لو تخيلنا أن راويًا شعبيًا قد ترك ربابته ومجلسه في المقهى القديم،
وقرر أن يكتب سيرة متجرّدة من اليقين الشفاهي أو الحكمة المنغّمة، بعكس ما اعتاد
أن يمرر إلى آذان السامعين؛ ما هو الشيء الذي ربما سيحرص على الاحتفاظ به خلال هذا
التحوّل؟ .. لن يتخلى الراوي عن الإيقاع .. لماذا؟ .. لأن الإيقاع هو الحيلة
اللغوية التي سيُكسب بها ما يسرده شكل المعرفة، وذلك حتى يثبّت إدراكًا هزليًا
بعمق الحكي الذي يقاوم تكوينها .. لهذا لن يتخذ الإيقاع نفس الطبيعة الغنائية
المهيمنة في الرواية الشعبية بل سيستعير ظاهرها .. إيحاءاتها .. ظلالها المتأرجحة
.. في روايته "لا شيء يحدث هنا" الصادرة عن دار العين بتقديم مميز
للكاتب أيمن باتع فهمي؛ فعل وائل ياسين شيئًا مماثلًا لهذا .. قام بتحويل الإيقاع
ـ الذي ربما يذكرنا أحيانًا بفن المقامات ـ من برهان للثقة في الراوي إلى دليل
ثابت للشك فيما يحكيه .. هناك سارد، لكنه لا يحكي بقدر ما يحاول أن يتذكر .. بقدر
ما يحاول أن يعثر على ما يتذكره في صورة أخرى .. بقدر ما يحاول ألا يتذكر .. كأن ثمة
مجهولًا يختبئ فيما يحكيه لا يتوقف عن مطاردته .. لهذا يظل السرد ـ كخالق تخييلي
لما يُعتقد أنه الواقع ـ عالقًا بين الغموض السابق لحدوثه، والعماء الذي يحجب ما
يحاصره.
"فكر ناصيف: ست! قال حامد "ست" وكأن نجمًا هوى .. لا
.. لا هذا ليس بالكلام الماسخ أبدًا. راحت هند. لم يكن ناصيف يعرف ماذا يفعل بهند
أو ماذا يريد منها، فقط هو رأى ما رآه حامد. رأى الست. أحس أنه اقترب لما رأى. فما
قادته الرؤية إلا بعدًا. رأى وحلم وابتعد كلما اقترب. ضحك ناصيف كثيرًا من نفسه
"والعيال أوديهم فين!!" وظن أن هذه الجملة ـ فقط هذه الجملة ـ قادرة على
هند".
يقترن الإدراك الهزلي الثابت في الحكي، المقاوم للمعرفة، بإلحاح آخر
لا يتعطّل وهو الإنهاك .. شعوران متوحدان كأن كلًا منهما سر الآخر .. ربما هذا ما
يعطي انطباعًا دائمًا في الرواية بأن عظام عجوز تحاول ترميم نفسها .. تحاول أن
تحقق تماسكها .. لكنها تعرف أن التماسك في حد ذاته فكرة باطلة .. كأن هذه العظام
هي الشخصيات التي تتناثر في اتجاهات تبدو متناقضة ظاهريًا .. الآباء والأبناء ..
التجار والشيوخ والسماسرة ونساء المتعة والجثث المارة في شارع السوق العمومي ..
كأن هذه العظام هي حكاياتهم التي لا يمتلكوها، وإنما التي تمتلكهم .. تستعملهم ..
يتوهمون أنها تمثل خزانة حياتهم وموتهم، ولكنها تجعلهم عندما يفكرون في ذواتهم،
ويخاطبون أنفسهم والآخرين يبدون كأن أشباحًا تستدعي أشباحًا .. السرد هو ما يكشف
هذه الخدعة القدرية حين يحاول تقمّصها .. ما يضيئ الوعي بالمأساة غير المفهومة .. لذا
تُختزل الذاكرة إلى هاجس متسلّط بأن ما يتصوّر وجوده لم يحدث حقًا .. ربما لأن
الأمور جرت بطريقتها وليس بمشيئة العابرين .. ربما لأن المشيئة نفسها إمكانية
ملتبسة، غائبة في ادعاءات مضللة .. يساير الشبح الحكاية بأن يرويها كأنها حكايته
.. لكنه في كل لحظة يتعمّد الخواء خلالها أن يرسم ما يتوهم أنها حافة منقذة له،
يستوعب الراوي جيدًا أن عليه محوها.
"بينما يقف حامد على مشارف الأربعين، ببطن نصف مشدودة بما بقي له
من الرياضة، وعين أكلها السهر بما بقي له من القراءة، وذات صغيرة بين التضخم
والانسحاق بما بقي له من السياسة، وروح ينفثها في ثلاث علب سجائر يوميًا. يقف على
مشارف الأربعين بكامل غضبه، وبشهية معطوبة أنهى غداءه".
الخواء في "لا شيء يحدث هنا" أشبه بعتمة مقبضة، لا ينفلت
منها احتمال .. ذلك لأنه مزيج محصّن من ما كان، وما لم يكن .. من ما يُفترض وقوعه،
وما كان يجب أن يُفصح عن نفسه .. من الظنون المتغيّرة التي تتراكم كحقائق للألم، والصمت
المحكم الذي سبق به الموت كل خطوة داخل الصراعات والمكائد والتحولات الاستعبادية ..
الخواء هو الراوي متنكرًا في صوت مألوف .. كأن الحكاية حلم جماعي يمر في رأسه ..
حلم يكافح لتجميع أشلاء الخيال المتطايرة من أذهان الرواة عبر الزمن، والرأس الذي
لا يمكن اصطياده .. يمتد الحلم من الأصل الغامض له، ويمر عبر الأجساد المتعاقبة،
مشكّلًا نفسه على نحو مغاير كما يليق بالإرث الذي يترصّد كل شخصية، وبالجسور
المحترقة التي ستحاول العبور منها نحو ظلام الآخر.
"قاربت العشرين دقيقة، حتى انتبه الشارع إلى نفر قليل يحدقون في
الأرض بذهول وسيطرت لا حول ولا قوة إلا
بالله على ما عداها، وما كاد الشارع ينتظم حتى هاج من جديد، مع اتساع الحلقة حول
جسد عبد الله من تجار الدكاكين وزبائنهم وخلق الله التي تعبر الشارع، الأقرب للجسد
هو الأقرب للرجل في حياته، وكلما جاء قريب قدموه، الأقرب فالأقرب، حتى صار القريب
بعيدًا والبعيد قريبًا، وأخذ الناس في حزن صادق، تأكد شيخ الجامع من خروج السر
الإلهي بعد ما قربته الناس لجسده، ليس لأنه قريب من عبد الله ولكن لأنه قريب من
الموت وعلى معرفة به، فجل خطبه عنه".
ينتج السرد سؤال المخاطب إليه، خاصة لو نظرنا إلى هذا السرد باعتباره
ذاتًا مستقلة أو تجاهد للانفصال عن مصدرها، أي كحصيلة من التلصص تريد الانفلات
خارج وجوه الماضي التي تم توثيق ملامحها المتبدلة .. يخاطب السرد هذه الوجوه نفسها
قبل أن يخاطب أطيافهم في أدمغة الآخرين .. يتوجّه الحكي إليهم بوصفهم غرباءًا عما
عاشوه .. بوصفهم موتى يحتاجون في قبور الحياة وما بعدها لمن يستثمر المرح القديم
في توفير دعابات جديدة عن الفناء .. يصلح هذا كغاية مناقضة للخلاص .. كهدف أكثر
منطقية من أي نجاة مخاتلة .. بذلك يمكن للتبادل أن يكون منطقيًا أيضًا بين
الشخصيات وبعضها في خيال المرتحل داخل السيرة .. بين المصائر التي تجاورت وتقاطعت
كإعادة تدوير أبدية لشبق خارق، لا يُرى، ولا تُفهم علّته.
"أمام الفاترينة الجانبية والباب الخلفي لمحله يسدان الأفق عن
شِماله الشارع الجانبي المقفول يحفظ ناسه وقلما يجود بعابر، ومولد من الناس
وسلامات تعلو وعلاقات تبدأ وأخرى تنتهي وعتاب وملاطفة وعربات وتكاتك و(حتت) تأخذ
العقل قبل العين، يا خلق الله على الطراوة، بعد أقل من عشر خطوات بينه وبين شارع
السوق العمومي، يراه كأنما يشاهد التلفاز، أحس بنفسه موجودًا وغير موجود في آن،
استولى عليه شعور بالضآلة لم يكن غريبًا عنه، فتح على روحه بابًا يعرف أنه لن
يُغلق بسهولة, آخر ما يحتاج إليه مع وقفة الحال وصعوبة الرزق والأمل الشحيح، تذكر
البغل في محطة المترو الذي مال عليه مبتسمًا يسأله عن مكان دورة المياه فحدجه بنظرة
جاحدة ومد إليه كفًا من حجر: ـ بطاقتك".
ما أراه جوهريًا في الرواية أن ما كل ما يبدو تعددًا على المستوى
الشكلي هو تنويعات على إرادة مستقرة لاكتشاف الأصوات الغائبة .. لاستبطان الحكاية
الكلية المفقودة .. التماهي مع الجزئيات المراوغة ـ أي ما كان يجدر به أن يكون
معرفة ـ يعد السبيل القهري لهذا الاستبطان .. لكن إلى ماذا تنتمي تلك الأصوات
الغائبة، أو الحكاية المفقودة؟ .. إلى الراوي المتمنّع، الذي يجسّد الخواء أمانه
الخاص.
"فارتبك الشيخ، لم يشغله أمر المال من قبل، وفيم يشغله والأرض
تعطي خيرها؟ لم يخطر له على بال وهو يحزم أمره في الانتقال إلى المدينة، فجل ما
شغل رأسه وقتها سؤال عذبه كثيرًا: أيهجر قريته حقًا؟! هذه المدينة كبيرة، مفاسدها
كثيرة، تحتاج وقتي كله، والأمانة ثقيلة وعليّ أن أتمها كاملة غير منقوصة بوقت
السفر، محشورًا مع العامة بما ينال من هيبة الإمام، هكذا حسم الاختيار
لنفسه".
تنجز الرواية غرضًا جماليًا لافتًا، وهو أنها تقترح بصورة غير مباشرة
نسخًا أخرى لها عند إجراء ترتيب مختلف لنظامها السردي .. فقرات متباعدة لو انتزعت
من سياقها وضمها نسق آخر لنشأ انسجام فيما بينها، كأنها تُكمل بعضها، وهو ما يندرج
ضمن التأثيرات العديدة للإيقاع اللغوي الذي تحدثت عنه من قبل .. من هذه الفقرات
مثلًا نقرأ:
"إنما تصل الحياة ما انقطع وتقطع ما اتصل وهكذا، في صيرورة وحركة
دائبة، دون بدء أو نهاية، ونحن دائمًا في وسط شيء ما، بعد البدء وقبل
النهاية".
"وطالما وُجد الحكاؤون فُتح الباب للخيال على مصراعيه، يكمل
الناقص منها على هوى النفس، وكل نفس ترى الناقص في مخاوفها وأملها الذاتي، من لسان
إلى لسان, غابت الحكاية الأم كطوبة ألقيتها فاستقرت في قاع بركة راكدة مخلفة عنها
موجات لا تنتهي دوائرها".
كأن الحياة نفسها هي الطوبة التي في قاع البركة الراكدة، وكأننا موجات
الخيال التي تدور فيما بعد سقوطها، وقبل استردادها من هذا القاع.
من قرأ الرواية سيعرف القصد من هذا التشبيه، ومن لم يقرأها عليه أن
يفعل حتى يفهم لماذا تبدو رواية "لا شيء يحدث هنا" كأنها ترديد مستمر
لهذا الاستفهام: "ماذا حدث؟" بصيغ متباينة، وأن الرد الذي يأتي دائمًا
من داخل الراوية نفسها، ومن خارجها مصحوبًا بالقهقهة هو: "بكرة تعرف".
جريدة "أخبار الأدب" ـ 4 أغسطس 2019