اكتمل انعزاله بخطوات تدريجية خلال السنوات الثلاث الأخيرة. في البداية حذف جميع صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد ذلك بفترة وجيزة نزع شريحة الاتصال من هاتفه الخلوي، ثم أصبح لا يخرج من بيته إلا نادرًا، متفاديًا الأماكن التي يُحتمل فيها أن يصادف أصدقاءه، وفي النهاية توقف تمامًا عن مغادرة المنزل واستقبال أي احد ممن كان يعرفهم في الماضي.
كان قد اقترب من عمر الخمسين، ويعيش مع زوجته وابنته، وعلى مدار حياته كزوج وأب؛ أمضى كثيرًا من الوقت في حجرته المغلقة التي لا تحتوي على أكثر من سرير صغير، وطاولة طعام، ومقعد خشبي، وكومودينو تعلوه أباجورة بجوار السرير. كان قليل الكلام، يتحدث دائمًا كأنه يحاول الاختباء من اللغة، وبعد أن امتنع عن الخروج من البيت؛ لم يعد يتكلم مع أسرته أو يغادر حجرته إلا للضرورة القصوى. أصبحت هذه الحجرة أشبه بجُحرٍ خافت الإضاءة، يسكنه فأر عجوز صامت.
ذات يوم طرقت زوجته باب حجرته – كما عوّدها هي وابنته منذ أصبح لا يغادر المنزل – طلبًا لشيء روتيني. ربما أرادت سؤاله إن كان راغبًا في أن تُحضر له وجبة الغذاء الآن، أو ربما أرادت أن تطمئن عليه فحسب. سمح لها بالدخول فوجدته جالسًا على السرير، مسندًا ظهره إلى الوسادة المنتصبة، وعاقدًا ذراعيه فوق صدره، ويحدق بعينين شاردتين نحو الحائط المقابل. نظرت زوجته إلى حيث يتطلع؛ فوجدت رسمًا لولد صغير يمسك بوردة حمراء. لم يكن رسمًا متقنًا؛ إذ كان مفتقرًا لهذه المهارة، ومع ذلك كان يسهل التعرّف على ما رسمه بوضوح. كان في بساطته وعدم دقته أقرب لما يخطه الأطفال في كراساتهم المدرسية. لكن بالرغم من هذا؛ كان في ذلك الرسم شيء مخيف بصورة غامضة بالنسبة لزوجته. ربما لأن زوجها – بكل ما صار إليه في السنوات الأخيرة – هو من رسمه، وربما لأن الولد الصغير الذي يمسك بوردة حمراء كان مرسومًا على الحائط.
حينما سألته بصوت خفيض ومرتبك عن هذا الرسم، التفت إليها بهدوء يبطن ارتعاشًا خفيفًا ثم تجعّد وجهه بابتسامة ضئيلة وباهتة، ضاعفت من شرود نظرته وهو يقول لها فيما يشبه الهمس المنهك:
“حينما تذبل الوردة الحمراء في يد هذا الولد الصغير سيكون بمقدوري حينئذ الذهاب إلى العجوز مارجريت التي تنتظرني في دكانها القديم لكي تحكي لي حكايتها الحزينة مع الوردة الحمراء”.
عادت زوجته لسؤاله بصوت أكثر ارتباكًا كأنه توسل متنكر عن ما يقصده بهذه الكلمات؛ فطلب منها أن تجلس لكي يروي لها الذكرى التي تفسر الأمر:
“ربما كنت في العاشرة وقتها، حينما كانت مارجريت العجوز اليونانية بائعة الزهور جالسة كعادتها في عصر أحد الأيام أمام دكانها الصغير، ورأتني عائدًا وحدي من الحديقة المطلة على النيل. الملاذ الفردوسي الذي اعتدت أن ألعب أنا ورفاقي في ذلك الوقت بين أشجاره ونباتاته الكثيفة، وفوق عشبه الناعم. كنت غاضبًا وحزينًا ولا أتذكر السبب. لكن على أي حال لن يخرج الأمر عن سخرية تقليدية من أحد الرفاق تجاهي، أو عن هزيمة كلامية معتادة فشلت في تعويضها، أو عن شعور مفاجئ – دائم التكرار – بخيبة أمل مبهمة، لا تشترط وقوع حدث سيّئ بالحكم النمطي لكي تتسلط مهانتها على نفسي. فوجئت أثناء عبوري أمام دكان الزهور بمارجريت تتطلع إلى وجهي بقوة، ثم تقلّد بملامحها العجوز وبشكل مُداعِب ذلك التجهم الذي كان يُثقل وجهي الصغير حينئذ، ولم يكن بوسعي رؤيته طبعًا. كان وجه مارجريت في هذه اللحظة العابرة والمباغتة هو المرآة المضحكة، المواسية لملامحي التي تقبض عليها التعاسة.
أشارت لي بيدها النحيلة كي أقترب منها، وحينما توجهت خطواتي المترددة إليها سألتني بصوت رقيق وابتسامة حنونة عما يحزنني. كانت لغة استفهامها سليمة كليًا، تخلو حروفها من أي كسر، وإن كان يشوبها ذلك الثقل المألوف الخافت في ألسنة الأجانب عندما يتحدثون العربية . شعرت أمام سؤال مارجريت أنني أكتشف وجودها للمرة الأولى. بالرغم من كل مرات عبوري التي لا حصر لها أمام دكانها الصغير، ذهابًا إلى الحديقة وعودة منها. كأن هذا الدكان القديم لم يتجسد في شارع البحر سوى الآن، وكأن مارجريت لم تكن تجلس أمامه كل يوم. العجوز التي هاجرت عائلتها من اليونان إلى مصر قبل عقود طويلة، وتعيش وحدها في بيت عتيق وراء الدكان بعد موت زوجها اليوناني صاحب المخبز في السكة الجديدة الذي لم تنجب منه.
لم أقدر أن أجيب على سؤال مارجريت. لم يكن باستطاعتي محاولة الإجابة على سؤالها. لكن في الوقت نفسه ما كان الصمت ردًا مهذبًا؛ فابتسمت مرتبكًا وأنا أخبرها بأنني لست حزينًا من شيء. بالطبع كانت مارجريت تعرف أنني أكذب، وبدلًا من أن تلح عليّ بالسؤال مجددًا فوجئت بها تستفسر مني عن نوع الزهور التي أحبها. خطر في ذهني على الفور الورد البلدي الأحمر. رمز الاحتفال بجمال الحياة الذي كان يستقبلني أنا وأمي وشقيقتي في أفراح الأقارب والمعارف، ويلوّح لبصري بالأمل من الضفة الأخرى للنيل عند خروجي من الجامع مع أبي. أخبرت مارجريت بحميمية حذرة أنني أحب هذا الورد؛ فطلبت مني الدخول معها إلى الدكان. اختارت وردة حمراء كبيرة، متوهجة بإشراق ناعم وأعطتها لي. قالت إنها أيضًا تحب هذا الورد، بالرغم من أن هناك حكاية قديمة حزينة لها مع الوردة الحمراء، ليس ملائمًا أن تخبرني بها الآن حتى لا تزيد من همّي الذي لا تعرفه، ولكنني إن جئتها غدًا في الدكان فسوف تحكيها لي.
عدت إلى بيتي سعيدًا بالوردة الحمراء، ورحت أعتني بها كما يليق بتعويذة ثمينة. أصبحت كائنًا بالغ الأهمية في حياتي التي لا تحوي أشياءً مهمة كثيرة. لكن هذا التعلّق الصلب بالوردة الحمراء جعل حكاية مارجريت الحزينة منسية بداخلي. لم أعد أتذكر أنها تنتظرني في دكانها القديم لكي تخبرني بتلك الحكاية. رعايتي المفتونة بالوردة الحمراء هي ما استحوذ على نفسي بصورة كاملة. لدرجة أنني في اليوم التالي للقائي بمارجريت، وخلال الأيام اللاحقة؛ ظللت أمر عليها وهي جالسة أمام دكانها في طريقي إلى الحديقة للعب مع رفاقي وعند رجوعي منها دون أن أفكر في الانعطاف نحوها أو حتى في الإشارة لها بتحية عابرة. عادت مارجريت ودكانها كأنهما غير موجودين في العالم بالنسبة لي.
بدأت الوردة الحمراء تذبل تدريجيًا بعد فترة إلى أن ماتت. تفتتت وداعتها الزاهية إلى أشلاء خامدة، خشنة، وهشة، متطايرة حول غيابها. لكنني ظللت أسيرًا لذكراها، مستغرقًا في اللحظات القليلة التي عاشتها في كنف انطوائي. ومع ذلك لم يذكّرني موت الوردة الحمراء بموعدي مع مارجريت. منعني الانغماس في الماضي الذي اختلسناه سويًا من الذهاب إلى دكان الزهور ومعرفة الحكاية الحزينة لصاحبته اليونانية العجوز مع الوردة الحمراء. ثم بمرور الوقت تملّكني اليقين بأن هذه الوردة لم تمت حقًا. أن لديها حياة أخرى في أعماقي، وأن شرط بقائها على قيد هذه الحياة هو استمراري في تذكرها. ألا أتوقف أبدًا عن استعادة الأحلام الحريرية التي نسجت خيوطها حول رفقتنا المنكمشة.
مرت سنوات طويلة جدًا، انتهت بي إلى أن أعيش الثواني الباقية من عمري مختبئًا، بلا أحد أو شيء. وحينما أصبحت هكذا على نحو خاطف تذكرت مارجريت. تذكرت موعدي معها بعد كل هذه المدة الكبيرة، وأدركت أنني لابد أن أذهب إليها لأسمع حكايتها الحزينة التي كان يجب أن تخبرني بها في اليوم التالي للقائنا الوحيد. لكنني أشعر أن الوردة الحمراء التي مازالت تعيش في أعماقي تمنعني من ذلك. يقف وجودها المتجذّر في باطني حائلًا بيني وبين تحقيق هذه الرغبة. لذا وجدت نفسي أرسم على الحائط هذا الولد الصغير الذي كنته، وفي يده الوردة الحمراء التي ظلت نابضة داخله بعد موتها الجسدي منذ زمن بعيد. لم يعد بوسعي سوى أن أبقى في انتظار ذبول هذه الوردة حتى أتمكن من الذهاب إلى مارجريت”.
كانت زوجته قد استسلمت لانعزاله التدريجي بعدما أيقنت أنها لن تستطيع هي أو ابنتهما منع ذلك. لكن ما قاله الآن كان كابوسًا مفاجئًا يفوق قدرتها على التحمّل. قالت له وهي على وشك البكاء: “أنت لم تخبرني بأي شيء من هذا طوال حياتنا معًا. أنا أعرف دكان الزهور الذي تتحدث عنه. مارجريت ماتت منذ وقت طويل، والدكان لم يعد له أثر. أنت تعرف ذلك جيدًا”.
لم يرد على زوجته مكتفيًا بنظرة ساهمة، محتقنة برفض محسوم لما تفوهت به، قبل أن يعاود التحديق في الحائط. عادت تقول له بصوت مختنق والدموع تطفو بكثافة من عينيها: “حسنًا. حاول أن تتذكر إذا كنت لا تستطيع حقًا مغادرة هذه الحجرة اللعينة والذهاب إلى هناك. حاول أن تتذكر؛ ألم تمر في شارع البحر مئات بل حتى آلاف المرات طوال السنوات الماضية؟ ألم تشاهد البناية الكبيرة التي شُيّدت موضع دكان مارجريت؟ ألم تبصرها وهي ترتفع حتى اكتمل بناؤها، ثم سكنت شققها، وافتُتحت محلاتها، وأصبحت هي الأخرى بناية قديمة؟”.
أجابها بحدة ذاهلة كأنما يضع ختامًا استنكاريًا لهذا الجدل: “هذا غير صحيح. أعرف أن مارجريت لا تزال حية، وأن الدكان لا يزال في مكانه. حتى آخر لحظة قبل امتناعي عن الخروج من البيت؛ كنت أراها عند مروري من شارع البحر جالسة كعادتها. بشعرها البُني القصير الناعم الذي يخالطه الشيب، بحاجبيها الرفيعين، بالنظرة النافذة لعينيها الخضراوين، بوجهها الأبيض الطفولي، المتوّرد دون مكياج، بالتجاعيد الخفيفة الذائبة في رقة ملامحها، بجسدها النحيف الذي يغطيه ثوب قطني طويل، مشجّر دائمًا، وبحزام معقود وراء ظهرها، كأنه أقرب لرداء منزلي، بطلاء الأظافر الزهري في يديها وقدميها المكشوفتين من حذائها الجلدي الأسود. مارجريت لا تزال في انتظاري حتي تخبرني بحكايتها الحزينة مع الوردة الحمراء. أنا متأكد من هذا”.
غادرت زوجته الحجرة في صمت، وقد قررت وهي تغلق بابها عليه أن تتصل بكل من يُحتمل أن يقدم لها يد المساعدة: أقارب زوجها الذين كان يربطه بهم قدر من الود، أصدقاؤه الذين كانوا مقربين “شكليًا” له. أخبرتهم جميعًا بما حدث وطلبت منهم الحضور. حينما تواجدوا في حجرته مع زوجته وابنته، وبعد أن ظلوا يتطلعون إليه بنظرات الشفقة والرجاء، وقبل أن يتكلموا معه في أي شيء؛ قال لهم وهو مازال جالسًا على سريره ويحدق إلى الرسم على الحائط:
“لا عليكم. أنا أعلم تمامًا أن مارجريت ماتت منذ زمن طويل، وأن الدكان القديم قد هُدم بالفعل. لكن هذا الرسم هو آخر ما يمكنني فعله انتقامًا من الوردة الحمراء التي تحتم عليّ انتظار ذبولها. الوردة الحمراء التي حينما منعتني من معرفة الحكاية الحزينة لمارجريت فإنها قتلتني في تلك اللحظة البعيدة. أنهت حياتي وقتئذ، ولم يعد لي وجود، مهما توهمتم عكس ذلك. صدقوني، أنتم تنظرون الآن إلى لا شيء. من يوجد فقط هو ذلك الولد الصغير المرسوم على الحائط”.