الخميس، 8 أغسطس 2019

ذروة العادة

فجأة عرفت كل شيء ...
كنت مستلقيًا فوق السرير، أحدّق إلى السقف، وأفكر في بعض الأمور الصغيرة المبهمة التي تركتها خارج البيت الذي لم أعد أغادره، قبل قطع علاقاتي بالجميع: لماذا انسحب المترجم تدريجيًا من صداقتنا؟ .. لماذا توقفت كاتبة القصة الشابة عن كتابة الرسائل لي على فيسبوك؟ .. لماذا ترك الناقد الأدبي عمله في دار النشر؟ .. لماذا كتب الروائي الشاب على تويتر تلميحات كثيرة عن الخيانة الزوجية؟ .. لماذا تحدث معي الروائي العجوز باقتضاب مرتبك في آخر مكالمة بيننا؟.
ربما كان يبدو أن عزلتي المغلقة ليست في حاجة لتفسير أشياء غامضة كتلك، خاصة بعد مرور وقت طويل على حدوثها، لكن الفضول القديم لإدراك الأسباب كان يستيقظ في نفسي بين حين وآخر.
على سبيل الانفصال المؤقت عن الطقوس اليومية المألوفة؛ قررت تكريس جهدي هذا المساء لمحاولة العثور على هذا التفسير .. كان الأمر ظاهريًا يماثل الشروع في لعبة جديدة طمعًا في مرح غير معهود، لكن جدية حاسمة كانت تملؤني حقًا بينما أعود لأوراق قديمة سبق لي تدوين ملاحظات، وإشارات هامشية بها على مدار أعوام متعاقبة .. تنقّلت أيضًا داخل وفرة من الملفات المختزنة على اللابتوب، والتي تحمل أفكارًا وهواجسًا قمت بتسجيلها منذ مدة كبيرة كملامح متناثرة تنتظر الوجوه التي ستراوغها .. ظللت أجمع المعلومات المفترض أهميتها من هذا الأرشيف، ثم بدأت أعمل على تشريحها كي أخلق احتمالات مختلفة لخفائها المستمر في التصدّع .. سرعان ما أخذت هذه الاحتمالات تفرز نفسها، وتتحوّل انتقاءاتها الذاتية إلى ضرورات تتقدّم في طريق ثابت نحو الاستقرار كاستنتاجات مؤكدة .. شعرت بما يشبه ضوءًا نقيًا، ساطعًا انبعث دون تمهيد داخل ذهني؛ فاعتدلت على الفور كمحقق متقاعد اكتشف حل لغز الجريمة بعد سنوات كثيرة من وقوعها: عرفت أن المترجم قد انسحب تدريجيًا من صداقتنا نتيجة اعتراف حبيبته له بأنها تحبني، وما زاد الصدمة إذلالًا أن المترجم كان يعمل سرًا على ترجمة مختارات قصصية لي إلى الإنجليزية كهدية أراد أن يفاجئني بها تقديرًا لمكانتي عنده، وبالطبع تحوّلت بعد هذا الاعتراف إلى كابوس يجدر محوه تلقائيًا .. توقفت كاتبة القصة الشابة عن كتابة الرسائل لي على فيسبوك لأن اليأس استحوذ على نفسها كليًا من أن أقدم على خطوة رومانسية أكسر بها حاجز العلاقة التقليدية بين صديقين، وذلك بعد اعترافها للمترجم أنها تحبني بينما كان يحدّثها ببراءة مطلقة عن المفاجأة المترجمة التي يجهّزها لي .. ترك الناقد الأدبي عمله في دار النشر كإرضاء مستتر ومتأخّر للضمير، بعد إصراره على منحي المستحق للجائزة التي كان عضوًا في لجنة تحكيمها في مواجهة بقية أعضاء اللجنة الذين كان عليهم توزيعها في ذلك العام على إصدارات دار النشر التي كان يعمل بها الناقد، واستقال منها احتجاجًا على عدم فوز مجموعتي القصصية، في مقابل إعطاء الجائزة لمجموعة كاتبة القصة الشابة التي اعترفت للمترجم أنها تحبني ثم توقفت عن كتابة الرسائل لي على فيسبوك .. كتب الروائي الشاب تلميحات كثيرة على تويتر عن الخيانة الزوجية لأنه استمع خلسة إلى زوجته المحررة الثقافية وهي تتحدث تليفونيًا إلى صديقها الناقد الأدبي الذي ترك عمله في دار النشر، وكان يشرح لها الدافع وراء الاستقالة؛ فكان ردها على الناقد بأنه في مجموعتي هذه قصة قصيرة من النوع الذي لا تمانع بعد قراءتها من أن تخون زوجها مع كاتبها .. تحدث معي الروائي العجوز باقتضاب مرتبك على الهاتف بسبب شعوره بالذنب؛ حيث طلب منه أحد الطلاب الجامعيين من قرّائه ترشيح رواية ذات سمات معينة تلائم موضوع البحث المكلّف بإعداده، وكان على وشك ترشيح روايتي بالفعل لكنه في اللحظة الأخيرة غدر بقناعته، وقام بترشيح رواية لصديقه المقرّب، الروائي الشاب الذي كتب تلميحات كثيرة عن الخيانة الزوجية كمجاملة له، وهي الرواية التي سبق أن ترجمها إلى الإنجليزية ذلك المترجم الذي اعترفت له حبيبته كاتبة القصة بأنها تحبني فانسحب تدريجيًا من صداقتنا.
ليس هذا فقط كل ما عرفته؛ فالضوء الساطع استمر في التدفق كنهر جارف، لا يحتاج لتذكر منبعه، أو ما وراء انسيابه في تلك اللحظات على هذا النحو المشوّق .. كان تفسير تلك الأمور الصغيرة المبهمة بمثابة الإرشاد السحري لفك شفرات الذاكرة بأكملها .. كأنه دليل الحكمة الشاملة أو المنطق الأساسي الذي أدركت بواسطته العلاقات الخفية التي كانت تربط بين عائلتي وأصدقائي وجميع من عرفتهم طوال الماضي .. ما يمكن أن أطلق عليه التاريخ السري لحياتي الذي ظل مطموسًا في وعيي كل الوقت .. فهم صلب، عفوي، راح يطغى بلا تمهّل ليتجاوز الكشف عن ذلك الواقع الأصلي المحدود إلى امتلاك الخلاصة العارية لتاريخ العالم نفسه .. استوعبت تمامًا حقيقة الخيوط المتشابكة التي كنت معميًا عنها، وتمتد بيني والبشر كافة منذ بداية الوجود، ولن تنقطع حتى نهايته .. استطعت تحديد الصلة المختبئة ـ مثلًا ـ بين سقوطي في عمر العامين من فوق كرسي الاستوديو قبل لحظات من التقاط صورة لي مما نتج عنه تورّم رأسي، وشعور عجوز إيطالي بالحنين لأيامه الأولى مع زوجته، ولميلاد طفلتهما في نهاية القرن التاسع عشر .. بين صاحب المكتبة الذي أخبرني في سعيه لصداقتي بأن عينيّ تعريان الآخرين كعيني سلفادور دالي، وأغنية "رصيف نمرة خمسة" لعمرو دياب .. بين مرض أبي بالزهايمر قبل موته، والعقيدة الغنوصية .. كل شيء أصبح واضحًا.
لكنني وجدت نفسي أتساءل حول كيفية الاستفادة من هذه المعرفة داخل الظلام المتحجّر بين هذه الجدران وحولها منذ زمن بعيد .. ما الذي يمكن أن أفعله حقًا بكل ما اكتشفته، والذي من المؤكد أنه أقصى ما يمكنني الحصول عليه من حركة يدي اليمنى الأزلية أمام المرآة؟ .. كان حتميًا أن تختفي ابتسامتي، وأعود للاستلقاء، والتحديق إلى السقف، والتفكير في التوصّل إلى طريقة مثالية لاستغلال هذه الذخيرة الخارقة لصالح الأمر الوحيد الذي تبقّى لي .. أن أحاول جعل انتظاري للموت مختلفًا بصورة ما داخل البيت الذي لم أعد أغادره، ولا أعلم هل سأنجح في هذا أم سيكون موتي هو الآخر مجرد منديل ورقي مكرمش على أثر جاف لامتنان عابر في سلة القمامة .. من أخدع!، ربما أتمنى لموتي أن يكون هكذا بالفعل.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 6 أغسطس 2019
الصورة من فيلم Süt

الثلاثاء، 6 أغسطس 2019

الجوائز الأدبيّة العربيّة.. ماذا قدّمتْ للمؤلف والكِتاب؟

الجوائز العربية الأكثر منحًا للامتيازات الأدبية والمادية هي تواطؤ فكاهي متغيّر بين ركائز عدة، لا أظن أن هناك أحدًا في الأوساط الثقافية يمكن أن يجهلها: التكريس المتعمّد للكتابة المتطهرة من الشرور الجمالية الهدّامة .. المجهودات التفاوضية لوكلاء دور النشر، أو سماسرة الجوائز من الكتّاب والعاملين في الصحافة الأدبية، دائمي التنقّل بين لجان التحكيم وكواليسها .. التوافقات الملزِمة بين محرري المطبوعات الثقافية المعينين كشماشرجية إعلام للجائزة ومحكّمين لها .. التوازنات الجغرافية والسياسية والجندرية وكذلك التعويضية عن خسارات سابقة .. أحكام المحبة والصداقة، والمتع المتبادلة ـ بمختلف أشكالها ـ بين الإخوة في الثقافة .. لكن هذا بالنسبة لي لا علاقة له بكل الثرثرة السخيفة المتعلقة بالتقييم والاستحقاق والعدالة، بل ـ وهذا أمر أعرف أن البعض يجد صعوبة بالغة في فهمه ـ أرى أن كل كتابة ـ مهما كانت ـ تستحق الحصول على جائزة، وأن كل العوامل ـ غير الأدبية ـ التي تهيمن وتتحكم في النتائج تحدد فقط عملًا سيفوز وأعمالًا أخرى ستستبعد من بين كتابات ينبغي جميعها أن تنال الجائزة.
أستعير هذه السطور من كتابي "نقد استجابة القارئ العربي ـ مقدمة في جينالوجيا التأويل" والخاصة بهيكلة تقرير تحكيم العمل لإحدى الجوائز العربية:
" إننا لو افترضنا ـ مثلا ـ وجود عمل روائي يعتمد على التشظي، أو تفكيك البنية الذي يتجاوز (تجريبيتها)، أو التمرد المتعمّد على سلطة اللغة، أو خلخلة النظام السردي، أو انتهاك الحالة  التناغمية للمضمون، أو تفتيت ما يُسمى بالعقدة، أو تخريب الانسجام بين المكان والزمان والحدث، أو إفساد التلائم بين الحوار والسرد، أو الخرق الهازئ للمبادئ الشائعة حول فن الرواية، أو العبث بالقوانين والتقاليد الأخلاقية السائدة، أو تقويض المفاهيم النمطية عن (القيمة)، أو السخرية من فكرة (الخلاص)، أو التهكم على (تعزيز الانتماء)؛ لو افترضنا أن هذا العمل الروائي تم تمريره إلى ماكينة التقييم التي تم استعراض أدواتها سابقًا فإنها لن تنظر إلى (انحيازه لطبيعته الخاصة)، أو (تناسبه وتوظيفه ومواءمته لوجوده)، أو (موقفه وبصمته الذاتية المتنافرة مع المنطق الاعتيادي)، أو (قيمته المضادة للثوابت الإنسانية المتداولة) ذلك لأن هذا العمل يتنافى بكيفية تامة وجوهرية مع (الإيمان) الذي تم تجميله ببعض الإغراءات التطهيرية، ليس فيما يتعلق بالرواية والوعي بتاريخها، وإنما بالثقافة ويقينيات الحياة عند واضعي هذه (الهيكلة)، الذين ينتمون إلى ذلك الجزء من العالم .. يطرح عمل روائي كهذا نفسه كاعتداء، كتهجّم متعارض من المبدأ مع حقيقة مطلقة لن يكون هناك مجال للتفاوض معها وفق أي احتمالات حاول أبناء هذه الحقيقة أنفسهم تضمينها من أجل ادعاء شكلي لمرونتها وانفتاحها: (تجريبي ـ غير مألوف ـ غير تقليدي ... إلخ)".
في عام 2014 قام ناشر إحدى رواياتي بترشيحها للبوكر العربية .. اعتبرت الأمر مزحة، حتى لو لم يكن الأمر كذلك، ربما لأن هذا كان أفضل من وصف الناشر بالسذاجة، ومع ذلك كان لدي امتنان لما اعتبرته تقديرًا منه للرواية التي اختارها من ضمن روايات كثيرة أصدرها في ذلك العام .. بالطبع كانت روايتي المرشحة بالنسبة لوعي "البوكريين" أشبه بالكابوس أو الفضيحة التي يجب الاختباء منها .. الجوائز التي حصلت عليها ليس من بينها تلك النوعية التي تتصدّر المشهد الثقافي العام قهرًا، وإنما التي سبق لي التعبير عنها في حوار سابق بهذه الكلمات:
"أحصل على جائزة ما.. أشعر بسعادة بديهية ثم أنسى أنني حصلت على جائزة.. أتذكرها أحيانًا ثم أنساها مجددًا.. هي نوع من التقدير ربما يتساوى مع أي تقدير آخر لو استثنينا الامتياز المادي، وبالنظر إلى الطبيعة الانتقائية لأعضاء لجان تحكيم الجوائز الشهيرة، واختياراتها للأعمال الفائزة، وبيانات نتائجها فإن هذا يمكن أن يضيف نوعًا من الاعتزاز إلى السعادة المؤقتة التي أشعر بها مع كل جائزة أحصل عليها".
شهادتي ضمن ملف "الجوائز الأدبية العربية .. ماذا قدمت للمؤلف والكِتاب؟" للشاعر "عماد الدين موسى" على موقع "ضفة ثالثة".
6 أغسطس 2019

السبت، 3 أغسطس 2019

لا شيء يحدث هنا: الخواء العليم

لو تخيلنا أن راويًا شعبيًا قد ترك ربابته ومجلسه في المقهى القديم، وقرر أن يكتب سيرة متجرّدة من اليقين الشفاهي أو الحكمة المنغّمة، بعكس ما اعتاد أن يمرر إلى آذان السامعين؛ ما هو الشيء الذي ربما سيحرص على الاحتفاظ به خلال هذا التحوّل؟ .. لن يتخلى الراوي عن الإيقاع .. لماذا؟ .. لأن الإيقاع هو الحيلة اللغوية التي سيُكسب بها ما يسرده شكل المعرفة، وذلك حتى يثبّت إدراكًا هزليًا بعمق الحكي الذي يقاوم تكوينها .. لهذا لن يتخذ الإيقاع نفس الطبيعة الغنائية المهيمنة في الرواية الشعبية بل سيستعير ظاهرها .. إيحاءاتها .. ظلالها المتأرجحة .. في روايته "لا شيء يحدث هنا" الصادرة عن دار العين بتقديم مميز للكاتب أيمن باتع فهمي؛ فعل وائل ياسين شيئًا مماثلًا لهذا .. قام بتحويل الإيقاع ـ الذي ربما يذكرنا أحيانًا بفن المقامات ـ من برهان للثقة في الراوي إلى دليل ثابت للشك فيما يحكيه .. هناك سارد، لكنه لا يحكي بقدر ما يحاول أن يتذكر .. بقدر ما يحاول أن يعثر على ما يتذكره في صورة أخرى .. بقدر ما يحاول ألا يتذكر .. كأن ثمة مجهولًا يختبئ فيما يحكيه لا يتوقف عن مطاردته .. لهذا يظل السرد ـ كخالق تخييلي لما يُعتقد أنه الواقع ـ عالقًا بين الغموض السابق لحدوثه، والعماء الذي يحجب ما يحاصره.
"فكر ناصيف: ست! قال حامد "ست" وكأن نجمًا هوى .. لا .. لا هذا ليس بالكلام الماسخ أبدًا. راحت هند. لم يكن ناصيف يعرف ماذا يفعل بهند أو ماذا يريد منها، فقط هو رأى ما رآه حامد. رأى الست. أحس أنه اقترب لما رأى. فما قادته الرؤية إلا بعدًا. رأى وحلم وابتعد كلما اقترب. ضحك ناصيف كثيرًا من نفسه "والعيال أوديهم فين!!" وظن أن هذه الجملة ـ فقط هذه الجملة ـ قادرة على هند".
يقترن الإدراك الهزلي الثابت في الحكي، المقاوم للمعرفة، بإلحاح آخر لا يتعطّل وهو الإنهاك .. شعوران متوحدان كأن كلًا منهما سر الآخر .. ربما هذا ما يعطي انطباعًا دائمًا في الرواية بأن عظام عجوز تحاول ترميم نفسها .. تحاول أن تحقق تماسكها .. لكنها تعرف أن التماسك في حد ذاته فكرة باطلة .. كأن هذه العظام هي الشخصيات التي تتناثر في اتجاهات تبدو متناقضة ظاهريًا .. الآباء والأبناء .. التجار والشيوخ والسماسرة ونساء المتعة والجثث المارة في شارع السوق العمومي .. كأن هذه العظام هي حكاياتهم التي لا يمتلكوها، وإنما التي تمتلكهم .. تستعملهم .. يتوهمون أنها تمثل خزانة حياتهم وموتهم، ولكنها تجعلهم عندما يفكرون في ذواتهم، ويخاطبون أنفسهم والآخرين يبدون كأن أشباحًا تستدعي أشباحًا .. السرد هو ما يكشف هذه الخدعة القدرية حين يحاول تقمّصها .. ما يضيئ الوعي بالمأساة غير المفهومة .. لذا تُختزل الذاكرة إلى هاجس متسلّط بأن ما يتصوّر وجوده لم يحدث حقًا .. ربما لأن الأمور جرت بطريقتها وليس بمشيئة العابرين .. ربما لأن المشيئة نفسها إمكانية ملتبسة، غائبة في ادعاءات مضللة .. يساير الشبح الحكاية بأن يرويها كأنها حكايته .. لكنه في كل لحظة يتعمّد الخواء خلالها أن يرسم ما يتوهم أنها حافة منقذة له، يستوعب الراوي جيدًا أن عليه محوها.
"بينما يقف حامد على مشارف الأربعين، ببطن نصف مشدودة بما بقي له من الرياضة، وعين أكلها السهر بما بقي له من القراءة، وذات صغيرة بين التضخم والانسحاق بما بقي له من السياسة، وروح ينفثها في ثلاث علب سجائر يوميًا. يقف على مشارف الأربعين بكامل غضبه، وبشهية معطوبة أنهى غداءه".
الخواء في "لا شيء يحدث هنا" أشبه بعتمة مقبضة، لا ينفلت منها احتمال .. ذلك لأنه مزيج محصّن من ما كان، وما لم يكن .. من ما يُفترض وقوعه، وما كان يجب أن يُفصح عن نفسه .. من الظنون المتغيّرة التي تتراكم كحقائق للألم، والصمت المحكم الذي سبق به الموت كل خطوة داخل الصراعات والمكائد والتحولات الاستعبادية .. الخواء هو الراوي متنكرًا في صوت مألوف .. كأن الحكاية حلم جماعي يمر في رأسه .. حلم يكافح لتجميع أشلاء الخيال المتطايرة من أذهان الرواة عبر الزمن، والرأس الذي لا يمكن اصطياده .. يمتد الحلم من الأصل الغامض له، ويمر عبر الأجساد المتعاقبة، مشكّلًا نفسه على نحو مغاير كما يليق بالإرث الذي يترصّد كل شخصية، وبالجسور المحترقة التي ستحاول العبور منها نحو ظلام الآخر.
"قاربت العشرين دقيقة، حتى انتبه الشارع إلى نفر قليل يحدقون في الأرض بذهول وسيطرت لا حول ولا قوة  إلا بالله على ما عداها، وما كاد الشارع ينتظم حتى هاج من جديد، مع اتساع الحلقة حول جسد عبد الله من تجار الدكاكين وزبائنهم وخلق الله التي تعبر الشارع، الأقرب للجسد هو الأقرب للرجل في حياته، وكلما جاء قريب قدموه، الأقرب فالأقرب، حتى صار القريب بعيدًا والبعيد قريبًا، وأخذ الناس في حزن صادق، تأكد شيخ الجامع من خروج السر الإلهي بعد ما قربته الناس لجسده، ليس لأنه قريب من عبد الله ولكن لأنه قريب من الموت وعلى معرفة به، فجل خطبه عنه".
ينتج السرد سؤال المخاطب إليه، خاصة لو نظرنا إلى هذا السرد باعتباره ذاتًا مستقلة أو تجاهد للانفصال عن مصدرها، أي كحصيلة من التلصص تريد الانفلات خارج وجوه الماضي التي تم توثيق ملامحها المتبدلة .. يخاطب السرد هذه الوجوه نفسها قبل أن يخاطب أطيافهم في أدمغة الآخرين .. يتوجّه الحكي إليهم بوصفهم غرباءًا عما عاشوه .. بوصفهم موتى يحتاجون في قبور الحياة وما بعدها لمن يستثمر المرح القديم في توفير دعابات جديدة عن الفناء .. يصلح هذا كغاية مناقضة للخلاص .. كهدف أكثر منطقية من أي نجاة مخاتلة .. بذلك يمكن للتبادل أن يكون منطقيًا أيضًا بين الشخصيات وبعضها في خيال المرتحل داخل السيرة .. بين المصائر التي تجاورت وتقاطعت كإعادة تدوير أبدية لشبق خارق، لا يُرى، ولا تُفهم علّته.
"أمام الفاترينة الجانبية والباب الخلفي لمحله يسدان الأفق عن شِماله الشارع الجانبي المقفول يحفظ ناسه وقلما يجود بعابر، ومولد من الناس وسلامات تعلو وعلاقات تبدأ وأخرى تنتهي وعتاب وملاطفة وعربات وتكاتك و(حتت) تأخذ العقل قبل العين، يا خلق الله على الطراوة، بعد أقل من عشر خطوات بينه وبين شارع السوق العمومي، يراه كأنما يشاهد التلفاز، أحس بنفسه موجودًا وغير موجود في آن، استولى عليه شعور بالضآلة لم يكن غريبًا عنه، فتح على روحه بابًا يعرف أنه لن يُغلق بسهولة, آخر ما يحتاج إليه مع وقفة الحال وصعوبة الرزق والأمل الشحيح، تذكر البغل في محطة المترو الذي مال عليه مبتسمًا يسأله عن مكان دورة المياه فحدجه بنظرة جاحدة ومد إليه كفًا من حجر: ـ بطاقتك".
ما أراه جوهريًا في الرواية أن ما كل ما يبدو تعددًا على المستوى الشكلي هو تنويعات على إرادة مستقرة لاكتشاف الأصوات الغائبة .. لاستبطان الحكاية الكلية المفقودة .. التماهي مع الجزئيات المراوغة ـ أي ما كان يجدر به أن يكون معرفة ـ يعد السبيل القهري لهذا الاستبطان .. لكن إلى ماذا تنتمي تلك الأصوات الغائبة، أو الحكاية المفقودة؟ .. إلى الراوي المتمنّع، الذي يجسّد الخواء أمانه الخاص.
"فارتبك الشيخ، لم يشغله أمر المال من قبل، وفيم يشغله والأرض تعطي خيرها؟ لم يخطر له على بال وهو يحزم أمره في الانتقال إلى المدينة، فجل ما شغل رأسه وقتها سؤال عذبه كثيرًا: أيهجر قريته حقًا؟! هذه المدينة كبيرة، مفاسدها كثيرة، تحتاج وقتي كله، والأمانة ثقيلة وعليّ أن أتمها كاملة غير منقوصة بوقت السفر، محشورًا مع العامة بما ينال من هيبة الإمام، هكذا حسم الاختيار لنفسه".
تنجز الرواية غرضًا جماليًا لافتًا، وهو أنها تقترح بصورة غير مباشرة نسخًا أخرى لها عند إجراء ترتيب مختلف لنظامها السردي .. فقرات متباعدة لو انتزعت من سياقها وضمها نسق آخر لنشأ انسجام فيما بينها، كأنها تُكمل بعضها، وهو ما يندرج ضمن التأثيرات العديدة للإيقاع اللغوي الذي تحدثت عنه من قبل .. من هذه الفقرات مثلًا نقرأ:
"إنما تصل الحياة ما انقطع وتقطع ما اتصل وهكذا، في صيرورة وحركة دائبة، دون بدء أو نهاية، ونحن دائمًا في وسط شيء ما، بعد البدء وقبل النهاية".
"وطالما وُجد الحكاؤون فُتح الباب للخيال على مصراعيه، يكمل الناقص منها على هوى النفس، وكل نفس ترى الناقص في مخاوفها وأملها الذاتي، من لسان إلى لسان, غابت الحكاية الأم كطوبة ألقيتها فاستقرت في قاع بركة راكدة مخلفة عنها موجات لا تنتهي دوائرها".
كأن الحياة نفسها هي الطوبة التي في قاع البركة الراكدة، وكأننا موجات الخيال التي تدور فيما بعد سقوطها، وقبل استردادها من هذا القاع.  
من قرأ الرواية سيعرف القصد من هذا التشبيه، ومن لم يقرأها عليه أن يفعل حتى يفهم لماذا تبدو رواية "لا شيء يحدث هنا" كأنها ترديد مستمر لهذا الاستفهام: "ماذا حدث؟" بصيغ متباينة، وأن الرد الذي يأتي دائمًا من داخل الراوية نفسها، ومن خارجها مصحوبًا بالقهقهة هو: "بكرة تعرف".
جريدة "أخبار الأدب" ـ 4 أغسطس 2019

الاثنين، 29 يوليو 2019

الأشرار

مرة كنت غاضباً جداً منها لسبب لا أتذكره .. رأيتها جالسةً على الكرسي الخشب الصغير، وتشطف الغسيل في آخر الحمام .. وقفت عند الباب، وأنزلت البنطلون، وتبوّلت عليها .. كان الحمام ضيقاً، والمسافة بيني، وبينها مهيأة للصنانة كي تغرق وجهها، وجسمها .. ظلت تحدّق فيّ بذهول، وهي تحاول تفادي المطر الأصفر، الساخن دون فائدة .. يومها غضبت مني جداً يا دكتور، وتقريباً صفعتني، وخاصمتني لفترة قصيرة .. كان لدي يقين بأنها لا تعاقبني على التبوّل نفسه، وإنما على المتعة التي عشتها في تلك اللحظة .. انتقام من الشغف الذي احتفلت به ملامحي نتيجة إذلال نجحت في ارتكابه ضدها .. هل كانت هناك وفرة من الأجزاء المكشوفة في جسد أمي وقت انهمار الصنانة عليها .. لا أتذكر.
كانت تُحذرني دائماً من التحدث، أو الرد على (الأشرار) الذين تمتلئ بهم المنطقة الشعبية التي نسكنها .. باعة المخدرات، والحرامية، والبلطجية، والقوادون، والمومسات .. ذات مرة كنت عائداً معها من المدرسة، وبينما كنت أسبقها بخطوة واحدة في المرور على الرصيف النائم تحت بلكونتنا؛ كان واحد من (الأشرار) جالساً .. مد رأسه مبتسماً بودٍ لحظة عبوري أمامه بالمريلة، والحقيبة المدرسية فوق ظهري، ثم سألني مُداعباً: (المدرسة حلوة؟) .. لم أنظر إليه، ولم أرد تنفيذاً لتعليمات أمي، لكنني فوجئت بها تُجيبه من خلفي قائلة: (حلوة) .. التفت مذهولاً، فوجدتها مبتسمة بودٍ يفوق ذلك الذي على ملامح (الشرير) كأنها تعتذر له عن عدم ردي عليه .. لم تكن هناك ذِلة تجبرها على الرد؛ لأنها كانت (الأبلة) الوقورة، الطيبة، التي تُعلم أطفالهم، وكان الجميع في الشارع يحترمونها جداً، ويتعاملون معها بكل التقدير .. لم أطلب منها تفسيراً للتناقض بين أوامرها، وأفعالها، ولم أخبرها بأنني لا أعتبرهم (أشراراً)، وبأنني أريد أن أتكلم معهم، وأضحك لهم، أو على الأقل الرد عليهم لو تحدثوا إليّ .. احتفظت بكل التخبّط في داخلي، وربما كان هذا الموقف من ضمن الأسس التي ستجعلني أكتب القصة القصيرة بعد ذلك.

الاثنين، 22 يوليو 2019

يوميات: مكان سيء لقارئ محنّط

لو أعيدت كتابة السطور الافتتاحية على غلاف مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" بطريقة التنبيه الموجز، الذي يفسّر ما بين كلماتها لكُتب على الغلاف: "تحذير ... كتابة مؤذية للقارئ المدجن، الخامل، ضارة بأصحاب الأذهان الناعمة".
تسخر مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" بصورة ضمنية، وعلى نحو استباقي من القطعان الأليفة على جودريدز، وداخل مفارخ النقد الأدبي .. هي بالطبع تدفع ثمن حرمانها للآخرين من الإشباع المسالم، لكن استمتاعها بالتسبب في الإزعاج هو الجوهر المسيطر على المشاهد كافة، خاصة تلك التي يحاول البعض استغلالها في مداواة أوجاعهم.
تحدثت في أكثر من مناسبة عن الأهداف المتعددة لورشتي القصصية؛ وأعتقد أن هذه فرصة ملائمة للكشف عن غرض أساسي لم أتكلّم عنه من قبل: أن تكون هذه الورشة خطوة دامغة لطلابها في محاولة تأصيل خبرة التعرّف على الفرق بين الكتابة الودودة والكتابة المستفزة .. بين القصة المروّضة، والقصة العدائية .. بين الكاتب الذي يخضع "تمرّده" لحدود مستأنسة، والكاتب الذي يمتلك غريزة اللعب الهادم بأي يقين، مهما كانت صلابته .. ألا تتعطّل يقظتهم تجاه الغايات النمطية اللطيفة التي يحاول القراء دائمًا تقييد النصوص الجامحة بأمانها المتوهّم .. ألا يكونوا مجرد نسخ هامدة ضمن قطعان جودريدز، وبصرف النظر عن هل سيستمرون في بذل الجهد اللازم لتحقيق ذلك أم لا .. ربما يتذكرون الآن محاضرة "الكولاج اللازمني" عن التحريفات الصادمة في قصة همنجواي "عجوز على الجسر" على سبيل المثال .. تستهدف ورشتي القصصية أن يأتي يوم يكتب فيه النقاد ـ من خارج المفرخة ـ عن مجموعات طلابها مثل هذه السطور للناقد المبدع "عمر شهريار" عن "مكان جيد لسلحفاة محنطة":
"ممدوح رزق يبحث طوال الوقت عن ثغرات العالم، كما أن الذات الساردة في كثير من قصصه هجومية .. عنيفة .. ساخرة، لكنها لا تنبع من قسوة أخلاقية، وإنما من إدراك عميق لعبثية العالم بوصفه مسخرة لا تحكمها قواعد سببية .. الذات المكرهة على الوجود، والتي تعرف أن كل شيء هو عبث، وبلا روابط منطقية؛ فتحل المتاهة (الخيوط المتشابكة، والمعقدة التي لا تؤدي لبعضها بالضرورة) محل البناء السردي الممنهج".
أو مثلما كتب الأستاذ الكبير "محسن يونس" عنها:                                                              
"قارئ ممدوح رزق سوف يتمتع بجانب قراءته قصصًا تعتمد على ذات فردية، والإبحار في وجودها بالمعنى الوجودي الباحث في كينونته وماهيته في هذه الحياة المهولة، ودروبها العجائبية والغريبة عن الإحاطة، من خلال موقف درامي طازج يحسب للكاتب أنه له وحده، ولا شبيه له في كتّاب قصصنا في الوقت المعاصر".
مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" هي مكان سيء لقارئ محنط.

الجمعة، 12 يوليو 2019

مكان مهجور، يمر من حوله الوجود، ويمضي في طريقه

سأبدأ بمحاولة الإجابة على التساؤل الذي أنهيتِ به رسالتِك السابقة: ربما أكتب عن الاحتمالات الغامضة لذاتي، الكامنة في حياة الآخر وموته .. عن الأشباح المختبئة في جسدي التي تحاول التلصص على الظلام الممتد خارج هذه الاحتمالات .. كأن ثمة مرآة تنطوي عليها ملامح هذا الآخر، يجدر التمعّن في ما تعكسه، أي ينبغي على الخيال أن يكوّنها، لاكتشاف ممر لم يكن مرئيًا يقود نحو إبهام مختلف لنفسي، وقد يؤدي بالضرورة إلى الصمت المحصّن الذي يتجاوزها .. ربما هذا ما يجعل الحياة، أو الكابوس المؤقت محكومًا بالكفاح العبثي لتجميع الأشلاء العدمية المتناثرة .. الدعابات الخرقاء، غير المصدّقة، التي يجاهد المرء لأن يخلق بواسطتها تلك الكينونة المجهولة خارج اللغة .. الكينونة المضادة، المنفلتة من هذه الأشلاء الموزّعة داخل الآخرين الذين يُشكّلون ذاكرتي .. ربما هي السر المحتجب في المرئيات والمسموعات التي لا تمت لأي لغة بصلة، لكنها في ثنايا اللغة وفجواتها بتعبير "جيل دولوز"، أو الروح الملغزة الأشبه بـ "مكان مهجور / يمر من حوله الوجود / ويمضي في طريقه" كما كتبتِ في إحدى قصائدِك .. كأن العدم يستعمل أوهامنا المتناسخة لإثبات خلوده، ولمحو حكاياتنا التي لم نسردها أبدًا.
صديقتي العزيزة:
في رسالتي السابقة حدثتك عن أنني لا أفتقد الموتى وحسب بل أفتقد أيضًا الذين يشاركونني اللحظات المتعاقبة يومًا بعد آخر، والآن أريد أن أكتب لكِ عن الموت باعتباره وضع حد لافتقاد ما لا أعرفه .. شخص يموت فأدرك حينئذ أن ذلك الشيء الغامض الذي قضيت زمنًا طويلًا في انتظار القدرة على انتزاعه خارج العمى لن أحصل عليه أبدًا .. العمى المتجسّد في كائن لم يكن  على حياته أن تنتهي في تلك اللحظة المبكرة .. تتحدد هوية الموت حينئذ بمدى احتياجي الخاص للوعد المبهم الذي لم يتحقق، المتمثل في وجود هذا الشخص، وبعد موته لم يعد لهذا الوعد فرصة أن يكون مصيرًا حقيقيًا.  
صديقتي العزيزة:
تلقيت منذ فترة قصيرة دعوة لتكريمي من صديقين عزيزين في احتفال ثقافي تُقيمه مدينتهما .. كنت حينئذ منغمسًا في كتابة غاضبة، لا يكاد يدفع فورانها العاصف أكثر من السخرية الانتقامية ضد الذين أغلقت أبواب ذكرياتي السيئة على وجوههم كي لا يستطيعون الخروج منها .. لكن الأمر يتجاوز حتمًا تصفية حساب شاملة طال تأجيلها، أو انتظرت وقتًا كبيرًا للغاية حتى تتم في موعدها المناسب، وبالكيفية وحدها التي تلائمني كبصمة أو ما أطمع أن تكون كذلك .. بعد عودتي من التكريم توقفت عن هذه الكتابة تلقائيًا بما يشبه بداهة جديرة بالتفحص .. يمكن لأمر مبهج وعابر ـ بما أنه ليس نمطًا للحياة ـ أن يضع سحابة رمادية مؤقتة فوق رغبة عدائية عمرها يمثل تقريبًا التاريخ الشخصي بأكمله .. يمكنه أن يُعطّل ـ ولو على نحو خافت ـ الاستجابة المحسومة لهذه الرغبة غير المهيّأة للتراجع أو الجدل كأنها نوع آخر أو أكثر أصالة للتنفس .. لا يعطي هذا بالنسبة لي نموذجًا واضحًا لتأثير الأشياء الإيجابية البسيطة على المزاج السوداوي كما يشيع في الوصايا الساذجة، وإنما يقدم مثالًا ساطعًا للمكر التافه للحياة، الذي يستعصي ربما في معظم الأحوال على الترويض، ولكن يُنظر إليه في الوقت نفسه كهدية تهكم يجب على الكتابة الغاضبة أن تقبلها.
أفكر دائمًا في أن أكثر الأوضاع مثالية لمخاطبة الآخر هو أن يكون ميتًا .. لا يتعلق بالأمر فحسب بقدرة المرء غير المسبوقة على الخطو داخل ظلام ما، وإنما على التحرّك أيضًا داخل أكثر الخرافات اللغوية اعتيادًا .. لم يكن بوسعي أن أخاطب أمي وهي تبدو على قيد الحياة كما فعل دوستويفسكي مثلا حين وصف أمه بالحنون، بينما كان يحدثها عن الملل والأحزان والشوق، قبل أن يقبّل يديها كابن بار .. لكن الموت لم يمنحني الحرية اللغوية للقيام بتلك الطقوس المبتذلة التي لم أشعر أبدًا بالرغبة في أدائها، بل يمكن القول أنه أعطاني الفرصة كي أحاول بطرق سردية مختلفة أن أشرح لأمي وهي في قبرها لماذا لم يكن ليتغيّر أي شيء بيننا لو عادت إلى الحياة .. في قصتي القصيرة "ستاند أب كوميدي" والمنشورة ضمن مجموعة "يوم واحد من العزلة" الصادرة عن دار فراديس البحرينية، وتضم قصصًا قصيرة جدًا لكتّاب من الوطن العربي؛ في تلك القصة كان هذا الأمر واضحًا تمامًا، وربما يمكن لعنوانها أن يضيء ذلك الشعور المتحسّر والساخر الذي كان يتملّكني وقت كتابتها .. كأن "الحياة" هي العائق الوحيد ـ غير الهيّن بالطبع ـ أمام "الوجود"، وبالتالي فإن المرء يبدأ حضوره الفعلي بعد انتهائها وفقًا لكل الكلمات التي لم يكن يستطيع الذين كانوا يشاركونه العتمة أن يعثروا عليها، أو يتحدثوا بها إليه قبل أن يتحوّل إلى جثة من الذكريات .. على جانب آخر ـ وهو ما يندرج قطعًا ضمن الهزل الكلي ـ قد تكون هذه الكلمات هي أكثر البدائل سوءًا للأثر الشخصي الذي لم يكتبه العابر بنفسه قبل أن يغادر.
امتناني لكِ دائمًا
ممدوح رزق
صديقي العزيز
أحسّ أحياناً أن الكاتب هو أكثر البشر حباً وتعلقاً بالحياة، سواء كان يعي ذلك أو يحسّ بنقيضه، وأن الحياة تمنحه  مقابل هذا الحب والتمسّك حياة متعددة ومتفرعة وغزيرة .
قلتَ لي في رسالتك إن حفل تكريمك قاطع كتابة غاضبة  كنت تكتبها، وأنك بعد حفل التكريم لم تعد إلى تلك الكتابة، لم تكن سعيداً بعدم العودة، ربما لأنّ الكتابة  هي أطول عمراً وديمومة من لحظة امتنان عابرة !
ربما كنا نكتب لنعيش الوجود على نحو أفضل، أو ربما لنضاعف الساعات التي ننهبها تباعاً، ونضاعف الأفعال، والأحاسيس، النشوة، الفخر والأثر مهما كان حجمه ومهما كانت الهيئة التي يتخذها، ليست المضاعفة هنا بمعنى خلق حجم مساو لذلك العيش، وإنما إعادة ابتكار الكلمات التي نجدها في ذاكرتنا بالصدفة لترسم  بها الكثير من الظلال حول عيشنا ومن خلاله حتى يبدو دون إطار، أو دون حد، كل محاولة لتفسير تلك الجمل والمفردات التي تقفز إلى وعينا دون غيرها  أثناء الكتابة هي محاولة لـ "الخطو في الظلام "..
الكلمات التي ظلت هامدة لأن الموتى لم يقولوها، والأفعال التي تجزأت وتفرقت مكوناتها لأن الموتى الذين نحب لم يفعلوها ربما نفعلها نحن ونقولها في تلك المسافة الفاصلة بين التذكر والنسيان، أو ربما ننظر نحوها من بعيد كأننا نعتذر للموت وللموتى عن حياتنا من بعدهم..
ألا ترى أننا نظلم الحياة وندل الوجود على ألوانه القاتمة كأنما ليضعها في طريقنا ونحن ننظر باستسلام وهدوء كأننا لا نريد أن نفارق المكان الذي نبتت فيه تلك الظلال الحزينة؟
حين يأخذ منا الموت من نحب، نكتشف فعلا وكما قلت في رسالتك أن حياتهم كانت عائقاً أو على الأقل ستاراً يحجب عنا رؤية صورهم الكاملة ومعايشة تفاصيلها الدقيقة، الموت يتيح  لنا تلك الصورة الحافلة بالتفاصيل ويتيح لتلك التفاصيل أن تكثر وتبدو أكثر جاذبية ودائماً كما تشاء  الذاكرة الحزينة وكما يتسع الخيال المحب والمشفق ..
صديقي العزيز
قبل أن أبدأ في الكتابة إليك عدت إلى قراءة قصتك القصيرة (الموت العجيب لطائر)، وهي من قصصك الجميلة التي تشبه قراءتها قراءة قصيدة جميلة ذات نهاية لا تنتهي؛
لقد ظلّ بطلك يراقب الطائر الميت والثابت مثل تمثال حتى أنه كان يلاحظ أحياناً رفيفاً خافتاً لجناحيه، قبل ذلك كانت المراقبة تلك قد تحوّلت إلى حياة كاملة يعيشها بطلك بمعزل عن حياته المعتادة وعن حياة الآخرين كل ذلك وهو يبحث عن جواب لسؤال وحيد كيف مات الطائر؟ من التعب في السعي نحو الخلاص من الكيس الذي مات فيه، أم من الاختناق أم مات متعمداً أن يلاقي الموت ..
ربما لا تعرف يا صديقي أنك حشرت القارئ مع بطلك في تلك العزلة الرهيبة وتحت سقف وحيد من المجهول المتجسّد في تلك التساؤلات الحزينة والمكلفة، ربما قمت دون قصد بوضع  القارئ أمام طائره الخاص، الذي آل إلى نفس المآل (شكلاً ماثلاً أمام النظر مثل تمثال) مهما كان اسم ذلك (الطائر) أو شكله ،مهما كان اسم خلوده داخل الوعي موتا أو حياة  أو سؤالاً لن يكون له جواب خارج الذات المعزولة في صَلاتها الشاخصة نحو المجهول أبداً، تلك الصلاة المتأملة والحزينة التي أسميتَها"الحياة الجديدة" والتي دخلها بطلك بإيمان مطلق دون أدنى شعور بأنه كان يهدر أيامه :"على العكس؛ لا تزال ثقتي تتزايد في أنني كرّست هذه السنوات لأكثر الأمور صوابًا، بل لن أكون مخطئًا لو قلت أن هذا الانشغال المهيمن بالطبيعة الملغزة لموت الطائر كان بمثابة الختام الوحيد اللائق بحياتي التي نجحت في تعزيز انفصالها عن الخرافات الأخرى ".
هكذا إذن لم يكن الموت هو بطل القصة ولا الطائر، بل تلك الحياة التي تحوّلت إلى لحظات طويلة من النظر والتأمل والإخلاص لتفسير المجهول..
تحياتي وتقديري
مريم شريف
موقع "الكتابة" ـ 11 يوليو 2019

الثلاثاء، 9 يوليو 2019

الموت العجيب لطائر

لتفسير المشهد الصادم الذي باغتني عندما فتحت شباك حجرة نومي المُطل على الشارع الخلفي للبناية التي أسكنها؛ افترضت أن رحلة الطيران المتطوّح للكيس البلاستيكي الصغير قد انتهت بدقة قدرية غريبة عند هذا القضيب الحديدي البارز ضمن عدة قضبان مماثلة من حافة سطح البيت الذي لم يُكتمل بناؤه، والملاصق لشباك حجرتي .. أن ثلاثة ثقوب كانت بالكيس، وأن مصادفة لا تُصدّق قد جعلت هذه الثقوب توزّع أدوارها كمصيدة محكمة بحيث يهبط الأول على طرف القضيب البارز فيمر عبر فراغه الضئيل مثبّتًا الكيس بصلابته المرتفعة، ويتسع الثقب الثاني في طرفه بما يسمح للطائر الذي لم أتمكن من تحديد نوعه أن يعبر إلى الداخل، بينما يترك الثقب الثالث في منتصف الكيس مساحة خبيثة لجناحي الطائر كي يرتفعا من خلاله نحو الخارج، ولكنها لا تكفي لمرور بقية جسده، أو لخفض الجناحين ثانية واسترداد وضعيتهما السابقة .. أن الطائر ظل عالقًا، غير قادر على الانفلات رغم المحاولات المتكررة التي ربما استغرقت وقتًا طويلًا، وانتهت بموته محتجزًا داخل الكيس كتمثال من العفوية الخالصة، خلقت القضبان الحديدية المنتصبة مسرحًا مثاليًا لعرضه .. كانت القضبان في تجاورها وتقاطعها فوق الحافة تكوّن ما يشبه هيكلًا هوائيًا لتقديم القرابين، أو كأنها أعمدة صغيرة لغرفة إعدام مفتوحة، يمثّل الكيس البلاستيكي مشنقة تتدلى من أعلى إلى منتصفها.
هل يُحتمل أن يكون وقوع الطائر في هذا الفخ قد بدأ قبل أن يثبّت الكيس نفسه في القضيب الحديدي؟ .. تخيّلت أن الطائر ربما دخل إلى الكيس بينما كان لا يزال محلّقًا في الهواء، وأنه نتيجة لثقل الطائر العاجز عن تحرير جناحيه فقد تهاوى الكيس نحو القضيب البارز الذي اخترق ـ بنفس الدقة القدرية الغريبة ـ فراغ الثقب ليُبقي الكيس الممتلئ بالطائر عالقًا به .. كيف يمكن الاقتناع بهذا التصوّر؟ .. لماذا دخل الطائر إلى الكيس أصلًا؟ .. هل كان يبحث عن طعام؟ .. هل فعل ذلك كنوع من المرح الاعتيادي؟ .. هل كان يُطارد طائرًا آخر، أو حيوانًا نجح، على عكسه، في الهروب قبل اصطياده؟ .. هل استحوذت على وعيه رغبة محصّنة، لم يفهمها، أجبرته على دخول الكيس؟ .. هل كان أعمى، أم أن الظلام كان حالكًا إلى هذه الدرجة؟ .. كان مستوى القضيب المنتصب ـ رغم ارتفاعه ـ منخفضًا بالنسبة لطائر لن يدفعه مؤثر للنزول إليه سوى إغراء لا يقاوم، أو احتياج قهري بلغ ذروته .. هكذا اعتقدت.
كيف بدأ الحدث الغامض وانتهى دون سماع أي صوت لمجاهدة الطائر في التملّص من الكيس، أو نداء استغاثة ليأسه بعدما أيقن استحالة تخليص جناحيه رغم المسافة الصغيرة للغاية بين شباك حجرة نومي والسطح المجاور؟ .. هل لم يكن يستطيع النطق؟ ..  كيف لم يقدر على تمزيق الكيس بمنقاره أو بمخالبه؟ .. لم يكن بوسعي تبيّن أدوات المقاومة هذه بسبب الحالة الشكلية التي تتخذها جثة الطائر، ولكنني فكّرت في ضرورة وجودها، مثلما كان لدي تأكد من أنه لو كان قد حاول استخدامها فإنها لم تكن ستُجدي نفعًا رغم الهشاشة المفترضة للكيس .. هل مات نتيجة الاختناق، أم بسبب الجوع والعطش، أم بفعل المجهود الشاق الذي بذله، أم تحت وطأة الرعب؟ .. هل كان مريضًا؟ .. لماذا يبدو الطائر كأنما دفع حياته ثمنًا لجموح اضطراري، لا يمكن لأحد سواه أن يستوعبه؟ .. كانت جميع التفاصيل التي تُشكّل سطح البيت الخالي، غير المشيّد بالكامل، وكذلك الفضاء الواسع المحيط به تستبعد تمامًا أي تدخّل لقصدٍ بشري في الأمر .. لم يكن بمقدور أي شخص الوصول إلى هذا المكان ومغادرته إلا بعد النجاة من سقوط يكاد يكون حتميًا،  فضلًا عن غياب الدافع المنطقي الذي يمكن أن يقود إلى تدبير هذا المشهد، والإقدام على مخاطرة مهلكة كتلك في سبيل تنفيذه .. هل ما استحوذ على وعي الطائر وقتئذ كانت رغبة انتحارية مبهمة، وجدت ضالتها على نحو مفاجئ في الكيس العالق بالقضيب الحديدي؟.
جعلت زوجتي تتفحص المنظر، ولم يخرج تفسيرها عما افترضته من قبل، وظل غير مقنّع بالنسبة لي ... التقطت بهاتفي المحمول صورة لجثة الطائر، وأطلعت عائلتي وأصدقائي ومعارفي عليها، ولم يمنحني أي منهم تبريرًا مُرضيًا يُعارض ما تخيّلته، أو حتى يضيف إليه أو يعدّله .. اتفقوا جميعًا على ما بدا أنها حقيقة بديهية، كان رفضي لها يزداد طمأنينة يومًا بعد آخر، رغم أنها كانت أول ما خطر تلقائيًا في ذهني عند رؤية الطائر .. كان لدي يقين بأن ثمة تفسيرًا حاسمًا، مغايرًا تمامًا لأي تصوّر ممكن يعتمد على مشيئة الصدف، والتعاقب العفوي للوقائع التي أنتجت هذا اللغز .. كنت أدرك أن هذا التفسير يكمن في خفاءِ ما، ينتظر اللحظة المناسبة لإزاحة ظلامه المتمنّع، وبالكيفية الجديرة بالكشف عن التعمّد المجهول لما حدث.
مرت سنوات كثيرة منذ هذا اليوم .. مع ذلك كانت قليلة جدًا بالنسبة لي .. ظل كل ما ينتمي إلى الماضي يتبدد بانسياب تدريجي أمام طغيان لا يخفت لهذا المشهد، ومحاولتي المستمرة للعثور على الحقيقة .. أصبحت الأيام كلها يومًا واحدًا ممتدًا عبر السنوات، ومغلقًا بإحكام على السر الذي لم أنجح بعد في التوصّل إليه .. يوم واحد، بدأ كعمرٍ آخر منذ اللحظة التي فتحت خلالها شباك حجرتي، ووجدت جثة الطائر المعلقة فوق حافة سطح البيت الذي لم يُكتمل بناؤه حتى الآن .. توقفت ذاكرتي شيئًا فشيئًا عن استرجاع ما لا يتعلّق بهذا السر، ولم يتمكن أي مما جرى في العالم بعد ذلك، أو حتى داخل الواقع الذي يخصني بصورة مباشرة من التسلل إلى هذه الحياة الجديدة مهما كانت أهميته أو ضراوته .. حتى طفلتي لم تعد بالنسبة لي أكثر من كائن يعيش خارج عزلتي، تتوالى فحسب على جسده متغيرات النمو .. أحلامي نفسها ـ مع ندرتها ـ امتنعت عن مغادرة مشهد الطائر، وإن بقي هذا المنظر كما هو في اليقظة، لا يخدشه تحريف أو تشابك مع صور أخرى .. لم أعد أفكر سوى في اللحظات الغامضة التي سبقت موت الطائر داخل الكيس البلاستيكي الصغير العالق بالقضيب الحديدي .. توقفت عن القيام بأي شيء عدا إطلاع الغرباء في كل مكان على صورة الطائر، وسؤالهم عما يظنون أنه قد حدث قبل تحوّله إلى جثة .. كل هذه السنوات لم تضف جديدًا، ولم تُعطل التفسير القديم الخائب الذي كلما تراكم تصديقه، كلما تعمّقت سذاجته في نفسي، وتوحّشت كراهيتي لسطوته .. بمرور الزمن راح يتلاشى كل ما كان يحدد هويتي عند الآخرين، ولم أعد بالنسبة للجميع سوى "الرجل الذي يطارد الموت العجيب لطائر".
أعتقد أنه لم يعد لدي الكثير من الوقت، ورغم أن سنواتي الأخيرة قد اقتصرت بشكل قاطع على التفسير الغائب لموت الطائر إلا أنني لم أشعر للحظة واحدة بأنني أهدرتها .. على العكس؛ لا تزال ثقتي تتزايد في أنني كرّست هذه السنوات لأكثر الأمور صوابًا، بل لن أكون مخطئًا لو قلت أن هذا الانشغال المهيمن بالطبيعة الملغزة لموت الطائر كان بمثابة الختام الوحيد اللائق بحياتي التي نجحت في تعزيز انفصالها عن الخرافات الأخرى .. أن الماضي بأكمله الذي سبق لحظة اكتشافي لجثة الطائر كان يسعى من أجل هذه النهاية على نحو مستتر، وإن كان لم يتوقف عن إعطاء العلامات الموحية بذلك بين حين وآخر .. وبالرغم من أنني لم أعثر على الحقيقة حتى الآن إلا أنني أشعر بالسعادة، ليس فقط لأن حياتي تنتهي بهذا النوع من الألم، بل لأن جثة الطائر لا تزال معلقة أيضًا في القضيب الحديدي رغم مرور كل هذه الفترة، ولم يظهر عليها أي أثر للفناء .. كأن الطائر لم يمت إلا منذ لحظة واحدة، أو كأنه يعيش في سكونه الطويل حياة مختلفة، لا يضمن استمرارها سوى محاولتي المتواصلة لإيجاد السر المختبئ .. أتخيل أنني إذا تمكنت ـ ولو في اللحظة الأخيرة من حياتي ـ من امتلاك التفسير الصحيح فإن الطائر لن يبدأ في زواله الجسدي بل سيكون باستطاعته الانفلات من الكيس العالق بالقضيب المنتصب .. هذا ما تؤكده الرعشات المتباعدة، متناهية الخفوت لجناحيه المحتجزين طوال هذه السنوات.
منصَّة (Rê) الثقافيَّة ـ 8 يوليو 2019
اللوحة: Rene Magritte

الخميس، 4 يوليو 2019

ممدوح رزق يلتقي طلاب جامعة الأقصى

يلتقي الكاتب والناقد ممدوح رزق مع طلاب قسم اللغة الانجليزية بجامعة الأقصى في شهر سبتمبر القادم عبر السكايب، وذلك للنقاش حول أعماله الأدبية، وقراءاته النقدية للنصوص المترجمة من الأدب الإنجليزي .. يصدر قريبًا لممدوح رزق متوالية قصصية جديدة بعنوان "أحلام اللعنة العائلية"، وكتاب نقدي عن فلسفة السرد عند جورج باتاي.
موقع "الكتابة" ـ 4 يوليو 2019

الأربعاء، 26 يونيو 2019

يوميات: الأمان النرجسي الملعون

أعيش هذه الأيام نوبة اعتيادية من تلك الكلمات في قصتي "الكراهية المطلقة": "لم أكتب بشكل صحيح" .. الجرح الأزلي الذي ينبض كامنًا في كل كتابة، وأحيانًا يكشف عن طبيعته الأصلية كورم خبيث يتقيأ فضلات الحياة التي التهمها قبل أن تحدث .. تختبئ كل الدوافع التي طالما كانت قادرة على تبرير أي شيء: الثقل اللغوي باندفاعه الممتد كأحجار متلاحمة تسد مجرى التنفس .. الهشاشة المرتبكة .. النتوءات الشاحبة كخجلٍ مُهمَل .. الجسور الصغيرة المتلاحقة .. الانفعالات العارية الأشبه بصراخ مجرّد من الحذر .. الدوافع التي طالما كانت قادرة على السخرية مما يسميه البعض "الشك الذاتي" .. تتساءل سيلفيا بلاث إن كانت تجيد الكتابة حقًا، وهل يمكن لامرأة أنانية غيورة نرجسية، عديمة الخيال أن تكتب شيئًا ذا قيمة .. النرجسية يا سيلفيا هي سر التساؤل .. حاضنة الأنانية والغيرة والخيال الذي حينما لا يقيم للغيب قيامة فعلية فهو معدوم .. أعيش نوبة اعتيادية من الألم النرجسي حيث لا يجب أن تمتلك الكتابة حياة كاتبها وحسب، بل أن تهيمن على كل ما كتبه الآخرون في كل مكان وزمان .. على كل ما لم يكتبوه بعد .. أن تهزأ طوال الوقت بما كسبه الكتّاب الآخرون .. لم تكن الملاحظات التفصيلية التي كانت تدوّنها سيلفيا بلاث عن حياة البشر ناجمة عن الرغبة في كتابة قصص "أفضل"، بل لمحاولة إشباع غريزة الاستحواذ الشامل على جميع القصص .. ربما هو المبرر الوحيد لما أسمته كيم أدونيزيو بـ "التدمير الذاتي" في تعليقها على محاولة بلاث لبلوغ الكمال، الذي يمثل الانتحار خطوته الأخيرة .. النرجسية التي تؤكد نفسها عبر ثقل اللغة وهشاشتها ونتوءاتها وجسورها الصغيرة وانفعالاتها العارية .. ما يُشكّل الملامح السردية للكتّاب الجديرين بالرفقة بالنسبة لي: كافكا .. بو .. كارفر .. جويس .. دوستويفسكي .. نابوكوف .. كورتاثر .. جرح الاستيلاء الأبدي على الكتابة في ذاتها .. تتوارى حقيقة أن كل قصة تعني الكتابة كاملة، تامة، وكلية، حيث كل ما يبدو خطأً هو دليل ألوهة، محكومًا بأسبابه الخاصة .. حينما يطفو ذلك اليقين المترصّد في العمق بأن الآثام الأسلوبية المتهكمة لا تمنح الشغف أحيانًا، وأن مقتنيات التقدير الغامرة ليست منقذة بما فيه الكفاية، وأن ما يبدو أنها حرية استثنائية، معدومة خارج الكتابة لفعل ما أريد حقًا؛ هي في الواقع جوهر المأساة ..  مع كل قصة ثمة تذكير متجدد بخيبة الأمل النرجسية .. ذلك لأنني لا أفعل ما أريده حقًا .. مع كل قصة ثمة مراكمة إضافية لإدراك الغياب الفادح للهيمنة .. تنتهي "الكراهية المطلقة" بهذه العبارة: " ربما لأنني أوثّق شعوري بأنني كتبت مجددًا الآن بطريقة خاطئة، وهذا أمر يجب أن يسبب لي السعادة" .. ربما أكتب كي أحاول كل مرة أن أعطي تأكيدًا مختلفًا بأنني لم أكتب ما أريده بالفعل .. ذلك الأمان النرجسي الملعون.
لا يعني استعراض وتحليل القواسم المشتركة بين نوفيلا "جرثومة بو"، ومسلسل "قابيل" في مقالي المنشور على موقع "الكتابة" الثقافي؛ لا يعني بالطبع أن النوفيلا والمسلسل ينتميان إلى فضاء حكائي واحد .. هذه الجزئية ـ البديهية ـ لم يكن لها علاقة بموضوع المقال، ولهذا لم أشر إليها أثناء كتابته .. لكن يمكنني الآن تدوين هذه الملحوظة التي لا تحتاج لأكثر مما يتطلبه التذكير العابر بحقيقة واضحة، وهي أن ما تناوله المقال عن النوفيلا كان صورًا مبسّطة لجوانب منتقاة من متاهتها، أو لنقل بعضًا من ملامحها المراوغة، أما فيما يتعلق بالمسلسل، فقد امتلك المقال خلاصته وحدوده .. لا يمكن أن تضع عملًا كـ "جرثومة بو" في مقارنة مع محاولة فنية تظل مسالمة مهما امتلأت بالدماء والجثث والأشباح وتعاطي المخدرات والخطف والتعذيب والمرض النفسي، ومهما كانت هناك "قواسم مشتركة" ـ مثيرة للشك ـ بينها، وبين القصة الحقيقية لمنصور عبد الرحيم.
لو أنني أكتب يومياتي مرة كل أسبوع أو شهر أو حتى كل ثلاثة أشهر لكان ذلك كما لو أنني أكتبها كل يوم .. هذا ليس جيدًا، ولا محزنًا، أي أنه قد يكون جيدًا من ناحية، ومحزنًا من ناحية أخرى .. لا أريد أن أشرح الأمر الآن، ولكن ما يمكن قوله تعبيرًا عن ذلك أن تعاقب الأيام لا يعني إهدار الوقت الذي لا يمكن تعويضه في العجز عن الوصول إلى غاية معينة، بل في مجرد الكفاح الفاشل لتمرير الحقيقة لكل من أتكلم معه، أو يقع نظره على وجهي، أو حتى يعرف بوجودي قريبًا منه على نحو ما، بأنني مرغم على البقاء متاحًا له .. على الجلوس أمامه .. على التحرّك في المسارات ذاتها .. أنني لا أستطيع الهرب كي أموت في مكان آخر، محتجزًا داخل عيون أخرى.

الاثنين، 24 يونيو 2019

الدقهلية ترشّح الكاتب ممدوح رزق لمؤتمر أدباء الأقاليم

تم الإعلان عن ترشيح الكاتب والناقد ممدوح رزق كشخصية عامة عن محافظة الدقهلية لمؤتمر أدباء الأقاليم المنتظر عقده في شهر ديسمبر القادم بالأقصر .. يُذكر أن ممدوح رزق قد صدر له مؤخرًا كتاب "نقد استجابة القارئ العربي ـ مقدمة في جينالوجيا التأويل"، كما انتهى من كتابة متوالية قصصية جديدة بعنوان "أحلام اللعنة العائلية"، بالإضافة إلى كتاب نقدي عن فلسفة السرد عند جورج باتاي.
مجلة jazz الثقافية ـ 23 يونيو 2019

هل "قابيل" هو "منصور عبد الرحيم" في نوفيلا "جرثومة بو"؟

لا يستهدف هذا المقال الإشارة أو التلميح بأي مستوى إلى شبهة سرقة أو حتى إلى اقتباس، وإنما يريد فقط استعراض وتحليل القواسم المشتركة الملفتة، والجديرة بالتأمل في تصوّري بين مسلسل "قابيل الذي عُرض في رمضان 2019، ونوفيلا "جرثومة بو" التي نُشرت العام الماضي.
ـ لم يكن قابيل قاتلًا متواريًا في خفاء مجهول، يمرر من ظلامه إلى العالم فصول جرائمه المتعاقبة وحسب؛ وإنما كان هو نفسه أيضًا أحد ضحاياه "آدم"، وهذه الخدعة هي ما أعطت لذلك الخفاء هويته؛ إذ أن قابيل / آدم كان ضحية قاتلة، أو قاتلًا مختبئًا وراء قناع الضحية .. في نوفيلا "جرثومة بو" كان منصور عبد الرحيم مختفيًا أيضًا؛ إذ كان مسجونًا يتم تعذيبه بشكل متواصل في "المملكة"، وعلى الرغم من أن الخطابات المهرّبة التي كان يبعث بها من سجنه كانت تقدّم صورًا متتابعة لتطورات وضعيته الكابوسية داخل السجن؛ إلا أن خفاءه ظل غامضًا لأسباب جوهرية: السبب الأول عتمة الألغاز والشكوك التي تهيمن على حياة منصور قبل سفره إلى المملكة، وملابسات اعتقاله، ووجوده داخل السجن حيث لم تتوقف المعطيات المتاحة عن منصور خارج المعتقل عن دعم إبهامها، وإثارة ريبة متصاعدة حول شخصيته وماضيه .. السبب الثاني عدم القدرة على الوصول إلى منصور؛ إذ لم يتمكن أحد خارج السجن من مقابلته، وبالرغم من النجاح في التأكد بوسائل أخرى من أن كل التفاصيل والوقائع التي ذكرها منصور في خطاباته كانت صحيحة إلا أن هذا لم يضع نهاية للهواجس والافتراضات المتحيّرة حول حقيقة منصور والمكان الذي يوجد به، وهل هو على قيد الحياة بالفعل أم لا، وإذا كان ثمة استغلال لموته لو كانت حياته قد انتهت حقًا .. السبب الثالث ـ وربما هو الأهم ـ الإعلان النبوئي الذي تحمله صيغة العزاء الثابتة التي تتكرر في نهايات الخطابات المتوالية لمنصور عن موت متسلسل لأشخاص متباعدين بطرق مختلفة، لا توجد صلة واضحة تربطه بهم، ويعيشون بعيدًا للغاية عن مكان سجنه؛ الأمر الذي جعل الصحفي الذي كان يعمل على قضية منصور، ويطلّع على خطاباته؛ جعله يفكر في أن منصور لا يتنبأ بموت هؤلاء، وإنما يقتلهم على نحو غير مفهوم، ويبدو قدريًا تمامًا .. إذن كان منصور مثل قابيل ـ وهو الأساس مع تغيّر التفاصيل ـ كان يبدو كضحية وقاتل معًا مستغلًا خفائه المحكم.
ـ اعتمد قابيل على بوستات فيسبوك للإعلان عن جرائمه؛ إذ كان من الضروري ألا يترك ضحاياه دون تأكيد على وقوفه وراء قتلهم، وأيضًا لكتابة ما يشير إلى الأفكار التي تقوده لارتكاب هذه الجرائم .. كانت هناك حيرة في المسلسل لدى المحقق ومساعده ناجمة عن عدم إدراك الخيط الذي يربط بين هؤلاء الضحايا وقابيل، أو العامل المشترك الذي ينتقي على أساسه هؤلاء القتلى .. اعتمد منصور عبد الرحيم في نوفيلا "جرثومة بو" على الرسائل المهرّبة ـ فترة التسعينيات ـ ليقرر خلال كل رسالة الموت الغامض لأشخاص لا يعرف أحد طبيعة علاقته بهم، وكيف بمقدوره أن يتنبأ / يقتل هؤلاء وهو في سجنه البعيد، كما أن أسلوبه الساخر في إعلان موتهم قبل حدوثه، والمتمثل في صيغة العزاء التقليدية التي لا تتغير كان يعطي انطباعًا مستمرًا بوجود صلات قديمة مبهمة تربطه بتلك الشخصيات، وكذلك بطبيعة ما يضمره تجاههم.
ـ كان الانتقام هو الدافع الأساسي في مسلسل "قابيل"؛ حيث أنهى آدم حياة زوجته وشريكها في الخيانة "ما يُعتبر العذاب الخاص لآدم"، وهو أحد مظاهر الرغبات الانتقامية المتعددة عند أبطال المسلسل .. لكن الانتقام لم يكن بالسبب المتعلّق بشخصيات محددة، حتى وإن اقتصر القتل عليهم، وإنما كان نابعًا من فكرة ترتبط بالرغبة في الثأر الشامل من الوجود البشري، أي استخدام النماذج المستحقة للعقاب في حياة آدم للانتقام مما يمثله العالم نفسه فيهم، وهو الأمر الذي جعل من فكرة القتل في حد ذاتها يسيرة حد البداهة خارج هذه النماذج .. لعل أبرز ما يؤكد هذا هو المنشورات السوداوية لـ "خالد المصري" صاحب المدونة الذي اختلقه آدم كقناع آخر له، بالإضافة إلى كتابات قابيل نفسها المصاحبة لإعلانه عن قتل ضحية جديدة على فيسبوك .. خدعة البحث عن هدف، أو الأصل الشرير للإنسان "ممكن ياكل أخوه في أي لحظة" كما في المسلسل أمام الأصل الشيطاني للعالم أو الروح المبهمة القاتلة للكون في النوفيلا على سبيل المثال .. كان الانتقام عنصرًا رئيسيًا في نوفيلا "جرثومة بو" إذ يتضح في نهايتها أن الموت الذي تتنبأ به رسائل منصور هو ثمن لتواريخ متباينة من المهانات والاعتداءات النفسية لأصدقاء مختلفين وزملاء عمل .. لكن الموت في النوفيلا لا يقتصر على هؤلاء فحسب بل يمتد إلى التنبؤ بنهايات تتحقق بالفعل لأشخاص لا يمتلكون هذا الماضي المماثل، أي غير متورطين في ذكريات سيئة كان على الموت أن يكون جزاءً منطقيًا لتراكمها .. الشخص الذي يتم قتله بتنكيل لا يُنهي حياته، فيتحوّل التعذيب الشامل والقتل العام والمتلاحق للآخرين هما طريقته للتناغم مع العالم وتدميره في الوقت نفسه.
ـ كان التماهي سؤالًا أساسيًا للانتقام في مسلسل "قابيل" .. حينما يكون القاتل ومُطارده شخصًا واحدًا .. القاتل "آدم" الذي يحقق أمنية مُطارده "طارق" في الثأر التي عجز عن تحقيقها "قتل حمزة الكومي" .. في "جرثومة بو" كان التماهي بين منصور "المتنبيء بالموت / القاتل المتواري" والصحفي الذي يعمل على قضيته هو المحرّك الأقوى في النوفيلا .. تحوّل منصور والصحفي إلى شخص واحد .. أعلن منصور في خطاباته عن ميتات متوالية لأشخاص كانوا أعداءً للصحفي الذي يعمل على قضيته.
ـ كانت لدى "آدم" قناعة أساسية بأن ثمة "قابيل" يكمن داخل كل إنسان، أي ذلك القاتل الذي يقرر الانتقام من الذين يعتبرهم جديرين بذلك ـ يمكن الرجوع للحوار بين آدم والضابط طارق الذي يتحدث فيه بشكل مباشر عن هذا ـ وهو إن كان يفسر بهذا الطبيعة العامة للثأر، غير المقيّدة بالعناصر البشرية التي تحمل انتماءات مباشرة للقاتل، أو ربما حتى التي لا تخضع توجهاتها لأسباب ملموسة ومنطقية فهو في الوقت نفسه يتماثل تمامًا مع "جرثومة بو" التي تناولت النوفيلا امتلاك منصور عبد الرحيم لها بعذابه البعيد، أي التي كشفت عن نفسها كغريزة للانتقام بواسطة ما تعرّض له، وبالتالي قامت بتوزيع ثأرها على أعداء الصحفي المتماهي معه ليس باعتبارها ـ كما جاء في النوفيلا ـ عقيدة شخصية، وإنما أشبه بالقنبلة الموقوتة المحتجبة داخل كل جسد بشري .. "الظلام معتاد الإنكار في أعماق الجميع".  
ـ في مسلسل "قابيل" كان الضابط طارق يعاني من أعراض المرض النفسي والمتمثلة في رؤية موتى يتكلمون معه ـ ومن ضمنهم آدم ـ فضلًا عن معاناته مع الأرق والكوابيس، كما تحدث عن زيارته للطبيب النفسي وتناوله للأدوية التي فشل في أن يُعالج بها مرضه، وانعكاس كل هذا على حياته المهنية .. في نوفيلا "جرثومة بو" كان الصحفي الذي يعمل على قضية منصور عبد الرحيم يعاني من أعراض المرض النفسي والمتجسّدة في الوساوس القهرية والضلالات والكوابيس التي كان لها تأثير كبير في سلوكياته وعلاقاته وحالته الجسدية إلى جانب تخيلاته عن تجسّد منصور عبد الرحيم أمام عينيه، وكذلك المعاناة من الأرق، وهو ما أدى إلى زيارته للطبيب النفسي وتناوله للأدوية التي لم تنجح في شفائه، وأيضًا تدهوره المهني .. كان وضوح التشابه في هذا الجانب بين طارق في المسلسل والصحفي في النوفيلا متمثلًا في انتفاضات الجسد، ورعشة اليدين، وارتباط الرجفات العصبية بتمثّل قابيل / منصور كما لو أنهما حاضران بالفعل .. يمكن أيضًا في هذا السياق مقارنة مشهد الضابط "طارق" وهو ينظر في مرآة الحمام في المسلسل، وكل التفاصيل النفسية والجسدية والتخيلية المقترنة به، ومشهد الصحفي الذي يعمل على قضية منصور وهو ينظر كذلك في مرآة الحمام في النوفيلا، والتفاصيل المقاربة للمشهد السابق.
ـ في مسلسل "قابيل" كان هناك اعتماد على فكرة تزييف القتل، أي تكوين مشاهد خادعة عن موت ضحايا ـ بخلاف آدم نفسه ـ لا يزالون على قيد الحياة .. في نوفيلا "جرثومة بو" يتبين في النهاية أن الأشخاص الذين تنبأ منصور عبد الرحيم بموتهم، أو بالأحرى قام بقتلهم بواسطة التنبؤ هم في الحقيقة مازالوا أحياءً، وأن جميع الطرق التي تم قتلهم من خلالها كانت مختلقة، بما فيها صور التعذيب التي سبقت هذا القتل إذ أنها لم تكن ناجمة إلا عن وعي التماهي بين منصور والصحفي الذي يعمل على قضيته.
ـ استخدم قابيل / آدم لوصف ضحاياه صفات متماثلة لدرجة التطابق أحيانًا مع الصفات التي جاءت في النوفيلا لوصف القتلى من حيث الوضاعة وانعدام القيمة واستحقاق الموت كمسوخ، كما كان لهذه الصفات إطارًا فلسفيًا يربط العدمية بالتعرّض للانتهاك النفسي والجسدي سواء في المسلسل، أو في "جرثومة بو".
"آدم: كل الناس تعرف بعض .. كلنا عندنا استعداد للقتل .. انتقمت من سلمي ورؤوف وانت من حمزة الكومي .. الحقيقة بتقول إن انا قابيل وانت كمان قابيل واللي سمعوا عننا زينا واكتر .. على الأقل أنا مقتلتش حد برئ .. كلهم ولاد كلب ظلمة .. بذمتك مفرحتش لما انا قتلت حمزة الكومي .. دور جواك يا طارق عشان أنا عملت حاجة إنت كان نفسك تعملها"... "قابيل".
"لم يكن موت محمد الرفاعي سوى مجرد استهلال يقدم وعدًا بأن الانتقام سيكون شاملًا كما يجب بوصفه غريزة منطقية للوجود .. بعد ذلك كان عليّ توجيهه نحو الأشخاص الجديرين بذلك كما أعرف .. إلى المسوخ المضحكة التي لا يدرك أحد شيئًا عن الحكايات التي عذبتهم خلالها قبل فنائهم في حادث الأتوبيس، وانهيار البيت، والحريق الضخم .. إنها جرثومة إدجار آلن بو التي امتلكها منصور بعذابه البعيد، وإثر ذلك لم يعد مجرد فرد مؤقت خاضع للحياة والموت بل أصبح الحياة والموت نفسيهما"... "جرثومة بو".
موقع "الكتابة" ـ 23 يونيو 2019

الخميس، 13 يونيو 2019

"دنيا زاد" لمي التلمساني: الموت يسرد صمته

"طلبت من أخويها الحضور .. تأخرا .. ثم جاء الأصغر أولًا .. أخبرته بأن الطفلة قد ماتت .. بكى .. وبكيت. وقلنا نخبرها تدريجيًا كما أشار الأطباء الثلاثة .. ثم جاء الأخ الأكبر. بكينا أيضًا. واتفقنا على تفاصيل أخرى .. لا أذكرها الآن لكني أعرف أني لم أعد أستطيع البقاء وحيدًا. أحطنا جميعًا بالفراش. الذي لا يضم سوى جسدها الساجي. لا سبيل الآن لأن تضمهما ذراعاي. وربما أيضًا .. غدًا".
ماذا لو أن دنيا زاد هي الموت الذي يتبادل شهريار وشهرذاد حكي تاريخ العالم من أجله بكيفية انتقائية؟ .. هذا يعني أن ثمة محاولة سردية لاستنطاق هذا الموت، أي كفاحًا لجعله يحكي "ألف ليلة وليلة" المجهولة، والكامنة في ظلامه، خاصة لو كان هذا الموت نقيًا، خالصًا من المرور المؤقت للحياة ممثلًا في طفلة لم تعش .. يعني أيضًا أن تاريخ العالم الذي يتم سرده من خلال الأب والأم لن يكون هو الذاكرة ذاتها التي سبقت هذا الموت، أو ما يُتصوّر أنه الوجود الذي تقدّم على الفقد بل سيكون حياة أخرى، أو الماضي المغاير الذي سينتج بالضرورة واقعًا مختلفًا، أو على نحو أدق إبهامًا مختلفًا.
"أعد الأيام بلا أرقام. أعدها بمدى ابتعادها عن يوم الاثنين الخامس عشر من مايو. حتى ذلك المساء الذي عثرت فيه على بعض القصاصات التي كان زوجي يدون عليها بيانات المستشفى. أرقام أكياس الدم. المصاريف المتفرقة. ساعة دخولي غرفة العمليات. وساعة خروجي منها. نص تقرير الطبيب الذي استخرج بناءً عليه التصريح بالدفن ... أقرأ: وفاة في الرحم نتيجة انفصال تام للمشيمة".
تتشكل عناصر العالم بعد الموت باعتبارها ظلالًا غامضة لتلك البنية المعتمة التي ذابت دنيا زاد داخلها .. كأنها تتحوّل إلى قرائن لحكمة مضادة، مراوغة، تشمل موجودات الحياة وأحلامها كافة، وتنبع من الثقل المهيمن الذي يفرضه غموض هذا الموت على الأجساد وعلاقاتها والتفاصيل المرصودة كحصار من الأسرار التي تتوعّد الغفلة .. بالتالي تصبح الأفكار والعواطف المتشابكة أقرب إلى الهواجس الاستشرافية فيما يشبه البحث عن الفضاء الخاص لنجاة غير مستوعبة داخل موت متجذّر في الماضي، ولابد أنه يرسم في ذلك الخفاء الذي يتم السعي لاستكشافه تلك الخطوات التدريجية لحدوثه في المستقبل.
"الحلم: اليوم أتمت دنيا زاد ثلاثة أسابيع. أنير لها شمعة وأحملها إلى قبرها الساكن في ركن من أركان الغرفة. أفتح باب القبر وأتسلل إلى حيث الجسد الساجي. أضع الشمعة إلى جواره. وأبكي مرة واحدة. في طقوس حب سرية، أراها تطبع على جبيني قبلة حارة كحرارة القبر المغلق".
لكن الاستشراف يتضمن تلك الحاجة البديهية للحصول على الحياة التي لم تعشها دنيا زاد .. ليست حياتها ككائن يجرّب العالم بشكل اعتيادي، وإنما حيوّات الآخرين التي كانت ستمنحها لهم دنيا زاد لو لم تمت .. الوجود الذي لا ينبغي أن يتوقف عند الحدود التقليدية للبنوّة، وإنما ذلك الذي يجدر به التخلص من الألم المنطقي، أي يستبعد بصورة محصنة الجوهر العدائي المجهول الذي لم تختبره دنيا زاد، وبهذا يكون موعدًا مؤجلًا، متجرّدًا من الفناء.
موقع "الكتابة" ـ 11 يونيو 2019

السبت، 1 يونيو 2019

غذاء السمك: الذات تنثر هلاكها

في نص "غذاء السمك" لمؤمن سمير، الصادر حديثًا عن دار "الذهبية"؛ ثمة ذات تراقب دمارها المتلاحق عبر محاولات التماهي مع صور التناثر لهذا الدمار في ملامح الآخر .. تتخذ المراقبة طبيعة الإيجاد أي خلق الأشلاء / شذرات اللغة فتتحوّل إلى مُسيّر لهذا الآخر، أي أنها تتقمص وضعية التدمير الذاتي .. هي بتلك المسايرة التي تستبطن كيفية أن تكون قاتلة لنفسها؛ تراوغ صورتها الواضحة أمام موضوع القتل ذاته، وهذا يتيح لها أن تكتسب إمكانية الاختفاء من عتمة "المرآة" العالقة داخلها، والذوبان في الشظايا النهمة لتلك المرآة، الموزعة داخل الآخرين.
"بعد أن قرأت عن الفيلم حلمت حلمًا عابثًا، مستحيلًا، أنني كنت هناك، لكن حيث لا يرونني .. الجميع كان يبكي .. والبكاء هو الظرف التاريخي الرائع لممارسة أفعال تشي وتوهم بالقرب الإنساني .. كل ولد كان يضع يده على يد البنت التي بجواره ثم يلف ذراعه حولها".
تكافح الذات لاكتشاف لعنتها من خلال هذه الأداءات التي تزاوج بين المراقبة والتوحد بأشكال تدميرها المتفرقة، كأنها في الوقت نفسه تسعى لاكتساب بصيرة بمقدورها التلصص على ما بعد النهايات المتكررة، التي تُشكل تدريجيًا الوجه الكامل للموت .. التلصص الذي يجعل من الألوان، ودرجات الإضاءة، وزوايا الرؤية، والحدس بواسطة الظلال؛ يجعل منها ممرات ملغّمة للذاكرة، أو مسارات لتشريح الماضي متخمة بالأشباح التي ينبغي عليها حينئذ أن تُغرق الخطوات المرتعشة "المتلصصة" بدمائها.
"المعلن أنه يحاول تهدئتها، لكنها تزداد انفعالًا، المسكينة!! ويزداد هو في محاولاته الاحتوائية الشريفة. المسكين الذي يجتهد في ممارسة اللعبة التواطئية يتأكد في هذه اللحظات أنه حقًا يريدها، وذلك بعد أن قالت هي أيضًا، ضمنيًا، عدة مرات، إنها "تموت فيه" ... سينهشها الآن .. هذه الغبية .. القاتلة أيضًا".
تستند الاستمرارية هنا على تعدد الآخر سواء في حضوره البشري أو الذهني أو المتوهم، حيث تُرد عناصر الواقع كافة إلى تلك الهيمنة الكامنة في ذلك الحضور المتعدد، ولكنها ليست الاستمرارية التي تُنتج الحاضر فحسب، بل تلك التي تُبطل عمل التاريخ على نحو أساسي أيضًا.
"لكن العجيب أن عيني بعدما ثبتت على وضعية الجحوظ انغلقت فجأة وغرقت في نوم مدبب وحاد .. أفقت على ملوحة العرق في عيني وبرودته تحت إبطي ووجدتني في مواجهة المسارات التي حفرها النمل في كومة الرمل ولمحت الدويبات تتحرك بطمأنينة وكل واحدة تحمل على رأسها شيئًا، جزءًا كبيرًا أو صغيرًا من الملامح".
بهذا تحصل الذات على تعدديتها غير المحددة، التي تسمح لكابوسها الخاص أن يكون هو الزمن الكلي، القائم على التناثر، كما أنها بذلك تعيد تكوين الآخر بانشطاراته التراكمية المتباينة كأنما تستعمل المحو لتجعل هذا الآخر سرًا قابلًا للمعرفة .. المعرفة التي تحمل انتهاكًا مؤكدًا للموت كختام منطقي لتحوّل الأقنعة الوحشية إلى أصل كتابي، وتحوّل الكتابة إلى قناع شامل يتواطأ بولع طفولي "حيث كل جسد قاتل ومقتول" مع اللعبة الاستكشافية لتحطيم الغاية .. ربما هي طريقة أخرى لمحاولة حماية الخبرة العاطفية الأكثر سذاجة للذات من أن تكون تدميرًا غريزيًا.
"رجعت بمقعدي للوراء بعنف وفتحت باب الغرفة وعدوت .. وضعت رأسي تحت المياه ورجعت مرة أخرى .. كدت أفتح الباب بيدي المرتعشة التي تتساقط منها المياه لكنها شالت يدي ووضعتها على كتفها وسارت بي نحو الصالة ولكن بعد أن أغلقت الباب بساق خلفية .. طاوعتها واستسلمت تمامًا .. في الصباح رميت ببصري نحو الغرفة ثم أخذت أدلّك الحنجرة برفق كي يمر الهواء في مساراته المتعرجة بأمان".
يتحقق في نص "غذاء السمك" نوع من المزج بين الغرابة الشبقة المرتجلة عند جورج باتاي، والمجاورة الحادة بين الوحدات اللغوية التي لا تخضع لعلاقات مكشوفة عند جيرترود شتاين، كما أن ملامح العنف السردي في هذا النص ربما تذكرنا بأسلوب بوهوميل هرابال في "عزلة صاخبة جدًا؛ فالسارد هانتا يخاطبنا طوّال الوقت كما لو كان ممسوسًا بحُمى التقويض، بهذيان الفصل بين اللغة وإحالاتها .. نجد في هذا التدفق العفوي المتوتر هوسًا "صاخبًا" بتحويل الأفكار والعواطف والمشاهد والتخيلات وصور الذاكرة إلى تناثر عشوائي من الأشلاء والأنقاض التي كافحت في الماضي لتكوين يقين ما أو إطار مرجعي غير قابل للشك .. إنه خطاب قد يعيدنا إلى كلمات "جاك دريدا" عن التفكيك: "لا! ليست للرسالة وجهة معينة أو محطة أخيرة، وما ذلك بالعامل السلبي. إنه الشرط التراجيدي الأكيد ولكنه الوحيد لكي يحدث ويُجدّ جديد" .. بهذا يتقمص العامل هانتا آلته فيتحوّل إلى جسد هيدروليكي ينتهك الظواهر التي تسعى لإثبات نفسها، ويحطم بنهم طائش سلطة المتعة الجمالية، ويُبقي أمانها مرجئاً طوال الوقت .. هذا ما يبرر خشيته من أن تسحقه كالفأر أطنان الكتب التي يحتفظ بها انتقاماً من تاريخه.
لنقارن هذا الجزء من التحليل السابق لـ "عزلة صاخبة جدًا" بهذه الفقرة من "غذاء السمك":
"كان جل اهتمامي بالأوراق لكنهم حملوني ونزعوا أطنان الملابس عني وربطوني بأسلاك الكهرباء التي أخرجوها من وراء ظهورهم وتندروا كثيرًا على جسدي الأملس ثم تناوبوا اغتصابي مستخدمين أدوات حادة .. أحسست أولًا بالرعب ثم بالألم ثم فقدت الإحساس نهائيًا وتهيأت للموت .. ويبدو أنهم أحسوا بذلك لأنهم بدأوا في إفاقتي بطعني بالمُدى الملوثة بدم الرجل المقتول وكأنهم يريدون إشراكه في الأمر .. الأول يسلم الثاني المُدية فيغرسها فيّ ويُسلمها للتالي الذي يختار بقعة أخرى وهكذا .. أصروا على ألا تخرج أي تفصيلة عن ترتيبهم .. كدت أخدعهم وأموت مرة أخرى لكنهم تداركوا الأمر وغيروا التكنيك فانتبهت .. مزقوا الأصابع ثم اليد اليمنى ثم اليسرى ثم القدمين ثم الأذن اليمنى ثم اليسرى والأنف وسملوا العينين ومزقوا فروة الرأس وأخرجوا القلب والكبد والكليتين وأكلوهم".
 الجسد الذي يأخذ مسافات منتشية غير محكومة من نفسه "الأفكار والعواطف والمشاهد والتخيلات وصور الذاكرة" ـ كما كان الأمر عند هرابال ـ حين يُترك عاريًا في حفل تعذيبي، وفي نفس الوقت يحوّل خيال هذا الجسد الممزق مشاهد الحفل إلى طقوس طفولية متنافرة، تتبادل كائناتها ما يشبه القرابين المدنّسة، بوصفها الخام البشري الذي يجدر بالكتابة استعماله لتخريب أي فردوس محتمل.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 2 يونيو 2019