هناك نكتة طفولية قديمة، غير مضحكة، تقول: سأل معلم أحد التلاميذ
"إعرب هذه الجملة: "ضرب المعلم الولد"؛ فرد عليه التلميذ: "ضرب:
فعل إجرام ـ المعلم: ابن حرام ـ الولد: مسكين يا حرام" .. حسنًا .. قد تؤدي
سخافة هذه النكتة لاستجابة عكسية، لكنني أفكر في هذا التلميذ لو مد خط الفكاهة
المفترضة على استقامته حتى يصل بعد سنوات طويلة إلى التفكير في إعراب "خلق
الله الإنسان" دون أن يُطلب منه ذلك.
كتبت ذات يوم ـ وهو ما اعتبرها نكتة أخرى عن نفسي ـ في قصة
"المرض" بمجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة":
"لن أتمكن أبدا من العيش في كوخ.. الكوخ الذي حاولت بناءه مرة
بوسائد وأغطية السرير، ومرة بقطع خشبية قديمة في بلكونة الأسرة، ومرات لا حصر لها
بمبررات متغيرة للثقة في الغيب داخل روحي.. الكوخ الذي لم يكتمل بناؤه أبدًا ليس
بسبب حروب الآخرين ضد عزلتك، ولا شهوة الطرد التي تواجهك بها كل الأماكن بقدر رغبة
مبهمة داخل ذاتك في التخلص منه لا تنجح الأسباب الملموسة التي يمكن العثور عليها
في تفسيرها.. رغبة قد يبدو حقًا أنها نتيجة هزائم مدركة وأحلام يمكن التفاوض مع
الدنيا بشأنها، لكنك ستشعر في نفس الوقت بأن هذه الرغبة متجذرة في مركز أكثر عمقًا
مما يمكن تصوره .. أن قوتها الحقيقية تكمن في كونها إشارة خبيثة ربما تعطيك انطباعًا
أوليًا بأنها لا تستحق الانتباه ثم تستوعب تدريجيًا أن هذه الإشارة ما هي إلا
إلحاح يعلن عن بداهته الأزلية دون تأسيس على تمهيد منطقي .. إلحاح منفصل عن الهزائم
والأحلام وينمو دون تدخل منك أو من غيرك حتى يصل تصاعده إلى نقطة يصبح من الحتمي
فيها أن تكون في الخارج .. أن تُجبر على إبقاء نفسك بعيدًا عن أي كوخ ترغب بشدة في
أن تسكنه".
عمري الآن واحد وأربعون عامًا، ولا يمكنني بأي حال من الأحوال،
وبمنتهى الرعب والحسرة اللائقين تصديق أي مما يمكن أن ينطوي عليه هذا الرقم بدءًا
من التغييرات الجسدية المفاجئة، والمتسارعة: الصلع .. الشيب .. خطوط الجبهة ..
التجاعيد .. صغر العينين وانسحابهما للداخل .. انطفاء الوجه .. الوهن .. الخمول ..
الثقل المتخشّب للعظام والمفاصل .. مرورًا بالتفكير في كل ما حدث لي، وحتى تخيّل
ما بعد الموت .. الغريب في الأمر أنني قبل بلوغ الأربعين بقليل بدأت أتخلص من
الخوف المرتبط بفقدان الحياة والتعرّض إلى المخاطر القاتلة، وهو ما كان بمثابة
السجن المظلم الذي اُعتقلت حياتي داخله خلال مرحلتي العشرينيات والثلاثينيات ..
أصبحت أسير بمفردي لوقت طويل، وأجلس في الأماكن العامة البعيدة عن أقرب من أعرفهم،
كما بدأت أسافر وحدي، وكلها أمور كان من المستحيل القيام بها منذ أن كان عمري أربعًا
وعشرين سنة تقريبًا .. لم أعد أفكر مثل العشرين عامًا الماضية مع كل لحظة في الموت
المفاجئ أو الإصابة بالأمراض الخطيرة أو في التعرّض للحوادث القاتلة .. أصبحت أعيش
الموت دون التوقف عند أسبابه .. أعتقد أن الأمر له علاقة أيضًا باللغة .. بالوعي
بما استهلكته هذه اللغة من نفسي .. بما استعملته من الألم والرعب والحسرة والحيرة
والاضطراب والضجر واليأس .. الكلمات التي لم تعد تعني أي شيء مقارنة بما أشعر به ومع
ذلك أصر على استخدامها كمن يدخن السجائر بشراهة قاتلة دون شعور بمذاقها .. الشراهة
التي تزيد من إدمانه بدلًا من أن تعالجه .. بالنسبة لي هو الانتقام من لعنة اللغة
بإفراغها من نفسها، ليس فقط لكونها عاجزة، بل للوصول إلى ما هو أبعد من قسوتها أي
فراغها الأخير .. الثأر مما كانت تدعيه في الماضي للوعي الذي استخدمته هذه اللغة
في مراحل مبكرة من عمر الذات .. كذلك السخرية مما صار إليه الاحتراق الجسدي
المتواصل على مدار العمر، والذي لم يكن سوى قربانًا لها حيث يوجد كل شيء داخلها ..
حيث لا يوجد أي شيء داخلها .. ربما هي الطريقة التي يصل فيها الألم إلى ذروته بعد
مرور وقت طويل من الفشل مع الوجود، ومن بقاء الألم طوال الوقت خارج اللغة التي
كانت وستظل بشكل حتمي هي الوجود ذاته .. يبدو هذا الأثر كأنه استسلام أو تعايش أو
حتى معالجة لكل الجروح المرضية التي طالما عانيت بسببها: الدوار .. ضيق التنفس ..
دقات القلب القوية المتسارعة .. الغثيان .. الهبوط .. الرعشة .. التعرّق .. أصبح
الغضب المتوسّل في قمته كامنًا دون تأثيرات خارجية إلا في الحدود البسيطة مقارنة
بالماضي، كأنما تم إزاحته وطويه داخل أعمق حيز في جسدي كي يُخفي هذا الذي يبدو
انسجامًا حركيًا مع العالم الصرخات الاحتضارية الأخيرة في أقصى حدود لها .. موسيقى
ضبابية تحجب رغم هدوئها التدرّجات المنذرة باقتراب النهاية الانفجارية كصوت أقل من
انقطاع خيط رفيع جدًا كما كتبت في نص سابق.
سأخرج من العالم ممتنًا لأشياء كثيرة في الواقع، منها ـ على سبيل
المثال ـ ذكرياتي الطفولية في
الثمانينيات، وأنني لم أمت في عمر أبكر من اللحظة التي انتهت حياتي فيها، وأنني
كتبت كل ما حاولت أن أكتبه، وأن زوجتي كانت جميلة، وأنني كنت منتميًا كرويًا
للأهلي، وأنني كنت قادرًا على التخلص من الأصدقاء ببساطة متناهية، وأنني كنت أمتلك
من الفطنة ما جعلني أطلب من عائلتي إذا أصابني مرض عقلي أو نفسي في نهاية حياتي
وتحولت إلى عجوز تتوكأ عصبيته المرتعشة على عصا، وتترقرق دموع قديمة في عينيه
لتمتزج بمخاط أنفه السائب معظم الوقت، ويدور بين الندوات والمقاهي ويصرخ مطالبًا بالتوقف
عن "الابتذال" الروائي و"الفوضى"النقدية، راجيًا العثور على
كاتبة صغيرة ذات قلب رقيق، تُكرم شيخوخته الأدبية اليائسة بـ "بلوجوب"
مشفق؛ فإن عليهم منعي من مغادرة البيت مهما استخدموا في ذلك من عنف.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة
الصورة لـ Josef Koudelka