تأتي أهمية هذه الترجمة في قدرتها على تحفيز الأسرار اللغوية لمدينة طنجة كما لاحقها واكتشفها محمد شكري وحفر بصمته الكتابية الوحشية في صدوعها وأغوارها بحيث أصبح لهذه المدينة تاريخًا سرديًا خاصًا منفلتًا عن الأطر التقليدية المروّضة.
تتنقل ترجمة جوناس البستي بين الأماكن والتفاصيل والأحداث الجامحة التي كوّن محمد شكري بواسطتها سيرته المتمردة في قلب طنجة؛ فنتأمل مثلًا الغريزة الانتقامية مجسدة في الطيش المنبوذ للآخر “ميمون” كما في قصة “العنف على الشاطئ” حيث يخلق محمد شكري تلازمًا أدائيًا لإكراهات الظلام الباطني للراوي مع الاندفاعات الانتهاكية الهوجاء للمتشرد الغاضب بما يعادل استبصارًا للتوحد بين النقمة السرية التي تقاوم أو توشك أن تكون اجتياحًا معلنًا، والثأر الذي تحوّل بالفعل إلى غنيمة عارية ومراوِغة لحصار الأجساد الضالة.
يحيلنا الكتاب كذلك إلى النبش عن أشلاء الخلاص المتناثرة، المدفونة في الإهمال كما في قصة “الشبكة” كأنها حطام الرجاءات والأحلام يلتقطها الطفل من النسيان لينشئ بوعودها البالية والغامضة وهمًا مخيِبًا طازجًا، يتسق مع خطواته التنقيبية المبكرة حيث يمكن ملامسة العالم في إبهامه المحصن بواسطة سمكة بلاستيكية جميلة تٌلقى لقطة ناعسة قرب البحر.
نراجع أيضًا مفهوم الأمومة من خلال صفقة لا تكتمل لشراء مولود ذكر جميل في قصة “أمومة”؛ فالمراقبة تتجاوز البُعد الأخلاقي المباشر لتمتد في مسارات متعددة بين البائع والوسيط والمشتري بما أن الخيال يُشكل هويات الأطراف المتشابكة مثلما ينسج أسرارهم وعلاقاتهم، ويبقى “الطفل” نفسه واقعيًا ورمزيًا وبكل الاستفهامات القدرية لوجوده طيفًا محرضًا لذلك الخيال.
تقودنا “حكايات طنجة” كذلك إلى مسيرة الأطفال التضامنية مع الطيور والحيوانات في قصة “الأطفال ليسوا دائمًا حمقى” أو حينما “يبدو للعالم معنى آخر” من خلال لافتة فارغة وورقة بيضاء وخطبة صامتة ثم إطلاق الطيور وتسريح الحيوانات، كأنه كفاح طفولي لاسترداد حرية أكثر شمولًا من حيواتهم ذاتها تتحاشى المزيد من الكلمات التي طالما استُعملت في القمع.
جثث يتطوح عنفها الشهواني بين القيء والدماء والصديد والدموع، كأنها مدينة “الداخل” التي شُيدت في باطن الذات قبل ولادتها وتمثل الأصل النقي المحتجب في صورة “الخارج” القابضة على مناطحات الموتى في قصة “القيء” حيث الموت لا يعني الصمت الذي يقترن بحدوثه فحسب وإنما انتظاره المحكوم بلهاث الرغبة في تفتيت “الجمال”.
مرارة ديستوبية يائسة في قصة “أشجار صلعاء” حيث المقارنة والتماثل بين الجثث والأشجار في ما بعد “الإبادة” أو ما نتج عن التدمير والاحتراق؛ إذ ثمة شاهد يرى الماضي كنبوءة واحتضاره كحتمية تسبق التاريخ وصراخه الواهن كدماء متلاشية تذكيرًا بالفناء المتنكر في صورة حياة.
تأريخ لإغواء الجمال في وحشيته المتجذرة داخل عمق المسارات المكانية ولطشات الخيال كما في قصة “مجنون الورد” حيث يلهث الذهن والشعور في مطاردة مستحيلة لفهم “الاغتراب” دون أمل سوى في تقويض الأمان حتى اللحظة الأخيرة كأن تمزيق أقنعته بمثابة نجاة مضادة.
الدكتور جوناس البستي حاصل على الدكتوراه من جامعة كولومبيا بنيويورك، وأستاذ جامعي في قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى – جامعة ييل، نيوهيفين – أميركا، وهو الذي شغل منصب مدير الدراسات الجامعية قسم لغات وحضارات الشرق لمدة سبع سنوات، والآن في منصب مدير الدراسات الجامعية في قسم الشرق الأوسط، وقام بالتدريس في جامعات عدة. تركز اهتماماته البحثية على نظريات الأدب وإشكالية الترجمة الأدبية، والتاريخ الثقافي، وصورة العرب في الروايات الأدبية والإعلامية الأميركية، أدب المهجر، الشعر العربي المعاصر، وحياة وأعمال محمد شكري.
عمل الدكتور جوناس البستي على نطاق واسع مع Defense Language Institute ومنظمات أخرى لتقديم خدمات التدريب والاختبار، وهو مؤلف كتاب “الإعلام العربي: الخطاب الصحفي لطلاب اللغة العربية المتقدمين”، ومؤلف مشارك في كتاب “القارئ الأدبي العربي المتقدم”، ومؤلف مشارك أيضًا لكتاب “الحيوية والديناميكية: الحوارات البينية للغة والسياسة والدين في التقاليد الأدبية المغربية”، وقد صدر مؤخرًا كتابه “أصوات معاصرة”، قصص من العالم العربي، عن جامعة جورج تاون برس في واشنطن لطلاب الدراسات العليا، قسم اللغة العربية.
موقع "الكتابة" ـ 8 يوليو 2023