فجأة عرفت كل شيء ...
كنت مستلقيًا فوق السرير، أحدّق إلى السقف، وأفكر في بعض الأمور
الصغيرة المبهمة التي تركتها خارج البيت الذي لم أعد أغادره، قبل قطع علاقاتي
بالجميع: لماذا انسحب المترجم تدريجيًا من صداقتنا؟ .. لماذا توقفت كاتبة القصة
الشابة عن كتابة الرسائل لي على فيسبوك؟ .. لماذا ترك الناقد الأدبي عمله في دار
النشر؟ .. لماذا كتب الروائي الشاب على تويتر تلميحات كثيرة عن الخيانة الزوجية؟
.. لماذا تحدث معي الروائي العجوز باقتضاب مرتبك في آخر مكالمة بيننا؟.
ربما كان يبدو أن عزلتي المغلقة ليست في حاجة لتفسير أشياء غامضة
كتلك، خاصة بعد مرور وقت طويل على حدوثها، لكن الفضول القديم لإدراك الأسباب كان
يستيقظ في نفسي بين حين وآخر.
على سبيل الانفصال المؤقت عن الطقوس اليومية المألوفة؛ قررت تكريس
جهدي هذا المساء لمحاولة العثور على هذا التفسير .. كان الأمر ظاهريًا يماثل الشروع
في لعبة جديدة طمعًا في مرح غير معهود، لكن جدية حاسمة كانت تملؤني حقًا بينما
أعود لأوراق قديمة سبق لي تدوين ملاحظات، وإشارات هامشية بها على مدار أعوام
متعاقبة .. تنقّلت أيضًا داخل وفرة من الملفات المختزنة على اللابتوب، والتي تحمل
أفكارًا وهواجسًا قمت بتسجيلها منذ مدة كبيرة كملامح متناثرة تنتظر الوجوه التي
ستراوغها .. ظللت أجمع المعلومات المفترض أهميتها من هذا الأرشيف، ثم بدأت أعمل
على تشريحها كي أخلق احتمالات مختلفة لخفائها المستمر في التصدّع .. سرعان ما أخذت
هذه الاحتمالات تفرز نفسها، وتتحوّل انتقاءاتها الذاتية إلى ضرورات تتقدّم في طريق
ثابت نحو الاستقرار كاستنتاجات مؤكدة .. شعرت بما يشبه ضوءًا نقيًا، ساطعًا انبعث
دون تمهيد داخل ذهني؛ فاعتدلت على الفور كمحقق متقاعد اكتشف حل لغز الجريمة بعد
سنوات كثيرة من وقوعها: عرفت أن المترجم قد انسحب تدريجيًا من صداقتنا نتيجة
اعتراف حبيبته له بأنها تحبني، وما زاد الصدمة إذلالًا أن المترجم كان يعمل سرًا
على ترجمة مختارات قصصية لي إلى الإنجليزية كهدية أراد أن يفاجئني بها تقديرًا
لمكانتي عنده، وبالطبع تحوّلت بعد هذا الاعتراف إلى كابوس يجدر محوه تلقائيًا ..
توقفت كاتبة القصة الشابة عن كتابة الرسائل لي على فيسبوك لأن اليأس استحوذ على
نفسها كليًا من أن أقدم على خطوة رومانسية أكسر بها حاجز العلاقة التقليدية بين
صديقين، وذلك بعد اعترافها للمترجم أنها تحبني بينما كان يحدّثها ببراءة مطلقة عن
المفاجأة المترجمة التي يجهّزها لي .. ترك الناقد الأدبي عمله في دار النشر كإرضاء
مستتر ومتأخّر للضمير، بعد إصراره على منحي المستحق للجائزة التي كان عضوًا في
لجنة تحكيمها في مواجهة بقية أعضاء اللجنة الذين كان عليهم توزيعها في ذلك العام
على إصدارات دار النشر التي كان يعمل بها الناقد، واستقال منها احتجاجًا على عدم
فوز مجموعتي القصصية، في مقابل إعطاء الجائزة لمجموعة كاتبة القصة الشابة التي
اعترفت للمترجم أنها تحبني ثم توقفت عن كتابة الرسائل لي على فيسبوك .. كتب
الروائي الشاب تلميحات كثيرة على تويتر عن الخيانة الزوجية لأنه استمع خلسة إلى
زوجته المحررة الثقافية وهي تتحدث تليفونيًا إلى صديقها الناقد الأدبي الذي ترك
عمله في دار النشر، وكان يشرح لها الدافع وراء الاستقالة؛ فكان ردها على الناقد
بأنه في مجموعتي هذه قصة قصيرة من النوع الذي لا تمانع بعد قراءتها من أن تخون
زوجها مع كاتبها .. تحدث معي الروائي العجوز باقتضاب مرتبك على الهاتف بسبب شعوره
بالذنب؛ حيث طلب منه أحد الطلاب الجامعيين من قرّائه ترشيح رواية ذات سمات معينة
تلائم موضوع البحث المكلّف بإعداده، وكان على وشك ترشيح روايتي بالفعل لكنه في
اللحظة الأخيرة غدر بقناعته، وقام بترشيح رواية لصديقه المقرّب، الروائي الشاب
الذي كتب تلميحات كثيرة عن الخيانة الزوجية كمجاملة له، وهي الرواية التي سبق أن
ترجمها إلى الإنجليزية ذلك المترجم الذي اعترفت له حبيبته كاتبة القصة بأنها تحبني
فانسحب تدريجيًا من صداقتنا.
ليس هذا فقط كل ما عرفته؛ فالضوء الساطع استمر في التدفق كنهر جارف،
لا يحتاج لتذكر منبعه، أو ما وراء انسيابه في تلك اللحظات على هذا النحو المشوّق
.. كان تفسير تلك الأمور الصغيرة المبهمة بمثابة الإرشاد السحري لفك شفرات الذاكرة
بأكملها .. كأنه دليل الحكمة الشاملة أو المنطق الأساسي الذي أدركت بواسطته
العلاقات الخفية التي كانت تربط بين عائلتي وأصدقائي وجميع من عرفتهم طوال الماضي
.. ما يمكن أن أطلق عليه التاريخ السري لحياتي الذي ظل مطموسًا في وعيي كل الوقت
.. فهم صلب، عفوي، راح يطغى بلا تمهّل ليتجاوز الكشف عن ذلك الواقع الأصلي المحدود
إلى امتلاك الخلاصة العارية لتاريخ العالم نفسه .. استوعبت تمامًا حقيقة الخيوط
المتشابكة التي كنت معميًا عنها، وتمتد بيني والبشر كافة منذ بداية الوجود، ولن
تنقطع حتى نهايته .. استطعت تحديد الصلة المختبئة ـ مثلًا ـ بين سقوطي في عمر
العامين من فوق كرسي الاستوديو قبل لحظات من التقاط صورة لي مما نتج عنه تورّم
رأسي، وشعور عجوز إيطالي بالحنين لأيامه الأولى مع زوجته، ولميلاد طفلتهما في
نهاية القرن التاسع عشر .. بين صاحب المكتبة الذي أخبرني في سعيه لصداقتي بأن
عينيّ تعريان الآخرين كعيني سلفادور دالي، وأغنية "رصيف نمرة خمسة"
لعمرو دياب .. بين مرض أبي بالزهايمر قبل موته، والعقيدة الغنوصية .. كل شيء أصبح
واضحًا.
لكنني وجدت نفسي أتساءل حول كيفية الاستفادة من هذه المعرفة داخل
الظلام المتحجّر بين هذه الجدران وحولها منذ زمن بعيد .. ما الذي يمكن أن أفعله
حقًا بكل ما اكتشفته، والذي من المؤكد أنه أقصى ما يمكنني الحصول عليه من حركة يدي
اليمنى الأزلية أمام المرآة؟ .. كان حتميًا أن تختفي ابتسامتي، وأعود للاستلقاء،
والتحديق إلى السقف، والتفكير في التوصّل إلى طريقة مثالية لاستغلال هذه الذخيرة
الخارقة لصالح الأمر الوحيد الذي تبقّى لي .. أن أحاول جعل انتظاري للموت مختلفًا
بصورة ما داخل البيت الذي لم أعد أغادره، ولا أعلم هل سأنجح في هذا أم سيكون موتي
هو الآخر مجرد منديل ورقي مكرمش على أثر جاف لامتنان عابر في سلة القمامة .. من
أخدع!، ربما أتمنى لموتي أن يكون هكذا بالفعل.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 6 أغسطس 2019
الصورة من فيلم Süt