في روايته "بين بابين" الصادرة حديثًا عن دار نينوى؛ يستعمل
الكاتب اليمني بدر أحمد التفاصيل التقليدية للسجن كي يجعلنا نفكر في أنه أكثر
مراوغة مما تكوّنه هذه التفاصيل حقًا .. أن هذه العناصر المألوفة مجرد تجسيدات
رمزية مباشرة عن وجود مبهم، لا يمكن امتلاكه حسيًا على نحو كامل .. أن السجن
"فكرة" تتجاوز دائمًا المحاولة لجعلها متعيّنة كليًا أي قابلة للإدراك
التام .. السارد في الرواية مع عدم تحديد اسمه أو هويته أو مكان وزمن وأسباب
اعتقاله يؤكد على كونه مسجونًا في داخله .. في بشريته .. في الحياة التي لا يمكنه
التحرر منها حيث لا يوجد خارجها سوى الموت .. إنه في استعادته وتوثيقه أو تخيله
لما يشبه ذاكرة جماعية مشتركة للمقاومة والقتل والاعتقال يحاول أن يُثبّت شعورًا
أقوى بأن الوحشية لا تكمن في تلك الصور بقدر ما تكمن في مسارات الوجود التي كانت
هذه المشاهد نتيجة لها، أي أنها تتمثّل في كل فعل وكلمة وفراغ.
"أنا معزول تمامًا عن العالم الخارجي، وحتى أفكاري، ذكرياتي،
وحياتي السابقة. هنا يتشابه الليل والنهار إلى حد كبير، فلا نافذة تمدني بالهواء
والضوء؛ فقط فتحة صغيرة جدًا في أعلى السقف، يخترق حوافها المدببة عمود صغير من
ضوء الشمس، يعبر فضاء الزنزانة يوميًا، وعلى مدى ساعة كاملة، ويستقر في
قاعها".
كأن هذه الذاكرة بطغيانها المطلق هي التي تحلم بالراوي في سجنه،
تستخدم آلامه في استرجاع ماضيها .. كأن هذا السجين ممر للأرواح، تعبر خلاله ما
يراها نسخًا منه، كل حياة شكّلته، وخلقت وجوده في هذا المكان وهذه اللحظة ..
يتقمّص العذابات لا لكي يعيشها مجددًا بل ليكافح تكرارها الحتمي .. ليحاول التوّصل
إلى ذلك الجوهر التدميري الغامض الذي يضمن التماثل بين التجارب والخبرات وبالضرورة
الانعزال حيث لا يمكن لأحد أن ينقذ الآخر .. يصبح الهذيان هو المجابهة اليائسة
لهذا الجوهر الذي لا سبيل لاستيعابه .. الهذيان
أشبه بإعادة ميلاد للعالم .. محاولة نكوصية لتعلّم اللغة والتفكير والحركة لبناء الوعي
الجدير بامتلاكه هذا السجين كي يتخلّص مما هو عالق في ظلامه .. يمارس السارد نفس
الآلية التكرارية في الاستعادة، ولكن بشكل مضاد .. حينما تتكرر الأحداث الدموية في
ذهنه بينما يرقد في عتمة السجن فهذا يجعلها وفقًا لطموحه منقطع الرجاء في نطاق
الاحتمال بأن تكشف عن حقيقتها المخبوءة .. يجعلها قابلة لإيقاف استمرارها القهري
.. لتعطيل التشابه .. إذن لا يعمل الهذيان من أجل اللحظة القادمة فحسب، وإنما
أيضًا لإعادة صياغة الذاكرة الوحشية التي سبقت وجود الراوي في السجن، والتي حينئذ
ستتيح له التعرّف على ملامحه حين يتحسسها في الظلام كما لم يفعل من قبل.
"غادرت مريم صفها، واقتربت نحوي، وقبل أن تقول شيئًا شاهدنا في
الأفق البعيد نقطة معلقة بين السماء والأرض. لم تكن النقطة سوى طائرة هليوكوبتر
إسرائيلية في وضع استعداد قتالي. في الجهة اليمنى من المعسكر كانت تقف طائرة
هليوكوبتر في الوضعية نفسها. دارت الأعين بذعر بين الطائرتين المعلقتين بين السماء
والأرض"
بهذه الكيفية ربما نتأمل علاقة السجين بالمقاتلة "مريم"
التي يسترجعها كأنها إعادة إنتاج لقصة الخلق .. الكابوس الواقعي المعادل
للميثولوجيا .. تتكرر هذه القصة بطرق مختلفة بتركيز على موضوع "الأبوة"
.. التماثل بين السجّان والأب .. الرجل الذي يتعارك مع زوجته ويضاجعها كمسخين، بشراسة بوهيمية .. المشاهد التي بلا
تعريف يوضحها أو ذاكرة تفسرها .. هو التكرار الوحشي فقط، الذي عليه أن يتعاقب دون
معنى .. لننتبه إلى هذا الأداء: بعد اكتشاف السارد لوجود المصباح في زنزانته، وبعد
اكتشافه لمحتوياتها بعد وقت طويل من إقامته في ظلامها سيمد يده نحو المفتاح
الكهربائي ويعيد إطفاء وإشعال المصباح أكثر من مرة .. سيتكرر هذا الأداء من الرجل
الذي يتذكره الراوي، والذي كان دائم العراك الجنوني مع زوجته قبل انتحاره .. إن
إعادة فتح الضوء وإغلاقه هي المحاولة الأخيرة ربما للتيقن من أن هذا ما لديك
بالفعل .. أن الأشياء التي يسقط عليها الضوء هي ما تحاصرك حقًا .. كأن الضوء بهذا
الفتح والغلق سيغيّر ما يقع عليه .. كأن السجين بهذا الأداء يتوسّل للضوء أن يكشف
عن تفاصيل أخرى .. إذا كان الرجل قد انتحر؛ فإن الراوي أدرك أن "أنس"
ذلك الوجه الباسم الذي شكّله من الحصى كصديق يشاركه الزنزانة ليس أكثر من مجرد
حصوات بالفعل .. يبدو إذن إطلاق الرجل للرصاص على رأسه كأنه هو نفسه رمي السجين
المتتابع للحصوات التي كانت تكوّن وجه "أنس" في جردل البول بعد أن كشف
له الضوء أن هذا الوجه بلا أهمية .. لقد كان الراوي يلقي بملامحه هو في هذا الجردل
.. بكينونته التي لا تملك شيئًا داخل هذا الصمت.
"أتذكر أيضًا أنها في إحدى الليالي حطمت زجاجة زرقاء على جمجته،
بعد أن شتمها وبصق عليها. وما زلت أتذكر كيف تطاير الزجاج في الهواء، وكيف هوى
جسده على الأرض بعنف دون حراك، والدماء تسيل على وجهه ورقبته. يومها ظلت للحظات
تحدّق بمقت وازدراء في جسده المسجي على الأرض، ثم رفعت طرف ثوبها حتى أعلى فخذيها
النحيلين وهى تتمتم بكلمات غاضبة، ثم أنزلت سروالها الداخلي الأسود وركلته بقدمها
جانبًا، ثم تبولت واقفة على وجهه المدمى".
كتب بدر أحمد روايته انطلاقًا من أن الحرب بالتصوّر الأشمل، دون إطار،
تحضر في كل شيء، ليس بين البلدان والجماعات وحسب، وإنما بين الذات ونفسها، في
العلاقات بين الكائنات، وبين الفرد وأشيائه .. بهذا حينما يستعين بأحداث النضال
الفلسطيني، والحرب الأهلية اللبنانية فهو يسعى لمجاورتها مع الحروب الأخرى التي
تهيمن على الواقع باعتبارها محرّكه الأساسي، ولذلك فإن الأشلاء والدماء والصرخات هي
ما تكوّن طبيعة العالم التي يمكن أن تعبّر عنها أدق تفاصيله، وأكثرها التباسًا،
وحتى تلك التي تحمل في الظاهر يقينًا مناقضًا لهذه الطبيعة.
"أثناء الغارات وعمليات القصف العشوائي للأحياء السكنية، كنت
أحتمي أسفل سرير معدنيّ، بمعية أطفال لا أتذكر عددهم، ولا وجوههم، ولا حتى
أسماءهم، لكني أتذكر أننا، وحال شعورنا بالخطر، كنا نتدافع، عبر البهو والرواق،
كقطيع أرانب مذعور، ثم ندلف إحدى الغرف المظلمة ونختبئ أسفل سرير ضخم ترتجف
أجسادنا تحته وننتفض على وقع كل انفجار".
مراقبة حركة يد السجّان التي تدفع بالطعام والماء للسارد عبر فتحة
ضيقة قد تدفعنا للتفكير في اللغة .. في الوعي الذاتي .. فيما نصدقه ونريد للآخرين
مشاطرتنا له .. قد تدفعنا للتفكير في الاختيار الذي تلتهمه الصراصير مثلما كانت
تفعل مع الطعام في زنزانة السجين .. الاختيار المتوهم وبناءًا عليه تكون اللغة
التي نستعملها، الوعي الذي يحرّك خطواتنا في العالم، ويحدد معاركنا وهزائمنا
ومصائرنا، وقبل كل ذلك يكرّس لظنوننا الاضطرارية بأننا نختار حقًا.
"جرت العادة أن تصبغ جدران وأبواب ونوافذ السجون باللون الرصاصي
أو الأخضر الزيتوني. حقيقة لا أدري لمّ!! إنما يبدو الأمر وكأنه عرف أو نظام متبع،
وهذا يعني أني لست في زنزانة خاضعة لسلطة الدولة".
يدعم تبيّن الراوي لزنزانته بعد خروجه منها أنها لم تكن سجنًا بل غرفة
قديمة وحيدة فوق هضبة مقفرة؛ يدعم الطابع الكافكاوي للرواية، وهذا ما يجعلني
أستعيد هذه السطور من مقال سابق لي عن قصة "أمام القانون" لكافكا ضمن
كتابي عن كلاسيكيات القصة القصيرة "هل تؤمن بالأشباح؟":
"إن القصة السرية التي رواها (كافكا) بوضوح وبساطة ليست سوى
كابوس دارت أحداثه داخل جسد الرجل الريفي ـ ربما استغرقت عمره كاملاً ـ الذي أُرغم
تلقائياً بدافع من أسس قامعة خفية لا سبيل لمقاومة إغرائها ـ كالوهج الذي لا يقطعه
خمود، المتدفق من داخل البوابة ـ على خلق ما يُسمى بالقانون مستخدماً أوهام
وخيالات ستجعله كياناً غير معروف، يستعبد صاحبه دون أن يُرى أبداً".
بالتالي فهذا الاكتشاف يدعم ما سبق وأشرت إليه بأن السجن لا تكوّنه
المعطيات المباشرة التي يتم توظيفها كرموز خطابية، وكذلك لا يستمد مراوغته من مجرد
كونه فكرة داخلية، وإنما من الخيال الشخصي .. البصمة التي تحفر اختلافها ضمن
التطابق، وهي بذلك تتوصل إلى مكان خاص وزمن مفارق كما فعل سجين بدر أحمد، بل وتخلق
السجّان والوعاء والحصوات والضوء والصراصير والجدران والفتحات مثلما تخلق المطلق
الذي تجعله أصلًا ومحركًا ومُنهيًا، أو تمنعه من العبور إلى كوابيسها، أو تقتله.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 5 أغسطس 2018