كان الملف مقسّمًا بين الخطابات التي تشغل الحيز الأكبر منه، والرسومات
التي ليس هناك تأكيد هل خطّها منصور بنفسه أم بيد أحد آخر، وتصوّر طرق التعذيب
التي يتعرّض لها، بالإضافة إلى قصاصات الصحف والمجلات القليلة التي نشرت إشارات
تافهة عن الموضوع، والتي يبدو أن ثمة يدًا تساعده في الحصول عليها داخل قبره
العسكري .. كانت لكلمات منصور بنية متصدّعة، تشبه تمامًا كتابة طفل لم تتطوّر بعد
مهارته في تشكيل الحروف وتوصيلها ببعضها .. كأن كلماته المتكسّرة، والربط العسير،
غير العفوي بين حروفها ليست إلا صورة لأصابع منصور المحطمة، التي تم ترميمها
باستخفاف .. بالتناقض مع الكلمات كانت الرسومات أكثر انضباطًا، وتتميز بقدر كبير
من الإتقان الفني يثير الدهشة عند مقارنتها بالكتابة .. كانت تبدو كأن منصور قد
حصل من السجّانين على نسخة من الأشكال التوضيحية التي يتضمنها كتاب التعذيب الذي
يسترشدون به ثم قام بوضع ورقة الخطاب الشفافة فوق كل رسم ليتتبع بقلمه الرصاص خطوط
الشكل الذي يظهر تحتها .. كانت هناك أيضًا صورة بالأبيض والأسود لمنصور يظهر
خلالها شابًا في العشرينيات، غير مبتسم، بشعر كثيف، ولحية خفيفة، كما تخلو الصورة
من الإشارة لستوديو التصوير، والتاريخ الدقيق لهذه اللقطة بعكس المعتاد .. كان في
الصورة شيء من الغرابة المقلقة، ربما بسبب الأبيض والأسود؛ فهي مع عدم حداثتها
مازالت تنتمي للزمن الذي جعلت فيه الألوان هذا النوع من الصور شيئًا نادرًا أو على
الأقل غير شائع .. لهذا تبدو الصورة أكثر قدمًا مما قد تكون في الواقع، ويبدو
منصور خلالها بعينيه الخاليتين من أي انطباع كأنه شخص عاش في سالف العصر والأوان.
أكثر من مرة وضعت صورة منصور ملاصقة لرسومات التعذيب محاولًا دمج وجهه
بالجسد الذي يتم التنكيل به في نسخ مختلفة .. لابد أنها لم تكن المرة الأولى التي
أجرّب فيها عملية التركيب بين صورتين سعيًا لخلق صورة ذهنية ثالثة، ولكنني لا
أعتقد أنني حصلت على انسجام أكثر إحكامًا من هذه اللحظة .. كان وجه منصور يتوحّد
مع كل رسم بتناغم فوري، كأنه جسد مستيقظ، يدرك تناثره، ويتحرك ذاتيًا لاستعادة
التلاحم بين أشلائه بمجرد العثور عليها .. بدت ملامحه مع هذا الاكتمال كأنها
مرسومة هي الأخرى بالقلم الرصاص، أما خطوط جسده على الورق فكانت تتحوّل إلى جلدٍ
عارٍ، تنزف منه الدماء، ويكسو عظامًا مكسورة.
لم يكن في الملف أي ذكر لحياة منصور قبل سفره إلى السعودية إلا تلك
المتعلقة بقضيته نفسها؛ فهو حاصل على شهادة الثانوية الصناعية، شعبة ميكانيكا
السيارات سنة 1983 من مدرسة المنصورة الصناعية بنين، وهذه
البيانات وردت بالمستخرج الرسمي الذي قدمه منصور إلى السفارة السعودية، والصادر من
مديرية التربية والتعليم "إدارة شئون الطلاب" .. جميع الخطابات تبدأ من
السجن وتنتهي داخله؛ إذ لم يكن هناك أي توضيحات حول ملابسات سفر منصور إلى
السعودية، أو عن حياته هناك قبل اعتقاله منذ سبع سنوات .. كان منصور في كل رسالة
يخاطب الجميع: إخوته وأقاربه والمسئولين الحكوميين ورؤساء التحرير والصحفيين
والإذاعات ورؤساء الأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان وبعض المحامين في المنصورة
والقاهرة .. كلها مناشدات بالتدخل لإنقاذه، وتحمل نفس الصيّغ والمعلومات تقريبًا،
أما عن طريقة تهريب الرسائل فيرجع الفضل فيها بحسب تأكيد منصور إلى شخص متعاطف معه
يُدعى صادق، ويعمل باحثًا اجتماعيًا بالسجن، ويبدو أنه قد ساعده أيضًا في الحصول
على عناوين المراسلات، وتزويده بالمعلومات التي لم يكن له أن يعرفها بدونه، وربما
كان هو صاحب اليد المجهولة التي رسمت أشكال التعذيب بهذه المهارة .. على هذا بدا
كأن "صادق" هو الملاك السري الوحيد في حياة منصور، لكنه بكل تأكيد كان
ملاكًا ناقصًا، فالقدرة على إنقاذه من هذا الجحيم كانت معطلة تمامًا.
موقع (الكتابة) ـ 31 يوليو 2018