ما العمل ولا إلى أين الذهاب، وهو الغارق في المطبخ، بينما أسرته مستغرقة في النوم. لا تحدثت إلى أبي يومًا، ولا عرفت كيف أتحدث إليه”.

لكن الاستحواذ ليس مُدرَكًا لدى الغاضب، ولا ينبغي أن يكون كذلك. إنه كفاح “سيزيفي” يدمج بين الإيمان والإنكار ويتجاوزهما. ذلك ما يجعل “الشبق الوحشي للاستحواذ على النقائض” مطرًا. تأرجحًا تهكميًا ومأساويًا بين الأفكار والتدابير والمحاولات والمشاعر والمسودات. ذلك ما يجعل تشريح العجز عن الامتلاك المطلق هو “الانتقام الفعلي” من الحكمة. كأن “القدر التدميري” غير القادر على التجسد يستهدف ذات الغاضب، باعتبار أن هذه الذات هي “القدر الذي لا ينتمي إليه الغاضب”. ما ينتجه الفشل في القبض على “النشوة الإعجازية التي تستبعد ما يتأسس عليه ويحتّمه القدر” هو الشرود الجمالي الذي لا يستعبده “الجمال”. فوضى الفكر التي تراوغ نظامه المنشود. ما ينتجه هذا الفشل هو الأحلام. الشذرات الخاطفة، بكامل حميميتها الاستثنائية وعذابها المتفرد، كـ “مطر” يخط احتضارًا غامضًا لحياته التي لم تحدث.

“لم يكن صمت سوليداد شديد الوطأة، وما كان يجب كسر ذلك الصمت. “تروقينني متى سكتِّ، إذ تصبحين كالغائبة” … مرة أخرى، نيرودا. كانت الحياة عند نيرودا غرَق المرء في ذاته. أحتفط بذكريات طيبة تركتها سوليداد، ولكن الفأر قد قرّب كلًا منا إلى الآخر بطريقة خاطئة”.

هل تصلح الاقتباسات التي “أحرق المُحاضِر أهدابه” بحثًا عنها كثأر؟ كبدائل للثأر؟ أتحدث عن الهيمنة الكونية المجهولة التي سُلبَت من المُحاضِر قبل ولادته فأصبح خاضعًا للموت. كل استدعاء للاقتباس هو كتابة مختلفة له، طريقة “لغوية” محتملة لـ “تغيير السماء” بما يمتلكه المطر من قدرة على ذلك. مراقبة للتمزق. تفحص ما يحيل إليه “التغيير”. السماء لا “تتغير” إلا حين يساهم الاقتباس في حفل السخرية الذاتي بين الولادة والموت. هكذا يُنظر للثأر كبصمة هازئة، عادلة، حُرم صاحبها من “الغيب”؛ فقرر ألا يكون “مؤقتًا” وحسب، بل أن يستعمل جحيمه العابر في انتهاك ما يختبئ وراء كل البدايات والنهايات.

“أما لاورا فجرّعتني عقابًا راقيًا، عذابًا شهيًا، لا يُحتمل، عذاب السعادة المنقوصة دومًا. أذاقتني لذة اسثنائية، ولكنها منقوصة دائمًا. في حين قنعت هي بذلك”.

“أصابت في قولها: فلقد أردت امتلاك حكاياتها”.

“كانت إحدى النوافذ مضاءة. إنها نافذة القدر. أيملك أحدهم مقاومة بريق مؤطر في الظلام؟ لك أن تتخيّل ما فعلت: ألقيت نظرة حيث لا يجدر بي ذلك. فرأيت أسوأ ما يمكن رؤيته: كانت لاورا سعيدة بعيدة عني”.

المطر لا يُنظر له وإنما يُسترَق النظر إليه مهما بلغت حدة التحديق في ما يبدو تجليًا ناصعًا لانهماره. ما تضمره وما يتنكر وما يخفى عنك من نفسك. ما تحدس به وما تحفر داخلك لانتزاعه وما تتبينه فجأة في روحك. أنت ومسودات غضبك التي تغرق فيها، بالرجوع إلى اقتباس كورتاثار: “أنت لا تختار دفقة المطر التي سوف تغرق فيها حتى أذنيك”. القلب ودموعه عند استرجاع اقتباس آخر للشاعر فرلان: “يذرف قلبي الدموع كما ينهمر المطر في المدينة”. المتلصص والنافذة وما يبقى ضبابيًا مخاتلًا دائمًا ورائها فلا يمكن امتلاكه. المطر هو أنت والقط والفأر والمطاردة التي لا تكشف سرًا مهما كشفت.

أخبار الأدب

2 سبتمبر 2023

الثلاثاء، 29 أغسطس 2023

كيف يُصنع التاريخ الأدبي؟ (1)

في الآونة الأخيرة أثيرت تساؤلات حول الأسباب التي تقف وراء المبالغة في المديح والاحتفاء بعمل أدبي، والدوافع الـ “سوسيو ـ ثقافية” المسؤولة عن خلق “أمر واقع تكريمي” لكاتب معين.

هذه المحاضرة التي أتناول خلالها جانبًا من مشروعي النقدي “التاريخ الأدبي … سياقات التمييز والهيمنة” والذي بدأت العمل به منذ فترة طويلة وأوشَك على الانتهاء؛ هذه المحاضرة لا تُسائل معنى الجدارة أو تناقش مفهوم الاستحقاق، وإنما تستهدف الإجابة على تلك التساؤلات المتوالدة، أي تفكيك العوامل السلطوية التي تمنح كاتبًا أو كتابًا قيمة وشهرة بعيدًا عن الكتابة نفسها، أو بتعبير آخر تحليل الأسباب والدوافع لتكريس وهم “الزعامة الأدبية” أو “البطولة الثقافية” الزائفة في ضوء علاقات القوة داخل المدن المركزية مثل “القاهرة” وخاصة ـ بالضرورة ـ لو كانت هذه المدينة موضوعًا أساسيًا للعمل الأدبي.

بتحديد أفكار وملاحظات مختصرة يتناولها الكتاب يمكن القول إن الكاتب الذي ينتمي إلى جماعة أدبية من الشخصيات التي تمتلك “مكانة مركزية” ـ وهو المصطلح الذي يتضمن المشروع النقدي المُشار إليه تعريفًا تشريحيًا له، كما لا أقصد هنا النموذج الرسمي للجماعة وإنما كيانات التشارك الإنساني وبنيات العلاقات الشائعة كالصداقة أو الزمالة مثلًا ـ هذا الكاتب يضمن عمله الأدبي من الأخبار والمقالات والتدوينات والمراجعات المصوّرة والمنشورات التفاعلية على وسائل التواصل الاجتماعي ما لا يضمنه عمل أدبي لكاتب خارج المركز سواء على مستوى الوفرة أو طبيعة التداول .. أتحدث هنا عن لمعان النفوذ التأثيري الذي يحظى به أفراد الجماعة الأدبية التي ينتمي إليها ذلك الكاتب، أي الأسماء التي لابد من الثقة في خطاباتها نظرًا لكونها “معروفة” و”ناجحة” أو “حصلت على اعتراف وتقدير المؤسسات الثقافية المرموقة” بما يعني أن احتفاءها بعمل أدبي سيدفع كُتّابًا آخرين ونقادًا ومدونين وقراءً وفي تزايد غير محكوم للاحتفاء بهذا العمل من أجل اكتساب قدر من ذلك اللمعان الذي يحظى به أفراد الجماعة الأدبية التي ينتمي إليها ذلك الكاتب .. هكذا ستتوالى المقالات والتدوينات والتقارير المصوّرة فضلًا عن الحوارات والاقتباسات وإعادات النشر لذلك العمل وهو ما يمثل الممارسات الجماعية لـ “صُنع التاريخ الأدبي” والتي لم يكن بمقدورها أن تحقق ذلك لولا انطلاقها أو بدء انتشارها من داخل تحالفات “مدينة مركزية”.

سيفتح كل ما سبق أبوابًا لا حصر لها نحو الماضي الأدبي للكاتب: كتبه ونصوصه ومقالاته إلخ .. سيُعاد اكتشافه مع كل إصدار، ليس فقط ككاتب، وإنما ككاتب في موضع اهتمام “رأي عام”، يدعمه “مثقفون كبار” .. سيكون ضروريًا حينئذ أن يسعى إليه الناشرون أكثر، وأن يُكتب المزيد عن إصدارته، وأن تتسابق إليه اللقاءات الصحفية، ودعوات المناقشة، وحفلات التوقيع، والجوائز، والترجمات على نطاق أوسع .. سيتم تثبيت “التاريخ الأدبي” بفضل تلك التوالدات المستمرة، التي لا تخضع للتحديد، بوصفه “وعيًا جماعيًا رسميًا” يتنقل عبر الزمن.

يكمن السر في ثنائية الزخم والإلحاح .. وفرة العناصر التي لديها “منزلة مميزة” داخل “الوسط الثقافي”، وتعمّدها الكتابة عن ذلك العمل الأدبي والترويج له لأطول وقت ممكن بحيث يصل إلى مستوى التجذّر الذي يجعله قادرًا على خلق نتائجه بنفسه، ومراكمة آثاره بلا عطل، ودون حاجة لمزيد من التدخل.

تمثل المدينة المركزية ماكينة إعلامية وثقافية موظفة لكتابة التاريخ الأدبي الرسمي، ذلك لأنها صاحبة الفضل في تمييز كتّاب وأعمال أدبية عن كتّاب آخرين وأعمال أدبية أخرى سواء على مستوى الانتشار أو الرواج النقدي أو الفوز بالجوائز والترجمات إلخ .. فلو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما كانت تلك الاستحقاقات متفاوتة بين مدينة وأخرى أي أن تُحرم مدينة من الإمكانات والبدائل التي تمنحها مدينة أخرى للمقيمين داخلها، وأن يكابد من هم خارجها في حفر بصمة خاصة ضمن حدود الفضاء العام الرسمي المكلف بديهيًا بالنبذ والإقصاء والتعتيم على أي بصمات لا تمر عبر سياقاته مقارنة بالتوطيدات السهلة والمجانية لخطوات العاملين واللاعبين في مسارحه الثقافية وكواليسها.

إن “المكانة الأدبية المركزية” تعني وبشكل دقيق أن ذلك الكاتب الذي يتمتع بها ما كان ليبلغها لو أنه قد أنتج أعماله وهو مازال مقيمًا في قرية أو في عاصمة إقليمية مثلًا .. تلك حقيقة بسيطة ومختصرة ووافية حيث أنه ـ وهو ما أعيد التأكيد عليه ـ لو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما كان هناك فرق بين المسارات التي يقطعها النص أو الدراسة النقدية أو العمل المترجم إذا ما كان الكاتب يسكن في بلد ما أو في بلد آخر، لو كان يدرس في مكان ما أو في مكان آخر، لو كان يعمل في وظيفة ما أو في وظيفة أخرى.. تلك حقيقة بسيطة ومختصرة ووافية لا يخدشها التغاضي المتعمّد أو الجاهل عن تأثير المزايا التي توافرت في نطاق جغرافي معين، وحُرم منها نطاق جغرافي آخر.

خلق قارئ ميت

في مقابل لقطة احتفالية “كيتشية” كهذه؛ سيكتب ذلك القارئ الذي أوقّع نسخته من روايتي “خلق الموتى” على ظهر “قوّاد الكتب” المُسمّى جودريدز: (يحاول ممدوح رزق أن يخرج عن كل مألوف تقليدي في البناء الروائي فينجح إلى حد كبير ولكنه يقع سهوا في تضمين نصوص وأفكار خاصة لا تساعد على استمرار حركة السرد وتتابعه بشكل منطقي في بعض الأجزاء ولكن العمل رغم هذا يعد “تحديا” كبيرا لمن يريد الجدة والتميز).

صورة أيقونية مبتذلة “كاتب يوقّع روايته الجديدة لقارئ في إحدى المكتبات” سيكون ثمنها حُكمًا استسهاليًا ساذجًا لشخص لا يكتفي بتحويل عجزه عن استيعاب دوافع “التعمّد” لتضمين “النصوص والأفكار الخاصة” في الرواية إلى “سهو” للكاتب فحسب؛ وإنما يؤمن أيضًا بضرورة أن يستجيب للإغراء الانتهازي الوضيع لجودريدز بتوثيق هذا الجهل المتبطل والهزلي على صفحة الرواية في الموقع والذي يضاعف أرباحه اعتمادًا على نفس الأسباب التي من أجلها تضمن منصات تقييم السلع والخدمات والأماكن الترفيهية زيادة مكاسبها.

لماذا تكون هذه اللقطة ثمنًا لإدانة غافلة، بلهاء وسمجة كتلك، سيقرؤها الكثيرون ويصدقونها دون إرجاء أو محاولة للتيقن؟ .. ألم يكن من المحتمل أن يكتب الحماقة البائسة ذاتها قارئ آخر، لم يحضر حفل توقيع “خلق الموتى” بمكتبة “كلمات” في مساء 4 مايو 2013، وبالتالي لم توقّع نسخته من الرواية أثناء التقاط “صورة تذكارية”؟ .. كان يمكن أن يحدث هذا حقًا، ولكن بما أن ذلك القارئ الذي يشاركني الكادر هو من كتب تلك الكلمات الغبية والوقحة على جودريدز فإن ذلك ليس ناجمًا إلا عن هذه الصورة .. عن ما لا تعترف به هذه الصورة .. لأنني سايرت الوعد المظهري الخبيث للتناغم بين “كاتب” و”قارئ”، المكرّس في لقطة من “حفل توقيع” .. لأنني تقمصت الادعاء المخادع للألفة بين روايتي وبصيرة شخص آخر، والمجسّد في مشهد ليس عليه سوى التثبيت الشكلي لتلك الألفة .. لأنني كنت أعرف بطريقة ما، وبينما أوقّع نسخة “خلق الموتى” في تلك اللحظة أن هذا ما سيحدث .. لا يتعلق الأمر بهذا القارئ تحديدًا وإنما بـ “قراءة” روايتي بشكل عام .. كنت أدرك أن صورة كهذه هي تمثيل للمفارقة المعهودة بين ما تحاول الإيهام به من تجانس، وبين اعتداءاتي السردية الساخرة على الخمول المسالم لذهن القارئ، الذي سيحاول عفويًا الدفاع عن أمانه الخرب برد فعل مضاد يحصّن رعشته البليدة.

أن يقرؤك أحد؛ فهذا في حد ذاته ما قد يخلق فرصة متكررة لاختطافك داخل جحيم انتقامي كالذي تفحصته قصيدة “محمد الماغوط”:    

“يخيَّل لي أنَّني أتهاوى على الأرصفة
سأموت عند الـمنعطف ذات ليلة
وأصابعي تتلوَّى على الحجارة كديدان التفَّاح
دون أنْ ينظر إليَّ أحد.
إنَّني أرى نهايتي
ألـمح خنجراً ما في الظلام مصوَّباً إلى قلبي
عربة مطفأة
تقلُّ طاولتي وأوراقي إلى عرض الصحراء.
ستهب ريح قويَّة آنذاك
تداعب أظافري القصيرة
وتكنس قصائدي في الشوارع كقشور الخضروات”.

ماذا لو لم تكن مقروءًا فقط، بل ومرئيًا في الوقت نفسه كشخص عادي ولا يبدو مؤذيًا أيضًا؟

من كتاب “وهم الحضور” / مذكرات الكادر الضال

يصدر قريبًا

الأربعاء، 16 أغسطس 2023

ما يخبئه “جرح الأسلوب”

من حين لآخر أنشر في مدونتي الشخصية أجزاءً من روايتي “نصفي حجر” التي أعمل على كتابتها منذ سنوات .. أجزاء تبدو “جاهزة للنشر” .. في أحد الأيام وقع اختياري على جزء يتضمن هذا المقطع:

“لماذا لم تشطب تلك الأيام بالكامل بحيث لا يظهر أثر لها؟ .. هل لأنك لا تريد الاعتراف بفقدانها؟ .. هل لأنك متشبث برجاء استردادها؟ .. هل لأنك تريد أن تتذكرها؟ .. هل لأنك تعرف أنها لم تتبدد وإنما أنت الذي حُرمت منها فحسب؟ .. هل لأنك تعرف أن “حقيقتها” ستظل حية داخلك؟ .. لماذا هذه الأيام تحديدًا؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام سنة 1984؟ .. عن بقية أيام حياتك؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام العالم؟”.

بعد نشر هذا الجزء من الرواية أعدت ـ كما هي العادة ـ قراءته على المدونة .. شعرت فجأة بأن تكرار أداة الاستفهام “هل” في بداية بعض الجُمل بالمقطع السابق “يثقل” السرد بشكل غير مبرر، أي أنه من الأفضل الاستغناء عنه .. فكرت في الأمر ثم قررت إجراء هذا التعديل، وبالفعل أصبح المقطع المنشور هكذا:

“لماذا لم تشطب تلك الأيام بالكامل بحيث لا يظهر أثر لها؟ .. هل لأنك لا تريد الاعتراف بفقدانها؟ .. لأنك متشبث برجاء استردادها؟ .. لأنك تريد أن تتذكرها؟ .. لأنك تعرف أنها لم تتبدد وإنما أنت الذي حُرمت منها فحسب؟ .. لأنك تعرف أن “حقيقتها” ستظل حية داخلك؟ .. لماذا هذه الأيام تحديدًا؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام سنة 1984؟ .. عن بقية أيام حياتك؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام العالم؟”.

التفكير في الأمر لم يكن يعني فقط الإجابة على سؤال: “هل ينبغي أن أفعل هذا حقًا أم لا؟” وإنما كان يعني أيضًا ـ وبصورة أقوى ـ تأمل الفرق بين اللحظتين: لحظة الكتابة الأولى والاستقرار على ما انتهت إليه، ولحظة النشر التي طالبتني بإعادة الكتابة بطريقة أخرى وفقًا لهذا التغيير.

لكل لحظة كتابتها دون مقارنات تفاضلية مع لحظة أخرى تسبقها أو تخلفها .. كل لحظة مختلفة وغير منتهية حين تكون نصًا، أي تخلق مبرراتها أو دوافعها اللغوية المستقلة عن لحظات أخرى”.  

في كتابي “استراقات الكتابة” هناك محاضرة لي عنوانها “الصفات العقابية للكتابة” تضمنت هذه الكلمات التي تفسر الشعور بـ “الانزعاج” الذي تملكني من تكرار “هل” عند نشر مقطع الرواية، وهو بالطبع ما لم يكن حاضرًا عند كتابتي له قبل وقت طويل .. كلمات تفكك الحكم العفوي بأن “شيئًا خاطئًا” يجدر “تصحيحه” في بنية السرد، لتكشف عن أن المسألة لا تتعلق بالصواب والخطأ وإنما بـ “التباين” بين حالتين للكتابة لكل منهما قراراتها اللغوية الخاصة .. بين ما يُفترض أنني كنت عليه عند كتابة هذا الجزء في الماضي، وبين ما يُفترض أنني كنت عليه عند كتابته في الحاضر.

إن الفرق بين اللحظتين ـ كما فكرت في الأمر ـ يكمن في أنني أردت للنسخة الأولى من المقطع أن تكون استجوابًا فعليًا .. رغبة وحشية للسارد في الحصول على إجابة حاسمة، مصيرية، يرجوها ويتوقعها ويلح عليها بإصرار بالغ الحسرة .. أنني أردت للنسخة الثانية من المقطع أن تكون استجوابًا شاحبًا، واعيًا بالخذلان .. يأس معاتب لسارد يترنح بعدم تصديق أنه لن يحصل أبدًا على الإجابة التي يهلك روحه من أجلها .. هذا ما يخلقه تكرار أداة الاستفهام “هل”، وما يخلقه حذف هذا التكرار .. تغيرت النبرة، الإيقاع، طبيعة الاستفهام نفسه.

إن ما يبدو للوهلة الأولى للكاتب ـ امتثالًا لغريزة التقييم القهرية ـ جرحًا أسلوبيًا في نصه عند مراجعة ما؛ هو في حقيقته “عدم توافق” بين العبارة أو الفقرة التي خطها الانسجام واليقين في وقت سابق، وبين ما تختبره بصيرة الكاتب وقت المراجعة من “مزاج” وجودي وخيالي آخر، والذي بالتالي يحرّض ويقود نحو الاستجابة إلى ضرورة سردية أخرى .. “عدم التوافق” الذي يتحتم عليه التنكر تلقائيًا في زيف “ثقل غير مبرر يجب الاستغناء عنه” .. حاجز التعمية ـ الدائم أو المؤقت ـ أمام استيعاب أن “الأسلوب هو جزء عضوي في الكاتب” بتعبير “هاري بينغهام”.

لا أعرف أي نسخة من المقطعين ستحتفظ بمكانها في الرواية عند نشرها .. النسخة التي مازالت في مسودتي، أم النسخة التي تعيش في مدونتي .. لكنني أعرف أن أيًا من النسختين لن تستبعد الأخرى .. كل نسخة تنطوي على الأخرى، تذكّر بها وتشير إليها .. ربما ستقرر الرواية في النهاية الاحتفاظ بالنسختين معًا.

هذا مثال لما أحرص دائمًا على تأكيده لدى طلاب ورشتي القصصية .. إن التمرين على الحذف ليس أداءً شكليًا “آليًا” فحسب ولكنه في المقام الأول وقبل أي شيء اكتساب القدرة على التفكير في المعاني المتعددة، التأمل في المقاصد المختلفة، التنقل بين المسارات المتباينة، تفحص البدائل .. لذا فالحذف لا يقترن بمجرد الوعي بالسبب أو الدافع الذي يفرضه في لحظة معينة، وإنما باستبصار وإدراك الأبعاد والعلاقات الأخرى التي تحوم حول ما يتم حذفه وتكمن في أغواره.  

هذا مثال أيضًا لما يتعذر فهمه على كل محرر أدبي أو ناقد أو قارئ لا ينعم سوى بالغباء المحصّن بالوقاحة، ومن ثمّ فإنه حين يقارب نصًا ما لا يعثر خلاله على “نسخته” المُشبِعة أو المُرضية فإن الأمر سيبدو كما لو أنه فرصة ثمينة عليه انتهازها بنطاعة متأصلة لتشييد حفل عدائي كي يستعرض بكل ما ينتفخ به من خواء سمج عجزه عن “اكتشاف / كتابة” النسخ المخبوءة لهذا النص.

الأحد، 6 أغسطس 2023

ذاكرة بيضاء: الصراع بين الكلمة والظل

ثمة ارتحال تومئ بضرورته المجموعة الشعرية “ذاكرة بيضاء” لمؤمن سمير الصادرة عن هيئة الكتاب رفقة “الكلمة” والظل”. في باطن الصراع اللامتناهي بينهما. ذلك لأن كلًا منهما منسوج من عتمة الآخر؛ فكيف لا يقوى أحدهما إذًا على رسم وجوده إلا بكفاحه لطمس ما يخطه الآخر؟

“الدموع يا صديقي جملة منسية في جيب فنان غامض وشفيف، خطفها مجنون وألقاها فاستقرت في ذلك القلب الذي يحيا على الخوف والنسيان .. عبارات مثل هذه تجعلني أعيد النظر في أشيائي القريبة والبعيدة: أليس من الممكن أن تكون أقنعة لقنابل قد تمزق أمي وتحرق صوتي وسجادتي التي اختبأت في نقوشها لأنجو من الزلزال؟”.

تمنح قصيدة “عجوز يغفو وسط الكلام” تعريفًا للدموع: “جملة منسية في جيب فنان غامض وشفيف”. لماذا “جملة” تحديدًا؟. لأن “الفنان” نفسه هو بنية “كلامية ” متعالية. غيب من الكلمات. الجملة المنسية “الدموع” هي دليل غموضها وشفافيتها. لكن “الغموض” لا يؤشر لسمة “الكشف” في “الشفافية” وإنما إلى “التجريد”. إلى النقاء من “التجسد”. لذا؛ فالبنية الكلامية المتعالية / “الفنان” محصنة بما يتجاوز اللغة ذاتها. لا تتسق معها “الدموع” فتصبح “نسيانًا”. لكنها تلائم “القلب”، وفي هذه الملاءمة تتحوّل من “جملة منسية” إلى “لغة الحياة والموت”. يحاول “الكلام” إعادة اللغة إلى غيبيتها، أي أن “يسترد” المتكلم كينونته كـ “فنان” دون “جيوب تحمل جُملًا منسية / دموع”. إعادة اللغة إلى غيبيتها أي إزاحتها تمامًا من قلب المتكلم. بهذه الكيفية تُخلق مسارات العمل لتفسير غموض “الفنان”، لحل لغزه “التجريدي”، لتقمصه كمطلق، للتوحد بشموليته المبهمة وتقويضها، لكشف السر الأزلي للدموع كـ “جملة منسية”. كيف يفعل المتكلم ذلك؟ بنزع الأقنعة عن الأشياء القريبة والبعيدة. الأقنعة التي تُضمر الهلاك وراء وعدها المحتمل بأمان ما.

“ألا يصح أن تكون يد أبي التي تُحكم الغطاء من حولي وأنا أتظاهر بالنوم هي صاعقة الله  الذي مل من ضجيجنا وبكائنا”.

التفكير في “صاعقة الله” تحفزه “يد الأب” تحديدًا، وفي لحظة العناية بالابن على الأخص، مقترنًا هذا التفكير بـ “الضجيج والبكاء” باعتبارهما سببًا للملل. توليفة عدائية تزعج وحدة “الفنان”. نلاحظ “هي” الإثباتية في منتصف الطريق الذي تقطعه “اليد” نحو التعري كـ “صاعقة”. الطريق الذي يقطعه “الأب” نحو “البطش المجرد”. المتظاهر بالنوم إذًا هو مصدر الضجيج والبكاء. الذي لا يتعلق ضجيجه وبكاؤه بأبٍ تقليدي، وإنما بـ “فنان” يريد أن يمارس عمله في هدوء.

“أنفخ وأشمّر وأقول لنفسي أنا قادر بما يكفي ثم أبدأ بتكسير الجبال وإزاحتها من على صدري وكأنها سماوات من الدخان .. لكنني للأسف، أغفو كأي عجوز في وسط الكلام، فتتسرب جبال أخرى بدالها واسمها الظلال .. ليس في غرفتي إلا الظلال .. تتناسل بهمة وتملأ حائطًا وحائطًا والحوائط لها عيون والعيون لا تشغلني بما تراه ولكنها ترعبني بكل ما تقبض عليه ثم تصر ألا تحكي .. حتى في ليالي الشتاء”.

يستعمل “المتكلم” لغته في تكسير “الجبال” أي ما ستسمى مع كل انتباه متكرر “ظلالًا”. كلماته مغلقة على تفككها الاستباقي، أو ما يتقدم على أي محاولة لاستعمال اللغة، وحين تعلن عن ذلك فإنه سيتمثل كـ “غفوة”. يدرك المتكلم أن “الجبال” ليست إلا كلمات أيضًا أي ظلالًا متنكرة في صورة أثقال حسية يمكن هدمها. يستخدم ما لا يُلمس لإزاحة ما لا يُفهم. نتذكر؛ كل منهما منسوج من عتمة الآخر. تحاول “الكلمة” أن توظف حطامها الأزلي في تقويض “الظل”. الظل المصنوع من حطام الكلمة ويتناسل بتوالد دلالتها الاحتجازية المنسجمة مع الحوائط. اللغة المعطوبة تسعى لانتهاك صمتها المتعيّن في الظلال. تريد بـ “سردها” أن تستنطق “السرد المحتحب” لأشباحها. لماذا تريد ذلك؟ لأن العيون الخفية للظلال تنتمي لذلك الفنان الغامض الذي (لا يتكلم)، والدموع جملة منسية في جيبه. لأن ثمة رغبة غريزية لدى المتكلم في تغيير اتجاه “الصاعقة” نحو “حقيقته”. لكن بما أن هذه الحقيقة تظل كامنة في “الظلال” أو أنقاض وأشلاء اللغة؛ فإن الصاعقة لا تفارق “الكلمات” المتناثرة في “ليالي الشتاء” دون أمل في القبض على “حكايتها المخلصة” أي على ذلك “الدفء” الإعجازي الذي لا تناله “غفوة”.

“بقعة دم وجدتها على الحائط في بيتي

بقعة تنبض، كبيرة وطازجة

تقول كلامًا مختلطًا

ثم تزفر بملل وتزووم..”.

في قصيدة “ذائقة الحروب” يتخذ الظل شكل “بقعة دم” في مكانه اللائق والمعتاد كما في قصيدة “عجوز يغفو وسط الكلام”: الحائط. ومثلما كان الحال في القصيدة السابقة أيضًا يكشف الظل في صورة بقعة الدم عن كونه “كلمات مفككة”: “تقول كلامًا مختلطًا”، وبالتالي فالمتكلم يتساءل أيضًا عن سرها. بقعة الدم مكوّنة من لغة السؤال؛ لذا فبقعة الدم والسؤال منذورين للبقاء كلعنتين من الخام الغيبي نفسه، يتجابهان بمشيئته حيث “لا يقوى أحدهما على رسم وجوده إلا بكفاحه لطمس ما يخطه الآخر”.

“ردهتي العجوز

التي أكلت العناكب آخر ظلين ارتعشا فيها،

كيف تصلح لألغام ستنهشها الرطوبة في الأعياد ..

أو لدبابة تتوه تحت النافذة وتنسى ماذا كان اسمها بالأمس

أو لصاروخ يحب اللعب مع الفراشات المختبئات في فستان أختي؟

ثم أن أسرتي قديمة هنا

جاءت من المجهول مبكرًا

قبل أن تستيقظ الأشباح وتتمطى..”.

يحشد المتكلم ما يظنها مبررات “منطقية” للحصول على الإجابة: الردهة ـ العناكب ـ الألغام ـ الدبابة ـ الصاروخ؛ يحشد ما يجربه ويختبره، ما يعتقد أنه يعرفه، ذلك لأنه يتحدث عن نفسه: “بيته ـ أخته ـ أسرته”، أي الكلمات التي يتصورها ليست مجرد كلمات، في حين لا تتوقف بقعة الدم / الظل عن إثبات كونها كذلك. لهذا لا يتعلق الأمر بالحصول على إجابة فحسب، وإنما، على نحو أكثر مراوغة، بالاحتياج القهري لدفع ثمن عدم الحصول عليها، بالمقابل “العادل” لخراب اللغة الذي يمنعها من أن تصل بـ “المتكلم” إلى الحماية الأبدية من شر “الصمت” الرابض في المطلق. هل تمثل “الحكاية التي تُربى في الخيال” تعويضًا في حد ذاتها للعجز عن اغتنام هذا الثأر؟ ليست الحكاية نفسها، وإنما الوعي بالصدوع البدائية التي تؤلف تفاصيلها. الوعي الذي ـ هكذا ـ لن يجعل الحكاية بديلًا للثمن الذي لم يُدفع، وإنما سيجعلها الثمن نفسه.

“تقبلي أيتها الروح شكرنا

وعرفاننا الصادق

لكل من يموت في الجدران منذ الأزل

ويعود يبتسم كل حين”.

كيف يمكن تأويل “الألفة” التي تتسم بها علاقة المتكلم بالكلمات؟ الألفة التي تستند حتميتها إلى الظلال؟ إن “الألفة” مسايرة إجبارية لما لا يمتلك المتكلم “يقينًا” مغايرًا له. ما ليس في وسعه سوى أن يعتبره يقينًا. “الألفة” هنا ليست امتنانًا للحياة بقدر ما هي سعي للاختباء من الموت. من الفناء الذي تنتهي عنده “الكلمة” كـ “ظل”. من هنا ينشأ ويعيش ويتجذر شعور كالحنين. التشبث بماضي الظلال حين كانت كلمات. حين كان المتكلم مازال يقاوم الإدراك بأن الجبال لا يمكن تكسيرها.

“صحوت فوجدت خبزًا قاسيًا

قطرت دمي وغمسته

وانتظرت..

في الردهة قابلت ظلًا تائهًا

فاختبأت حتى وقع في الفخ

ثم أسلمته للشيطان”.

يعيد مؤمن سمير في قصيدة “أشواك تنبض للآن” التأكيد على الكيفية التي يتحوّل به تفكك الكلمات / صدوع الحكاية إلى ما يشبه احتفالًا بما لم يحدث. بالوجود الغيبي الذي حُرم المتكلم من أن يكونه. “الظل التائه” يسلّم للشيطان، “اللغة المتهدمة” تُدفع نحو أيدي “المروق في ذاته”. المصير المستحق للحكمة. هنا يصبح “الشر” أساسًا لفضيلة مضادة. فضيلة فاضحة لخداع المعجزات. يستطيع المتكلم حينئذ أن يتفاخر بإثمه من حيث اعتباره “خيرًا مناقضًا” تقوده السخرية من المبررات والتدابير “المثالية” للقدر. يستطيع أن يتفاخر بذنبه من حيث اعتباره “كرامة استثنائية” يجدر بألمه أن يتوّج بها.

“طلعت نخلة وقالت أنا أمك

ثم تنهدت ودثرتني بالأشواك

كي أقوم من الأموات وأصعد

قبل أن يهبط حول بيتنا

البرصان والمجذومون

وتحوطنا الغيمة الطيبة..”.

إن صراع “الكلمة” و”الظل” في قصائد مؤمن سمير هو ممارسة “محو” ينتظر المتكلم نهايتها؛ اللحظة التي ينتهي كل منهما من طمس الآخر فلا يبقى بعدها سوى ما قبل الحياة وما بعد الموت. ما خسره المتكلم قبل أن يختطفه الزمن، وما يستعيده بعدما ينفلت من أسره. صراع “الكلمة” و”الظل” هو مطاردة “ذاكرة بيضاء”.

أخبار الأدب

6أغسطس 2023

 

السبت، 5 أغسطس 2023

المحاكمة 2

كأنها الخلاصة التي تربط جميع الأشياء ببعضها: وجود الرجلين في بيته .. التحذير الصارم لرجل الحجرة .. الابتسامة التي لا تتشكل لرجل الصالة .. الرواية .. كأنه نطق بحكمة.

ـ لماذا؟

للمرة الثانية يشعر (م) أنه يؤدي واجبًا يتطلبه الموقف أكثر مما هو استفهام حقيقي .. لم يكن يعرف الحقيقة، ولكن كان إحساس مبهم لديه بأن هناك منطق ما فيما يحدث .. إجراء روتيني لم يكن يمتلك استعدادًا أبدًا لمواجهته.

ـ ليس لدينا ما نخبرك به الآن، لكن هذا ما ينبغي أن يتم، وما ستعرفه سيكون ثمينًا وقاطعًا بما لن يكون مسموحًا لك بعده أن تخطئ أبدًا.

كان رجل الصالة قد أغلق الرواية ووضعها فوق فخذه اليمنى، بينما ظلت قبضته مضمومة على غلافها، كأن أصابعه تستريح فوق قرينة دامغة عثرت عليها بعد جهد .. سمع (م) رجل الحجرة وراءه كأنما يُنهي ما بدأه حديث رجل الصالة:

ـ ستعرف كل شيء بالطريقة المناسبة.

نهض رجل الصالة من مقعده، واقترب من (م) كما لو أنه سيلقى تعليماته الأخيرة:

ـ سنحتفظ بهذه الرواية، وبكتبك الأخرى، وعليك أن تتذكر جيدًا أن جميعها، ومع كل ما سيطرأ عليها من تغييرات وهي بحوذتنا ستظل النسخ الأصلية، أي أن النسخ الأخرى كافة التي لديك أو في أي مكان آخر ستكون مزيفة، لا يُعتد بها.

ثم بدا كأن الابتسامة التي يُحضّرها وجهه دائمًا قد أوشكت للغاية على التشكّل، لكن هذا لم يحدث:

ـ هذا النوع من القضايا يُنظر سريعًا. لا تقلق. عليك فقط التحلي بما يكفي من الإيمان والشغف لكي تتمكن الأحكام المطلقة من مساعدتك.

حتى لو كان هناك منطق ما فيما يحدث فإنه يبدو كخطوة أولى في طريق مجهول، مخيف .. ثمة وحشية تتصاعد ببطء .. من هذين الرجلين؟ .. ماذا يعني بالنسخ الأصلية والنسخ المزيفة؟ .. عن أي قضية يتحدث؟ .. هذه المرة لم تكن أسئلة (م) تأدية واجب، بقدر ما كانت استفهامات حقيقية .. فقط ظلت مكتومة بداخله.

كان (م) يعيش في مدينة لم يعد لديه فيها منذ زمن طويل من يمتلك دافعًا لتدبير مزحة كهذه بمناسبة عيد ميلاده .. كان اليوم هو الثالث من يناير، أي أن عمره أصبح أربعين سنة اليوم.

ـ لا تفكر كثيرًا لأننا سنظل أبعد من ظنونك.

التفت (م)، وكان من الغريب ـ الغريب بحق ـ أن الابتسامة التي لم تتشكل أبدًا في وجه رجل الصالة قد ظهرت بوضوح تام فوق الملامح العدائية لرجل الحجرة بعد أن أغمد هذه الكلمات في ظهره .. ابتسامة يعرف (م) المقصود منها تمامًا.

حسنًا .. إنها تبدو ـ شكليًا، ورغم كل غرابتها ـ حالة تقليدية للغاية .. مشهد شائع في الماضي البشري، ولكنه مع ذلك لا يتم بصورة اعتيادية، فهو يبدو كحدث خارج قشرة الواقع، أو بالأحرى داخل فجوة مظلمة بداخله.

ـ مهما كنتما، ليس لديكما الحق فيما تفعلانه.

لم يبد على رجل الصالة أن كلمات (م) قد أحدثت تأثيرًا في نفسه، باستثناء أن اللامبالاة التي تتمطى في صوته قد تسرب إليها قليل من الأسى.

ـ أنت تعرف أنك مخطئ تمامًا يا (م). نحن لدينا الحق في كل شيء، ولا ينبغي أن تتمادى في غفلتك العنيدة إلى حد الاعتقاد بأن ما نفعله هو اعتداء مكلف من نوايا شريرة. عليك أن توقن أن هذا تمهيد ضروري من الخير الخالص لصداقة أنت بالتأكيد في أمسّ الحاجة إليها.

صمت رجل الصالة على نحو شعر معه (م) كأن قوة غيبية قد مدت يدها ووضعت نقطة الختام لكلامه .. لكن رجل الصالة عاد فجأة ليقول بنبرة جعلت من الأسى السابق في صوته أقرب إلى حلم:

ـ من أجل خاطرك .. لا تستفزنا.

جزء من رواية قيد الكتابة

الثلاثاء، 1 أغسطس 2023

رسالة من "إيلي" إلى "أصغر فرهادي"

عزيزي أصغر فرهادي

أعلم أنك حصدت من المدائح ما قد يغنيك عن كلماتي، ومع ذلك فلنقل ببساطة أن لكل منا غنيمته التي تراوغ الأخرى، لا التي تفسدها .. لك فيلمك، ولي حقيقتي .. حسنًا؛ هذه مزحة! .. حقيقتي في الواقع تفسد فيلمك .. حقيقتي هي التي تغنيني عن فيلمك، مع اعترافي قطعًا بالبراعة التي كوّنته .. البراعة التي خرّبت وجودي يا فرهادي .. باختصار؛ كانت هناك جوهرة ثمينة بين يديك ولكنك ألقيتها في البحر.

لا تظن أنني أتعمّد إثارة غضبك أو غيرتك حينما أخبرك بأنه لو كان ثمة مخرج آخر قد عثر عليّ لربما تعامل معي بشكل مختلف .. لو أن بصيرته قد اقتنصت الظلام الخفي الذي يشع من داخلي بالفعل لاستخدمني بصورة مناقضة .. لم يكن الأمر سيتطلب جهدًا كبيرًا .. كل ما  كان سيحتاجه هو حمايتي من الملامح المحددة التي أصررت أنت على إلصاقها بوجهي .. كان سيحرص على منع أي تعريف من الإشارة إلى هوية دامغة لي .. ذلك لأني طبيعة ولست شخصًا .. أنا الروح المقموعة الكامنة في كل النساء داخل فيلمك وخارجه ولست امرأة بعينها .. أنا لا شيء وكل شيء.

لكن ربما كان الأمر سيتطلب جهدًا كبيرًا بالفعل .. ذلك لأنه يتعلق بشجاعة المقامرة .. أن تتخلى تمامًا عن الشروط الاجتماعية لصالح الغموض .. الغموض الذي يحفّز الحقيقة على الإشارة لنفسها بشكل أكثر عنفًا مما لو تُركت أسيرة الأنماط الواضحة .. أن تستعمل هذه الشروط فقط كأكاذيب، مكائد خادعة تستدرج المتفرج نحو الصدمة لا الألم، نحو الأرق الجائع لا التفسير المشبِع .. كان الأمر سيتطلب جهدًا كبيرًا لو قررت أن تكشف عن كوني أتظاهر بأني معلمة، وأن لي أم أتحدث معها في الهاتف .. أن هاتفي لا يحمل أي شخص أو رقم أو حتى شريحة اتصال .. أن "خطيبي" لا وجود له .. مجرد حيلة أستخدمها في لعبة التقمص ..  في مسايرة الصراع التقليدي بين الإذعان لما هو مفروض، والهرب نحو اختيار حر .. أن من كانت تركض بالطائرة الورقية على الشاطئ هي الطفلة التي "اختفت" داخل كل امرأة بعد أن فقدت الخيط من يدها .. أن هذه الطفلة قد أخبرت الجميع بصورة ضمنية بأنه لم يكن أمامها سوى الطيران أو الغرق .. أنها من أظهرت للنساء كافة بأنه إذا كان الطيران مستحيلًا فعلى الأقل لنسخر من الغرق .. من وهم الاختيار الحر .. من عبادة الأسرة .. الحب .. الزواج .. أن جثتها لا يمكن العثور عليها لأنها غارقة فيما لم نفكر أبدًا في أن نطلق عليه "بحرًا" إلا كمجاز مروِّض.

عزيزي أصغر فرهادي

هل قرأت قصة "إيفيلين" لـ "جيمس جويس"؟                                                        

إنها إحدى قصص مجموعة "أهالي دبلن" 1914 وتحكي عن شابة صغيرة، ماتت أمها وكان عليها أن تعمل وترعى والدها وشقيقيها قبل أن يموت أحدهما، وأن تعيش بذكريات طفولتها تحت وطأة المهانات .. كان على كرامتها أن تُنتهك ـ كما كان حال أمها ـ من أبيها الذي يعنّفها، ويسلبها أجر عملها، دون أن يُبقي لها شيئًا .. أحبت "إيفيلين" بحارًا لطيفًا، مولعًا بالموسيقى، وأرادت أن تهرب معه بعيدًا عن التعاسة التي تتنقل بخفقات قلبها بين البيت ومحل عملها لكي تصبح زوجته .. لكنها بعد أن كتبت رسالتي وداع؛ واحدة لأبيها والأخرى لأخيها، وبعد أن توجهت إلى المرفأ للرحيل مع حبيبها إلى "بوينس آيرس"؛ وجدت نفسها عاجزة عن الصعود إلى السفينة وظلت متسمرة في مكانها، تنظر إلى البحار وهو يناديها ويشير إليها أن تعبر الحاجز لتلحق به.

كيف وصف "جويس" نظرة "إيفلين" في هذه اللحظة؟:

"لا تفصح عيناها الجامدتان بنظرة حب أو وداع وليس فيهما أي نوع من الرغبة بشيء".

حينما منح "جيمس جويس" هذه النظرة إلى "إيفلين" فقد جعلها تختفي يا فرهادي .. لم يعد لـ "إيفلين" وجود في هذه اللحظة .. لم تعد الابنة أو العاملة التي لم تحصل على الاحترام رغم تضحياتها، كما لم تعد العاشقة التي تسعى للانفلات مع حبيبها من عالمها البائس .. لم تكن "إيفيلين" حينئذ الشابة التي تفكر في أبيها بعد أن أصبح عجوزًا وفي افتقاده لها بعد أن ترحل، أو تتذكر حينما كان لطيفًا معها أحيانًا، ومعتنيًا بها في مرضها، ومرحًا في نزهاتهم الأسرية وهي ما تزال طفلة .. لم تكن الشابة التي قطعت عهدًا لأمها أن تحيط البيت بأقصى ما تستطيع من رعاية، كما لم تكن الحالمة المتشوّقة إلى حياة تعويضية سعيدة خارج المكان الذي استعبدها .. كانت "إيفيلين" في هذه اللحظة عمياء .. لا تستطيع رؤية نفسها .. تختبر ما هو أكثر قسوة من الصراع التقليدي بين الواجب والعاطفة .. كانت تقول بعينيها المتحجرتين بأنها ـ بالرغم من كل شيء ـ لم تعد تدرك ما هو "الواجب" وما هي "العاطفة" .. ما هو الماضي الذي عاشته، وما هو المستقبل الذي تعجز عن العبور إليه .. لا تعرف ما الذي يجب أن تريده، وما الذي ينبغي ألا ترغب به حتى لا تزيد عتمة العالم .. كانت "إيفيلن"  في هذه اللحظة سرابًا يا فرهادي.

أنا مثل "إيفيلين" في نهاية قصة "جويس" .. احتمال متغير لواقع ثابت، يمكن استبدال التفاصيل التي تكوّنه بتفاصيل أخرى وسيظل دائمًا ما يشير إليه كما هو .. يمكنك أن تضع أي امرأة أخرى مكاني وسأظل أنا .. هذا ما كان عليك أن تنتهز وجودي لتؤكده .. كان عليك أن تقول للجميع: "هذه ليست قصة واحدة من النساء .. إنها القصة التي تخبئها كل النساء" .. كان عليك ألا تجعل المرأة العابرة أمام فيلمك تفكر في أنني أشبهها، بل أن تفكر في أنني هي كما لم يرها أحد مطلقًا.

يؤسفني القول إن فيلمك قد جعلني مصدرًا لرواية ما هو أقرب لـ "مشكلة عائلية" في لعبة "الإسقاط" المألوفة بدلًا من أن يُبقيني كشبح متناثر داخل لعنة وجودية، تاركًا لكل امرأة أن تكسبني ملامحها وجسدها، حياتها وموتها .. أن تخلقني على صورتها وتودعني كما ودعت نفسها .. تاركًا لكل امرأة ـ خاصة داخل فيلمك ـ أن تكشف عن أن حياتها التي تبدو "سعيدة" أو "مُرضية" هي في الحقيقة جثة "إيلي" .. يؤسفني القول إن فيلمك قد سمح للآخرين بأن ينسجوا حكاية أصلية لي بدلًا من أن يدع كل حكاية تتجلى بواسطة غيابي.

عزيزي أصغر فرهادي

ما كان يجب عليك أن تستسلم ـ كما يحدث غالبًا ـ لإغراء الحكمة السهلة، الصدئة، والهزلية بكامل وقاحتها، وأن تعيد تدوير نفايات مضحكة مثل: (أن نتألم قليلًا خير من أن نندم على حياتنا)...

كان عليك أن تفهم بأنني ـ مثل إيفيلن في قصة جيمس جويس ـ لم أوجد أبدًا.

الأربعاء، 26 يوليو 2023

ترجمة البروفيسور Jonas Elbousty لقصتي القصيرة "الوردة الحمراء" إلى الإنجليزية في العدد الجديد من Sekka Magazine








القصة باللغة العربية:

الوردة الحمراء

“حينما تذبل الوردة الحمراء في يد هذا الولد الصغير سيكون بمقدوري حينئذ الذهاب إلى العجوز مارجريت التي تنتظرني في دكانها القديم لكي تحكي لي حكايتها الحزينة مع الوردة الحمراء”.

اكتمل انعزاله بخطوات تدريجية خلال السنوات الثلاث الأخيرة. في البداية حذف جميع صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد ذلك بفترة وجيزة نزع شريحة الاتصال من هاتفه الخلوي، ثم أصبح لا يخرج من بيته إلا نادرًا، متفاديًا الأماكن التي يُحتمل فيها أن يصادف أصدقاءه، وفي النهاية توقف تمامًا عن مغادرة المنزل واستقبال أي احد ممن كان يعرفهم في الماضي.

كان قد اقترب من عمر الخمسين، ويعيش مع زوجته وابنته، وعلى مدار حياته كزوج وأب؛ أمضى كثيرًا من الوقت في حجرته المغلقة التي لا تحتوي على أكثر من سرير صغير، وطاولة طعام، ومقعد خشبي، وكومودينو تعلوه أباجورة بجوار السرير. كان قليل الكلام، يتحدث دائمًا كأنه يحاول الاختباء من اللغة، وبعد أن امتنع عن الخروج من البيت؛ لم يعد يتكلم مع أسرته أو يغادر حجرته إلا للضرورة القصوى. أصبحت هذه الحجرة أشبه بجُحرٍ خافت الإضاءة، يسكنه فأر عجوز صامت.

ذات يوم طرقت زوجته باب حجرته – كما عوّدها هي وابنته منذ أصبح لا يغادر المنزل – طلبًا لشيء روتيني. ربما أرادت سؤاله إن كان راغبًا في أن تُحضر له وجبة الغذاء الآن، أو ربما أرادت أن تطمئن عليه فحسب. سمح لها بالدخول فوجدته جالسًا على السرير، مسندًا ظهره إلى الوسادة المنتصبة، وعاقدًا ذراعيه فوق صدره، ويحدق بعينين شاردتين نحو الحائط المقابل. نظرت زوجته إلى حيث يتطلع؛ فوجدت رسمًا لولد صغير يمسك بوردة حمراء. لم يكن رسمًا متقنًا؛ إذ كان مفتقرًا لهذه المهارة، ومع ذلك كان يسهل التعرّف على ما رسمه بوضوح. كان في بساطته وعدم دقته أقرب لما يخطه الأطفال في كراساتهم المدرسية. لكن بالرغم من هذا؛ كان في ذلك الرسم شيء مخيف بصورة غامضة بالنسبة لزوجته. ربما لأن زوجها – بكل ما صار إليه في السنوات الأخيرة – هو من رسمه، وربما لأن الولد الصغير الذي يمسك بوردة حمراء كان مرسومًا على الحائط.

حينما سألته بصوت خفيض ومرتبك عن هذا الرسم، التفت إليها بهدوء يبطن ارتعاشًا خفيفًا ثم تجعّد وجهه بابتسامة ضئيلة وباهتة، ضاعفت من شرود نظرته وهو يقول لها فيما يشبه الهمس المنهك:

“حينما تذبل الوردة الحمراء في يد هذا الولد الصغير سيكون بمقدوري حينئذ الذهاب إلى العجوز مارجريت التي تنتظرني في دكانها القديم لكي تحكي لي حكايتها الحزينة مع الوردة الحمراء”.

عادت زوجته لسؤاله بصوت أكثر ارتباكًا كأنه توسل متنكر عن ما يقصده بهذه الكلمات؛ فطلب منها أن تجلس لكي يروي لها الذكرى التي تفسر الأمر:

“ربما كنت في العاشرة وقتها، حينما كانت مارجريت العجوز اليونانية بائعة الزهور جالسة كعادتها في عصر أحد الأيام أمام دكانها الصغير، ورأتني عائدًا وحدي من الحديقة المطلة على النيل. الملاذ الفردوسي الذي اعتدت أن ألعب أنا ورفاقي في ذلك الوقت بين أشجاره ونباتاته الكثيفة، وفوق عشبه الناعم. كنت غاضبًا وحزينًا ولا أتذكر السبب. لكن على أي حال لن يخرج الأمر عن سخرية تقليدية من أحد الرفاق تجاهي، أو عن هزيمة كلامية معتادة فشلت في تعويضها، أو عن شعور مفاجئ – دائم التكرار – بخيبة أمل مبهمة، لا تشترط وقوع حدث سيّئ بالحكم النمطي لكي تتسلط مهانتها على نفسي. فوجئت أثناء عبوري أمام دكان الزهور بمارجريت تتطلع إلى وجهي بقوة، ثم تقلّد بملامحها العجوز وبشكل مُداعِب ذلك التجهم الذي كان يُثقل وجهي الصغير حينئذ، ولم يكن بوسعي رؤيته طبعًا. كان وجه مارجريت في هذه اللحظة العابرة والمباغتة هو المرآة المضحكة، المواسية لملامحي التي تقبض عليها التعاسة.

أشارت لي بيدها النحيلة كي أقترب منها، وحينما توجهت خطواتي المترددة إليها سألتني بصوت رقيق وابتسامة حنونة عما يحزنني. كانت لغة استفهامها سليمة كليًا، تخلو حروفها من أي كسر، وإن كان يشوبها ذلك الثقل المألوف الخافت في ألسنة الأجانب عندما يتحدثون العربية . شعرت أمام سؤال مارجريت أنني أكتشف وجودها للمرة الأولى. بالرغم من كل مرات عبوري التي لا حصر لها أمام دكانها الصغير، ذهابًا إلى الحديقة وعودة منها. كأن هذا الدكان القديم لم يتجسد في شارع البحر سوى الآن، وكأن مارجريت لم تكن تجلس أمامه كل يوم. العجوز التي هاجرت عائلتها من اليونان إلى مصر قبل عقود طويلة، وتعيش وحدها في بيت عتيق وراء الدكان بعد موت زوجها اليوناني صاحب المخبز في السكة الجديدة الذي لم تنجب منه.

لم أقدر أن أجيب على سؤال مارجريت. لم يكن باستطاعتي محاولة الإجابة على سؤالها. لكن في الوقت نفسه ما كان الصمت ردًا مهذبًا؛ فابتسمت مرتبكًا وأنا أخبرها بأنني لست حزينًا من شيء. بالطبع كانت مارجريت تعرف أنني أكذب، وبدلًا من أن تلح عليّ بالسؤال مجددًا فوجئت بها تستفسر مني عن نوع الزهور التي أحبها. خطر في ذهني على الفور الورد البلدي الأحمر. رمز الاحتفال بجمال الحياة الذي كان يستقبلني أنا وأمي وشقيقتي في أفراح الأقارب والمعارف، ويلوّح لبصري بالأمل من الضفة الأخرى للنيل عند خروجي من الجامع مع أبي. أخبرت مارجريت بحميمية حذرة أنني أحب هذا الورد؛ فطلبت مني الدخول معها إلى الدكان. اختارت وردة حمراء كبيرة، متوهجة بإشراق ناعم وأعطتها لي. قالت إنها أيضًا تحب هذا الورد، بالرغم من أن هناك حكاية قديمة حزينة لها مع الوردة الحمراء، ليس ملائمًا أن تخبرني بها الآن حتى لا تزيد من همّي الذي لا تعرفه، ولكنني إن جئتها غدًا في الدكان فسوف تحكيها لي.

عدت إلى بيتي سعيدًا بالوردة الحمراء، ورحت أعتني بها كما يليق بتعويذة ثمينة. أصبحت كائنًا بالغ الأهمية في حياتي التي لا تحوي أشياءً مهمة كثيرة. لكن هذا التعلّق الصلب بالوردة الحمراء جعل حكاية مارجريت الحزينة منسية بداخلي. لم أعد أتذكر أنها تنتظرني في دكانها القديم لكي تخبرني بتلك الحكاية. رعايتي المفتونة بالوردة الحمراء هي ما استحوذ على نفسي بصورة كاملة. لدرجة أنني في اليوم التالي للقائي بمارجريت، وخلال الأيام اللاحقة؛ ظللت أمر عليها وهي جالسة أمام دكانها في طريقي إلى الحديقة للعب مع رفاقي وعند رجوعي منها دون أن أفكر في الانعطاف نحوها أو حتى في الإشارة لها بتحية عابرة. عادت مارجريت ودكانها كأنهما غير موجودين في العالم بالنسبة لي.

بدأت الوردة الحمراء تذبل تدريجيًا بعد فترة إلى أن ماتت. تفتتت وداعتها الزاهية إلى أشلاء خامدة، خشنة، وهشة، متطايرة حول غيابها. لكنني ظللت أسيرًا لذكراها، مستغرقًا في اللحظات القليلة التي عاشتها في كنف انطوائي. ومع ذلك لم يذكّرني موت الوردة الحمراء بموعدي مع مارجريت. منعني الانغماس في الماضي الذي اختلسناه سويًا من الذهاب إلى دكان الزهور ومعرفة الحكاية الحزينة لصاحبته اليونانية العجوز مع الوردة الحمراء. ثم بمرور الوقت تملّكني اليقين بأن هذه الوردة لم تمت حقًا. أن لديها حياة أخرى في أعماقي، وأن شرط بقائها على قيد هذه الحياة هو استمراري في تذكرها. ألا أتوقف أبدًا عن استعادة الأحلام الحريرية التي نسجت خيوطها حول رفقتنا المنكمشة.

مرت سنوات طويلة جدًا، انتهت بي إلى أن أعيش الثواني الباقية من عمري مختبئًا، بلا أحد أو شيء. وحينما أصبحت هكذا على نحو خاطف تذكرت مارجريت. تذكرت موعدي معها بعد كل هذه المدة الكبيرة، وأدركت أنني لابد أن أذهب إليها لأسمع حكايتها الحزينة التي كان يجب أن تخبرني بها في اليوم التالي للقائنا الوحيد. لكنني أشعر أن الوردة الحمراء التي مازالت تعيش في أعماقي تمنعني من ذلك. يقف وجودها المتجذّر في باطني حائلًا بيني وبين تحقيق هذه الرغبة. لذا وجدت نفسي أرسم على الحائط هذا الولد الصغير الذي كنته، وفي يده الوردة الحمراء التي ظلت نابضة داخله بعد موتها الجسدي منذ زمن بعيد. لم يعد بوسعي سوى أن أبقى في انتظار ذبول هذه الوردة حتى أتمكن من الذهاب إلى مارجريت”.     

كانت زوجته قد استسلمت لانعزاله التدريجي بعدما أيقنت أنها لن تستطيع هي أو ابنتهما منع ذلك. لكن ما قاله الآن كان كابوسًا مفاجئًا يفوق قدرتها على التحمّل. قالت له وهي على وشك البكاء: “أنت لم تخبرني بأي شيء من هذا طوال حياتنا معًا. أنا أعرف دكان الزهور الذي تتحدث عنه. مارجريت ماتت منذ وقت طويل، والدكان لم يعد له أثر. أنت تعرف ذلك جيدًا”.

لم يرد على زوجته مكتفيًا بنظرة ساهمة، محتقنة برفض محسوم لما تفوهت به، قبل أن يعاود التحديق في الحائط. عادت تقول له بصوت مختنق والدموع تطفو بكثافة من عينيها: “حسنًا. حاول أن تتذكر إذا كنت لا تستطيع حقًا مغادرة هذه الحجرة اللعينة والذهاب إلى هناك. حاول أن تتذكر؛ ألم تمر في شارع البحر مئات بل حتى آلاف المرات طوال السنوات الماضية؟ ألم تشاهد البناية الكبيرة التي شُيّدت موضع دكان مارجريت؟ ألم تبصرها وهي ترتفع حتى اكتمل بناؤها، ثم سكنت شققها، وافتُتحت محلاتها، وأصبحت هي الأخرى بناية قديمة؟”.

أجابها بحدة ذاهلة كأنما يضع ختامًا استنكاريًا لهذا الجدل: “هذا غير صحيح. أعرف أن مارجريت لا تزال حية، وأن الدكان لا يزال في مكانه. حتى آخر لحظة قبل امتناعي عن الخروج من البيت؛ كنت أراها عند مروري من شارع البحر جالسة كعادتها. بشعرها البُني القصير الناعم الذي يخالطه الشيب، بحاجبيها الرفيعين، بالنظرة النافذة لعينيها الخضراوين، بوجهها الأبيض الطفولي، المتوّرد دون مكياج، بالتجاعيد الخفيفة الذائبة في رقة ملامحها، بجسدها النحيف الذي يغطيه ثوب قطني طويل، مشجّر دائمًا، وبحزام معقود وراء ظهرها، كأنه أقرب لرداء منزلي، بطلاء الأظافر الزهري في يديها وقدميها المكشوفتين من حذائها الجلدي الأسود. مارجريت لا تزال في انتظاري حتي تخبرني بحكايتها الحزينة مع الوردة الحمراء. أنا متأكد من هذا”.

غادرت زوجته الحجرة في صمت، وقد قررت وهي تغلق بابها عليه أن تتصل بكل من يُحتمل أن يقدم لها يد المساعدة: أقارب زوجها الذين كان يربطه بهم قدر من الود، أصدقاؤه الذين كانوا مقربين “شكليًا” له. أخبرتهم جميعًا بما حدث وطلبت منهم الحضور. حينما تواجدوا في حجرته مع زوجته وابنته، وبعد أن ظلوا يتطلعون إليه بنظرات الشفقة والرجاء، وقبل أن يتكلموا معه في أي شيء؛ قال لهم وهو مازال جالسًا على سريره ويحدق إلى الرسم على الحائط:

“لا عليكم. أنا أعلم تمامًا أن مارجريت ماتت منذ زمن طويل، وأن الدكان القديم قد هُدم بالفعل. لكن هذا الرسم هو آخر ما يمكنني فعله انتقامًا من الوردة الحمراء التي تحتم عليّ انتظار ذبولها. الوردة الحمراء التي حينما منعتني من معرفة الحكاية الحزينة لمارجريت فإنها قتلتني في تلك اللحظة البعيدة. أنهت حياتي وقتئذ، ولم يعد لي وجود، مهما توهمتم عكس ذلك. صدقوني، أنتم تنظرون الآن إلى لا شيء. من يوجد فقط هو ذلك الولد الصغير المرسوم على الحائط”.