أعيش هذه الأيام نوبة اعتيادية من تلك الكلمات في قصتي "الكراهية
المطلقة": "لم أكتب بشكل صحيح" .. الجرح الأزلي الذي ينبض كامنًا
في كل كتابة، وأحيانًا يكشف عن طبيعته الأصلية كورم خبيث يتقيأ فضلات الحياة التي
التهمها قبل أن تحدث .. تختبئ كل الدوافع التي طالما كانت قادرة على تبرير أي شيء:
الثقل اللغوي باندفاعه الممتد كأحجار متلاحمة تسد مجرى التنفس .. الهشاشة المرتبكة
.. النتوءات الشاحبة كخجلٍ مُهمَل .. الجسور الصغيرة المتلاحقة .. الانفعالات
العارية الأشبه بصراخ مجرّد من الحذر .. الدوافع التي طالما كانت قادرة على
السخرية مما يسميه البعض "الشك الذاتي" .. تتساءل سيلفيا بلاث إن كانت
تجيد الكتابة حقًا، وهل يمكن لامرأة أنانية غيورة نرجسية، عديمة الخيال أن تكتب
شيئًا ذا قيمة .. النرجسية يا سيلفيا هي سر التساؤل .. حاضنة الأنانية والغيرة
والخيال الذي حينما لا يقيم للغيب قيامة فعلية فهو معدوم .. أعيش نوبة اعتيادية من
الألم النرجسي حيث لا يجب أن تمتلك الكتابة حياة كاتبها وحسب، بل أن تهيمن على كل
ما كتبه الآخرون في كل مكان وزمان .. على كل ما لم يكتبوه بعد .. أن تهزأ طوال
الوقت بما كسبه الكتّاب الآخرون .. لم تكن الملاحظات التفصيلية التي كانت تدوّنها سيلفيا
بلاث عن حياة البشر ناجمة عن الرغبة في كتابة قصص "أفضل"، بل لمحاولة
إشباع غريزة الاستحواذ الشامل على جميع القصص .. ربما هو المبرر الوحيد لما أسمته
كيم أدونيزيو بـ "التدمير الذاتي" في تعليقها على محاولة بلاث لبلوغ
الكمال، الذي يمثل الانتحار خطوته الأخيرة .. النرجسية التي تؤكد نفسها عبر ثقل
اللغة وهشاشتها ونتوءاتها وجسورها الصغيرة وانفعالاتها العارية .. ما يُشكّل الملامح
السردية للكتّاب الجديرين بالرفقة بالنسبة لي: كافكا .. بو .. كارفر .. جويس ..
دوستويفسكي .. نابوكوف .. كورتاثر .. جرح الاستيلاء الأبدي على الكتابة في ذاتها
.. تتوارى حقيقة أن كل قصة تعني الكتابة كاملة، تامة، وكلية، حيث كل ما يبدو خطأً
هو دليل ألوهة، محكومًا بأسبابه الخاصة .. حينما يطفو ذلك اليقين المترصّد في
العمق بأن الآثام الأسلوبية المتهكمة لا تمنح الشغف أحيانًا، وأن مقتنيات التقدير
الغامرة ليست منقذة بما فيه الكفاية، وأن ما يبدو أنها حرية استثنائية، معدومة
خارج الكتابة لفعل ما أريد حقًا؛ هي في الواقع جوهر المأساة .. مع كل قصة ثمة تذكير متجدد بخيبة الأمل النرجسية
.. ذلك لأنني لا أفعل ما أريده حقًا .. مع كل قصة ثمة مراكمة إضافية لإدراك الغياب
الفادح للهيمنة .. تنتهي "الكراهية المطلقة" بهذه العبارة: " ربما
لأنني أوثّق شعوري بأنني كتبت مجددًا الآن بطريقة خاطئة، وهذا أمر يجب أن يسبب لي
السعادة" .. ربما أكتب كي أحاول كل مرة أن أعطي تأكيدًا مختلفًا بأنني لم
أكتب ما أريده بالفعل .. ذلك الأمان النرجسي الملعون.
لا يعني استعراض وتحليل القواسم المشتركة بين نوفيلا "جرثومة
بو"، ومسلسل "قابيل" في مقالي المنشور على موقع "الكتابة"
الثقافي؛ لا يعني بالطبع أن النوفيلا والمسلسل ينتميان إلى فضاء حكائي واحد .. هذه
الجزئية ـ البديهية ـ لم يكن لها علاقة بموضوع المقال، ولهذا لم أشر إليها أثناء
كتابته .. لكن يمكنني الآن تدوين هذه الملحوظة التي لا تحتاج لأكثر مما يتطلبه التذكير
العابر بحقيقة واضحة، وهي أن ما تناوله المقال عن النوفيلا كان صورًا مبسّطة لجوانب
منتقاة من متاهتها، أو لنقل بعضًا من ملامحها المراوغة، أما فيما يتعلق بالمسلسل،
فقد امتلك المقال خلاصته وحدوده .. لا يمكن أن تضع عملًا كـ "جرثومة بو"
في مقارنة مع محاولة فنية تظل مسالمة مهما امتلأت بالدماء والجثث والأشباح وتعاطي المخدرات
والخطف والتعذيب والمرض النفسي، ومهما كانت هناك "قواسم مشتركة" ـ مثيرة
للشك ـ بينها، وبين القصة الحقيقية لمنصور عبد الرحيم.
لو أنني أكتب يومياتي مرة كل أسبوع أو شهر أو حتى كل ثلاثة أشهر لكان
ذلك كما لو أنني أكتبها كل يوم .. هذا ليس جيدًا، ولا محزنًا، أي أنه قد يكون
جيدًا من ناحية، ومحزنًا من ناحية أخرى .. لا أريد أن أشرح الأمر الآن، ولكن ما
يمكن قوله تعبيرًا عن ذلك أن تعاقب الأيام لا يعني إهدار الوقت الذي لا يمكن
تعويضه في العجز عن الوصول إلى غاية معينة، بل في مجرد الكفاح الفاشل لتمرير
الحقيقة لكل من أتكلم معه، أو يقع نظره على وجهي، أو حتى يعرف بوجودي قريبًا منه
على نحو ما، بأنني مرغم على البقاء متاحًا له .. على الجلوس أمامه .. على التحرّك
في المسارات ذاتها .. أنني لا أستطيع الهرب كي أموت في مكان آخر، محتجزًا داخل
عيون أخرى.