الأربعاء، 29 أغسطس 2018

الجرائم الحقيقية

تواصل معي على فيسبوك محرر صحفي يعمل في مطبوعة ثقافية عربية راغبًا في إجراء حوار عن مشروع "نقد استجابة القارئ العربي" الذي أنشر مقالاته في باب أسبوعي على موقع "الكتابة" الثقافي. كعادتي طلبت منه قائمة بجميع الأسئلة حتى أرسل له إجاباتها دفعة واحدة في الموعد المحدد، على أن أقوم بالرد على أي استفهام أو استفسار جديد يطرأ في ذهن المحرر بناءًا على تلك الإجابات. بعد أسبوعين تقريبًا تم نشر الحوار، وكان كالتالي:
الناقد ممدوح رزق: القارئ ليس إلهاً، وجودريدز قوّاد كتب.
في مطلع العام الحالي بدأ الناقد ممدوح رزق في كتابة سلسلة مقالات أسبوعية لموقع الكتابة الثقافي تحت عنوان (نقد استجابة القارئ العربي). حول هذا المشروع كان لنا معه هذا الحوار:
ـ لا تخلو مقالات (نقد استجابة القارئ العربي) من السخرية، إلى من توجهها تحديداً؟
هي سخرية من إيمان القارئ بأن فكرته الشخصية عن العمل الأدبي، وعن الكتابة بشكل عام بمثابة حقيقة مطلقة، وما قد يتبع هذا الإيمان من ممارسات عقابية تجاه الكاتب، ومحاولات فرض الوصاية على القرّاء الذين لديهم أفكار مختلفة، وكذلك من السلطة المعرفية التي تستثمر هذه الألوهة المزعومة للقارئ.
ـ ما هى ممارسات عقاب الكاتب التي تقصدها؟
في سلسلة المقالات تناولتها بشكل تفصيلي، ويندرج في إطارها الريفيوهات العدائية التي تتعمّد إهانة العمل الأدبي وكاتبه تحت دوافع أخلاقية أو دينية مثلًا، والتحذير من قراءة هذا العمل، والهجوم على المقاربات النقدية التي تحتفي به، وحتى التعقّب "القانوني"، وبالطبع تتفاوت مستويات اللغة أو حدة "البلاغة" المستخدمة في هذا العقاب.
ـ خصصت جزءاً كبيراً من (نقد استجابة القارئ العربي) لموقع جودريدز، كيف تعرض رؤيتك له الآن؟
موقع جودريدز ـ وما يشبهه ـ بالنسبة لي مجرد قوّاد كتب، يقوم على آليات انتهازية سخيفة، تستغل رغبة القارئ في تجاوز فرديته أو فضائه الخاص إلى المساهمة الأبوية في تحديد يقين عام عن الكتاب حتى لو لم يسبق له الاطلاع عليه أصلا، أو بحسب كم الحسابات المغشوشة التي يمتلكها على الموقع؛ ولهذا فمن العادي جدًا أن يعطي أحدهم لكتابك نجمة واحدة لأنك قمت بحظره على فيسبوك مثلًا، أو لأنك لم تكتب مقالًا عن الرواية التي أرسلها إليك، أو لأنك تهكمت عليه في أحد نصوصك، أو لمجرد الغيرة؛ لذا فتقييم الأعمال الأدبية بالنجوم مسألة تزييفية سمجة، وجديرة بالازدراء. الكاتب لا يقدم وجبات طعام، أو خدمة فندقية، ولا يكتب إرضاءًا للجميع أو لأحد بعينه كي يكون للآخرين الحق في التعامل مع كتاباته بمنطق النجاح والفشل.
ـ ما هي علاقتك ككاتب بموقع جودريدز، وهل مازلت تستخدمه؟
تحدثت في أحد مقالات "نقد استجابة القارئ العربي" عن علاقتي بجودريدز، وذكرت أنني أضفت كتبي إلى الموقع عام 2009 ، وكنت أنشر أحيانًا قرءاتي النقدية به، ولم يكن الغرض كذلك ـ كما سبق وكتبت ـ هو قراءة التدوينات حول الكتب فحسب بل تأويل هذه التدوينات أيضًا، مراقبة سلوكها اللغوي، النطاقات التي تتحرك في حدودها، والمقارنة بينها. كان الغرض هو اقتفاء أثر ما تتبناه، وما تهمله، وتفسير الدوافع وراء ذلك. منذ فترة طويلة لم أعد أتصفح هذا الموقع إلا نادرًا، ولا يزال القراء يضيفون كتبي إليه، وأحيانًا لا أعرف بذلك إلا بعد مدة كبيرة.
ـ هل تهتم بمراجعات القراء عن أعمالك؟
لا أهتم سوى بالآراء والمقاربات التي تحاول اكتشاف وتشريح نصوصي، وتعيد خلقها لا أن تحاكمها؛ فمن السذاجة والعبث أن تنظر بجدية لمن يحاسبك على تجارب لا يعرف عنها شيئًا، أو على مخالفتك لما يظنه بتعنّت طفولي قواعد مقدسة للكتابة، أو على ما يعتبره ـ بمنتهى النطاعة العمياء ـ تعاملًا خاطئًا من جانبك مع آلامك الشخصية. "نقد استجابة القارئ العربي" يفكك هذه الأساطير المرتبطة بالتلقي، ويكشف مدى هزليتها وبؤسها، وهو في ذلك يطمح لكتابة تاريخ آخر للجماليات الأدبية والنقدية يجرّدها من الأوهام التحريمية المعتادة.
ـ ماذا تطلق إذن على سبب عدم تجاوب القارئ مع كتاب معين؟
أطلق عليه تباينًا في طبيعة الرؤى .. اختلاف الموقف الوجودي والجمالي من العالم .. عدم التوافق في الإدراك أو التفسير أو الاعتقاد .. الانفصال عن تاريخ مغاير لا يتحمّل أحد مسؤوليته .. غياب التفاهم أو الانسجام بين وعي بالحياة والموت ووعي آخر لا ذنب لأحد فيه .. لهذا فإنني لا أحترم القارئ أو الناقد المتزمت الذي ينصّب نفسه قاضيًا على نص لا يمتلك أدنى فكرة عن الماضي الذي أنتجه، وبدلًا من أن يُرجع عدم التوافق بينه وبين النص إلى انتفاء المساحات المشتركة أو الجسور التحريضية، فإنه يردّه بالسهولة العفوية السطحية والمتعالية إلى ما يُسميه "أخطاء الكاتب"، كأن هذا القارئ أو الناقد يمثل الصواب الأدبي في ذاته، وعلى جميع الكتّاب أن يعملوا لإرضاء ذائقته هو تحديدًا ومن يشابهه.
ـ ماذا عن كتابتك النقدية؟ هل لديك معيار مختلف لقراءة النصوص؟
في عملي النقدي لا أعيّن نفسي حاكمًا على كاتب أو مقيّما لجهده أو مصححًا لنصوصه أو أيًا من تلك الاعتداءات الوضيعة التي يحتاجها الكثيرون لإخفاء عجزهم، وإشباع نقصهم. إما أن يكون في العمل الأدبي ما يحفزني على تحليله، ويغريني باللعب التخييلي مع رموزه وعلاقاته، واقتياده إلى مناطق جدلية أبعد مما قد تقترحه التأويلات المباشرة، أو لا تنشأ هذه الصلة النفسية، أو يومض هذا الاستفزاز الذهني، وحينئذ لا أكتب عنه فحسب، وربما مؤقتًا وليس نهائيًا .. هكذا يتم الأمر بالنسبة لي ببساطة وفي صمت، دون استغلال لما يُطلق عليه "نقاط الضعف في العمل" كي أصدح بحكمتي الأدبية التي يجب أن يراعيها الجميع.
ـ تحدثت أيضاً في (نقد استجابة القارئ العربي) عن تدوينات القراءة. كيف أثبتت هذه التدوينات عدم وجود فرق بين القراء الذين يكتبون المراجعات والنقاد الأكاديميين حتى الذين لديهم مكانة معروفة في الحياة الثقافية العربية؟      
لا يقتصر الأمر على الأكاديميين تحديدًا .. نعم هم نقاد لا فرق بينهم وبين القراء الذين لا يقدمون أنفسهم كنقاد .. أجيال متعاقبة عاشت بمعنى الكلمة عالة على النقد الأدبي بفضل هذه السلطة: "فشل الكاتب في كذا"، "أخفق الكاتب في كذا"، "لم ينجح الكاتب في كذا"، "هذا عمل مبتذل"، "هذه كتابة رديئة"، "هذا كاتب يسعى للشهرة"، "نحن في فوضى أدبية تسمح لكل من هب ودب بالكتابة" ... إلخ، وعلى جانب آخر ـ وهذا منطقي ـ تجدهم بارعين تمامًا في كتابة ملخصات للأعمال الأدبية، وفي إخضاع النصوص للدلالات المستهلكة، وتدوير المعاني التقليدية المغلفة أحيانًا بالتحذيرات الرقابية .. الناقد بالنسبة لي هو الذي يكشف العمل الأدبي، أو الفيلم السينمائي لكاتبه أو مخرجه مثلما يكشفه للقارئ أو المتفرج تمامًا،. يضيء احتمالات ملهمة، ولا يتوقف أمام التأويل السهل والمتداول للرموز بل يفكك السياقات الجاهزة، ويضع علاماتها الواضحة في نطاقات استفهامية، خالقًا فيما بينها علاقات مبتكرة ضمن "كتابة موازية" تشتبك حقًا مع النص.
 ـ ما سبب توقفك عن كتابة الباب، وهل ستعود إليه قريباً؟
توقفت عن كتابته بسبب انشغالي بنوفيلا "جرثومة بو" التي كان يستدعي إنهاؤها قدرًا كبيرًا من التفرغ بالإضافة لبعض الأعمال الأخرى، وسأعود لكتابة الباب خلال الشهر القادم.
* * *
بعد نشر الحوار بساعات قليلة نشر أحد النقاد الأكاديميين المعروفين منشورًا هجوميًا يصفني فيه ـ دون ذكر اسمي، ولكن بإشارة ضمنية إلى الحوار ـ بالغرور والتعالي وعدم احترام الآخرين .. كان هذا الناقد ـ فضلًا عن رجعيته النقدية ـ معروفًا أيضًا بهوسه بتصحيح الأخطاء اللغوية في النصوص التي ينشرها الكتّاب والشعراء في صفحته على فيسبوك، إلى جانب كتابة البوستات العدائية ضد "العابثين بقواعد الكتابة الأدبية" كما اعتاد أن يطلق عليهم دائمًا .. بالصدفة، وصلني أثناء قراءة المنشور إشعارًا من إحدى الصفحات الإخبارية عن العثور على جثة طفلة:
"تم العثور على جثة الطفلة حبيبة أحمد عبد الحليم - المختفية من قرية ديرب بقطارس مقتولة في شوال ملقى في الأراضي الزراعية بالتحديد بترعه مجاورة لأحد الأراضي الزراعيه، حيث تبين من بداية التحقيق بأن القاتل زوج أخت القتيله المدعوا/ ابراهيم وشقيقه المدعوا / الدسوقي بعد خطفها وتم اغتصابها والتخلص منها بعد ذلك بأحد الترع المتواجدة بالاراضي الزراعيه".
تحت الخبر المقترن بصورة الطفلة المبتسمة في فستانها الأبيض، والذي تتعاقب على وحشيته الوجوه التعبيرية للحزن والذهول والغضب، وعبارات الدعاء المصدومة، المطالبة بالقصاص العاجل؛ قمت بعمل "منشن" لهذا الناقد، دون كتابة أي شيء آخر .. بعد دقائق كتب تعليقًا يترحّم فيه على الطفلة مختومًا بسؤال مقتضب لي، تثقله الحدة البديهية عن السبب الذي جعلني أقوم بعمل "منشن" له تحت هذا الخبر المؤلم .. كتبت ردًا له بأنني كنت أنتظر منه أن يقوم كالعادة بتصحيح الأخطاء اللغوية والأسلوبية في هذا الخبر مثلما يفعل مع نصوص الآخرين .. علّق قائلًا بأنه من السخافة البالغة أن أطالبه بتصحيح اللغة في ظرفٍ كهذا، ثم أنهى الرد بما يشبه الصراخ: هذا ليس مجرد نص .. هذه جريمة حقيقية بشعة.
كانت العبارتان الأخيرتان المتوقعتان هما ما أردت الحصول عليه .. تركت فقط إيموشن الابتسامة العريضة كتعليق أخير لي ثم أغلقت الصفحة عائدًا لمقال جديد أكتب فيه عن رواية لا تقف وراءها جرائم حقيقية!.
اللوحة لـ Jacques de Loustal
أنطولوجيا السرد العربي ـ 28 أغسطس 2018

الأحد، 19 أغسطس 2018

الصفعات

أدخل إلى حجرة شقيقتي الكبرى باكيًا بحرقة وأطلب منها أن تقتلني .. لا ترد عليّ، ولا تلتفت ناحيتي .. ألح عليها متوسلًا، لكنها تواصل تجاهلها التام لي .. أخرج من حجرتها متوجهًا إلى حجرة أمي .. أقول لها بنحيب أشد أن أختي رفضت قتلي، وأن عليها أن تفعل هذا بدلًا منها .. تضحك أمي بسخرية حقيقية ثم تقول أنهما لن تقتلاني، وأنني مهما فعلت فإن هذا لن يمنعها من أن تخبر أبي بعد عودته باللفظ السافل الذي خرج من فمي منذ لحظات.
 قبل قليل كانت شقيقتي الكبرى توّجه إهانة اعتيادية لي .. رددت عليها قائلا: "إللي يتكلم معايا كده هنيكه"...
ربما كان انفجار أنبوبة البوتاجاز سيُحدث أثرًا أخف من ذلك الذي صنعته هذه الكلمة التي لم تكن هذه بداية نطقي لها داخل البيت وإنما في حياتي بشكل عام .. دخلت أختي إلى حجرتها وأغلقت على نفسها، ودخلت أمي إلى حجرتها وأغلقت على نفسها، وبقيت واقفًا وحدي صامتًا في منتصف الصالة .. شعرت بما يشبه الإفاقة في أقصى حد صادم لها .. نعم .. أنا الذي تفوهت بهذه الكلمة، وكنت أخاطب شقيقتي الكبرى، أمام أمي .. لا أصدق أنني فعلت ذلك مهما كانت رغبتي الملحة في تجريب المفردات والتعبيرات الشعبية الوضيعة التي لا تنتمي إلى قاموسي اللغوي، لكنها تغزو حياتي عبر الشارع والمدرسة .. بدأت في البكاء .. كان الرعب من أبي الذي اقترب موعد رجوعه يقتلني دون شك، ولكنني كنت صادقًا في رغبتي أن أقتل بيد إحداهما .. لم يكن هذا الإلحاح المنتحب مجرد رجاء يائس للحصول على الغفران الذي يمحو إصرارهما المفروغ من حتميته على إبلاغ أبي بقدر ما كان توسلًا حقيقيًا لنيل العقاب المستحق بالنسبة لي على هذه الجريمة التي لا أستوعب ارتكابي لها .. كان حرماني من الحياة هو الجزاء الوحيد العادل، الذي يناسب حجم الإثم البشع الذي انتهكت به البراءة الخالصة لهاتين الشخصيتين الملائكيتين، واللتين كانتا قبل تفوهي بهذا اللفظ تتسمان بعكس ذلك تمامًا .. كانتا عبدتين شريرتين وبائستين لأبي .. جاسوستين مرتعدتين له ضدي، تتلذذان بلهفة بعقابه لي كي تتمكن روحاهما المشوهتين من تحمّل عذابهما.
عاد أبي ودخل حجرته ثم أخبرته أمي فنادى عليّ وأمرني بالجلوس فوق السرير .. سألني وهو يقترب نحوي بجسده الغليظ القوي إذا كنت قد قلت هذه الكلمة بالفعل .. ظللت أميل للخلف على السرير مع قرب التصاقه بي وهو يرفع يده السمينة المطبقة عدا الإبهام والسبابة والوسطى المضمومة لأعلى في إشارة الاستفهام المهدد، وأنا أغمغم بصوت واطئ مرتعش، ودقات قلب قوية متسارعة، وأنفاس متقطعة، وارتجافات منتفضة في كل جسدي: "أنا مش عارف قلت كذه إزاي" .. هكذا يقولون في الأفلام والمسلسلات عند المآزق الصعبة والمحرجة، وتتم مسامحتهم ويفلتون أحيانًا .. ها أنا مستمر في تقليد الآخرين ... ثم .. طااااااااخ.
بقيت في سرير أبي، وتحت الغطاء لفترة خلال هذه الليلة .. ربما مثلما تظل أمي قدرًا من الوقت في نفس المكان بعد مضاجعته لها قبل أن تنهض لتدخل الحمام .. بقيت في سرير أبي لأنه أمرني بعد الصفعة المهولة، الروتينية، القادرة على أن تكون حرقتها أكثر صدمًا وإذلالاً من سابقتها دائمًا أن أظل هناك، وألا أخرج من حجرته إلى أن يأذن لي .. ربما كانت هذه هي الإضافة الضرورية المطلوبة في العقاب نتيجة طبيعة الذنب .. كان ما فعلته غير معهود، وأفظع من الأخطاء الاعتيادية التي تواجه بالصفعات وحسب؛ لذا كان لابد لعقاب أبي أن يمنحه متعة تتجاوز ما يحصل عليه كل مرة من ألمي .. منذ تلك الليلة وحتى الآن أصبحت الصفعات تلطمني من الجميع، ومن كل شيء، خاصة لو كان يبدو جميلًا أو غير عدائي: كلمات الآخرين .. ضحكاتهم .. صمتهم .. نظراتهم .. حواراتي الداخلية مع نفسي .. تطلعي لوجهي في المرآة .. الأشياء التي أراقبها ومازال هناك في العالم من يعتقد أنها تخلو من الحياة.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة
photo by sebastian luczywo

الجمعة، 10 أغسطس 2018

بعض الأمور غير الجيدة

تأخذني أمي من يدي، وبدلًا من أن نذهب إلى المدرسة أو السوق أو بيت جدتي تصعد بي إلى السماء .. تجلسني بجوارها فوق أعلى سحابة بيضاء ثم توجّه ملامحها العجوز الغاضبة نحو الأمام وتخاطب شيئًا لا أراه بعصبية وهي تشير إليّ: إنه لا يصدق أنك هنا .. عليك أن تقنعه بذلك قبل فوات الأوان.
أقول لها بنفاذ صبر: هذا غير صحيح .. أنا أعرف أنه موجود، كل ما في الأمر أنني كنت أتمنى لو لم يكن شريرًا.
تزعق أمي في وجهي: إنه ليس كذلك.
ابتسم متهكمًا وأقول لها: حقًا؟ .. إنه حتى لم يعالج بصرك إلى الآن، ومازلتِ تحتاجين لارتداء النظارة ذات العدستين السميكتين .. أنظري إلى نفسك .. لقد ترك كل شيء فيكِ على حاله رغم إيمانك بطيبته: الشعر الأبيض .. التجاعيد المتهدلة .. الجسد البدين المتهالك .. علامات الأمراض المزمنة في وجهك .. أظن أن بطنك لا يزال مفتوحًا أيضًا وراء هذه الملابس من أثر الجراحة التي أجريت لكِ في يومك الأخير على الأرض.
فجأة أسمع ضحكة مفتعلة تصدر من الناحية التي كانت أمي توجّه حديثها إليها .. يظهر أبي مبتسمًا بتوهان مألوف ويتقدم نحونا ثم يقول بنبرة خافتة مخاطبًا أمي: لا تصدقيه، هو لا يؤمن بوجودي لأنه قرأ أكثر مما يجب من الكتب السيئة التي انتقلت شياطينها إلى عقله.
ثم يتوجه بعينيه الزائغتين لي: من الضروري أحيانًا أن تحدث بعض الأمور غير الجيدة حتى لو لم نعرف أسبابها المنطقية.
يتراجع أبي قليلًا ثم يقلّب عينيه بيني وبين أمي بحيرةٍ أزيد ثم يقول مرتبكًا بتوجّس: من أنتما؟، وما الذي جاء بكما هنا؟ .. ما الذي كنا نتكلم عنه؟
أشير إليه مخاطبًا أمي بزهق: أنظري .. إنه لا يزال مريضًا بالزهايمر، ولابد أنه سيضع يده بعد قليل في مؤخرته كالمعتاد ليُخرج قطع الخراء منها ثم يمدها إلينا صارخًا كي نأخذها ونجد حلًا لها قبل أن يقذفها أمامنا .. هذا فقط أحد الأمور غير الجيدة التي من الضروري أن تحدث أحيانًا.
ظل أبي يتلفت حوله مرتعشًا ثم راح يطلق ضراطه التقليدي بشكل متواصل قبل أن تنهض أمي في صمت مستسلم وتربت على كتفه ثم تمسك بذراعه لتقوده ببطء نحو الجهة التي خرج منها بينما أمعائها المسدودة تتدلى من شق بطنها الواسع، وأنا أتابع اختفاءهما التدريجي وسط السُحب.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة
اللوحة لـ "بابلو بيكاسو".

الثلاثاء، 7 أغسطس 2018

إفراغ اللغة من نفسها


هناك نكتة طفولية قديمة، غير مضحكة، تقول: سأل معلم أحد التلاميذ "إعرب هذه الجملة: "ضرب المعلم الولد"؛ فرد عليه التلميذ: "ضرب: فعل إجرام ـ المعلم: ابن حرام ـ الولد: مسكين يا حرام" .. حسنًا .. قد تؤدي سخافة هذه النكتة لاستجابة عكسية، لكنني أفكر في هذا التلميذ لو مد خط الفكاهة المفترضة على استقامته حتى يصل بعد سنوات طويلة إلى التفكير في إعراب "خلق الله الإنسان" دون أن يُطلب منه ذلك.
كتبت ذات يوم ـ وهو ما اعتبرها نكتة أخرى عن نفسي ـ في قصة "المرض" بمجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة":
"لن أتمكن أبدا من العيش في كوخ.. الكوخ الذي حاولت بناءه مرة بوسائد وأغطية السرير، ومرة بقطع خشبية قديمة في بلكونة الأسرة، ومرات لا حصر لها بمبررات متغيرة للثقة في الغيب داخل روحي.. الكوخ الذي لم يكتمل بناؤه أبدًا ليس بسبب حروب الآخرين ضد عزلتك، ولا شهوة الطرد التي تواجهك بها كل الأماكن بقدر رغبة مبهمة داخل ذاتك في التخلص منه لا تنجح الأسباب الملموسة التي يمكن العثور عليها في تفسيرها.. رغبة قد يبدو حقًا أنها نتيجة هزائم مدركة وأحلام يمكن التفاوض مع الدنيا بشأنها، لكنك ستشعر في نفس الوقت بأن هذه الرغبة متجذرة في مركز أكثر عمقًا مما يمكن تصوره .. أن قوتها الحقيقية تكمن في كونها إشارة خبيثة ربما تعطيك انطباعًا أوليًا بأنها لا تستحق الانتباه ثم تستوعب تدريجيًا أن هذه الإشارة ما هي إلا إلحاح يعلن عن بداهته الأزلية دون تأسيس على تمهيد منطقي .. إلحاح منفصل عن الهزائم والأحلام وينمو دون تدخل منك أو من غيرك حتى يصل تصاعده إلى نقطة يصبح من الحتمي فيها أن تكون في الخارج .. أن تُجبر على إبقاء نفسك بعيدًا عن أي كوخ ترغب بشدة في أن تسكنه".
عمري الآن واحد وأربعون عامًا، ولا يمكنني بأي حال من الأحوال، وبمنتهى الرعب والحسرة اللائقين تصديق أي مما يمكن أن ينطوي عليه هذا الرقم بدءًا من التغييرات الجسدية المفاجئة، والمتسارعة: الصلع .. الشيب .. خطوط الجبهة .. التجاعيد .. صغر العينين وانسحابهما للداخل .. انطفاء الوجه .. الوهن .. الخمول .. الثقل المتخشّب للعظام والمفاصل .. مرورًا بالتفكير في كل ما حدث لي، وحتى تخيّل ما بعد الموت .. الغريب في الأمر أنني قبل بلوغ الأربعين بقليل بدأت أتخلص من الخوف المرتبط بفقدان الحياة والتعرّض إلى المخاطر القاتلة، وهو ما كان بمثابة السجن المظلم الذي اُعتقلت حياتي داخله خلال مرحلتي العشرينيات والثلاثينيات .. أصبحت أسير بمفردي لوقت طويل، وأجلس في الأماكن العامة البعيدة عن أقرب من أعرفهم، كما بدأت أسافر وحدي، وكلها أمور كان من المستحيل القيام بها منذ أن كان عمري أربعًا وعشرين سنة تقريبًا .. لم أعد أفكر مثل العشرين عامًا الماضية مع كل لحظة في الموت المفاجئ أو الإصابة بالأمراض الخطيرة أو في التعرّض للحوادث القاتلة .. أصبحت أعيش الموت دون التوقف عند أسبابه .. أعتقد أن الأمر له علاقة أيضًا باللغة .. بالوعي بما استهلكته هذه اللغة من نفسي .. بما استعملته من الألم والرعب والحسرة والحيرة والاضطراب والضجر واليأس .. الكلمات التي لم تعد تعني أي شيء مقارنة بما أشعر به ومع ذلك أصر على استخدامها كمن يدخن السجائر بشراهة قاتلة دون شعور بمذاقها .. الشراهة التي تزيد من إدمانه بدلًا من أن تعالجه .. بالنسبة لي هو الانتقام من لعنة اللغة بإفراغها من نفسها، ليس فقط لكونها عاجزة، بل للوصول إلى ما هو أبعد من قسوتها أي فراغها الأخير .. الثأر مما كانت تدعيه في الماضي للوعي الذي استخدمته هذه اللغة في مراحل مبكرة من عمر الذات .. كذلك السخرية مما صار إليه الاحتراق الجسدي المتواصل على مدار العمر، والذي لم يكن سوى قربانًا لها حيث يوجد كل شيء داخلها .. حيث لا يوجد أي شيء داخلها .. ربما هي الطريقة التي يصل فيها الألم إلى ذروته بعد مرور وقت طويل من الفشل مع الوجود، ومن بقاء الألم طوال الوقت خارج اللغة التي كانت وستظل بشكل حتمي هي الوجود ذاته .. يبدو هذا الأثر كأنه استسلام أو تعايش أو حتى معالجة لكل الجروح المرضية التي طالما عانيت بسببها: الدوار .. ضيق التنفس .. دقات القلب القوية المتسارعة .. الغثيان .. الهبوط .. الرعشة .. التعرّق .. أصبح الغضب المتوسّل في قمته كامنًا دون تأثيرات خارجية إلا في الحدود البسيطة مقارنة بالماضي، كأنما تم إزاحته وطويه داخل أعمق حيز في جسدي كي يُخفي هذا الذي يبدو انسجامًا حركيًا مع العالم الصرخات الاحتضارية الأخيرة في أقصى حدود لها .. موسيقى ضبابية تحجب رغم هدوئها التدرّجات المنذرة باقتراب النهاية الانفجارية كصوت أقل من انقطاع خيط رفيع جدًا كما كتبت في نص سابق.
سأخرج من العالم ممتنًا لأشياء كثيرة في الواقع، منها ـ على سبيل المثال ـ  ذكرياتي الطفولية في الثمانينيات، وأنني لم أمت في عمر أبكر من اللحظة التي انتهت حياتي فيها، وأنني كتبت كل ما حاولت أن أكتبه، وأن زوجتي كانت جميلة، وأنني كنت منتميًا كرويًا للأهلي، وأنني كنت قادرًا على التخلص من الأصدقاء ببساطة متناهية، وأنني كنت أمتلك من الفطنة ما جعلني أطلب من عائلتي إذا أصابني مرض عقلي أو نفسي في نهاية حياتي وتحولت إلى عجوز تتوكأ عصبيته المرتعشة على عصا، وتترقرق دموع قديمة في عينيه لتمتزج بمخاط أنفه السائب معظم الوقت، ويدور بين الندوات والمقاهي ويصرخ مطالبًا بالتوقف عن "الابتذال" الروائي و"الفوضى"النقدية، راجيًا العثور على كاتبة صغيرة ذات قلب رقيق، تُكرم شيخوخته الأدبية اليائسة بـ "بلوجوب" مشفق؛ فإن عليهم منعي من مغادرة البيت مهما استخدموا في ذلك من عنف.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة
الصورة لـ Josef Koudelka

السبت، 4 أغسطس 2018

بين بابين: خارج السجن .. داخل الموت

في روايته "بين بابين" الصادرة حديثًا عن دار نينوى؛ يستعمل الكاتب اليمني بدر أحمد التفاصيل التقليدية للسجن كي يجعلنا نفكر في أنه أكثر مراوغة مما تكوّنه هذه التفاصيل حقًا .. أن هذه العناصر المألوفة مجرد تجسيدات رمزية مباشرة عن وجود مبهم، لا يمكن امتلاكه حسيًا على نحو كامل .. أن السجن "فكرة" تتجاوز دائمًا المحاولة لجعلها متعيّنة كليًا أي قابلة للإدراك التام .. السارد في الرواية مع عدم تحديد اسمه أو هويته أو مكان وزمن وأسباب اعتقاله يؤكد على كونه مسجونًا في داخله .. في بشريته .. في الحياة التي لا يمكنه التحرر منها حيث لا يوجد خارجها سوى الموت .. إنه في استعادته وتوثيقه أو تخيله لما يشبه ذاكرة جماعية مشتركة للمقاومة والقتل والاعتقال يحاول أن يُثبّت شعورًا أقوى بأن الوحشية لا تكمن في تلك الصور بقدر ما تكمن في مسارات الوجود التي كانت هذه المشاهد نتيجة لها، أي أنها تتمثّل في كل فعل وكلمة وفراغ.
"أنا معزول تمامًا عن العالم الخارجي، وحتى أفكاري، ذكرياتي، وحياتي السابقة. هنا يتشابه الليل والنهار إلى حد كبير، فلا نافذة تمدني بالهواء والضوء؛ فقط فتحة صغيرة جدًا في أعلى السقف، يخترق حوافها المدببة عمود صغير من ضوء الشمس، يعبر فضاء الزنزانة يوميًا، وعلى مدى ساعة كاملة، ويستقر في قاعها".
كأن هذه الذاكرة بطغيانها المطلق هي التي تحلم بالراوي في سجنه، تستخدم آلامه في استرجاع ماضيها .. كأن هذا السجين ممر للأرواح، تعبر خلاله ما يراها نسخًا منه، كل حياة شكّلته، وخلقت وجوده في هذا المكان وهذه اللحظة .. يتقمّص العذابات لا لكي يعيشها مجددًا بل ليكافح تكرارها الحتمي .. ليحاول التوّصل إلى ذلك الجوهر التدميري الغامض الذي يضمن التماثل بين التجارب والخبرات وبالضرورة الانعزال حيث لا يمكن لأحد أن ينقذ الآخر .. يصبح الهذيان هو المجابهة اليائسة لهذا الجوهر الذي لا سبيل لاستيعابه ..  الهذيان أشبه بإعادة ميلاد للعالم .. محاولة نكوصية لتعلّم اللغة والتفكير والحركة لبناء الوعي الجدير بامتلاكه هذا السجين كي يتخلّص مما هو عالق في ظلامه .. يمارس السارد نفس الآلية التكرارية في الاستعادة، ولكن بشكل مضاد .. حينما تتكرر الأحداث الدموية في ذهنه بينما يرقد في عتمة السجن فهذا يجعلها وفقًا لطموحه منقطع الرجاء في نطاق الاحتمال بأن تكشف عن حقيقتها المخبوءة .. يجعلها قابلة لإيقاف استمرارها القهري .. لتعطيل التشابه .. إذن لا يعمل الهذيان من أجل اللحظة القادمة فحسب، وإنما أيضًا لإعادة صياغة الذاكرة الوحشية التي سبقت وجود الراوي في السجن، والتي حينئذ ستتيح له التعرّف على ملامحه حين يتحسسها في الظلام كما لم يفعل من قبل.
"غادرت مريم صفها، واقتربت نحوي، وقبل أن تقول شيئًا شاهدنا في الأفق البعيد نقطة معلقة بين السماء والأرض. لم تكن النقطة سوى طائرة هليوكوبتر إسرائيلية في وضع استعداد قتالي. في الجهة اليمنى من المعسكر كانت تقف طائرة هليوكوبتر في الوضعية نفسها. دارت الأعين بذعر بين الطائرتين المعلقتين بين السماء والأرض"
بهذه الكيفية ربما نتأمل علاقة السجين بالمقاتلة "مريم" التي يسترجعها كأنها إعادة إنتاج لقصة الخلق .. الكابوس الواقعي المعادل للميثولوجيا .. تتكرر هذه القصة بطرق مختلفة بتركيز على موضوع "الأبوة" .. التماثل بين السجّان والأب .. الرجل الذي يتعارك مع زوجته ويضاجعها  كمسخين، بشراسة بوهيمية .. المشاهد التي بلا تعريف يوضحها أو ذاكرة تفسرها .. هو التكرار الوحشي فقط، الذي عليه أن يتعاقب دون معنى .. لننتبه إلى هذا الأداء: بعد اكتشاف السارد لوجود المصباح في زنزانته، وبعد اكتشافه لمحتوياتها بعد وقت طويل من إقامته في ظلامها سيمد يده نحو المفتاح الكهربائي ويعيد إطفاء وإشعال المصباح أكثر من مرة .. سيتكرر هذا الأداء من الرجل الذي يتذكره الراوي، والذي كان دائم العراك الجنوني مع زوجته قبل انتحاره .. إن إعادة فتح الضوء وإغلاقه هي المحاولة الأخيرة ربما للتيقن من أن هذا ما لديك بالفعل .. أن الأشياء التي يسقط عليها الضوء هي ما تحاصرك حقًا .. كأن الضوء بهذا الفتح والغلق سيغيّر ما يقع عليه .. كأن السجين بهذا الأداء يتوسّل للضوء أن يكشف عن تفاصيل أخرى .. إذا كان الرجل قد انتحر؛ فإن الراوي أدرك أن "أنس" ذلك الوجه الباسم الذي شكّله من الحصى كصديق يشاركه الزنزانة ليس أكثر من مجرد حصوات بالفعل .. يبدو إذن إطلاق الرجل للرصاص على رأسه كأنه هو نفسه رمي السجين المتتابع للحصوات التي كانت تكوّن وجه "أنس" في جردل البول بعد أن كشف له الضوء أن هذا الوجه بلا أهمية .. لقد كان الراوي يلقي بملامحه هو في هذا الجردل .. بكينونته التي لا تملك شيئًا داخل هذا الصمت.
"أتذكر أيضًا أنها في إحدى الليالي حطمت زجاجة زرقاء على جمجته، بعد أن شتمها وبصق عليها. وما زلت أتذكر كيف تطاير الزجاج في الهواء، وكيف هوى جسده على الأرض بعنف دون حراك، والدماء تسيل على وجهه ورقبته. يومها ظلت للحظات تحدّق بمقت وازدراء في جسده المسجي على الأرض، ثم رفعت طرف ثوبها حتى أعلى فخذيها النحيلين وهى تتمتم بكلمات غاضبة، ثم أنزلت سروالها الداخلي الأسود وركلته بقدمها جانبًا، ثم تبولت واقفة على وجهه المدمى".
كتب بدر أحمد روايته انطلاقًا من أن الحرب بالتصوّر الأشمل، دون إطار، تحضر في كل شيء، ليس بين البلدان والجماعات وحسب، وإنما بين الذات ونفسها، في العلاقات بين الكائنات، وبين الفرد وأشيائه .. بهذا حينما يستعين بأحداث النضال الفلسطيني، والحرب الأهلية اللبنانية فهو يسعى لمجاورتها مع الحروب الأخرى التي تهيمن على الواقع باعتبارها محرّكه الأساسي، ولذلك فإن الأشلاء والدماء والصرخات هي ما تكوّن طبيعة العالم التي يمكن أن تعبّر عنها أدق تفاصيله، وأكثرها التباسًا، وحتى تلك التي تحمل في الظاهر يقينًا مناقضًا لهذه الطبيعة.
"أثناء الغارات وعمليات القصف العشوائي للأحياء السكنية، كنت أحتمي أسفل سرير معدنيّ، بمعية أطفال لا أتذكر عددهم، ولا وجوههم، ولا حتى أسماءهم، لكني أتذكر أننا، وحال شعورنا بالخطر، كنا نتدافع، عبر البهو والرواق، كقطيع أرانب مذعور، ثم ندلف إحدى الغرف المظلمة ونختبئ أسفل سرير ضخم ترتجف أجسادنا تحته وننتفض على وقع كل انفجار".
مراقبة حركة يد السجّان التي تدفع بالطعام والماء للسارد عبر فتحة ضيقة قد تدفعنا للتفكير في اللغة .. في الوعي الذاتي .. فيما نصدقه ونريد للآخرين مشاطرتنا له .. قد تدفعنا للتفكير في الاختيار الذي تلتهمه الصراصير مثلما كانت تفعل مع الطعام في زنزانة السجين .. الاختيار المتوهم وبناءًا عليه تكون اللغة التي نستعملها، الوعي الذي يحرّك خطواتنا في العالم، ويحدد معاركنا وهزائمنا ومصائرنا، وقبل كل ذلك يكرّس لظنوننا الاضطرارية بأننا نختار حقًا.
"جرت العادة أن تصبغ جدران وأبواب ونوافذ السجون باللون الرصاصي أو الأخضر الزيتوني. حقيقة لا أدري لمّ!! إنما يبدو الأمر وكأنه عرف أو نظام متبع، وهذا يعني أني لست في زنزانة خاضعة لسلطة الدولة".
يدعم تبيّن الراوي لزنزانته بعد خروجه منها أنها لم تكن سجنًا بل غرفة قديمة وحيدة فوق هضبة مقفرة؛ يدعم الطابع الكافكاوي للرواية، وهذا ما يجعلني أستعيد هذه السطور من مقال سابق لي عن قصة "أمام القانون" لكافكا ضمن كتابي عن كلاسيكيات القصة القصيرة "هل تؤمن بالأشباح؟":
"إن القصة السرية التي رواها (كافكا) بوضوح وبساطة ليست سوى كابوس دارت أحداثه داخل جسد الرجل الريفي ـ ربما استغرقت عمره كاملاً ـ الذي أُرغم تلقائياً بدافع من أسس قامعة خفية لا سبيل لمقاومة إغرائها ـ كالوهج الذي لا يقطعه خمود، المتدفق من داخل البوابة ـ على خلق ما يُسمى بالقانون مستخدماً أوهام وخيالات ستجعله كياناً غير معروف، يستعبد صاحبه دون أن يُرى أبداً".
بالتالي فهذا الاكتشاف يدعم ما سبق وأشرت إليه بأن السجن لا تكوّنه المعطيات المباشرة التي يتم توظيفها كرموز خطابية، وكذلك لا يستمد مراوغته من مجرد كونه فكرة داخلية، وإنما من الخيال الشخصي .. البصمة التي تحفر اختلافها ضمن التطابق، وهي بذلك تتوصل إلى مكان خاص وزمن مفارق كما فعل سجين بدر أحمد، بل وتخلق السجّان والوعاء والحصوات والضوء والصراصير والجدران والفتحات مثلما تخلق المطلق الذي تجعله أصلًا ومحركًا ومُنهيًا، أو تمنعه من العبور إلى كوابيسها، أو تقتله.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 5 أغسطس 2018

الخميس، 2 أغسطس 2018

جزء من نوفيلا "جرثومة بو" / القصة الحقيقية لمنصور عبد الرحيم ـ تصدر قريبًا

كان الملف مقسّمًا بين الخطابات التي تشغل الحيز الأكبر منه، والرسومات التي ليس هناك تأكيد هل خطّها منصور بنفسه أم بيد أحد آخر، وتصوّر طرق التعذيب التي يتعرّض لها، بالإضافة إلى قصاصات الصحف والمجلات القليلة التي نشرت إشارات تافهة عن الموضوع، والتي يبدو أن ثمة يدًا تساعده في الحصول عليها داخل قبره العسكري .. كانت لكلمات منصور بنية متصدّعة، تشبه تمامًا كتابة طفل لم تتطوّر بعد مهارته في تشكيل الحروف وتوصيلها ببعضها .. كأن كلماته المتكسّرة، والربط العسير، غير العفوي بين حروفها ليست إلا صورة لأصابع منصور المحطمة، التي تم ترميمها باستخفاف .. بالتناقض مع الكلمات كانت الرسومات أكثر انضباطًا، وتتميز بقدر كبير من الإتقان الفني يثير الدهشة عند مقارنتها بالكتابة .. كانت تبدو كأن منصور قد حصل من السجّانين على نسخة من الأشكال التوضيحية التي يتضمنها كتاب التعذيب الذي يسترشدون به ثم قام بوضع ورقة الخطاب الشفافة فوق كل رسم ليتتبع بقلمه الرصاص خطوط الشكل الذي يظهر تحتها .. كانت هناك أيضًا صورة بالأبيض والأسود لمنصور يظهر خلالها شابًا في العشرينيات، غير مبتسم، بشعر كثيف، ولحية خفيفة، كما تخلو الصورة من الإشارة لستوديو التصوير، والتاريخ الدقيق لهذه اللقطة بعكس المعتاد .. كان في الصورة شيء من الغرابة المقلقة، ربما بسبب الأبيض والأسود؛ فهي مع عدم حداثتها مازالت تنتمي للزمن الذي جعلت فيه الألوان هذا النوع من الصور شيئًا نادرًا أو على الأقل غير شائع .. لهذا تبدو الصورة أكثر قدمًا مما قد تكون في الواقع، ويبدو منصور خلالها بعينيه الخاليتين من أي انطباع كأنه شخص عاش في سالف العصر والأوان.
أكثر من مرة وضعت صورة منصور ملاصقة لرسومات التعذيب محاولًا دمج وجهه بالجسد الذي يتم التنكيل به في نسخ مختلفة .. لابد أنها لم تكن المرة الأولى التي أجرّب فيها عملية التركيب بين صورتين سعيًا لخلق صورة ذهنية ثالثة، ولكنني لا أعتقد أنني حصلت على انسجام أكثر إحكامًا من هذه اللحظة .. كان وجه منصور يتوحّد مع كل رسم بتناغم فوري، كأنه جسد مستيقظ، يدرك تناثره، ويتحرك ذاتيًا لاستعادة التلاحم بين أشلائه بمجرد العثور عليها .. بدت ملامحه مع هذا الاكتمال كأنها مرسومة هي الأخرى بالقلم الرصاص، أما خطوط جسده على الورق فكانت تتحوّل إلى جلدٍ عارٍ، تنزف منه الدماء، ويكسو عظامًا مكسورة.
لم يكن في الملف أي ذكر لحياة منصور قبل سفره إلى السعودية إلا تلك المتعلقة بقضيته نفسها؛ فهو حاصل على شهادة الثانوية الصناعية، شعبة ميكانيكا السيارات سنة 1983 من مدرسة المنصورة الصناعية بنين، وهذه البيانات وردت بالمستخرج الرسمي الذي قدمه منصور إلى السفارة السعودية، والصادر من مديرية التربية والتعليم "إدارة شئون الطلاب" .. جميع الخطابات تبدأ من السجن وتنتهي داخله؛ إذ لم يكن هناك أي توضيحات حول ملابسات سفر منصور إلى السعودية، أو عن حياته هناك قبل اعتقاله منذ سبع سنوات .. كان منصور في كل رسالة يخاطب الجميع: إخوته وأقاربه والمسئولين الحكوميين ورؤساء التحرير والصحفيين والإذاعات ورؤساء الأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان وبعض المحامين في المنصورة والقاهرة .. كلها مناشدات بالتدخل لإنقاذه، وتحمل نفس الصيّغ والمعلومات تقريبًا، أما عن طريقة تهريب الرسائل فيرجع الفضل فيها بحسب تأكيد منصور إلى شخص متعاطف معه يُدعى صادق، ويعمل باحثًا اجتماعيًا بالسجن، ويبدو أنه قد ساعده أيضًا في الحصول على عناوين المراسلات، وتزويده بالمعلومات التي لم يكن له أن يعرفها بدونه، وربما كان هو صاحب اليد المجهولة التي رسمت أشكال التعذيب بهذه المهارة .. على هذا بدا كأن "صادق" هو الملاك السري الوحيد في حياة منصور، لكنه بكل تأكيد كان ملاكًا ناقصًا، فالقدرة على إنقاذه من هذا الجحيم كانت معطلة تمامًا.
موقع (الكتابة) ـ 31 يوليو 2018

الثلاثاء، 31 يوليو 2018

أسوأ طريقة لإنهاء الحياة


لماذا لا أدخل هذا الشارع الجانبي الآن؟ .. أفكر في أن ثلاثين عامًا قد مرت دون أن تتحرك خطواتي في هذا الاتجاه .. هل لا يزال البيت القديم ذو الفناء الصغير غير المسقوف، المغلق ببوابة حديدية خضراء كما هو؟ .. نعم، لا يزال كما هو .. أقف لثوان قليلة داخل  المساحة الترابية بين بوابة البيت القديم والجامع المجاور له ثم أبتعد ثانية .. كأن الاستمرار في الوقوف هناك سيكون له ثمن أكثر فداحة مما يمكنني دفعه .. حسنًا .. لقد رأيت ما جئت من أجله .. علبة ثقاب فارغة موضوع الرهان مع صاحبي: أي منا يستطيع أن يركلها فوق قدميه أكبر عدد من المرات دون أن تسقط؟ .. أعد محاولاتي الناجحة تحت البصر المترقب لصاحبي الذي ينتظر خطأي: واحد .. اثنان .. ثلاث ... فجأة يظهر أبي عند العتبة الداخلية للجامع .. لهذه الدرجة كان صوتي عاليًا أثناء العد فوصل إليه وهو جالس في منتصف الجامع قبل رفع آذان الجمعة .. لهذه الدرجة يستطيع أبي تمييز صوتي .. يقف عند العتبة وينظر لي .. تسقط علبة الثقاب الفارغة على الأرض، ولا ينتبه صاحبي إلى خطأي عندما يري هاتين العينين المحتقنتين وهما تجذباني كالمعتاد من قلبي المرتجف نحو باب الجامع في صمت .. أخلع حذائي وأعبر العتبة ثم أتبع جسده القصير السمين الغاضب نحو العامود الذي حدده كمكان ثابت لصلاته .. يصافحني ونحن راكعين بعد التسليم بملامح متجهمة، مُصوّبًا اللوم القاتل في عينيّ .. أخرج من الجامع وراءه بروحٍ تنتفض مع تخيّل العقاب المنزلي المألوف الذي تم التمهيد له أثناء الصلاة .. لم أكن أعرف أن الأمر قد انتهى بشكل غير متوقع عند هذا الحد .. دون صفعات .. أنظر إلى الأرض فأُدرك أن صاحبي قد أخذ علبة الثقاب الفارغة قبل أن يرحل .. ربما كان الاستمرار في الوقوف أكثر من تلك الثواني سيجعل ما رأيته يتلاشى .. ربما سيتمادى المشهد في الوضوح فيبتلعني نحو الموت .. أبتعد بيقين أنه لا أحد من العابرين ينظر إلى وجهي الآن .. لو التفت أحدهم إليّ في هذه اللحظة فلن يتمكن من إبعاد بصره عن دموعي التي لم أستطع كتمانها .. ربما أريدكم أن تروا هذه الدموع فتعرفوا ما أنا فيه، وسيكون ذلك خطوة أولى لإنقاذ العالم .. كانت هناك حياة تتجهز .. كان كل شيء يؤكد أن هذه الحياة لابد أن توجد .. لكنني أبتعد الآن بخطوات سريعة عن هذا الجزء الضئيل من الجثة الحقيرة المختفية لذلك الوعد البديهي .. لا أصدق أن قلبي تحمّل ثلاثين عامًا من هذا التعريف للماضي .. هذه الدموع ليست ناجمة عن الوعد البديهي الذي أصبح منذ زمن طويل جثة حقيرة مختفية فحسب، وإنما عن التأكد أيضًا بأن ثلاثين عامًا لو تبددت الآن، فلن يكون هناك سبيل لجعلها تحدث على نحو مضاد .. ندم يسير في الشوارع فرحًا بالبكاء، وخائفًا منه، وراجيًا ثغرة ما لإيلامه .. ما الذي كان يلزم أن نفعله كي لا نصل هذه الحسرة؟ .. هل كان هناك ما يمكن أن نقوم به حقًا؟ .. كل ما حولي من بشر وبيوت يذكرني بأن جثة الوعد مختفية في دمائي، وأنني أحتضر بهذا السم المضمون ببطء خاطف.
أنظر إلى العابرين فأجد كل واحد منهم قد أصبح بيتًا متحركًا على وشك السقوط .. بيت له شعر رأس كنباتات سوداء وبيضاء فوق أسطح تعلو جسدًا عاريًا تتناثر فيه النوافذ المتآكلة، المغلقة على فراغات مهجورة .. أنظر إلى البيوت فأجد كل بيت قد أصبح هيكلًا عظميًا مرتعشًا لم يتزحزح من مكانه منذ دهور .. هيكل عظمي كبير ممتلئ بالثقوب السوداء الواسعة كأنها فجوات عملاقة عبرت منها طلقات الغيب في مجزرة تنتمي إلى زمن سحيق، لم يشاهدها أحد .. تنظر البيوت المتحركة لملامحي وهي تعبر حولي، بينما لا أتوقف عن التطلع إلى الهياكل العظمية المتراصة على جانبي كل طريق .. أسمع صرخات عاتية من جميع الاتجاهات، لكنني أفسرها كإيقاعات لحفلات عُرس مخيفة.
فتحت كاميرا الهاتف قبل تثبيته فوق المكتب باتجاه زاوية التصوير الصحيحة .. جلست أمام اللابتوب وبدأت في كتابة السطور الأولى من روايتي الجديدة التي تبدأ بلحظة سقوطي من فوق كرسي الاستوديو الذي ذهبت إليه في عُمر الثانية مع شقيقتي الكبرى لالتقاط صورة سيتم إرسالها لأبي الذي سافر إلى السعودية .. هذه هي المرة الأولى، وأعرف جيدًا الأسباب التي لم تجعل من تصوير نفسي أثناء الكتابة فكرة مغرية، وأعرف أيضًا لماذا قررت أن أقوم بذلك مع هذه الرواية تحديدًا .. أكتب كلمة وراء الكلمة، سطرًا بعد الآخر كأنه لا توجد كاميرا؛ فقد استيقظت صباح اليوم بذهن أشبه بالكتاب المفتوح، يمكن لأصابعي أن تقرأ في صفحاته بوضوح تام تفاصيل بداية سردية طويلة تتمتع بترتيب منضبط، لا يتغافل حتى عن لحظات الصمت القصيرة اللازمة للتفكير في قرارات معينة .. أغلق صفحة الكتابة ثم أطفئ اللابتوب منتشيًا بأورجازم مثالي أنهى اليوم الأول من الكتابة .. أفتح الفيديو على الهاتف .. كل شيء في مكانه كما حددته زاوية التصوير الصحيحة: لوحات القاهرة في القرن التاسع عشر .. القشور البيضاء الصغيرة الملتصقة بالحائط هي بقايا حديقة ورقية كبيرة تم انتزاعها منذ سنوات .. المكتبة .. التليفزيون المغلق .. أصيص النبات البلاستيكي .. المكتب الذي يعلوه اللابتوب، وعلبة أقلام ملصق على جوانبها الأربعة صور من فيلم "كونغ فو باندا" .. الكنبة الخضراء وراء المكتب وفوقها ـ حيث كنت أجلس تمامًا ـ كوخ صغير، في الضوء الأزرق الناعم لآخر النهار الشتائي، يستند إلى حائط من الرصاصي الفاتح، جدرانه الخشبية القديمة لونها رمادي شديد الدكنة، كلون بابه المغلق الذي يتلاحق ارتفاعه وهبوطه كأنه صدر الكوخ الذي يتنفس بمشقة بالغة، بينما تنعكس على الجدران الرمادية من الخارج ظلال النار المشتعلة في داخله .. مع البرودة الصامتة تنعكس هذه الحركة الثابتة للظلال بدورها فوق مساحة العشب الضئيلة الباهتة، المحيطة بالكوخ .. فوق الباب نافذتان زجاجيتان، معتمتان بشكل تام، متجاورتان بالضبط مثلما توجد العين بجوار الأخرى في الوجه، ويكسوهما غبار متجمّد.
أعرف أن الأمر لم يعد مقبولًا .. أعرف أن حالتي قد وصلت إلى درجة من الخطورة لم تعد تسمح بالتمادي في الحياة دون وضع حد حاسم لها .. كل الذين يحاصرونني، ويمرون من خلالي يدركون هذه الحقيقة جيدًا، ولكن بوعي مناقض؛ إذ أنهم ـ بالطبع ـ لا يفكرون في هذه الحالة كمأساة مرعبة بل كهدية مجانية ثمينة، يمنحها العالم إلى كوابيسهم كلما قررت الخطو خارج هذا الباب المغلق .. أربعون عامًا ولم تتوقف مغادرة البيت عن أن تكون موعدًا جديدًا مع المهزلة القديمة .. أرتدي ملابسي وأمشّط شعري ثم أنظر في عينيّ داخل المرآة كأنني أحصل من شخص آخر على تأكيد أخير بأنه لن يغدر ثانية بالعهد الذي لم يتوقف عن خيانته طوال الماضي .. نعم .. يتم الأمر هكذا كل مرة بنفس الدقة على مدار العمر، كأنه خطوة أولى، فاقدة الذاكرة، تتكرر ذاتيًا، ولا يمكن تعطيلها مثل تعاقب الليل والنهار .. أغلق الباب، وأنزل السلالم، وأسير في الشارع كشبح ماكر قادم من بداية العالم، وعلى وشك أن يعقد صفقة رابحة مع نهايته .. لكن ذلك الشخص الذي اضطررت لإشاحة عينيّ عن ضحكته الباكية في المرآة سوف يخترق جلدي من الداخل ليطمس الملامح التي كنت أمتلكها أثناء بقائي وحدي في البيت، ويتحوّل إلى قناع كامل لجسدي بمجرد مصافحتي للغرباء .. هكذا يتم استئناف العرض بشوق جارف .. كأن هذا الشخص ليس له دورًا في الحياة أكثر من تربية الأحلام المازوخية مستترًا في ظلام العزلة، انتظارًا لموعد تحقيقها عند الخروج من بين هذه الحوائط الصامتة .. الثرثرة التي تُرد إلى أعصابي متعة مألوفة من اللطمات الحارقة لسياط الآخرين .. الدعابات التي يعيدها المصفوفون حولي صدوعًا وفجوات تملؤها النشوة إلى روحي .. السكوت المتوسّل الذي يتلذذ بمضغ النظرات والابتسامات لتوهانه بنهمٍ منطقي .. لكن هذا الشخص بالتأكيد يفعل شيئًا آخر .. هو يراقبني بينما أحاول تجميع الحطام الذي أعود به إلى هنا .. الحطام الذي يستجيب لما أظن أنه ترميم مؤقت بينما يتواصل تفتته بإصرار لن ينتهي إلا حينما يتحوّل إلى فراغ.
جميعهم كانوا يمتلكون نفس النظرة الثابتة .. كل الذين كانوا يشاركونك هذا البيت ثم وزعهم الأمل تباعًا على قبورهم .. نظرة المجبر على الاستمرار في أداء استعراض فاضح للمآسي المرعبة .. لا يمكنك نسيان هذه النظرة لأنها نظرتك الثابتة أيضًا .. تتأملها داخل المرآة بينما تحاول الحصول من شخص آخر على تأكيد أخير بأنه لن يغدر ثانية بالعهد الذي لم يتوقف عن خيانته طوال الماضي .. النظرة التي تراقب فيها سقوطك الشخصي من عتمة العائلة التي سقط منها الجميع .. لم يكن أي منهم يريد مثلك أن يخطو خارج هذا الباب المغلق، ولكن ذلك كان محتومًا على قدميه .. كان كل منهم يتمنى مثلك لو تمكن ـ على الأقل ـ من التنقل بعزلته من جحيم جماعي إلى آخر لكنه لم يقدر .. كان ينبغي أن تكون هذه النظرة هي العلامة النفيسة التي تكشف لك اللعنة فتجاهد للتحرر منها .. كان يجب أن تكون السر الذي تغتنمه لإنقاذك .. لكن منذ متى يمكن لإدراك هوية الموت أن يكون مفتاحًا لتفاديه؟ .. ربما الوصف الأكثر مثالية للواقع أن التعرّف على وجه القاتل هو أكثر ما يُسمّر قدميك أمامه .. أن استيعاب الطبيعة التي يكمن بها في داخلك هو أكثر ما يضمن لك أن تعيش وحدك العذاب السابق لكل دمية مذعورة كانت تشاركك هذا البيت.
ربما الأمر أسوأ مما أعتقد .. ربما تصدر عني كلمات وانفعالات أكثر مهانة مما أنتبه إليها .. ربما هناك معرفة سوداء بالنسبة لي، وردية في أدمغة الآخرين يحتفظون بها، يتبادلونها على المقاهي وفي المكالمات الهاتفية، وعبر محادثات فيسبوك، يرجعون بها إلى بيوتهم ويوزعونها على أفراد أسرهم، ويغلقون عيونهم عليها عند النوم ويحلمون بصورها، ويستيقظون في الصباحات التالية بسعادة ممتنة لوجودها في حيواتهم .. ربما تنتشر هذه المعرفة بواسطة الذين يشاهدونني نحو بقية الناس .. كل سكان المدينة ـ على الأقل ـ حينما يمرون بالصدفة أمام هذا البيت لابد أنهم يتذكرونني بشكل عفوي تمامًا .. ينظرون لأعلى حيث شرفة الطابق السادس، ويشعرون بالضيق لأنني لست واقفًا هناك في هذه اللحظة، دون أن يفارقهم الشعور بالحسد نحو الذين يسكنون في العمارات المحيطة ببيتي .. يبطئون من خطواتهم عسى أن أظهر فجأة ثم ينصرفون بحسرة مؤقتة .. أعتقد أنني يجب أن أكون مستعدًا بعد الآن لكل هذا .. يمكنني أن أعلن في صفحتي على فيسبوك مثلا أنني سأقف كل يوم في الخامسة عصرًا داخل هذه الشرفة .. وبما أنني في الطابق الأخير فسوف أرقص حينئذ كما يرقص الجميع في الأفلام والمسلسلات والأفراح الشعبية، ودون أي موسيقى أو إيقاع، متطلعًا لأعلى حيث لا يوجد ما يمكنني النظر إليه .. سيتساقط الجلد عن جسدي، وسيكون غزيرًا كمطر لا يمكن تصديقه، وسيكفي كل المتجمعين تحت الشرفة، الذين سيلتهمونه باستمتاع عظيم .. سأتحوّل بعد دقائق إلى هواء معلقًا عليه ملابسي، ويواصل الرقص، متطلعًا لأعلى، ولا ينظر لشيء .. لكن هذا لن يستمر طويلًا؛ فالهواء الذي سأصير إليه، وبمجرد العودة إلى الداخل وإغلاق الشرفة، سيكسوه جلد جديد، لينتظر سقوطه غدًا في الخامسة عصرًا داخل أفواه الجائعين، الذين لم يتوقفوا عن الرقص في خصيتيّ قبل عبورهم إلى ما أسفل الدنيا.
هل تعرفون أسوأ طريقة لإنهاء الحياة؟ .. أن تتصرف كما لو أنك موجة واهنة ممسوسة، لا تكف عن محاولة طمس آثار جريمة لا تُمحى، وقعت على رمال شاطئ ما، بينما السائرين بمحاذاة البحر، لا يدركون أن ثمة أحدًا قد قُتل في الأصل.
اللوحة: Oskar Kokoschka (1886-1980) Augustusbruecke in Dresden, 1923
أنطولوجيا السرد العربي ـ 30 يوليو 2018

الأحد، 29 يوليو 2018

عن "خوف" عبد الحكيم قاسم

لا يبدو الراوي في قصة "الخوف" لعبد الحكيم قاسم، وهي إحدى قصص مجموعة "الأشواق والأسى"؛ لا يبدو سكرانًا بالخمر مثلما يصرّح في بداية القصة بقدر ما هو سكران بالخوف .. الخوف المبهم الذي يسبق تناول الخمر الرخيص، ثم يتحوّل على إثره إلى حياة معلنة، جارفة كليًا، أي أنه لا ينشأ عن الثمالة فحسب .. لهذا يمكن التفكير في أن قرار الراوي باستخدام الصوت القوي حين يأمر سائق التاكسي بالتوقف ليس لمنع هذا السائق من ملاحظة أنه سكران، وإنما لمنعه من ملاحظة أنه خائف .. لهذا أيضًا يمكن تفسير الحرية اللغوية الكاشفة التي استعملها عبد الحكيم قاسم في السرد، والتي تخلت عن حذر المواراة الرمزية لصالح الفضح النفسي لمشاعر الخوف وتحولاته غير المتوقعة مستعملًا مفرداته وتعبيراته في نقائها الحاد، باعتبار هذه الحرية ناجمة عن السُكر بالخوف نفسه عند بلوغه ذروة كانت جديرة بالحدوث في تلك اللحظة، وليست راجعة إلى الخمر بحد ذاته.
كيف يمكن تأمل الخوف كـ "أصل" مهيمن، يسبق الظواهر المتغيرة ويتجاوز اعتيادها من خلال هذه القصة؟ .. يُظهر عبد الحكيم قاسم الخوف بوصفه استجابة ثابتة، "جذرية" لكل ما هو مألوف ونمطي: الحركة .. الأضواء وانعكاساتها .. التوقف .. الأرقام .. اللمس .. الصمت .. الصعود .. الأصوات .. الكلمات. وبالضرورة للتأويلات الشائعة عن الوجود والزمن والموت الكامنة في الأنساق التقليدية التي تكوّنها هذه العناصر: الطريق والعربة والسائق والأسفلت والسرعة وعدّاد التاكسي والوحشة والصمت والهروب .. سنلاحظ التشكيل البصري عند عبد الحكيم قاسم الذي يعمل أسلوبه في هذه القصة كرسّام للأشباح على المستويين البشري والمكاني: العين الخضراء في لوحة العدادات .. انعكاس ضوء لوحة العدادات على وجه السائق .. الباب الحديدي وصريره الشبيه بصوت كلب داس الراوي على ذيله .. المزج بين صوت محرك السيارة والنفير القوي واصطكاك المفتاح بحثًا عن ثقب الباب .. الظلام التام .. جثث الفئران الهائلة .. الأشكال المخيفة داخل المستطيلات المضاءة .. هذه الأشباح لا تمثل الملامح الخارجية للواقع في عيني الراوي بل تجسّد طبيعة حضورها داخله .. كأنه بهذا التشكيل يحاول التوصّل إلى صيغة ما للتفاهم مع تلك الأشباح، أو إخفائها داخل صور قابلة للتعديل والمحو.  
بذلك تتحوّل القصة إلى ما يشبه الكابوس الفاضح للقهر الذي تضمره الأشياء كافة، حتى تلك التي تبدو روتينية أو محايدة أو تتسم بخصائص مناقضة، ومن هنا يصبح خوف الراوي منطقيًا وفقًا لهذا الوعي، ولهذا، وبكيفية ما؛ فإن الاعتذار المتوسّل الذي قدمه الراوي للسائق عن عدم وجود "فكة" قد يذكرنا باعتذار تشرفياكوف إلى الجنرال بريزجالوف عن "العطسة" في قصة أنطون تشيخوف الشهيرة "موت موظف"؛ فالاعتذارين ـ خاصة مع تطورهما المتلاحق حيث يهرب الراوي من السائق الذي يريد إعطاءه باقي النقود كأنما يفر من دائن، ويلاحق تشرفياكوف الجنرال بشكل كاريكاتوري كي يحصل على غفرانه ـ قد يكونا غريبين للوهلة الأولى، وأقرب للهذيان، لكنهما ينسجمان مع الإدراك الفادح للشراسة التهديدية المتوعّدة التي ينطوي عليها كل ما ينتمي إلى العالم.
تؤكد السطور الأخيرة من القصة ذلك الخوف الذي يسبق تناول الخمر كما أشرت في البداية، كأنما يوثق عبد الحكيم قاسم هذا الجوهر الحاكم لطبيعة علاقة الراوي بالتفاصيل التي ستظل "مرعبة" لحياته حيث تكمن الثمالة الأساسية: المسوخ الشائهة التي تقف في فتحات أبواب الدكاكين المضاءة .. لكن دموع الراوي في النهاية تقودنا إلى ما يمكن أن نعتبره عمق هذا الخوف وهو الحسرة؛ فبكاء الراوي قد يكون تعبيرًا عن وصول الرعب في نفسه إلى هذه الدرجة المتطلبة لتدفق الدموع، ولكنها أيضًا قد تكون دليل الانغماس في الشعور بالفقد لكل البدائل الغامضة التي كان يجب أن توجد محل هذا الخوف.
* * * 
الخوف
عبد الحكيم قاسم
كنت مخمورًا أحاول جهدي أن أستجمع وعيي. سائق التاكسي رصين الكتفين. والعربة تمرق علي الأسفلت المبلول المضاء بمصابيح الطريق .
يبدو أنني مريض بالكبد. كمية الخمر الرخيص في معدتي تثقل علي وعيي مثل كلكل الجمل، لكنني يقظ وعارف، ومن طرف خفي أرقب تتابع الأرقام في عداد التاكسي. هذا السائق كتفاه تتساوقان في حركة رتيبة أكيدة. بعد لحظات سأقول له:
-
هنا ...
عندئذ يقف وأعطيه حسابه. سآمره بالوقوف في صوت خفيض, لكنه قوي وآمر حتى لا يلحظ أنني سكران, عيناي علي عداد السرعة.. تسعون كيلو في الساعة. يا ربي. العربة تستلبني بهذا المروق الخارق علي الأسفلت الناعم. أطرافي باردة بخوف مبهم.
هنا علي اليمين ..
بليونة وقفت العربة . تفتحت عين خضراء في لوحة العدادات, ضغطة هينة علي مقبض الباب. انفتح المعدن صقيل بارد. العربة جديدة متحفزة. بعينين ساجيتين متعاليتين ألقيت نظرة علي العداد. أنا أعرف ما فيه سلفًا لكنني حريص علي أن أبدو طبيعيًا. بأناة خلعت قفازي ودسست يدي في جيب معطفي، وأخرجت ورقة ذات خمسة جنيهات. عليه أن يرد لي ثلاث جنيهات .
بنفس النظرات السجية المتعالية تأملت كفه القابضة علي ورقة النقود، ووجهه الذي تنعكس عليه أضواء لوحة العدادات. سألني وأسنانه تبرق بيضاء لامعة: معاك جنيهين ..
ـ لا ..
ثم ترقرق في قلبي الأسى فأردفت:
-
أسف.
ثم قلت متوسلًا:
-
لا يهم...
لكنه أزاح رجائي بقبضته القوية ثم جذب محوّل السرعة وقفز بالعربة تاركَا في أذني أمرًا باترًا.
-
انتظرني هنا حتى أعود بالباقي ...
تسمرت في مكاني مرتبكًا وخائفًا قليلًا. تتعلق عيناي بالعربة التي تبتعد مسرعة. وجدتني وحيدًا. في مواجهتي علي الضفة الأخرى من الشارع صف طويل من أبواب الدكاكين عمياء صامتة، واقفة علي حافة امتداد إسفلتي لا متناه، مضاء بمصابيح الطريق .
صمت مريب، الوحشة تزحف علي من جميع الاتجاهات وأنا في بؤرة مخيفة, أنطلقت مسرعًا إلي بيتي. حذائي يضرب حصاة الطريق في ارتباك ولهفة. أسرع. أزيد سرعتي. أفر هاربًا. دفعت الباب الحديدي فصر صريرًا عاليًا ككلب دست علي ذيله. صعدت الدرجات القليلة قافزًا أتلفت ورائي كالمطارد. فجأة ملأ سمعي محرك السيارة. لقد عاد. بدأ يطلق نفيره بقوة. يدي تبحث عن ثقب المفتاح. النفير يدوي رهيبًا, المفتاح يصطك بكل مكان ماعدا ثقب المفتاح, بدأ السائق ينادي كحيوان مفترس:
ـ يا أستاذ لك ثلاث جنيهات باقية ..
صفقت الباب ورائي بقوة. في ثوان كنت قد خلعت ملابسي وطوحت بها وقفزت إلي سريري وأحكمت الغطاء حولي، ومازال السائق يزأر:
- يا أستاذ لك ثلاث جنيهات باقية ...
تشبثت بالغطاء وأنا أرتعد. أحاول لأن أهوى إلي قاع اللاوعي لأنجو.
هدر صوت العربة راحلًا. أحسست بالخلاص. لابد أن الشارع الآن ساكن تمامًا. عيناي مغمضتان. الحذر يضغط علي وعيي. يدوسني بأقدام ثقال. ذلك الامتداد الإسفلتي المضاء بمصابيح الطريق, فتحات أبواب الدكاكين. امتداد شاسع يوغل في البُعد حتى لا أحس بالدوار. مستطيلات واقفة متتابعة فيها مسوخ شائهة. ناس أو هي جثث فئران هائلة هائلة متآكلة. ظلال تام ما عدا هذا المستطيلات المضاء التي تقف فيها هذه الأشكال المخيفة. في داخلي تسح دموع دافقة.

الجمعة، 13 يوليو 2018

الأسماك الميتة

كان في الحوض سمكات كثيرة، لا أتذكر عددها بدقة، وكانت تموت بوتيرة متلاحقة .. لم يكن الفرق بين موت سمكة وأخرى يتجاوز أيامًا قليلة .. أحيانًا ثلاثة، وأحيانًا خمسة، وأحيانًا أسبوع كامل في أفضل الأحوال .. كان الأمر محزنًا بالتأكيد؛ فعلى الرغم من بذلنا للجهود الممكنة من أجل رعاية هذه الأسماك والحفاظ عليها، ودون تقصير في الالتزام بالتعليمات والنصائح كافة، إلا أننا ظللنا عاجزين عن إيقاف الموت داخل ذلك الصندوق الزجاجي .. لكن الحزن رغم قوته البديهية لم يمنعنا من اللعب بهذا الموت .. كنا نتراهن على أي سمكة سيأتي الدور على خروجها كجثة ضئيلة ملونة من الحوض كي تُدفن داخل الأصيص الذي أصبح مقبرة طينية مخصصة لذلك فوق سور البلكونة .. كان الدفن دليلًا متوقعًا على احترامنا لهذه الكائنات الصغيرة، وبالطبع على شعورنا بالأسى جرّاء فقدانهم؛ إذ لم نكن من نوعية البشر الذين يلقون بأسماكهم الميتة في بالوعة المرحاض أو سلة القمامة ..  كانت اللعبة مسلية حقًا نظرًا لصعوبتها البالغة؛ فالسمكة التي على وشك الموت لا تبدو عليها أية أعراض مرضية بل على العكس تظهر بصورة طبيعية ونشطة للغاية إلى أن تصيبها فجأة علامات الاحتضار المتسارعة قبل أن ترقد هامدة تمامًا في قاع الحوض، وكان هذا يضاعف استفزازنا، ويعزز متعتنا .. في النهاية تبقت سمكة واحدة .. سمكة واحدة ظلت تعوم وحدها في الحوض وتنظر إلينا .. تنظر إلينا كأنها تعرف .. كان في عينيها المحدقتين ما هو أكثر من توسل لأن نفعل شيئًا استثنائيًا مبهمًا لا يخرجها من الماء ويذهب بها إلى أصيص الطين .. كنا نظن أن اللعبة قد انتهت، ولكننا أدركنا أن ثمة ختامًا آخر لها .. أصبح كل منا يتسلل بعيدًا عن الآخرين كي يقف أمام السمكة ويتأملها وحده .. ذلك الاختلاس الفردي لمراقبة لحظات ما قبل الهلاك كان الجزء الأخير من اللعبة .. بعد موت السمكة ودفنها كان من المنطقي أن نقرر بشكل حاسم عدم التفكير في تربية الأسماك مرة أخرى .. لا شك أنه من المؤلم أن تتمسك طفلتي الحزينة ـ رغم استمرار نفينا القاطع ـ بتصديق احتمال أن ينبت من طين الأصيص زرع تثمر غصونه الأسماك الميتة، بنفس ألوانها، وقد استردت الحياة مرة أخرى، الأمر الذي يستوجب حينئذ انتزاعها فورًا لإعادتها إلى الحوض المهجور .. ربما الأكثر ألمًا أنني وزوجتي منذ موت السمكة الأخيرة نحرص على سقي الطين كل يوم.
موقع "قاب قوسين" ـ 10 يوليو 2018
الصورة لـ Roberto Pireddu

الخميس، 5 يوليو 2018

الشخص الذي ينظر إليك

بدءًا من الغد أريدك أن تستمع إلى الموسيقى منذ الصباح الباكر .. إن لم تكن موسيقى ناعمة فاستمع إلى موسيقى الجاز، وإن لم يكن من ذاكرة اللابتوب فمن إحدى محطات الإنترنت ولتكن Jazz Radio أو Jazz 24 أو 1.FM .. الموسيقى الكلاسيكية ستكون في نهاية الأسبوع، وسيشتمل الوقت المخصص لها على تنويعات مشبعة .. أريدك أن تتناول إفطارك فوق هذا العشب، بين هذه الزهور، وأمام هذا البحر .. بعد أن تنتهي طفلتك من اللعب مع الطيور والفراشات والغيوم؛ أريدك أن تجلس معها، وبرفقة قطتكما الصغيرة تحت هذه الشجرة كي تملأ بالونات الحوار للقصة المصورة التي رسمتها، وجعلتك أنت وهي والقطة تشاركون بطوط والأولاد وعم دهب في مغامرة بحرية تشبه تلك التي كانوا يخوضونها أيام الثمانينيات .. في المساء، وبعد أن تشاهد فيلمًا من الكلاسيكيات الملائكية؛ أريدك أن تستقل مع صديقيك هذه السيارة المماثلة لتلك التي كانت لدى لوريل وهاردي في مسلسلهما الكارتوني، وأن تتوجهوا لمراقبة البيت القديم الذي تعلمون أن أعضاء جماعة سرية يجتمعون فيه، ويمارسون طقوسًا سحرية مخيفة، وأنهم سلالة لأتباع عقيدة غامضة ظهرت منذ قرون، ويستعملون مخطوطات ووثائقًا عتيقة عن عوالم سرية مختبئة تحت بيوت وشوارع المدينة، تقود إلى خارج الزمن .. سيكون هناك مطر، وظلام، وإضاءة خافتة، وسيتمكن راديو السيارة من التقاط الموجات الأثيرية التي يتواصلون من خلالها مع أقرانهم في أماكن أخرى، وستنصتون إلى خططهم وتحركاتهم داخل المدينة، وسيكون لديكم في السيارة ما يُناسب هذه الرحلة من كتب، وأوراق، وصور، وخرائط، ودفاتر ملاحظات، ولابتوب متصل بالإنترنت، وهواتف محمولة، وطعام، وشراب .. أريدك أن تصدّق أن صديقيك لن يفعلا شيئًا يفسد الأمر .. أرجوك .. توقف عن تعريف البيت بأنه مجرد ممر إلى الشرفة .. أنت في الأربعين الآن، ولم يعد هناك وقت .. غادر هذه الشرفة التي قضيت كل حياتك فيها تراقب الناس، وتتقمص شخصياتهم التي تتخيلها، ثم تلوّح بالوداع لوجوههم بعفوية تزيد قوتها أو تنقص بحسب مستوى الألم الذي تتصوّر أنك قادر على استعماله .. سينتهي بك الأمر لأن تكون مثل جارك العجوز الذي يمضي معظم الوقت في الشرفة المقابلة .. لم يعد يراقب، ولم يعد يتقمص، وإنما أصبح يكتفي بتقليد مشي العابرين .. يردد كلماتهم وانفعالاتهم التي تصل إليه، ولكنه مازال يلوّح بالوداع لوجوههم فور وصولهم إلى نهاية الشارع تاركين ألمًا مضاعفًا غير صالح للاستخدام .. أعلم أن الموسيقى أصبحت من أكثر الأشياء التي تثقل يأسك مثلما تفعل الأفلام الملائكية، وأنه لا يوجد عشب أو زهور أو بحر أو طيور أو فراشات أو غيوم أو قطة أو شجرة، وأنك قتلت طفلتك قبل أن تحاول رسم القصة المصورة، وأنه ليس هناك صديقين ولا سيارة ولا جماعة سرية .. لكن ألا ترى؟ .. أصبح الناس هم الذين يراقبون العجوز الذي لم يعد يتذكر عن ابنته التي صارت شبحًا سوى أنها صاحبة اليدين اللتين تنتزعانه من الشرفة نحو الداخل لإنقاذه من ضحكاتهم.
صحيفة "المثقف" العراقية ـ 3 يوليو 2018
اللوحة: مرمم شباك الصيد / لؤي كيالي.