تأخذني أمي من يدي، وبدلًا من أن نذهب إلى المدرسة أو السوق أو بيت
جدتي تصعد بي إلى السماء .. تجلسني بجوارها فوق أعلى سحابة بيضاء ثم توجّه ملامحها
العجوز الغاضبة نحو الأمام وتخاطب شيئًا لا أراه بعصبية وهي تشير إليّ: إنه لا
يصدق أنك هنا .. عليك أن تقنعه بذلك قبل فوات الأوان.
أقول لها بنفاذ صبر: هذا غير صحيح .. أنا أعرف أنه موجود، كل ما في
الأمر أنني كنت أتمنى لو لم يكن شريرًا.
تزعق أمي في وجهي: إنه ليس كذلك.
ابتسم متهكمًا وأقول لها: حقًا؟ .. إنه حتى لم يعالج بصرك إلى الآن،
ومازلتِ تحتاجين لارتداء النظارة ذات العدستين السميكتين .. أنظري إلى نفسك .. لقد
ترك كل شيء فيكِ على حاله رغم إيمانك بطيبته: الشعر الأبيض .. التجاعيد المتهدلة
.. الجسد البدين المتهالك .. علامات الأمراض المزمنة في وجهك .. أظن أن بطنك لا
يزال مفتوحًا أيضًا وراء هذه الملابس من أثر الجراحة التي أجريت لكِ في يومك
الأخير على الأرض.
فجأة أسمع ضحكة مفتعلة تصدر من الناحية التي كانت أمي توجّه حديثها
إليها .. يظهر أبي مبتسمًا بتوهان مألوف ويتقدم نحونا ثم يقول بنبرة خافتة مخاطبًا
أمي: لا تصدقيه، هو لا يؤمن بوجودي لأنه قرأ أكثر مما يجب من الكتب السيئة التي
انتقلت شياطينها إلى عقله.
ثم يتوجه بعينيه الزائغتين لي: من الضروري أحيانًا أن تحدث بعض الأمور
غير الجيدة حتى لو لم نعرف أسبابها المنطقية.
يتراجع أبي قليلًا ثم يقلّب عينيه بيني وبين أمي بحيرةٍ أزيد ثم يقول
مرتبكًا بتوجّس: من أنتما؟، وما الذي جاء بكما هنا؟ .. ما الذي كنا نتكلم عنه؟
أشير إليه مخاطبًا أمي بزهق: أنظري .. إنه لا يزال مريضًا بالزهايمر،
ولابد أنه سيضع يده بعد قليل في مؤخرته كالمعتاد ليُخرج قطع الخراء منها ثم يمدها
إلينا صارخًا كي نأخذها ونجد حلًا لها قبل أن يقذفها أمامنا .. هذا فقط أحد الأمور
غير الجيدة التي من الضروري أن تحدث أحيانًا.
ظل أبي يتلفت حوله مرتعشًا ثم راح يطلق ضراطه التقليدي بشكل متواصل
قبل أن تنهض أمي في صمت مستسلم وتربت على كتفه ثم تمسك بذراعه لتقوده ببطء نحو
الجهة التي خرج منها بينما أمعائها المسدودة تتدلى من شق بطنها الواسع، وأنا أتابع
اختفاءهما التدريجي وسط السُحب.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة
اللوحة لـ "بابلو بيكاسو".