الأربعاء، 29 يوليو 2020

المقطوعة الأخيرة

يموت الآن .. يعرف ذلك جيدًا، لكنه ليس إلا الإدراك النشوان الذي تعوّده حينما يوشك على الانتهاء من مقطوعة موسيقية، وقد بلغ ذروته الخالصة .. كان ما يختبره هو المقطوعة الختامية التي تحتوي عمره كاملًا بينما تنهيه .. لذا فهي نشوة تتجسّد في بدنه المفتت بصورة أكثر سحرًا، وكأن رعبه الدائم من الموت الذي تغذّى على حياته كلها كان تمهيدًا طويلًا خاطفًا لتلك الطمأنينة الخارقة التي تُخرجه من الحياة.
لم يكن تعمّده إصابة نفسه بكورونا انتحارًا خفيًا، بل انسجامًا مع الإبادة كحقيقة ماورائية للعالم .. حينما ظهر الفيروس لم يفكر في مؤامرة من أي نوع، وإنما على العكس كان يؤمن أن لخالقه هدفًا محددًا وواضحًا .. أن يتألم ويحتضر ويموت بشر كثيرون جدًا في كل مكان بأداة من صنعه .. أن يستمتع خالق الفيروس بمشاهدة هذا لحظة بعد أخرى، كمن يتجوّل بين أشلاء الأسباب المتنكرة للحروب، والدوافع الملفقة للقتل .. كمن يحلّق في نقاء الإرادة الكونية، حيث يتحقق التناغم معها بقدر الاستجابة لمقصدها المتجذّر داخلك .. أن تعذِّب وتميت فحسب، لاسيّما من خلف ستار محصّن، بصرف النظر عن علة ذلك .. كان كورونا هو الاستجابة القصوى.
لم تكن النشوة فقط هي الناجمة عن الموسيقى التي يؤلفها، وإنما الحسرة كذلك .. كان دائمًا يعتبر مقطوعاته ـ رغم كل وحشيتها ـ أشبه بترويض قهري لما تستحقه الدنيا، وما يلائم وعيه بالوجود .. أشبه بإخضاع محتوم لذاكرته .. لم يكن قادرًا رغم محاولاته المستمرة أن يجعل تلك الموسيقى لائقة بأفكاره ومشاعره تجاه كل شيء، كأنها لعنة منذورة لمغافلته مهما فعل .. وصل به الأمر إلى نوبات من عدم التصديق: بعد كل ما حدث؛ كيف يكتفي بتأليف الموسيقى أصلًا؟! .. كان هذا العجز المتصاعد هو الجرح المستقر في عمق كل نشوة.
موته الآن ليس تقليديًا، بل هو الموت الجمالي المنشود الذي طالما انتظره .. المقطوعة التي قضى ماضيه بأكمله يحلم بها، ويعرف في هذه اللحظات أنه كان يتجهّز لتحقيقها: الصداع الفائر .. السعال الذي يمزق الرئتين .. الأنفاس اللاهثة .. دقات القلب المتلاحقة .. العرق الغزيز .. الرعشات القوية .. الضباب الثقيل في العينين .. الألم الذي يطحن العظام .. الانتفاضات الحارقة في الأمعاء .. جميعها ليست علامات الاحتضار بقدر ما هي نغمات وإيقاعات المقطوعة الأخيرة التي ينظّمها في عقله، ولا يسمعها أحد غيره .. لا يستوعبها إلا غيابه الموشك على الاكتمال .. لكنه ينتبه فجأة إلى أن هذه المقطوعة ستتبدد معه .. لن تبقى بعد موته بالرغم من رجائه أن تكون هي التذكير الوحيد به .. كان في احتضاره مكان صغير لضحكة بالغة الخفوت، وكأنها كانت النغمة الضرورية الناقصة قبل النهاية.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 28 يوليو 2020
اللوحة لـ (بابلو بيكاسو).

الأحد، 26 يوليو 2020

نصفي حجر

قد يكون هو الموت الأسوء على الإطلاق .. لا أحد يتمنى أن يموت أثناء زيارة أصدقاء شبابه المبكر له بعد انقطاع طويل .. لا أحد يتمنى ذلك، خاصة لو كان يرقد مشلولًا منذ سنوات عدة في حجرة الصالون التي تحوّلت إلى موضع انعزالي لنومه ومعيشته قبل مدة كبيرة ثم إلى سكن صغير لمرضه الذي فقد خلاله خطيبته ووظيفته وشقته التي كان ينوي الزواج فيها .. لكن هذا ما حدث ببساطة عصر يوم الجمعة 14 إبريل 1995؛ توقفت عن الكلام فجأة، وأُغمِضَت عيناك، ومال رأسك فوق الوسادة التي كان يستند ظهرك إليها، بينما استقرت ابتسامة خفيفة فوق شفتيك المطبقتين .. أسرع أصدقاؤك بمناداة أمك التي هرعت إلى الحجرة، وصعدت فوق السرير ثم جلست على ركبتيها بجوارك، وراحت تربت على خديك محاولة إفاقتك وهي تتوسل باكية إليك أن ترد عليها بالرغم من الحلم الذي رأته في منامها قبل أسبوع، واستيقظت منه على نحيبها، بعد أن أكد لها قرب موتك .. الحلم الذي لم يكن بمقدورها أن تحكيه لأحد .. أخذتك أمك في حضنها، وراحت تصرخ لربها كي يعيدك إليها حتى لو ظللت عاجزًا طول عمرك، وحتى لو بقي مرضك يعذبها حتى نهاية حياتها.
لم يوجّه أي شخص سؤالًا لأصدقائك حول ما كنت تقوله قبل أن تتوقف عن الكلام فجأة .. لم يسألهم أحد إذا كانوا سيستمرون في تذكر كلماتك الأخيرة التي سبقت إغماض عينيك، والتي ضاعفت حتمًا الابتسامة الخفيفة المستقرة فوق شفتيك من صعوبة استنتاجها .. لكن أبوك الذي بدأ الزهايمر منذ أعوام في التهام رأسه ظل يردد بعينين تسيل الدموع من شرودهما، وبصوت مختنق وخافت خلال الجنازة، وفي سرادق العزاء، وطوال الساعات التالية بأن هؤلاء الأصدقاء هم الذين قتلوك بطريقة خفية أثناء تلك الزيارة .. وكما انبعث هذا الإلحاح بشكل مباغت من توهانه الثقيل؛ تبدد فجأة أيضًا، ليستبدله بقراءة الفاتحة كل ليلة قبل النوم أمام صورتك المعلقة في الصالون، والتي كانت أمك قد أسرعت بتكبيرها ووضعها داخل برواز أمام سريرك بعد أيام قليلة من دفنك، كأنما تنتظر انتقال روحك إليها.
لم يكن أخوك الأصغر في البيت حينئذ، وعندما رجع فورًا بعد أن علم بالأمر؛ دخل إلى حجرة الصالون متمنيًا أن يكون وقت كاف قد مر لتغطية وجهك .. بالفعل وجد هزالك متواريًا بالكامل تحت الكوفرتة نفسها التي كنت تغطي بها جسدك كليًا أثناء النوم على النحو ذاته، كأنما كنت تتمرّن على وضعية الموت .. وجد أيضًا أخاك الصغير يجلس على الكرسي بجوار سريرك، وقد وضع رأسه بين كفيه منتفضًا بنهنهات متقطّعة، وحينما طلب منه التماسك والخروج من الحجرة؛ رفض مترجيًا أن يتركه معك لمزيد من الوقت .. خرج أخوك الأصغر إلى الصالة متفاديًا التطلع إلى وجوه الأقارب والجيران وبعض أهل الشارع الذين ازدحم بهم المنزل سريعًا، كأنما كانوا مختبئين دائمًا في فراغه حتى وصل إلى المطبخ حيث كانت شقيقتك الكبرى تقف هناك وحدها بملامح ذاهلة، أشبه بكدمات مرتعشة، منحوتة بدموع بكائها المتواصل.  
لكل بكاء ذاكرة .. تاريخ غائم أو ماض أكثر وضوحًا مما يمكن احتماله .. ربما استعادت أمك وهي تحتضن رأسك تلك اللحظة التي قدمت فيها بلاغًا ضدك ثم عادت ومعها شرطي إلى البيت كي يقبض عليك قبل أن يتدخل أبوك بإيقاف مؤقت وزائف لذلك الفصل الجديد من الكابوس، أو تلك اللحظة التي دعت ربها فيها أن يصيبك بالشلل، ثم بدأت تشعر بعدها بتنميل في ذراعك كإشارة دامغة للتطوّر الذي سيحوّل جحيمك الأزلي إلى مصير محتوم .. ربما استعاد أخوك الأصغر وهو يتأمل جسدك المغطى بالكوفرتة تلك اللحظة التي جذبك فيها وأنت عاجز عن الحركة من فوق المقعد الذي كنت تجلس عليه بجوار باب الشقة ليسقطك أرضًا ثم يجثم فوقك، ويضرب رأسك بلكمات متتابعة لم يوقفها سوى صرخات أمك .. ربما استعاد شقيقك الصغير وهو جالس بجانب جثتك تلك اللحظة التي أمسك فيها بجسدك ليرتفع به فوق سرير حجرتك القديمة، ويحاصرك في زاوية الحائط الملاصق له، ثم ينهال على وجهك بالصفعات القوية المتلاحقة، التي أجبرك الصداع الناجم عنها على لف رأسك بمنديل كبير طوال ما تبقى من اليوم .. ربما استعادت شقيقتك وهي تقف في المطبخ تلك اللحظة التي طلبت فيها من أمك بحدة حاسمة أن تدعو عليك بالشلل، متساءلة عما تنتظره حتى تفعل ذلك.
كان هذا أقصى ما بوسعهم القيام به في مواجهة شتائمك العاتية طوال الوقت، ومطواتك المشهرة دائمًا في وجوههم، وولاعتك المجاورة لجركن الجاز وراء باب حجرتك المغلق، وحطام أشياء المنزل التي ظلت تتناثر أسفل يديك وقدميك، ومهانتهم التي لم تتوقف عن توزيعها بين الناس.
لكن هذا ليس كل ما بقي منك .. تركت أيضًا صورًا فوتوغرافية كثيرة لحياتك مع أصدقائك في سنوات الثمانينيات، تخلصت أمك وشقيقتك بعد موتك من معظمها كي لا تتسبب "الآثام" التي تجسّدها في عذابك داخل العالم الآخر .. بدا كأنهما بهذا التواطؤ تستغلان ذكرياتك للتطهر من "ذنوبهما" التي لا تتعلّق بك وحدك .. تركت كذلك دفترًا يضم كتاباتك في تلك السنوات، عرف شقيقك الأصغر من أخويه بعد موتك أنك قد أوصيت به إليه خلال الفترة التي سبقت رحيلك حيث لم يكن هناك كلام بينكما .. أخذ شقيقك الدفتر بالإضافة إلى مجموعة من الصور الناجية من الإبادة، وظلت تلك الحصيلة كامنة في بيته زمنًا طويلًا جدًا .. في نهاية هذا الزمن، وبعد قراءة الدفتر والتمعن في الصور مرة بعد أخرى؛ أدرك شقيقك أن أباك كان محقًا حينما اعتقد أن أصدقاءك هم الذين قتلوك بطريقة خفية أثناء زيارتهم لك في ذلك اليوم .. ما هي تلك الطريقة؟.
جزء من رواية "نصفي حجر" ـ قيد الكتابة.
موقع "الكتابة" ـ 24 يوليو 2020

الاثنين، 20 يوليو 2020

سيرة الاختباء (18)

لم يكن هناك صراع، وإنما كان الأمر ـ كأي خدعة أخرى ـ منتهيًا قبل بدايته .. بالأحرى كان يستمر في مساره الحتمي بواسطة أجساد مؤقتة تؤدي رغمًا عنها استعراضًا شكليًا للصراع .. خرق متناثرة، تتطوّح بين طاولات المقاهي، ومقاعد الندوات، وشقق القرويين المؤجرة في مدينة لا تصنع "أبطالًا أدبيين" بل تجهّزهم لذلك فحسب بقدر استعدادهم للخروج منها في لحظة وشيكة .. أدوار نمطية، تستعمل ـ كالعادة ـ مؤدين غافلين، ليس بمقدروهم الخروج عن النص القدري المبتذل، وقد حان موعدهم المنتظر مع تجسيد مشهد قديم يتنقل عبر الزمن، ويتظاهر بكونه جديدًا أو مختلفًا، لكنه في حقيقته مجرد إعادة منتشية، تكرار محموم لهزل سخيف، تواصل الحياة من خلاله بداهتها الغامضة .. فقط على المؤدين أن يصدقوا أنها معارك حقيقية، وأن ثمة حربًا كبيرة ستُحسم على إثرها في النهاية .. تصديق لا يتطلب جهدًا؛ فهو يتصاعد بشكل تلقائي من جذوره المتشابكة في الذات، فقط يستلزم العناية المقدّرة بطبيعة الاختيارات الضرورية مما يتوهم أنه متاح بالفعل.
بالنسبة لي كانت أطراف المجابهة في زيف تلك "المعارك" واضحة ومحددة: البارعون في استغلال الحصانة الأخلاقية للشعر الأبيض، والتجاعيد المرتعشة، و"المنجز الإبداعي" الواجب تقديره، أو على الأقل التغاضي عن مساءلة صورته المتعالية، لمجرد انتمائه إلى "التاريخ"، ولكونه يعيش ما يشبه انقطاعًا نبيلًا أو رومانسيًا بالضرورة عن "حاضر فاسد" .. النائمون على بطونهم في حضّانات الهامش، ويحلمون بثقوبهم كمعجزات مضادة، يمهّد خيالها طريقًا انتقاميًا، أشبه بزفاف أسطوري نحو المتن، يمر عبر انتهازية التصعلك، ومكائد "الصداقة"، وجروح العالقين ضد إرادتهم في عقيدة "الشلة الأدبية" .. النزاع المتنامي في داخلي بين الاستمرار في الكفاح لتحويلهم إلى رفاق جدد لمغامرة طفولية قديمة لم تكتمل، أو إخضاعهم ـ منطقيًا ـ كمريدين لي، أو الانعزال التام عما يمثّله وجودهم في واقع ليسوا أكثر من امتدادات عفوية للكوابيس المستقرة التي خلقته .. كان مرور الوقت بحثًا مضنيًا عن التماسك .. تفاوضًا عسيرًا مع الارتباك المزمن .. لم يكن هناك معنى وسط كل هذه الفوضى غير أنه لا شيء قابل للتسوية، خاصة مع الإلحاح العقلي للتوصل إلى حل عاجل .. إلى سكينة حاسمة، تهيمن على الأسرار كافة، وتتلاعب بالأرواح كيفما تشاء، وتستطيع حماية نفسها من التشوش المتفاقم.
ظللت سنوات كثيرة متأرجحًا داخل حصار ما اعتدت تسميته بـ "الحواف المائعة"، أو "العتبات الضبابية" .. مفترق الطرق في التعريف الكلاسيكي للقصة القصيرة كثمن قهري لكتابتها .. لكن القصة حينما تُكتب كل مرة لن تكون فقط الجائزة التعويضية التي تستدرك بها هزيمة مستيقظة في الذاكرة، متجاوزًا ما تتصوّره حدودها المباشرة؛ وإنما ستكون أيضًا حفرًا جديدًا في الجروح المتداخلة لتلك الهزيمة، اكتشافًا آخر لعمق مستعر في أغوارها المبهمة، يتخطى الملامح الملموسة للواقع الذي ترتجف خطواتك في وعورته .. ستكون القصة تماديًا ماكرًا في التورط.
حتى بعدما تظن أنك أغلقت على نفسك أبواب ونوافذ تلك العزلة المنشودة لزمن طويل بما يشبه حصنًا اكتمل متأخرًا لدرجة تعجز عن تصديقها؛ لن يتوقف ذلك المرض عن إبقائك تحت رحمته: هل ينبغي أن تدرك من مكانك البعيد آثار تلك القصص التي كتبتها في حياة كل منهم، بحيث تتأكد من اقتران موتهم بالألم الناجم عن أن الكلمة الأخيرة كانت لك، وأنك أنت الذي ضحكت في النهاية، أم أن عليك مواصلة الكتابة فحسب؟!.
موقع "الكتابة" ـ 19 يوليو 2020
اللوحة لـ Edvard Munch

الثلاثاء، 14 يوليو 2020

زوجة جميلة تقرأ لكاتب رومانسي

هو ليس أفضل منك أو أقل براعة
قراءتي له ليست نكاية بائسة
لامرأة لم تعرف مطلقًا إلا كلمات زوجها
هو مجرد نقيض لك
ناعم .. مراع .. مُرض للتوقعات
أما أنت فتدرك نفسك جيدًا
تتباهى دومًا بالحدة .. المراوغة .. تلغيم الإشباع
حسنًا ...
ربما كان في الأمر انتقام شاحب من الماضي
ثأر منتظر لزوجة تجاوزت الأربعين
من رجل كذب عليها حينما كانا طفلين
بشأن الطريق الذي ستصل من خلاله إلى هذا العُمر
لكن ذلك ليس مهمًا الآن
أنا أحتاج فقط، وأكثر من أي وقت مضى لما يمتلكه
لن أتوقف عن قراءتك
أريدكما معًا
ليس بالتبادل، وإنما في اللحظة نفسها
كإلهين متنافرين
يخلقان تصالحهما الخاص في داخلي
لا أريد سوى أن أجسّد بدقة تامة
القصة التي كتبتها أنت منذ سنوات عن ثلاثتنا
وكنت تظن أنني سأتخيلها فحسب.
ممدوح رزق
اللوحة لـ Cagnaccio di San Pietro

السبت، 11 يوليو 2020

الحياة كوباء عند عبد الهادي الجزار وسرن كيركجور

اكتشفت في زمن الكورونا أنني لا أميل للعودة إلى اللوحات التي تجسّد الأوبئة القديمة بل إلى تلك التي تصوّر الحياة نفسها باعتبارها وباءً ممتدًا .. قد يبدو هذا مناورة ترويضية للتهديد المباشر للوباء، أو ما يشبه تخففًا من الوعيد المتنامي لوحشيته .. لوحات "عبد الهادي الجزار" تمثل ذلك بصورة حادة وناصعة من خلال قرائن محددة: العقاب الغيبي .. طقوس التطهر، خاصة في تجلياتها الأسطورية الشعبية .. التمادي في انتهاك المحظور كتناغم مع الشر المطلق الذي يسبق العقاب، وكجزء من التطهر ذاته.
انتهيت مؤخرًا من قصة قصيرة عن شخص يؤمن بأن ما يقف وراء وباء كورونا مجرّد رغبة في الاستمتاع الخالص بتعذيب البشر وقتلهم على نحو شامل، بنقاء تام من المقاصد الأخرى، وهو ما يدفع ذلك الشخص لتعمّد إصابة نفسه بالمرض، بوصفه انسجامًا جماليًا، قبل أن يكون واقعيًا، مع الحقيقة الماورائية للعالم التي تمثلها هذه الرغبة المنتشية في تدبير إبادة جماعية لا يمكن تعطيلها مبكرًا.
يحيلنا هذا إلى الامتزاج الوجودي عند "سرن كيركجور" بين "التصرف كما لو قد جيء بك إلى العالم من عند تاجر رقيق"، وبين "أن تترك نفسك للشيطان ليطهّرك من كل رجس، حيث ذلك هو المذاق الكامن في غموض الخطيئة"، وبين "الاستسلام اللامتناهي كمرحلة أخيرة تسبق الإيمان".
الوباء في لوحات "عبد الهادي الجزار" هو إرادة كونية تتقدم على الحياة، يجدر مسايرتها عن طريق التناثر الشهواني بين متناقضاتها: لاحظ العيون التي يسكنها الاحتضار، ومع ذلك يبدو كأنها تراقب سرًا خارج ذاكرتها .. الملامح المنهرسة، التي تظهر كما لو أنه تم ترميم أجزائها غير المتناسقة بعد تحطمها في الأزل، الأمر الذي يجعلها بعد تلاحم باهت أقرب إلى خلفيات خشبية لمرايا مخبوءة .. الأجساد المتواطئة في احتفال كابوسي للفناء، كأنما كل لوحة قناع ماكر لقبر مفتوح، تتزاحم داخله المصائر .. بهذه الكيفية يمكن أن تتخطى قراءة لوحة كـ "الكورس الشعبي" مثلًا التأويل الشائع المتعلّق بـ "مأساة المقهورين" .. كذلك لوحات "العائلة"، و"تحضير الأرواح"، و"المجنون الأخضر" كنماذج؛ فالتعاويذ والطلاسم والتشكيلات الطوطمية والسراديب والمجاذيب والأضرحة والأوشام ليست علامات ميتافيزيقية للدجل والخرافة، أو مجرد توظيفات رمزية للميثولوجيا الشعبية، وإنما لعب جدلي مع القدر، الإثم، الخلاص، اندماج سحري يعادل ذلك الذي كان لدى "كيركجور" بين الأوهام المتنافرة للطمأنينة والخلود. 
تفضح العيون في لوحات "عبد الهادي الجزار" الإبهام المتجذر في فكرة العقاب، وبذلك يكون التطهر تمجيدًا ملغزًا للخطيئة، حيث التوحد مع "الوباء الممتد" أو فكرته البدائية "الخالقة" والمقدسة التي يتم الخضوع لها.
منتدى الكتاب العربي ـ 8 يوليو 2020

الأربعاء، 1 يوليو 2020

قصص قصيرة جدا للكاتب الأميركي شون هيل

نسيان
احتضنت “دارلا” “ريك ” في الطائرة.. كانا متجهين لقضاء شهر عسلهما الثاني.. 
تغيرت الأمور منذ الغيبوبة التي أصابتها.. منذ أن نسيت كل شيء عنه.
انتظار
فقط تقبع “جوان” هناك؛ منتظرة “بيرت” حتى ينتهي.. لكن يبدو أنه أخذ وقتا طويلا.. 
كم من الوقت يمكن أن يعيشه مليونير عجوز في الخامسة والثمانين.
وداع
قضى “جاك” حياته يعمل في الخشب.. لا وقت للعائلة.. 
الآن، وعلى فراش الموت؛ تتجمع التماثيل حوله كي تودعه.
شهر العسل
وصلت البطاقة البريدية في مايو؛ (آسفة) كانت كل ما قالته..
على الأقل أعرف الآن أن “بريدجيت” ما زالت على قيد الحياة.. ليتها تظهر الآن حتى نقضي شهر عسلنا.
ابن
فتحت الباب، وجدت طفلا يحمل ملاحظة “هذا منك”..
حاولت أن أتذكر من تلك التي نمت معها.. كان ينبغي عليّ فورا الإقلاع عن الشرب.
حياة تالية
كان “ديريك” محاصرا عند حافة هاوية عميقة جدا، والروس يصوبون سكاكينهم إليه..
تردد قليلا ثم قفز مراهنا على تناسخ الأرواح.
حانة الشعراء ـ 30 يونيو 2020

الاثنين، 29 يونيو 2020

هامش الرجل الذي ربما يكون طبيباً نفسياً، أو طفلاً يلعب River Raid

قسوة قادة الفرق الجرمانية المأجورة في إيطاليا أقل بشاعة من تعامله معي أحياناً كأبيه، أو أمه، أو السيدة (نون)، أو أي شخصية أخرى، حيث يُبدع في خلق اللغة العدائية اللازمة للتعامل مع ذلك الواقع.
يمكن لنا تبادل الشخصيات باستمرار داخل لوحات (ادموند بلير ليتون) عن القرون الوسطى؛ لكنه ربما يصر على التمسّك بشخصية الموسيقي، والشاعر الحزين، المنكسر، خائب الأمل، ويعطيني شخصية الحبيبة، الجميلة، التي تضع يدها على كتفه، وتحاول بعينيها، وبصوتها أن تُعيد إليه الحياة .. الحالة الوحيدة التي قد يرضي حينها بأخذ شخصية الحبيبة هي تفكيره في الانتحار.
أثناء كلامه عن (الجاز) يتعمّد الهمس؛ فأضطر للاقتراب منه أكثر كي أسمع جيداً ما يقوله عن (نيو أورلينز)، والمهاجرين، والعبيد، وحقول القطن، و(الفالس)، و(البولكا)، والألحان الإفريقية، وأغاني الكنائس، والصرخات.
أصابني الإحباط الأقوى لحظة غياب الانفعال، والتأثر عن وجهه حينما دخل العيادة ذات يوم، ووجد ملابس العصور الوسطى معلّقة على الحائط، وأسلحتها متراصة فوق المكتب، وصوراً لخانات فقراءها، ومسافريها مطبوعة على الـ (تي شيرت) الذي أرتديه.
ما الذي يعنيه أن يحلم دائماً برجل عجوز، جالس في دكان قديم، ضيق جداً، لا يعرف في أي حارة عتيقة يوجد، ولا ما الذي يبيعه، بل أن ملامح العجوز نفسه تتغير كل مرة، لكنه يضع دائماً صورة (السادات) بالأبيض، والأسود وراءه فوق الجدار .. حلم يراه في النوم، وفي اليقظة.
بالطبع التنبيه الخاص بغلق الموبايل لا نقاش فيه، لكنه أحياناً يتعمّد تركه مفتوحاً، بل، ويتعمّد أحياناً أن يطلب من أحدٍ ما الاتصال به وقت الجلسة كي يُسمعني الرنّة .. وجدتها مرة صوت (محمد عبد الوهاب)، وهو يهنئ (محمد التابعي) برجوعه من (رأس البر).
لا شيء يدعو للخجل .. الخجل نفسه ليس مكروهاً بالتأكيد، بل دعنا نقول أن عليك أن تترك نفسك لتلقائيتها .. خذ بالك أن مقاومتك للتلقائية هو أمر بديهي أيضاً .. أنت تفهم بالطبع أنني أتحدث عن كلامك الواثق، المتدفق من يقينك عن عدلٍ ما .. عن مبادئ عامة، وأخلاقيات ثابتة يمكن الرجوع إليها، والقياس على بداهتها في جميع الأحوال .. كل هذا عادي جداً، فإذا كان عليك أن تشعر بنوع من الإحراج نتيجة إيمانك السري، المُضمر داخل كل كلامك الواثق عن يقينك؛ فلا تأخذ ذلك الإحراج على محمل شخصي كأنه بقعة طبيخ في قميصك النظيف، المكوي جيداً .. هذا الإحراج ليس فيه مشكلة، وإيمانك السري بأن ما يُعد دوافعاً عنيفة، أو سيئة، ومريضة هو بمثابة الخير الخالص ـ هذه دعابة لأنك تعرف أنه لا وجود لشيء يحمل هذه الصفة ـ هذا الإيمان ليس فيه سمة الحقارة، أو الفاشية، أو الظلم .. كل هذا لا معنى له .. مجرد كلمات تُستخدم لادّعاء الجدية .. لغة مخصصة لتدليل العبث بمزيل عرق يُسمى الحقيقة .. كما أنه لا بأس لو كنت ـ بأي معيار استهلاكي ـ حقيراً، أو فاشياً، أو ظالماً .. اعتبرها لعبة يا أخي، كل ما يمكن أن يحدث لابد، وحتماً أنه جزء منها .. رغبة شهوانية لازمة لوجودها. 
لا يفتح شات فيسبوك مطلقاً، وهذا يؤلمه .. في المرات النادرة التي يفتحه فيها، لا يبادر بالتحدث مع أحد، وهذا يؤلمه أكثر .. حينما يغلق شات فيسبوك في نهاية اليوم الذي شهد إحدى المرات النادرة التي فتحه فيها دون أن يبادر أحد بالتحدث معه فإن هذا يؤلمه أكثر، وأكثر  .. لحظتها يفتح (الصوت المنفرد) لـ (فرانك أوكونور) على الفور، ويقرأ الجملة الافتتاحية، المهووس بها: "يا للعجب! لقد كان في هذا المكان يوماً ما رجل يُدعى (نيد ساليفان)، وقد حدث له شيء غريب في ساعة متأخرة من إحدى الليالي، وهو قادم في طريق (فالي رود) من (دارلاس) ".
من رواية "الفشل في النوم مع السيدة نون" ـ دار الحضارة 2014
موقع "الكتابة" ـ 28 يونيو 2020

الجمعة، 26 يونيو 2020

كيف خلقت الموتى (1-3)

ربما كنت في ذلك الوقت مازلت أقرأ مجلات (ميكي)، و(سمير)، و(ماجد)، و(مجلتي)، و(العربي الصغير)، وقصص (المغامرون الخمسة)، و(المغامرون الثلاثة)، و(الشياطين الـ  (13ولم أكن قد بدأت بعد في قراءة (روايات مصرية للجيب) .. ربما كنت قد كتبت قصة، أو قصتين، أو ربما لم أكن قد بدأت في الكتابة أصلاً حينما تعوّدت على التمدد في سريري، أو الوقوف في منتصف الصالة وسط حجرات البيت، محدقاً في الفراغ الثقيل، الممتد والمتجمّد داخل كآبتها، بأقصى ما يمكن أن يصل إليه حزن وخوف طفل .. كنت أقول لنفسي بيقين لا يمكن للشك اختراقه بأن شيئاً كبيراً وحاسماً سيحدث، ويضع نهاية للأمر، وأنني ذات يوم سأكتب رواية أحكي فيها كل ما جرى لنا .. لم أفكر أبداً في احتمال أن هذا الشيء الكبير الحاسم قد يكون الموت .. الموت كان بعيداً جداً، أشاهده في التليفزيون ككذبة مسلية، وأسمع عنه كحقيقة مروّضة بأذنين آمنتين .. ربما يدل على ذلك الكليشيه الذي استعرته كإسم للرواية من قاموس العاطفة والحكمة الذي يحرّك خطواتي الصغيرة: (نبض الأمل) .. الطفل لابد له أن يضع التمسّك بالعدالة الفردوسية للمستقبل، وعدم الاستسلام لليأس كتعريفٍ نقيٍ للعالم مهما كان فائضاً بالآلام والشرور غير المحتملة .. كنت متأكداً من أن حياة أسرتي لا يجب أن تستمر بتلك الوتيرة البشعة، المتصاعدة من الصراع والعنف والخصامات الصلبة، وأن الزمن يدخر الحد اللازم الذي سيوقف المأساة .. لكنه ليس منقذاً بالضرورة .. حد ضبابي، غامض تماماً، يسبح فيما بين الضوء الشاحب، والعتمة الكاملة، ولا يمكن بالطبع تصنيفه خيراً أو شراً، لكنني كنت واثقاً من حتميته .. كنت أفكر ـ وهو ما نويت شرحه في الرواية التي سأحكي فيها كل ما جرى لنا ـ في أن كل فرد من أسرتي يمتلك تصوره الخاص عن (الأمل)، أي الوصول إلى دنيا أكثر جمالاً ومثالية، وأن هذا الاختلاف هو المسؤول عن زراعة الضغائن، وإشعال الصدامات، ضد إرادة النوايا الطيبة، التي هي الأساس المخبوء، الكامن في أعماق الجميع .. كنت غائباً للغاية، ومسجوناً برعبٍ متوسّل للقدر داخل الحدة المهينة للصخب المتواصل من الشجارات العامة، ولم أكن منتبهاً على الإطلاق إلى الغرابة الشخصية لوضعي الأسري، الذي لم أعثر ـ حتى الآن ـ على شبيه له .. حينما جئت إلى الحياة كان والديّ في الأربعينيات، ويفصلني عن أكبر إخوتي سبعة عشر عاماً، وعن أقربهم لي خمس عشرة سنة .. كأن أسرة عجوزا قررت أو حصلت دون قصد على شاهدٍ يختزن لحظاتها الأخيرة .. سجل توثيق بشري يجتمع فيه خلاصة تاريخ لم يعش سوى أقل فترة منه، وأصبح الآن على وشك الانتهاء .. كإنني بهذه الكيفية، وعلى نحو أدق لم أجئ إلى الحياة، وإنما إلى الموت .. كأن كل ما كنت أراه وأسمعه من حولي كان ينتمي إلى بشر لا يخاطبون الحياة بل يمهدون عبورهم إلى الموت .. دائماً أقول أنني شاركت أهلي وداعهم للعالم أكثر مما شاركتهم العالم نفسه .. بالفعل لم يُخذل المنطق، وبدأت أعيش الموت فعلياً قبل أن أُكمل العشرين من العمر .. بالطبع ذلك لم يكن دليلاً كافياً على سلامة التوقع الذي تكفلت أعمار أسرتي بتكوينه؛ إذ أن بشراً كثيرين يشهدون موت أفراد من أسرهم في سنٍ أصغر، إنما ما كان دليلاً حقاً ليس على سلامة التوقع، بل على ألوهيته هو أن الموت لم يتوقف عن التعاقب السريع بعد المرة الأولى لعمله .. مات أخي الأكبر، وبعده بأربع سنوات ماتت جدتي، وبعدها بسنة واحدة ماتت أمي، وبعدها بثلاث سنوات مات أبي، وبعده بتسع سنوات مات أخي الآخر .. ألوهية المنطق لابد لها أحياناً أن تتسم بشيء من روح الدعابة؛ فالموت لم يأخذ أحداً من أصحاب الأعمار الكبيرة أولاً، وإنما افتتح مسيرته بشاب في الثلاثينيات .. كأنه كان يخبرني بأن الطريق التقليدي الذي سيقطعه داخل البيت الذي وُلدت فيه ينبغي أن يشهد خطوة مفاجئة، حيث لا تذهب تلك الجائزة الهزلية المرعبة إلا لناسٍ مثلنا، يستحقون إثارة إضافية على الفناء .. الوعي المتزايد بذلك الترتيب، وتفاصيله، ونتائجه سيكون له الأثر الأكبر في تحويل (نبض الأمل) إلى (خلق الموتى).
موقع "الكتابة" ـ 23 يونيو 2020

السبت، 20 يونيو 2020

وجه الحائط

ثمة لحظة يمكن أن يشبه فيها وجه المرء تلك المساحة الصغيرة التي ينظر إليها في الحائط، والأشبه بدائرة محددة بخط وهمي، غير منتظم .. اللحظة التي يكون متيقنًا خلالها أن هذه النظرة الصامتة هي آخر ما يملك أن يفعله في الحياة .. حينها؛ ستكون تلك المساحة الصغيرة في الحائط هي وجهك الأكثر أصالة، الذي لن تفقد ذاكرتك ملامحه بمجرد إغماض عينيك .. لن يمكن للأنفاس والنظرات والكلمات التي تتساقط من هذا الوجه أن تتنكر في وجود آخر، بل ستظل محتفظة بطبيعتها كفضلات قسرية، مجهولة المنشأ .. ستكون هذه الدائرة هي الوجه الذي لن يفنى بعد موتك حتى لو تحوّل الحائط إلى ذرات غبار متلاشية .. ربما خاصة لو كانت ملامحك لشخص يعجز عن تصديق ما أهدره خلال سنوات طويلة، ولا يعرف كيف يمكنه التعويض فيما تبقى من ثوان قليلة، ليست مضمونة حتمًا .. ربما خاصة لو كانت الأحلام التي ترجو استدراك الماضي من أجلها قد تبددت بالفعل.
عندما يصل المرء إلى تلك النظرة سيصبح منطقيًا حقًا أن تحل تلك المساحة الصغيرة في الحائط موضع وجهه داخل الصور الفوتوغرافية في البراويز والألبومات وبطاقات الهوية .. لن يكون غريبًا على الإطلاق لو استهدفتها القبلات والصفعات والأقنعة .. سيصير بديهيًا أن يكتب غريب لم يراوده أدنى شك في كونه يعرفك جيدًا حكاية ما عن حياتك المنتهية تبدأ بـ "استيقظ من النوم ثم غسل الدائرة المحددة بخط وهمي غير منتظم"، وفي منتصفها: "لم يعد بوسعه سوى التضرع إلى السماء بتلك المساحة الصغيرة الخاشعة على الحائط"، ثم يختتم الحكاية: "وحينئذ أشرقت الدائرة التي ظل ينظر إليها طويلًا بسعادة كاملة".
أنطولوجيا السرد العربي ـ 17 يونيو 2020
اللوحة لـ  Andrew Wyeth

"الموت العجيب لطائر" في مجلة "الدراويش" الإسبانية.

الترجمة الإسبانية لقصتي القصيرة "الموت العجيب لطائر" تُنشر في مجلة الدراويش الأدبية التي تصدر قريبا في اسبانيا .. الترجمة للشاعر والمترجم العراقي الأستاذ حسين نهابة، وسيتم نشرها أيضًا في الجزء الأول من "الموسوعة المعاصرة للقصة القصيرة العربية".

الأحد، 14 يونيو 2020

نبوءات لا مرئية

لكن صورة الأبيض والأسود هذه تبدو كأنما تم التقاطها للدموع المكتومة التي تلمع في عينيّ وهما تحدقان بألم مصدوم ورجاء معاتب .. تم تفسير هذه النظرة بسقوطي من فوق كرسي المصوّر قبل لحظات من التقاط الصورة بعد أن وضعتني أختي هناك ثم تركتني مبتعدة عن العدسة .. أخبرتني شقيقتي بأنني انزلقت من حافة الكرسي الجانبية لأسقط جالسًا بنفس وضعيتي، كأنما الكرسي هو الذي تبخر من تحتي .. قالت أنني لم أبك بل تجمدت الدموع في عينيّ بهذا الشكل الذي تم توثيقه بين أربعة أطر صغيرة .. هي تقريًبا أول صورة يتم التقاطها لي بما أنني لم أصادف حتى الآن صورة أقدم منها، أما السقوط فلم يكن الأول، حيث قيل لي أيضًا أنني سقطت قبل هذا اليوم بعامين، أي حينما كنت رضيعًا، ولكن هذه المرة من فوق السُفرة الكبيرة التي كانت توجد في صالة البيت حينئذ، وبينما كان أفراد أسرتي يتناولون الغذاء عليها .. وقعت من هذا الارتفاع الشاهق لترتطم رأسي بالأرض، ومع البكاء والصراخ أخذ ورم مفزع ينمو في موضع الألم، ثم استغرق وقتًا طويلا في الاختفاء.
أظهر في صورة الأبيض والأسود حتى النصف الأعلى من جسدي داخل إطار مرآة مزخرف، كبير، لونه أبيض، ومنقوش في قمته اسم صاحب الاستديو (فايق) .. كرّس هذا الإطار عبئا رمزيًا عنيفًا يجابهني دائمًا كلما تأملت هذه الصورة؛ إذ يحاول أن يفرض حقيقة لم أصدقها أبدًا وهي أنني أنظر في مرآة، أي إلى نفسي .. منذ طفولتي أي منذ بداية الإدراك بأن هناك لحظات ومشاهد يمكن تثبيتها والاحتفاظ بها داخل براويز وألبومات؛ لم أقدر على استيعاب أن هذا الطفل الذي يوجد في الصورة هو أنا مثلما يتعامل الآخرون مع صورهم الطفولية بإيمان كامل أنهم حاضرون فيها .. أفكر في وجهي بينما أتمعن في تفاصيله فلا أجد تشابهًا أو بالأحرى لا أعثر على صلة:  شعره الغزير الناعم بخصلات منسدلة على جبهته، نظرته المرتعشة بالخوف والذهول، أنفه الأفطس، أذناه، فمه المفتوح بشفتيه السمينتين لتمرير الأنفاس التي أثقلها البكاء المكتوم في صدره .. لدي يقين تام بأن الفرق بين هذه الملامح وملامحي ليس مجرد اختلافات ترجع إلى التأثير الحتمي للزمن، بل هو انفصال جذري؛ فهذه التفاصيل من المؤكد أنها تخص طفلا آخر .. لكن هذا الانفصال ليس ناجمًا بالتحديد عن الملامح بقدر ما يكمن في الروح التي تعطي إيحاءات عن وجودها من خلال هذه الملامح .. الانفصال يكمن في وعي هذه الروح بالألم .. في تفسيرها للألم .. كان هذا الطفل خائفًا ومذهولا ومع ذلك فإنني لا أمتلك مطلقًا أي معرفة عن هذا النوع من الخوف أو الذهول الذي تم الاحتفاظ به في تلك العينين.

* * *
أشاهدها عبر كلماتها ودموعها ورعشة صوتها وهي تزيح الأغطية ثم تصعد إلى السرير لتساعد جسد أبي الثقيل المتيبس على الجلوس، قبل أن تسحبه بصعوبة  لتُنزل قدميه من حافة السرير، ثم تُحضر الماء والصابون والمطهرات والأدوية والملابس النظيفة والمراهم وضمادات قرحة الشرج وهي تدعو على نفسها بالموت .. تُمرر ذراعيها تحت إبطيه لترفع سبعين سنة هامدة في قاع الزهايمر وتتحرك بها هذه الخطوة العسيرة، كأنما تنقل القدر نفسه من السرير إلى الكرسي .. تقف لحظات لتسترد أنفاسها، ولتتأمل عيني أبي وهما تحدقان إلى وجهها كجثة شاردة لا تتذكر أي شيء، وخصوصًا في هذه اللحظة .. لا تتذكر أنها أنجبت بنتًا في يوم ما، كأن هذا النسيان شرط خروجها من الحياة عبر الثقب الطفولي الذي دخلت منه .. تغلق باب الحجرة كي لا يصاب بالبرد فيزداد شقائها، ثم تخلع عنه كل ملابسه، وتنزع الضمادات الملوثة كي تبدأ في تنظيفه بالماء والصابون دون تجاهل لأي جزء مهما كان ثم تجففه، وتضع المطهرات والمراهم والضمادات الجديدة ثم تلبسه الثياب النظيفة .. تتركه لتغيّر ملاءة السرير والبطانية ثم تُحضر الطعام المهروس في الخلاط لتجلس بجانبه وتطعمه بالملعقة متوسلة إليه وهي تبكي أن يفتح فمه .. يبصق الطعام في وجهها فترفع الملعقة ثانية، وتلح عليه من جديد، وهكذا يمكن أن يستغرق الانتهاء من طبق صغير قرابة الساعتين دون أن يفرغ تمامًا .. تعطيه الأدوية، وحينما يبتلع الحبوب والكبسولات دون أن يبصقها كالعادة تشكر السماء على هذه النعمة .. لكنها اليوم حينما أدخلت ذراعيها تحت إبطيه وأعادته من الكرسي إلى السرير بالعناء المألوف ثم قررت أن تعدّل الوضعية غير المنضبطة لياقة بيجامته، وحينما سحبت يدها بعد أن فعلت ذلك؛ مر الطرف المسنون للإسورة التي في معصمها على الطرف الليّن من أذنه دون أن تنتبه .. رأت دماءً غزيرة تتدفق من هذا الجرح فصرخت وأسرعت بإحضار البن والميكركروم والقطن والشاش والبلاستر لتحاول كتم النزيف فلم تنجح إلا بعد دقائق طويلة بدت كأنها أضاعت ما تبقى من عمرها .. يرتفع نشيجها كأنني أرى قلبها متناثرًا في ظلام صدرها، وكأن دماءها هي الأخرى ستندفع من فمها لتختلط بطوفان الدموع الذي أغرق وجهها .. تحكي كيف ارتجف جسد أبي لحظة انفتاح الجرح وتدفق الدماء .. كيف ظلت عيناه ترتعشان وهما نصف مغلقتين، بينما يهز رأسه بدهشة .. نعم بدهشة فقط .. كان يشعر بألم فظيع في أذنه، ولكنه لم يكن يدري كيف يجسّده إلا بالحيرة كما لو أن شخصًا ما قد قال له كلمة غير مفهومة .. كان مجبرًا على التعبير عما يحسه بأدنى صورة ممكنة .. أخذته في حضنها وظلت تقبل رأسه وتقول له ببكاء محموم: (أنا آسفة .. حقك عليا .. سامحني .. حقك عليا .. والله ما قصد) .. نظر إليها فرأت دموعًا صغيرة محتبسة في عينيه .. كأن هذه الدموع غير خاضعة لقدرته على تجسيد الألم أو لانعدام هذه القدرة، بالضبط مثل ارتجاف جسده ورعشات عينيه نصف المغلقتين .. لكن احتباسها في نفس الوقت أكد أنه كان عاجزًا عن جعل هذه الدموع تنفجر كما يليق بالألم الذي يشعر به .. كان شيئا راجعًا لإرادة لم يعد يمتلكها.
جزء من رواية قيد الكتابة
موقع "الكتابة" ـ 13 يونيو 2020

الأربعاء، 10 يونيو 2020

سيرة الاختباء (17)

الفقرات التالية من قصتي القصيرة "علبة الرماد" المنشورة بموقع "قديتا" في 30 أكتوبر 2010:
"ـ منذ سنوات طويلة تعرفت أنا وصديق لي - وهو قاص أيضًا بالمناسبة - على أديب كبير السن مخلص في كتاباته للقيم والمبادئ التي رسختها كلاسيكيات الأدب الروسي. كان رجلا مهذبًا وطيّبًا بحق وكان يعاملني أنا وصديقي كابنيْن.
ـ كان لهذا الأديب ابنة جميلة في مثل عمري أنا وصديقي تقريبًا وكانت تكتب الشعر وتتسم طباعها بالعفوية والمرح. ولأن صديقي كان - على العكس مني - وسيمًا وجريئًا فقد نجح خلال فترة قصيرة في تكوين صداقة قوية معها في حين ظلت علاقتي بها لا تتجاوز التحيات المقتضبة الخجولة - من جانبي طبعًا - والكلمات القليلة العابرة المحكومة بحرصي المرتبك على ألا تتلاقى نظراتنا بشكل مباشر. كنت أتحسّس بعينيّ جسمها من بعيد وهي تتحدث مع صديقي وتضحك معه بينما رعشة لذيذة ومؤلمة تحرق روحي.
ـ ذات يوم أخبرني صديقي بأنه كان بالأمس في منزل الأديب الكبير وأن ابنته الجميلة أخذته إلى غرفة نومها كي تطلعه على مكتبتها وأنهما ظلا جالسين في الحجرة مدة طويلة بينما أبوها وأمها يلعبان الشطرنج في الخارج. ورغم أن صديقي أقسم لي بأنه لم يحدث أي شيء بينهما إلا أنني لم أكن في حاجة لدافع أقوى حتى أقرر الانتقام بأيّ شكل. كتبت في نفس اليوم قصة قصيرة؛ كانت في الحقيقة سردًا تقريريًا سريعًا لموقف اختلقه خيالي الهائج بالرغبة في شفي الغليل ومؤسس على ما أخبرني به صديقي. كانت القصة عن بنت يزورها صديقها في منزلها ثم يقوم بـ “فتحها” داخل غرفة النوم بعدما طلبت منه أن يدخل كي يطلع على مكتبتها بينما والداها جالسان بالخارج يلعبان الشطرنج. كنت أستحضر أثناء الكتابة الدفء الناعم لجسد البنت الجميلة والذي كان توهجه يتدفق من وراء ملابسها بمكر شهواني منسجم بشراسة مع الخفة الطفولية لوجودها، بحيث كانت تبدو دائما كأنها تتربّص بكل ما يصادفها في العالم حتى تجعله يشاركها الرقص داخل حلم استثنائي.
في اليوم التالي قرأتُ القصة في الندوة الأسبوعية بحزب التجمع التي كان يديرها الأديب الكبير وأمام ابنته وصديقي وأمام كل الكتّاب الذين يعرفون أن الأديب الكبير يحب لعب الشطرنج مع زوجته وأن لديه ابنة وأن لدى ابنته صديق يحتمل فعلا أن يزورها في منزلها.
ـ ابتسم الأديب الكبير بمنتهى الحزن والأسى بعدما انتهيت من القراءة وبصوت خفيض وشاحب قال لي: “هذا ليس مستواك في الكتابة”. ثم أدار رأسه ليثبت عينيه بعيدًا عني وعن عيون الجالسين الذين كان من الطبيعي أن تنشط في وجوههم ابتسامات واسعة وهم يوزعون نظراتهم المتخابثة بيني وبين الأديب الكبير وبين ابنته وصديقي الجالسين بجوار بعضهما. تكلم عن القصة شخصان أو ثلاثة تقريبًا وأجمعوا - كما توقعت - على أنها أقل القصص التي سمعوها مني ولكن ما لم أتوقعه هو دفاعي عنها بعدما فرغ هؤلاء من حديثهم فوجدت نفسي مندفعًا بإصرار حاد في شرح المفارقة بين “لعب الشطرنج” وما يستدعيه من صلابة ذهنية وتركيز عميق وقدرة على توقع جميع الاحتمالات والتعامل معها وبين ما يحدث للابنة التي سُمح لها بأن تأخذ شابا إلى غرفتها في حضور والديها الواثقين - بوصفهما لاعبي شطرنج - في إمكانيات السيطرة والتحكم التي يتمتعان بها. الأديب الكبير الذي ظل ساكتا بملامح متجهمة أثناء النقاش والذي استكمل الندوة بنفس الملامح من دون أن ينظر إليّ ومن دون أن يستجيب لنظراتي المعتذرة التي استمرت تحدق في وجهه وترجوه أن يلتفت لي ويكلمني، هو الذي صافحني بعد انتهاء الندوة وهو الذي سألني عن أحوالي وبينما كان يحاول أن يستعيد ابتسامته الرقيقة المعتادة قال لي إنه سينتظر أن يسمع مني قصة أفضل قريبًا. في هذه اللحظة تمنيت أكثر من أي شيء آخر أن أقبّل رأسه وأخبره بأنني آسف لكنني لم أستطع فهززت رأسي ومشيت من أمامه بسرعة وأنا أشعر بشفتيّ قد التصقتا ببعضهما بحيث لن يجد الندم الثقيل الذي عدتُ به إلى المنزل في هذه الليلة طريقا للخروج من داخلي أبدًا".
كل ما تضمنته هذه الفقرات حدث بالفعل، وبدقة تامة عام 1993، وكان عمري وقتئذ 16عامًا، باستثناء أن صديقي لم يكن قاصًا، وإنما حينها كان ممثلًا مسرحيًا، وأعتقد أنني سأكتب ذات يوم عن السبب الذي جعلني أقوم بهذا التحريف في القصة .. بعد 27 سنة من هذه الواقعة مازلت أفكر في تلك اللذة الغامضة التي شعرت بها أثناء كتابة تلك القصة الانتقامية، وكان اسمها بالمناسبة "تحت السيطرة"، والتي لم أنشرها، ولم أحتفظ بها حتى بعد تلك الليلة البعيدة التي قرأتها فيها أمام أعضاء نادي الأدب بحزب التجمع بالمنصورة .. اللذة التي تتجاوز الثأر من صديقي، وابنة الكاتب كبير السن، ولا تمحو بالتأكيد الشعور بالندم الذي ذكرته في "علبة الرماد" .. كانت "تحت السيطرة" تقريبًا هي القصة الثانية بعد "المصفقون" التي أكتبها ـ كما أشرت في السيرة من قبل ـ بتعمّد أساسي لرد الأذى تجاه شخص أو مجموعة بشرية، ويتصادف أن ذلك الأذى في الحادثتين لم يكن متعمّدًا ضدي .. كانت هناك سعادة ممتنة لم أكتشفها وقتها في انتهاك أحكام قهرية، ليس لي دخل في وجودها: أن تكون صغير السن، أو أصغر كاتب في تلك الجماعة، بما يعني أن علاقتهم بك ستخضع عفويًا لأثر هذا الفرق العمري، حتى لو اتسمت بالود المستقر، والاحترام المتبادل .. أن يحاول "الأكبر سنًا" إعادتك إلى "القيم والمبادئ" القصصية التي تحاول أن تتخلص منها مبكرًا في أعمالك .. أن يكون هناك "أديب كبير"، "أب"، "أستاذ" يجلس على رأس طاولة يقع كرسيك دائمًا إلى جانبها، لمجرد أن عمرك 16 عامًا، وتحتاج مضطرًا للتواجد في هذا المكان، بينما يقترب هو من بلوغ الستين، في حين أن الفرق بين القصة القصيرة التي يكتبها كل منكما يؤكد حقيقة مناقضة .. حتى لو كان رجلًا مهذبًا وطيبًا بحق .. لروحه السلام.
لقراءة قصة "علبة الرماد" كاملة
موقع "الكتابة" ـ 8 يونيو 2020