السبت، 8 يوليو 2017

الفشل في النوم مع السيدة نون: مهارة الحفر في مستويات السّرد النرجسي والفلسفي

ثمة محاولات روائية حدثوية، يري مبدعوها إن الغوص في حفائر السّرد، يبدأ من رسم الشخصيات، وتقديمها في نصيّة الرواية من خلال رؤية فنية، تري أنّ الشخصيّة الواحدة لا تنطوي علي ذات واحدة، بل مجموعة من الذوات التي غالبا ما تكون متعارضة ومتنافرة، وفق الأحوال التي يضعها المبدع فيها مما يجعل السرد قادرا علي التشظيّ في كل مستوي من مستويات الدلالة، في واقع كل شخصية، والدخول في مستوي علاقاتها التبادلية مع الآخر، الذي يبرز من خلال مواقفه، ولذلك كان من البدهي أن تصل إلي التعارض، أو التناقض أو التنافر، لاسيما إن كان شغل الفعل الكتابي الروائي معنيًّ بالدخول إلي عوالم كثيرة، من خلال أزمنة متناقضة تاريخيا وإبداعيا، فيأتي إسقاطها ليس نوعا من المحاكاة أو استخلاصها للعبر، وإنما كتجريب إبداعي يساعد الراوي علي الدخول في تفاصيل حياتية يغلب عليها الطابع النرجسي والنزوع الفلسفي، من خلال عقدة تلّبست البطل في مراحل طفولته الأولي، وعاشت معه هاجسا نفسيا لم يفارقه.
هذا ما اشتغل عليه الروائي المبدع (ممدوح رزق) في روايته اللافتة للانتباه، والمثيرة للجدل (الفشل في النوم مع السيدة نون) الصادرة عن دار الحضارة للنشر. وحرف النون في الرواية حرف مستعار، يشير إلي نون النسوة جميعهن، علي أن هذا لم يفقد الرابط بين هذه النون وأم الراوي نفسه:»لكن الأهم هو أن أمي يبدأ اسمها في الواقع بحرف النون أيضا  » ص194 لتحفز هذه النون أبعاد عقدة الراوي الأوديبية التي بدأت بعشقه لثدي أمه: » ثديا أمي كانا ثديي أم تقليدية في أواخر الأربعينات، ضخمين ومترهلين بحلمتين كبيرتين، تشبهان نصفي إصبعين سمينين، ويبرزان بقوة من خلال عينين واسعتين، لونهما بني غامق، ثديان عريضان، أقرب إلي مستطيلين يتدليان بالطول، ويبدو عليهما جمال الامتلاء المتـماسك» ص5
ويتكرر تعلقه بالأثداء من خلال ثديي جدته وثديي أخته »أختي ما رأيت جسمها إلا مرتين تقريبا.. كانت تُغير ملابسها، ورأيتها تخلع سوتيانها بقوة لأعلي، فاندفع ثدياها بعنف لأسفل، لم يكونا صغيرين» ص12، وتتعمق عقدة الأثداء عنده والذي سرعان ما تحوّل إلي هوس عندما بدأ يلعب لعبة عريس وعروسة مع ابنتي خالته »جسمان جميلان وممتعان، تحت أمري مختبئتين وراء سوتيان ويفكران في، وينتظران الفرصة حتي يخرجا من أجلي أمسك بهما وألعب فيهما» ص29.
في عشقه للأثداء التي لم يستطع مقاومتها بدأت مشكلته النفسية، التي أفضي بها علي شكل اعترافات سردها إلي طبيب النفسي، الذي لم يكن أكثر من مستـمع صامت ولم يقف موقف المحاور أو السائل، أو المتسائل، وهذا ما يضعنا أمام افتراض يشير إلي أن هذا الطبيب لم يكن إلا:
1
ـ شخصية متخيلة استعان بها الراوي للكشف عن أسراره الحياتية والنفسية والجنسية، حيث من المستحيل أن يكون حقيقة لانتفاء دوره الوظيفي في معالجة مريضه.
2
ـ لم يكن سوي الأخر النفسي الذي يعيش في أعماق الراوي والذي يشعر تجاهه بقلق أو خوف من ممارساته الخاطئة فينصب أمامه ضميرا نفسيا يعيش في داخله، وهذا ما يؤكده امتداد الاعترافات علي مسافة خمسة عشرة هامشا، ارتبط كل هامش بلازمة وإحالة.
لازمة واحدة لم تتكرر، تقول:(هامش الرجل الذي تمني أن يكون طبيبا نفسيا، أو)
في تحليل الأزمة إلي عناصرها نجد أن:
1
ـ المفتتح: هامش والهامش مجرد إضافة إلي النص، ليس متناً له أو جزءا منه.
2
ـ الرجل الذي لم يكن في الواقع المحايد ليس الراوي نفسه.
3
ـ تمني الفعل الذي يشير إلي التـمني في أن يكون طبيبا نفسيا.
4
ـ أو الحرف العاطف والرابط مابين اللازمة والإحالة التي تغيرت مع كل هامش.
ـ هامش الرجل الذي تمني أن يكون طبيبا نفسيا أو:
1
ـ طفلا يلعب (river raid).
2
ـ أو صائغًا في البصرة ص26.
3
ـ أو مونولوجست في كازينوهات عماد الدين ص39.
4
ـ أو طفلا في إعلان لافاش كيري ص49.
5
ـ أو ملحنا، وعازف جيتار في الثمانينيات ص65.
6
ـ أو ناقدا فنيا لبنانيًا في السبعينيات ص76.
7
ـ أو مصورا في مجلة بلاي بوي ص87.
8
ـ أو مؤلف jazz ص101.
9
ـ أو كاتبا مسرحيات في الستينيات ص113.
10
ـ أو محررا أدبيا في التسعينيات ص125
11
ـ أو ممثلا كوميديا ص137.
12
ـ أو مخرج افلام بوليسية ورعب ص146.
13
ـ أو باحثٍ في التراث الشعبي ص157.
14
ـ أو خالق شخصيات كارتون ص171.
15
ـ أو: صاحب مقهي باريسي في الثلاثينيات ص195.
من يتأمل في البدائل المطروحة لأمنيته بأن يكون طبيبا نفسيا يلاحظ أنها تشير إلي:
1
ـ العودة للطفولة تلعب علي الريفر ريد أو يظهر في إعلانات البقرة الضاحكة لافاش كيري.
2
ـ العمل في الفن كـ:
أ ـ مونولوجست في كازينوهات عماد الدين.
ب ـ ملحنا وعازف جيتار.
ج ـ مصورا في مجلة بلاي بوي.
د ـ ممثلا كوميديا.
هـ ـ مخرج أفلام بوليسية ورعب.
و ـ خالق شخصيات كارتون.
ز ـ مؤلف جاز.
3
ـ وفي مجال الإبداع أن يكون:
أ ـ ناقدا فنيا: لبنانيًا وبالتحديد، ومتي في السبعينيات.
ب ـ كاتبا مسرحيا وفي الستينيات.
ج ـ باحثا في التراث الشعبي.
أما بدائل العمل الحرّ فكل ما كان يتمناه أن يكون إما.
أ ـ صائغا.. وأين؟ في البصرة تحديدا، أو.
ب ـ صاحب مقهي، أين؟ في باريس، ومتي في الثلاثينيات.
وبغض النظر عن طبيعة البدائل المتنافرة، فان تحديده للزمن الذي راج بين الثلاثينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات ثم التسعينيات، إنما له ارتباط في شيوع تلك البدائل في تلك الأزمان، وهي إشارة تشكل كل واحدة منها عتبة تُدخل قارئها إلي الفصل الذي عنوّن به والذي انقسم بدوره إلي مساحتين سرديتين كان من أهم السمات المشتركة في المساحة الأولي التركيز علي القرون الوسطي ففي الهامش الأول »يمكن لنا تبادل الشخصيات باستـمرار داخل لوحات (ادموند بلير ليتون) عن القرون الوسطي» ص24.
وفي الهامش الثاني:»كأن الجلسة تحدث عن هامش المعركة الكبري التي دارت بين (الاثنيين) والنساء المحاربات (الأمازون) ذلك لانني اضطررت لمناقشته في آراء (اريك فروم) حول التأمل الفكري، والشعور ووظيفة المجتـمع في زرع الوهم داخل الذهن لحجب الحقيقة» ص26.
في الهامش الرابع: » يقرأ أمامي فقرة قصيرة عن العلاقة بين روما القديمة والقوط الغربيين في أسبانيا، استـمع إليه متأكدا من أنّ الـ(هو) لديه قد بلغ أقصي درجات الرّغبة في قتل (الأنا) و(الأنا العليا) وتحنيطها» ص49.
في الهامش الحادي عشر: »أنا فلاح العصور الوسطي الذي يعيش في كوخ فقير، وينام علي كيس مملوء بالقش، ويأكل الخبز الأسمر، والبيض والدواجن والخضروات، لا يشتري اللحم إلا نادرا، ويستـمني كل ليلة علي نساء السيد صاحب الأرض» ص137.
في الهامش الثاني عشر:» يتخيل حكايات بين الاستقراطيين، والكهنوت والعمال في العصور الوسطي، مستدعيا (حكايات كانتربري) و (جفري تشوسر) يقول: انه لا تكفي رواية واحدة ولا أكثر من رواية لتناول القرون الوسطي» ص46.
ويبقي السؤال.. هل العودة إلي العصور الوسطي خدم نصيّة الرواية؟ هل كانت إحالات إسقاط تاريخي أو لغوي أو اجتـماعي؟
في الحقيقة نجدها مجرد إضاءات عادية أشارت إلي:
أ ـ أسلوب التناول المعتـمد علي الفلسفة والغموض في خفايا النفس وهي تشتغل علي بدائل التـمني التي لها علاقة بالإبداع والفن والعمل.
ب ـ عتبات تناولية أفضت إلي المستوي السردي الثاني الذي شكل محور الرواية والدخول في أعماق الراوي وهو يعيش عُقد الأم، الجنس، المرأة، الأثداء وبالتالي مزج الأدب بالسياسة وبالفن»أنا أرفض وبشدة مصطلح (الفن المسيحي في القرون الوسطي فيه من التضليل ما يفوق الإهمال الذي لاقاه تحليل (هيجل) عن الديالكتيك في القُبلة (اختلاط الأفكار والرغبات المتناقضة في التقاء شفاه الرجل بشفاه المرأة )» ص50
لذلك كانت المرأة بجسدها هاجسه الأساسي الذي نما وارتفع مع السيدة (ن) الشاعرة المتفوقة ذات القوة التي انفردت بها شخصيتها، ابتدأت العلاقة بلكمة كتبتها تعلق من خلالها علي نص شعري كتبه قالت فيه(لسّه فيه شعر وحش كده) ص51 »شعرت بغضب هائل يا دكتور لأنني اعتبرته - وقتها - تعليقا مهينا - رغم كونه تافها ولا علاقة له بالشعر، ولا بالكتابة، ولا بأي شئ سوي بخراء البيض» ص21. لتتحول الحكاية إلي عقدة نفسية تُضاف إلي عقده علي الرغم من أنه عرفها عن قرب والتقي بها أكثر من مرة إلا انه لم يستطع أن ينام معها كما فعل مع كثيرات لتبقي عقدة متحفزة في داخله، ومع ذلك لم تكن قصصه مع (نون)  محور الرواية ومتنها الرئيس إنما إضافة نفسية اشتغلت علي استفزاز الراوي المبدع (الذكر) القوي النشيط الذي لم يستطع النوم معها ليتشظي السرد بين المستويين السرديين يبتعدان زمنيا ويلتقيان إبداعيا في نسقين اثنين هما:
في النسق الأول ضم مجموعات من الإحالات التي لها علاقة بتواتر النفس وانفعالها وشدة شبقها الجنسي ومن ذلك:
1
ـ هدم الكتابة والكتاب الذين يزيدون جرعة البذاءة في كتاباتهم ويخقونها بناءً علي المزاج الحاضر لوقاحتي ص102.
هذه الوقاحة التي اعترف بها ربما تجاوزت حدود اللياقة الأدبية مما أدي إلي:
2
ـ ذلك التوصيف الجنسي المقزز بحجة أننا نعيش »مراحل الفمية والشرجية والقضيبية، والكمون والتناسلية بتجاوز وتلازم وتداخل، نحن نزاوج التثبيت والنكوص، وتحول الطوّر التطور الجنسي إلي لعبة بينج بونج» ص128.
وفي الصفحة 174 نقرأ حول الموضوع الانتقادي نفسه الذي دخل إليه في معبر السينـما ودورها لاسيـما من هزيمته 67 وذلك من خلال الفيلم المعروف (أنف وثلاث عيون)، الذي أنتج عام 1972، وهي الفترة التي كان علي السينـما المصرية أن تولي جانبا من اهتـمامها بالخطاب السائد عن الانحياز الأخلاقي الناجم عن اليأس بعد هزيمة 67 وموت عبد الناصر، وعن الانتـماءات الوطنية، والقومية التي تمت خيانتها في ظل فوضي اقتصادية، ومراعاة سياسية، وبداية صعود طبقة جديدة من البورجوازيين المتحالفين مع بيروقراطية القطاع العام ص275، وأيا كانت الدوافع لاختيار ذلك المستوي السردي الفاضح والمضلل فانه لم يخدم الرواية إلا في إظهار نرجسية الراوي التي هي نرجسية المؤلف نفسه والتي دفعته لان يكون شريكا في النص نفسه، في الصفحة 176 نقرأ:»خلال مناقشتي لروايتي (خلق الموتي) بنادي أدب المنصورة، وتعليقا علي احدي المداخلات، رفض (د/يسري عبد الله)، وضع اسمي في قائمة واحدة مع الأسماء الساردة القاهرية المعروفة - لنا - مؤكدا أنه بعد قراءته للرواية ومجموعتي القصصيّة (قبل القيامة بقليل) يعتبرني متجاوزا لهم.هذه الأنا النرجسية الإبداعية تداخلت بشكل قسري في نهاية الرواية التي خصص معظمها للحديث عن نفسه بلغة الأنا »أريد أن يقال عن هذه الرواية (لقد وقف ممدوح رزق عاريا في ميدان مزدحم، ثم أطلق من فوّهة عضوه العفاريت كي يعذبها ـ للحظات ـ بالخروج منه، قبل أن ترتد إلي داخله ثانية» ص196.بالطبع كل من يقرأ الرواية سيقول ذلك وأكثر في ذلك فهو أمام نص روائي مختلف جدا حدثوي إلي أبعد حدود الحداثة، تقني إلي أرفع درجات التقنية.
نصٌ إبداعي جرئ تماهي فيه الإبداعي السردي المتقن مع النرجسي والجنسي والفوقي والدوني في الوقت نفسه، مقدما المؤلف من خلاله أنموذجا فنيا علي قدرة الرواية علي الاحتضان والتجاوز لخلق سمة فنية خاصة بها وبمبدعها الذكي الذي يتحدث الناس عنه كما يقول في روايته. أنه »الناقد الذي يتحدثون دائما عن براعته في الحفر داخل النصوص» ص197، وبالفعل كان حفارا سرديا بارعا في نصيّة هذه الرواية التي تحتاج إلي أكثر من قراءة ومن خلال أكثر من مستوي نقدي حتي تبدي إحالات إبداعها علي المستويين الشكلاني والمضموني.
فرج مجاهد عبد الوهاب
جريدة (أخبار الأدب) ـ 8 / 7 / 2017

الأربعاء، 5 يوليو 2017

ممدوح رزق: "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" سخرية من فكرة تغيير العالم

القاهرة ـ آية ياسر
ما الذي قصدته بعنوان  مجموعتك القصصية الجديدة (هفوات صغيرة لمغيِّر العالم)؟
المقصود بعنوان المجموعة هو السخرية من فكرة تغيير العالم، ومن المحاولات التي تقصد تغييره، وكذلك من المبررات التي تدعي أنها تقف وراء الفشل في تغييره.
كتبت قصص المجموعة الـ31 على مدار 3 سنوات .. فما الخيط الدرامي الرابط بينها؟ وما هو المحور الذي تدور حوله؟
لا يوجد خيط درامي محدد يربط بين القصص، فلكل قصة طبيعة مختلفة، وإن كانت تتقارب في انتمائها إلى مرحلة الدنو من سن الأربعين ثم بلوغه، وهو ما يعني ـ من ضمن ما يعني ـ التفكير في العُمر كحصيلة مرعبة من الأخطاء التي تراكمت بصواب مثالي، وأيضًا في الكيفية التي حاولت الكتابة من خلالها طوال الماضي أن تكون مقاومة لليأس الناجم عن الخضوع لسلطة الخطأ والصواب.
حصلت على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي .. أيهم الأقرب إلى  قلبك؟
جائزة المركز الأول في الشعر من ملتقى مدد عن نص (نار هادئة) عام 2007، وكذلك أول جائزة حصلت عليها وكانت المركز الأول في القصة القصيرة على مستوى محافظة الدقهلية وكان عمري وقتها 13 سنة.
ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية .. ما الذي أضافته الترجمة لإبداعك الأدبي؟
هذه الترجمات كانت تقديرًا مميزًا من المترجمين لي، أرادوا من خلالها التعبير عن محبتهم لنصوصي، وهو أمر أعتز به للغاية، وهناك مشروع لإصدار مختارات من قصصي القصيرة بالإنجليزية يتم الإعداد له حاليًا.
 يحتوي كتابك النقدي الجديد "هل تؤمن بالأشباح" على قراءات في أعمال أشهر الأدباء العالميين.. ما السمة التي جمعت بينهم من خلالها في كتابك؟
لكل كاتب من هؤلاء عالمه الخاص، وبالتأكيد هناك تشابهات عديدة، لعل أبرزها هو الإخلاص للفرد المنعزل داخل اللحظة الصغيرة التي تكشف عن جحيمه الشخصي، وهو ما عبّر عنه (فرانك أوكونور) في كتابه (الصوت المنفرد) كتعريف للقصة القصيرة بعبارة: (الوعي الحاد باستيحاش الإنسان).
ما الذي دفعك لجمع مقالاتك الخاصة بالباب الأسبوعي (كلاسيكيات القصة القصيرة) في كتاب؟
لأنني أردت ـ مثلما ذكرت في مقدمة الكتاب ـ أن يكون تتويجًا منفردًا للفترة التي قضيتها في اختيار قصة قصيرة كل أسبوع من الكلاسيكيات، والكتابة عنها لموقع (الكتابة) الثقافي.
ماذا عن روايتك الجديدة "إثر حادث أليم"؟
لا يمكنني بالطبع إعطاء وصف مختزل لها، وإن كانت على المستوى الشكلي تدور عن ابن ينشر مذكرات أبيه الذي تعرّض لحادث أليم، قبل عن يُعلن هذا الأب عن نفسه، وعن علاقة ابنه بهذه المذكرات في نهاية الرواية.
لماذا استخدمت تقنيتي «ما وراء السرد» واللعب بالأزمنة في روايتك "خلق الموتى"؟
لأن الرواية تقوم على هذا التجاور والتقاطع بين الأزمنة، ومن ضمن المهام التي تحققها تقنية (ماوراء السرد) هو جعل القارئ شريكًا في لعبة تبادل الأدوار بين شخصيات الرواية، أي فاعلا أصليًا في تكوين علاقات هذه الشخصيات بالمسارات المتغيرة لحركة الزمن.
عصفت بكثير من التابوهات الجنسية والدينية في روايتك سوبر ماريو .. فهل تعمدت ذلك؟
بالتأكيد لا؛ فالرواية تتناول في جانب أساسي منها الحياة العائلية والمهنية لبلطجي في صورته المألوفة، وكان من الضروري ـ بديهيًا ـ الالتزام بالحقيقة كما أعرفها عن هذه الشخصية وعلاقاتها، كما أن هذا الالتزام هو الدافع الجوهري الذي خلقت الرواية من خلاله استفهاماتها، ومحاكماتها للحياة والموت، ولكل معرفة تقدم نفسها كحكمة للوجود.
في كتابك "السيء في الأمر" لماذا تبدو غير متحيز لأىٍ من الأنواع الأدبية؟
أردت أن أجرّب في هذا الكتاب سبيلا لتحريض القارئ على التحرر من سلطة التصنيف، أي تضليل ما يمكن اعتباره مبادئ جمالية للقصة والشعر، ولهذا اخترت كلمة (نصوص) كتعريف له، بالإضافة لكتاب آخر بعنوان (بعد كل إغماءة ناقصة) .. كما سبق وذكرت قبل ذلك فهذا الوصف كان وقتها بمثابة حيلة لمواجهة ورطة الرفض المسبق الشكلي من القارئ لما لا يتوافق مع انحيازاته القصصية والشعرية، أي أنه كان سعيًا لتفادي المأساة التي أخبرنا عنها (لويس دوديك): (وبينما كنت أحتضر/ أنزف حتى الموت / كانوا يقولون / "لكن هذه قصيدة نثر / هذا ليس شعرا ، هذا نثر"  / وهكذا مت أنا).
ما هي ملابسات نشر كتابك "النمو بطريقة طبيعية" وفوزه بمسابقة إحدى دور النشر؟
(النمو بطريقة طبيعية) هو اسم القصة التي فازت بهذه المسابقة، وتم اختياره كعنوان للمجموعة القصصية التي اشتملت على جميع الأعمال الفائزة، وهذه القصة من ضمن نصوصي التي تُرجمت للفرنسية.
تمتاز لغة كتابك "بعد صراع طويل مع المرض" بالجرأة الشديدة في المعالجة الجنسية داخل النص .. كيف حافظت على جمال اللغة بعيدًا عن  الإسفاف والفجاجة؟
ليس هناك تعمّد في هذا، ولست مشغولا بالحفاظ على جمال اللغة أو الابتعاد عن ما يُسمى بالإسفاف والفجاجة .. أنا أكتب اللغة الجديرة بالنص في لحظة معينة، دون حذر تجاه أي أوهام كلية أو ثوابت مطلقة تضع الجمال كحالة مناقضة للإسفاف والفجاجة.
ماذا عن ملابسات ترشيح روايتك "الفشل فى النوم مع السيدة نون"  للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" ؟
تم اختيار هذه الرواية من ضمن ترشيحات دار (الحضارة) للجائزة، وهو شيء أسعدني، ولكنني بالطبع لم أنتظر ما يتجاوز ذلك، فتلك النوعية التقليدية من الجوائز لا يمكنها مجاراة روايات كهذه.
كيف تقييم المشهد الأدبي المصري والعربي؟
لا أعتبر نفسي جزءً من المشهد الأدبي المصري والعربي إلا شكليًا؛ فأنا منفصل تمامًا عن تحيزاته وحساباته، وعن شبكات المصالح التي تديرها عصاباته. اسمي لا يقترن إلا بكتابتي فقط، وليس بصداقات وعلاقات وامتيازات وظيفية، وهو اسم لم يُصنع خارج المركز القاهري فحسب، وإنما رغمًا عنه أيضًا.
ماذا عن مشاريعك الأدبية المستقبلية؟
رواية (إثر حادث أليم) التي ستصدر قريبًا عن الهيئة العامة للكتاب، وكتاب (النقد الإيروتيكي) بالإضافة إلى مشروع نقدي آخر أعد له منذ فترة طويلة عن (جورج باتاي).
صحيفة (السياسة) الكويتية ـ 4 / 7 / 2017

السبت، 1 يوليو 2017

حائط‮ ‬غاندي‮: ‬مجادلة الغدر

هناك مجموعات قصصية تتجاوز كونها قصصا قصيرة بين دفتي كتاب؛ فهي إلي جانب هذا تمثل ما يشبه شروحًا عملية للفن القصصي.. نماذج تأملية في ما يمكن اعتباره ملامحًا جوهرية لتاريخه: اقتناص اللحظة السحرية الصغيرة التي توقف الزمن، وتبقيه عاريًا أمام مرآة متصدعة بحجم المطلق.. التكثيف القائم علي التوازانات الدقيقة بين فخ المُعطَي، وغواية المحتجب.. النهايات التنبيهية أو تنويعات الصدمة التي تمنح جسد المفارقة حياة من الشكوك والتوترات الملهمة.. تُعد مجموعة (حائط غاندي) الصادرة حديثًا عن دار (كيان) واحدة من هذه المجموعات؛ فإلي جانب تأكيدها لـ (رسوخ الصنعة القصصية) عند عزة رشاد، والمتمثل في الوفاء المحنّك لهذه الملامح الجوهرية في تاريخ القصة القصيرة؛ هي أيضًا تثبت قدرتها علي توظيف هذه الملامح ليس كأنماط بل كحيَل لإنتاج حالات متباينة من الابتكارات المدهشة.
هناك لعبة تبدو أثيرة عند عزة رشاد، تتمثل في إعادة تجسيد الماضي علي نحو كاشف لمراوغات القهر التي تحكم علاقاته، وبكيفية تتحوّل معها مشاهده إلي حقول متغيرة لاستفهامات القدر.. لا يتوقف هذا التجسيد عند بعث الذاكرة في صور جديدة كطموح لترويض الطبيعة العدائية للماضي داخل الوعي، أو استعماله في خلق حياة معدّلة عبر تصحيح جذورها المفترضة، وإنما أيضًا لجعل هذه الذاكرة ممرًا لتجاور الاحتمالات المشتبكة مع الغموض الغيبي: التبادل.. المحو.. اليأس.. الاستدراك.. الهروب.. كل هذه الاحتمالات محاصرة بعلامات الإدراك الذاتي بأن العوامل التي كان يمكن للماضي من خلالها أن يكون مختلفًا ستظل لغزًا حصينًا، وأن الموت يكمن بضراوة في أعماق هذا اللغز.
في قصة (رسائل بظهر الغيب) لا تُعيد عزة رشاد البشر الذين كانوا يتبادلون الرسائل بواسطة بوسطجي يحيي حقي إلي الحياة، أو تكشف عن استمرار وجودهم في الحاضر عبر شخصيات أخري تشير بالضرورة إلي أن لهذا البوسطجي حضور (غيبي) متنقل فحسب، وإنما تخلق كذلك علاقات جديدة هي ربما الحكايات الأصلية التي كان يجدر بها أن تتكوّن بين البشر الذين كان البوسطجي يتجوّل حاملا الرسائل بينهم في الماضي، وفي نفس الوقت تحوّل هذه الحكايات أو الخطابات (الحقيقية) إلي وثائق لأزمنة، تتجاوز امتداداتها عبر التاريخ نحو الدوافع المجهولة للإرادة المختبئة فيما وراء الحياة والموت..فالشابة العشرينية التي تشتري حقيبة بيضاء، وتتنقل بين زبائن المتعة، والأم الأربعينية التي تبيع المناديل الورقية، وابنتها أم ضفيرتين طويلتين، والشاب الذي أعادت إليه حبيبته أشعاره وخطابات غرامه، والشيخ صاحب نوايا التوبة الزائفة، وحفيده الصغير هم تجسيدات مختلفة لبعضهم،كائنات في بداية الطريق، تواجه التحولات المتدرجة لملامحها قبل الخطوة الأخيرة، فضلا عن أنهم تمثّلات لأرواح أسلافهم الذين ربما يتبادولون خطابًا واحدًا بتفاصيل مغايرة، يزاوجون بين الحضور والغياب داخل أجسادهم، ويتشاركون دون إفصاح في محاولة الطمس والتعديل والتفاوض مع الغيب للحصول علي بدايات أخري.. لكنهم وبينما يحلمون ويجاهدون لحفر أثر بديل يجهزون لفنائهم أيضًا، كأن هذا الفناء أمنية غير مستوعبة.. كأن كافة الأحلام والمجاهدات هي في حقيقتها إعدادات متفاوتة التوقيت للتبدد..فالقنبلة منزلية الصنع التي حوّلت هذه الشخصيات إلي أشلاء ستكون بمثابة قرار (غيبي) بانعدام الفرصة بعد وصول كل شخصية ـ من خلال هذا التواطؤ الضمني داخل مشهد المنتزه ـ إلي حافة وجودها فيما بين الظلام وفقدان الخلاص.. ربما كتب الأسلاف بواسطة أشلاء هؤلاء الذين مروا في الحاضر رسائلهم الأخيرة كخلاصة لم يسمح الماضي لها بالتحقق..لنفكر جيدًا في أن من تسلل ووضع بين صفوف المقاعد الخشبية (حقيبة نيرون) التي تحوي القنبلة ـ وتخطيًا للإدانة الأخلاقية التقليدية المقترنة برواية يحيي حقي هو البوسطجي نفسه كفعل معادل لاشتباك الحكايات وتداخل المصائر في الرسائل التي كان يقرأها للتسلية أي إعادته لتشكيل هذه القصص كما تستلزم آلامه؛ فالبوسطجي لم يكن بوسعه تغيير الأقدار لو ترك الخطابات مغلقة، كما أن اختلاط الأسرار بعد استعماله لهذه الرسائل لن يعطل فناء أصحابها، فقط سيكون عندئذ شاهدًا علي الاستفهامات العالقة فيما بين الذاكرة وموتها، بين ذاكرته نفسها وموت الآخرين؛ فالتسلية بقراءة الخطابات أي إعادة تنظيم سياقاتها هي رغبة في الثأر، في مطاردة تحرر يقع خارج العالم، ولذلك يبدو كأنه وزّع هذا الانتقام في أشلاء كل من كانوا يحملون نفس الرغبة، وكانوا يظنون ـ مثله ـ في ذات الوقت أنهم قادرين علي حيازة هذه البدايات خصوصًا عندما ينجو أحدهم من الخطر المفاجئ لسيارة مسرعة مثلا، أو يعتقد أن الحمامة التي طيّرها غاندي ستبلغ هدفًا صحيحًا، أو يظن أن الشغف بالغرام في رسائل (جوته) يناقض عدم الإيمان به.. هنا يمكن لكل منا أن يشعر حينما يتحدث عن نفسه أو بالأحري عندما يكتب خطابه إلي آخر بأن الغيب يمرر رسائله من خلال أجسادنا وعلاقاتنا.. القهر المتبادل، والتضامن في القتل.
(اقترب الولد يلملم بقايا وجبته المُغبرة ويجري، بينما الشيخ يشنهف بدموعه كلمات عن ندمه لأنه لم يكف عن خداع الله. وراح يهز الحقيبة ليتخلص مما تبقي فيها، ويدعو الله أن يتوقف عن دعمه حتي لا تثقل كفته الداكنة، توقف الشاب أبو نظارات عن تمزيق رسائله ضاربًا كفًا بكف، ثم نهض واقترب من الشيخ يربت كتفيه بحنان، فالتقت عيناه في تلك اللحظة بعيني الشابة الممسكة بحقيبتها البيضاء).
ماذا لو لم يحدث انفجار في المنتزه؟، ماذا لو تعرّفت الشابة ذات الحقيبة البيضاء علي الشاب الذي يمزق رسائل غرامه السابق؟، ماذا لو كبرت البنت أم ضفيريتن طويلتين، وحفيد الجد صاحب نوايا التوبة الزائفة؟، ماذا لو استمرت أم البنت، وجد الولد في الحياة؟..إن البوسطجي يعيش داخل كل شخصية من تلك التي تركت بقايا أشيائها عند الانفجار؛ فهو حينما امتلك الأسرار أصبح متوحدًا بكينونة الذين يحملونها، أما الانفجار نفسه فليس ناتجًا عن قنبلة، وإنما هو حدث متواصل منذ البداية، وداخل الخطوط التي تربط بين كائن وآخر.. نبوءة تمهيدية تتم في كل لحظة علي مدار العمر مع اشتباك الحكايات وتداخل المصائر داخل كل شخصية تتصور أنها لا تزال علي قيد الحياة، وتخبئ وردًا لن يُسمع تكسيره،وستدهسه الأقدام حينما تتلاشي كدليل علي أنها كانت مجرد رسول ضئيل للغيب مثل أي بوسطجي آخر.
سنجد اللعبة تتكرر بأسلوب آخر، وبشكل واضح جدًا في قصة (قطار)، من خلال إعادة إخراج المشاهد الظالمة للذاكرة علي نحو تعويضي، تتوقف فيه المعالجة عن أن تكون تصحيحًا لتاريخ ذات أنثوية واحدة بل استدراكًا لرحلة العالم نفسه بدفعه للوراء.. سنكتشف هذه اللعبة أيضًا في قصة (حكاية لوحة) حيث يتم نوع من التناسخ الواقعي مع شخصيات لوحة (العشاء الأخير) فيعاد استخدام (القتل) لأولئك الذين يجسدون (الإرث)بوصفه غدر من النوايا الحسنة..كأن هذه اللوحة هي تمثيل آخر لمشهد المنتزه، وبالضرورة للصور القائمة داخل كافة العناصر الإنسانية التي تواطأت في تشييده..يُعاد أيضًا وفقًا لهذا التجسيد تكوين الحضور الأصلي أي لوحة (العشاء الأخير) نفسها، والتي تُساير تأويلات معينة لما يُفترض أنها رسائل ليوناردو دافنشي السرية في هذه اللوحة.
(وفي الجانب الآخر من اللوحة يظهر أبي، أمي، والجد الهَرِم الذي ينهض بحراسة الحقول، وبوضع الإشارات علي الطريق المُشجر بالسرو. أنا التلميذ الخائن.. كل الذين لعقتهم بصقتهم. وزّعت عليهم زعيشي وملحيس ثم غدرت بهم).
هذا التمثيل الرمزي يثبّت الفكرة العائلية للبشر باعتبارهم كيانات لأسطورة واحدة، يحمل كل منها مسيحًا خاصًا يحاول الانفلات من الأبوة أو تحديدًا من سلطة الخلاص في موضوع الأبوة، كأن الإنقاذ الفعلي يشترط التجرد من أوهامها، حتي لو كان ذلك يعني أيضًا أن يكون لكل منا ـ وهو يخوض هذه المعركة ـ نصيب من السم ـ غير المقدس ـ الذي سيستخدمه في هذا القتل.
تبدو قصص المجموعة كأنها تتحرك فوق الرمال الملغمة كالتي في قصة (خوذة روميل)، بين تعميق الأثر الخفيف، ومحوه أو استبداله بخطوات أخري.. محاولة لتحسس الفراغات التي تخلفها الأشياء الملغزة بعد بترها.. كأن في هذا استشراف أيضًا لما سيكون عليه الموت تفاديًا للمزيد من الغدر.
(أتكون هي الأسلاك الشائكة! أتجمد مكاني، هل أنا داخل المربع المحظور؟ أخشي إن حركت قدمي ينفجر لغم، قد تنفجر ذراعي، قدمي، تصبح نتف لحم مشوي، أسيتركونها للجوارح؟ أسيستخدومونها كوقود؟).
ربما هي الطريقة التي يفهم بواسطتها الغيب حاجة أولئك الحفاة الذين يتراكمون عبر الزمن لعناق استثنائي لم يحدث قط كما في قصة (عراء) مثلا..لكن المجموعة كذلك تبدو كخريطة للسرطان المتكرر في أكثر من قصة.. مساراته المتعددة داخل السرد، والتي ينجح هذا السرطان من خلالها في جعل الغرباء أكثر قربًا مما لو كانوا يعرفون بعضهم حقيقة؛ إذ يبدون أحيانًا في وضع الاستعداد لتحقيق حلم ما كما في قصة (السِن الذهبية) علي سبيل المثال ثم يُكشف عن طبيعة هذا الحلم بوصفه تدبير للماضي، حينئذ يتحوّل إلي غريزة للإنتقام..هناك أقنعة مختلفة لهذا التدبير تتخطي صورها الأبوية والذكورية والسياسية، لكننا لا يجب أن نخطئ في رصد هذا الإلحاح علي إعادة الميلاد.. النبات الذي ينمو بعد فناء ما كان أصلا له.. النبات الذي تسكنه الأرواح أو الدماء أو دموع الشعر المتساقط بسبب السرطان حيث سيختبر هذا النضال مع كل ما يمكن أن يطرحه من حيوات جديدة نفس الأشكال الثابتة للقهر، والتي لن يخدشها أي اقتراب للفهم بأن رغبة الثأر في حقيقتها نبرة توسل لكابوس أزلي.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 1 / 7 / 2017

السبت، 24 يونيو 2017

كأجنحة مروحة

توقف أمامي طفل صغير، وسألني عن الوقت .. نظرت في ساعة يدي، وأجبته بما تُشير إليه بدقة .. عاود الطفل السير، ثم اكتشفت عجوزًا يقف قريبًا مني .. نظر في عينيّ وقال: (ساعتك خاطئة) .. أشاح وجهه، وراح يبتعد بخطوات بطيئة .. عاودت التطلع في ساعة يدي .. وجدت العقارب تدور بسرعة شديدة كأجنحة مروحة .. رفعت عينيّ لأتمعّن في يدي العجوز .. لم تكن هناك أية ساعة.
اللوحة: (الصرخة) لإدفارت مونك.

الاثنين، 19 يونيو 2017

جزء من رواية (إثر حادث أليم) ... تصدر قريبًا

كنا نتقابل في الفناء، ونتحدث ونضحك ونجري ونلعب، وكنا نمشي يوميًا أنا وهي من المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي حتى بيتي الذي يبعد خطوات قليلة ثم أودّعها لتواصل هي السير نحو منزلها .. كانت أمي و(أبلة خلود) يتحدثان عن تزويجنا في المستقبل، وكنت أحبها فعلاً بكامل طفولتي، ثم رأيت (أحمد) ابن (أبلة عايدة) يقف مع (ريهام) ذات يوم في الفناء .. كانا يتحدثان ويضحكان، ولم تمر لحظات قليلة حتى عاد (أحمد) إلى أمه في حجرة المعلمات، وعادت (ريهام) إلى فصلها وأنا أراقبهما .. لم أعرف ترتيبات هذا اللقاء .. هل كان صدفة؟ .. كيف تتكلم (ريهام) إذن مع ولد لا تعرفه؟ .. هل سبق وأن تعرّفت عليه في وقت سابق دون أن أدري؟ .. هل طلبت (أبلة خلود) من (ريهام) أن تكون صديقة له حتى تخفف هي الأخرى ما يثقل صدره المغموم، وأن تشغل ذهنه عن طلاق أبويه لتعيد إلى قلبه البهجة؟ .. في ذلك اليوم سألت (ريهام) أثناء الخطوات المعتادة من المدرسة إلى بيتي عما كان يدور بينها و(أحمد) أثناء وقوفهما معًا في الفناء .. ابتسمت بخجلها الثابت، وقالت لي باقتضاب ناعم (مفيش) .. كأن (أحمد) هو الذي ابتسم، وكأنه هو الذي رد على سؤالي بهذه الكلمة التي أصبحت أكثر كلمات اللغة سفالة .. كأنه هو الذي ألقى بعينيه قنبلة خفية إلى رأسي، ظللت أيامًا طويلة أشعر بدقاتها التنازلية المقبضة، مترقبًا انفجارها المؤكد .. حسنًا .. لقد تحوّل ابن المطلقة إلى نسمة حنونة مع (ريهام)، وهذا سيجعلها مع الشفقة الحتمية تجاه مأساته تميل إليه، وتتعلّق به .. وعاء اللزوجة المبخوت، الذي أهداه طلاق أبويه السحر الغامض للكآبة في ملامحه وصوته .. ثقيل الدم الذي لن يتنازل عن قلة الكلمات، وغياب الابتسامة في اللحظات المناسبة داخل الأحاديث الطويلة، والضحكات القوية بينه وزوجتي القادمة حيث يكمن الإبهار .. قارنت نفسي به .. أنا لا أمتلك كل هذه المعجزات .. هكذا بدأت أفكر مثل (بطوط) وهو يحترق بالغيرة من (محظوظ) في صراعهما غير المتكافئ للفوز بقلب (زيزي) .. أنا حتى لا أمتلك ما يحظى به الأطفال الآخرون الذين ينقصهم هذا السحر .. (ريهام) تعرف هذا جيدًا بالطبع .. تصورت أن (أبلة خلود) ستتخلى عن اتفاقها مع أمي، وتتعاهد هي و(أبلة عايدة) على تزويج (ريهام) من ابنها، لتُسعِد الولد المكلوم والأم المفجوعة .. تخيلت لو أن والديّ تطلقا .. أن يصيب أبي هذا المرض العضوي أو النفسي فينفصل عنا .. هل يمكن أن يعطيني هذا قامة أطول، وملامحًا تعيسة، وصوتًا حزينًا خافتًا، وعينين مهمومتين وحائرتين؟ .. هل يمكنني أن أصبح قليل الكلام، ولا أبتسم أبدًا، وأن أكون في نفس الوقت مسليًا ومضحكًا لـ (ريهام) دون أن يتطلّق أمي وأبي؟ .. كنت خائفًا في تفكيري من خطورة الطلاق على أمي، وإخوتي وأبي، وعلى نفسي بالتأكيد .. لم أكن أتمنى أن تصيبنا هذه الكارثة .. بدأت أفكر في أن (أبلة عايدة) جميلة بالفعل .. استرجعت كل المشاهد التي رأيت فيها بياض وجهها الباكي، وشعرت بأنني أريد أن أتزوجها .. أن جمالها الممتلئ بالدموع يستحق أن أعوّضها عن كل هذه الآلام.

الأربعاء، 14 يونيو 2017

رسائل فرناندو بيسوا ونصوصه ... توسيع العالم

إذا كان فرناندو بيسوا (1888 - 1935) لم يعتبر «شخصياته الأخرى» أقنعة له وإنما هي أنداد حقيقيون، فقد قرر إذاً أن يجسّد هذا التناثر الذاتي الأصيل والغامض ليس فقط من أجل أن يعيش بواسطة هذه الشخصيات حيوات متعددة بكامل واقعيتها، بل وربما بشكل أقوى، ليساعد كل شخصية منها عبر هذا الانفصال لأن تختبر طريقاً مختلفاً للخلاص، ربما سيؤدي بالضرورة الى إنقاذ الأنداد الآخرين.
في رسائل فرناندو بيسوا ونصوصه الصادرة حديثاً عن «الكتب خان» - القاهرة، بترجمة وتحرير وائل عشري في 407 صفحات، نحن نختبر هذا التناثر الذي يحرضنا بيسوا على الاستجابة له. يصير كل واحد منا متعدداً، ممراً لعبور شخصياتنا الأخرى نحو العالم الحقيقي، كي نتأمل في الوقت نفسه كيف يمكن لكل ذات أن تكون مستقلة، أي قابلة للانشطار، وللتجسّد أيضاً في أنداد مختلفين. كأن كل ندّ يفكك بنية الآخر أثناء هذا الانشطار الشخصي، وكأن لهذا التفكيك دوراً في تقويض الأفكار الكلية (الماورائية) التي أنتجت البنى الأخرى كافة.
(اليوم لا شخصية لي: لقد قسمت كل إنسانيتي بين المؤلفين العديدين الذين خدمتهم كمنفذ أدبي. اليوم أنا مكان لقاء إنسانية صغيرة تنتمي لي فقط).
يتعامل فرناندو بيسوا مع هذا التعدد أو الوفرة من الذوات بوصفها تفكيراً في العدم. في اللاوجود الخاص كعتبة نحو اللاوجود المطلق، المتنكر، والكامن وراء ادعاءات العالم وظواهره المعقدة. تمثل تعددية الذات هنا وفرة من المحاولات المتباينة لاكتشاف هوية هذا العدم، للعثور على احتمالاته المختبئة أي على حكمة أو معنى له، لو أمكن أن نعتبره كذلك. ليس الأمر إذاً يتعلق بهوية بيسوا نفسه بل بالآثار التي يتركها مع كل كتابة تقاوم رغبة أي هوية في فرض شروطها.
(أنا ضواحي بلدة غير موجودة، التعليق المسترسل على كتاب لم يُكتب قط، أنا لا أحد، لا أحد على الإطلاق. لا أعرف كيف أشعر، كيف أفكر، كيف أريد. أنا شخصية في رواية غير مكتوبة، أنطلق في الهواء، متناثراً ولم يحدث قط أن كنت، بين أحلام شخص لم يعرف كيف يكلمني).
بهذه التنويعات المجازية يحوّل فرناندو بيسوا الغياب التام للثقة في الحقيقة الذاتية إلى طبيعة طاغية للوعي بالحياة والموت، أسلوب مهيمن لرصد الأشياء. هو يستخدم البلدة، والكتاب، والرواية، والأحلام كأنه يشيّد جسوراً لهذا الغياب التام للثقة في ما بين الواقع وهوامشه، أو ما يدعي أنها هوامشه. بين المتعيّن في نطاق اليومي المستوعب، والخيالي أو الإيحائي الذي لا يخضع لقانون أو منطق. إنها الكيفية المثالية بالنسبة الى ـبيسوا التي تتخذ معها اللاطمأنينة الوضعية القدرية للوجود، أو بالأحرى المماثلة تماماً لانعدامه.
في رسالة إلى أمه بتاريخ 5 حزيران (يونيو) 1914، يكتب فرناندو بيسوا: «كل شيء حولي يغادر أو يتهاوى. لا أستخدم هذين الفعلين بغرض التجهم. أعني ببساطة أن من أرتبط بهم من الناس يمرون أو سيمرون بتغيرات، وهي علامات على نهاية فترات معينة من حيواتهم. هذا كله يوحي لي كما يشعر رجل عجوز، لأنه يرى رفاق طفولته يموتون من حوله، بالتأكيد من أن ساعته قد اقتربت».
يمكننا أن نعقد صلة بين هذه الرسالة وسطور أخرى لبيسوا كتب فيها: منذ كنت طفلاً شعرت بالحاجة إلى توسيع العالم بشخصيات متخيلةـ أحلام لي صيغت بعناية، متصورة بوضوح فوتوغرافي، وسبرت أغوارها حتى الأعماق.
إن توسيع العالم بشخصيات متخيلة يعد في جانب منه، يكاد يكون جوهرياً، مجابهة للتغيرات المؤدية إلى الموت. إشارات الفناء التي يعلنها الآخرون عن أنفسهم، وتؤكد بالتالي فناء بيسوا أيضاً. هنا يجب التفكير في أن العدم أو اللاوجود عند فرناندو بيسوا ليس خضوعاً لغياب الثقة بقدر ما هو نوع من الجهد التخييلي المبذول، بواسطة التعدد، لمنح الخلود، جمالياً على الأقل، إلى كل ما يتم تفتيته. أن يصبح الأمر واقعياً لأبعد درجة ممكنة من خلال الحضور الفعلي لشخصياته في العالم، كأنها الحقيقة التي ستزيح الحقائق العدائية الأخرى. يمكن للتناثر، لو تحوّل إلى يقين حياتي، أن يعطي بطريقة أو بأخرى فرصة للتفاوض مع المتغيرات والنهايات الحتمية.
(حزن غامض، غير محدد يثقل على رأسي/ ويغمر عقلي الجبان بمخاوف لا حدود لها/ ومع هذا بين الأسى، والغضب والدموع/ فلا بد لعقلي أن يدرك هبة كل لحظة/ وينفض الضحك الوقح مع أنّة يحسها القلب/ لا يخلو من أمل أقصى ضروب اليأس/ لا أعرف الموت ولا أعتقد أن فيه راحة/ الشيء البائس أفضل، بكل تأكيد، من المجهول).
إذا كان فرناندو بيسوا لم ينته تقريباً من أي مشروع كتابة بدأه أو خطط له، وإذا كانت كتاباته، وفق كلمات المترجم والمحرر الذي يؤكد الكتاب مدى التفاني «الإبداعي» الذي قام به، قد أخذت (الشذرة) كوسيطها الدائم تحت أسماء عدة ولغات متعددة، فينبغي التمعن في هذا بناءً على نفي اليقين الذي يقف وراء تعدد شخصياته المستقلة. كأن الاكتمال مرادف للنهاية أو الموت الذي لا يعتقد أن فيه راحة. كان بيسوا يعرف أن تأجيل المجهول قد يتحقق في عدم استبعاد أي من المتناقضات الموزعة بين أنداده في تناثرهم، في «الشذرات» التي تتجاوز حدود الواقع والخيال لتكوّن جميعها عالماً ملموساً لا يغلق باباً ممكناً، ولا يطمس أي ملامح عسى أن يكون السر متوارياً فيها.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 13 يونيو/ حزيران 2017

السبت، 10 يونيو 2017

صدور (هل تؤمن بالأشباح؟) لممدوح رزق

عن دار ميتا للنشر والتوزيع صدر كتاب (هل تؤمن بالأشباح؟) للناقد ممدوح رزق .. يقع الكتاب في 61 صفحة، ويضم جميع مقالات الباب الإسبوعي (كلاسيكيات القصة القصيرة)، والتي كتبها ممدوح رزق عام 2015 لموقع الكتابة الثقافي .. يشتمل الكتاب على قراءات في أعمال لهمنجواي، وتشيكوف، وموباسان، وكاثرين مانسفيلد، وجيمس جويس، وكافكا، ودوستويفسكي، وفوكنر، وفرجينيا وولف، وغيرهم .. يُذكر أن ممدوح رزق قد صدر له مؤخرًا المجموعة القصصية (هفوات صغيرة لمُغيّر العالم) عن منشورات بتانة، كما تصدر قريبًا روايته الجديدة (إثر حادث أليم) عن الهيئة المصرية للكتاب.

الثلاثاء، 6 يونيو 2017

الجندرية الذكورية .. حدود المقاومة

حينما شاهد أشرف المدني بطل رواية (الوشم الأبيض) لأسامة علام فيلم (كلب أندلسي) لسلفادور دالي ولويس بونويل، لم يكن مشهد قطع عين البطلة مفهومًا بالنسبة له، لكننا حينما نفكر في هذا الفعل بوصفه تخريبًا لبنية النظر، أي تدمير السلطة المفاهيمية للوعي البصري تحررًا من تاريخه فإننا سنكون أمام شخص يشاهد في الفيلم ممارسة مقاربة إلى حد ما لما يقوم به في الرواية دون أن يدرك ذلك .. ما هي بنية النظر التي حاول أشرف المدني أن يقطعها؟ .. إنها السلطة الرمزية للذكورة في كافة أشكالها العنصرية، والتي تحتل ما يمكن تسميته بأبوة التاريخ المجسّدة في شخصية (جون) .. لا يمثل أشرف هنا الرجل المتمرد على قطيعه الذكوري بقدر ما يمثل الذات التي تسعى للتحرر من طغيان التمييز، واسترداد الدمج الإنساني بين الذكوري والأنثوي كجوهر أصيل للوجود عن طريق إنقاذ الأنثى من عذابها الأزلي، والتي تمثلها الفتاة (مود) .. الذات التي تتأمل وحدتها، وتفكر في هزائمها كمعاناة بشرية، وليست انتهاكًا لقداسة الكائن الأرقى، أي الرجل الذي يحمل الخصال الازدرائية، بقوة تفوقه الجندري.
(الجميع فى لحظة مريرة سيرحلون و يتركوك تجتر ذكرياتك معهم. ليرحلوا هم أيضا فى طريق وحدتهم و ذكرياتهم. البشر تعساء جدا لأنهم لا يملكون سوى الذاكرة و الوحدة و جنون الدوران الدائم فى متاهة البحث عن المؤانسة. أحيانا كثيرة أحسد مرضى التوحد ربما لأنهم الأصدق فى رؤية العالم على حقيقته.  بلا ضجيج تخبرهم عقولهم ، التى نصفها لسذاجتنا بالمريضة، بأنه ليس هناك مايحتاجونهم سوى أنفسهم فقط. لتبدأ رحلتهم الأهم الى الداخل. فيصلوا سريعا الى جوهر الحقيقة. ربما أسرع من العجائز أنفسهم بعد عمر طويل لايسمح لهم بالوقوف مرة واحدة، مرة واحدة فقط، للنظر الى الداخل).
إن أشرف المدني ليس إنسانًا مثاليًا بقدر ما يبحث عن المثالية الغائبة، والتي تعني في تصوره إزاحة العوائق الأنانية من طريقٍ يمكن للسلام الأخوي أن يقطعه نحو الكمال .. التعويض المناسب عن انفصال آدم وحواء .. ربما نشعر أيضًا أثناء هذه الرحلة لتحرره الذاتي أنه يمتلك إيمانًا ـ حتى لو لم يكن مدركًا بالنسبة له ـ بأن هذا التحرر لا يتعلق به وحده، وإنما يتعلق كذلك بالموتى الذين حطمتهم هذه السلطة، ولن نكون مخطئين لو تعاملنا مع رسالة صديقه (نواز) ورسالة أبيه كدليلين دامغين على هذا .. كأنه يعيد للموتى الأنثى التي فقدها كل منهم مثلما سيفعل هو نفسه في نهاية الرواية، وأقصد هنا ما ستصير إليه علاقته بزميلته الطببية (هناء محمود).
(أشعر بأن الأرض تحتضنى، أحس بنفس الآمان الذى كنت أشعر به فى حضن والدي، الذى لابد و أن عظامه تحولت الى رماد مثل هذا الرماد فى مقابر أهلي بسيوة. أعطاني هذا الشعور راحة استطعت معها التخلص من كل ألمي. و كأنني أعود بسلام الى جوهري الأرضي. متحدا مع كل أرواح من سبقونى منذ بدء الخليقة. لألامس لأول مرة معنى السلام الأبدي. أتصل بروح الخالق الذى أحب أن نكون من التراب، لأنه ربما أكثر قيمة من كل المعادن التى تخيلنا أنها نفيسة. مجرد ارتمائي على الأرض كان كأنه عودة حقيقية لسلام حياتي السعيدة فى رحم أمي. وفي غمرة كل هذه السعادة كان جسدي يزيد من التحامه بالأرض. وكأنه باستطاعتي الذوبان كلية فيها. والتحول الى مجرد نبتة صغيرة تحمل زهرة لا أعرفها. كان من الممكن أن أمكث هكذا لسنوات لا يهمني أن أعرف عددها. لولا يد تيكانا التى أيقظتني من حلم سلامي الذي بلا حدود. لتذكرني بوجودها و بكينونتي البشرية المريعة).
لكن الرواية تطرح أيضًا استفهامين أراهما ضرورين للغاية: هل تمثل هذه السلطة الرمزية أساسًا يمكن خلخلته فعليًا، أم أنه طبيعة تخضع لأبوة تتجاوز التاريخ نفسه، وأقصد هنا الأبوة الإلهية؟ .. هذا التساؤل هو ما سينجم عنه الاستفهام الثاني: إلى أي مدى يمكن لـ (ذات) أن تتحرك خارج ذكورتها، أو بالأحرى خارج ما يفترض أنه حدود هيمنتها المحكومة بإرث لم تتدخل في إنتاجه، كما أنها ليست إلا ممرًا مؤقتًا له؟ .. لنفكر جيدًا في التناقض بين (التراب الأكثر قيمة من كل المعادن التي أحب الخالق أن نكون منها)، و(كينونتي البشرية الوضيعة) في الفقرة السابقة .. إنه الفصل التقليدي بين (الطهارة) التي أنتجت أجسادنا، و(الدنس) الذي صرنا إليه .. كأن هذا لا يمكن أن يؤدي إلا ذاك .. هكذا يمكن التفكير في إجابة للاستفهامين حول الأبوة الإلهية، وحدود التحرك خارج الذكورة.
(ربما أدركنا أن انصهار الوقت لا يؤدي إلا لإعادة تكوينه. فالانصهار لا يؤدي أبدا الى فناء المادة الخام. لأنه يعيد تشكيلها. تماما كالوشم الذى لا يفني الجلد و لكن يعيد تشكيله برسم مختلف. و تبقى اذا ذاكرتنا التي تصهر الوقت و تحتفظ لنفسها دائما بمادته الخام. ذكرياتنا عن الوقت نفسه الذى ينتهى بفنائه الذاتي. الآن فهمت لماذا أرسلت لى كارما هديتها الجميلة).
لو وضعنا عدم فهم البطل لمشهد قطع العين في فيلم (كلب أندلسي) بجانب تحليله (المسالم) للوحة (إصرار الذاكرة) لسلفادور دالي فإننا سنكتشف معنى آخر للبحث عن المثالية الغائبة عند بطل الرواية، والتي تتجاوز السلام الأخوي بين البشر .. إنه الحد الذي سيتوقف عنده أشرف المدني، حيث العودة الحتمية إلى (الرجل)، كأنه كان طوال الوقت يعمل على إنقاذ السلطة الذكورية بأن يجعلها ضامنًا للاندماج المنتظر مع الأنثى .. إن أسامة علام لم يقترب من المطلق الذي قطع لويس بونويل عينه في (كلب أندلسي)، وسخرت منه ساعات سلفادور دالي الذائبة في (إصرار الذاكرة) بل كان يسعى لتصحيح نتائجه فحسب .. أن يعالج الخلل الذي انحرف بالطبيعة ضد إرادة هذا المطلق .. كأن الوشم الأبيض قرار غير مرتبط بالغيب، أي لعنة طارئة يمكن محوها في يوم ما.
موقع (زائد 18) ـ 5 يونيو 2017

الأحد، 4 يونيو 2017

٧٧:‬ كأنها أربعون سنة أخرى

هناك وظيفة جمالية في قصائد ديوان 77 لأحمد شافعي الصادر حديثًا عن الكتب خان يمكن التفكير في طغيانها علي المدلولات الشائعة للإيجاز الشعري، دون استبعادها: تمرير الضجر.. تثبيت وعي الذات بالخصومة مع الزمن.. الإيحاء بالوهن الذي لا يتحمّل إلا أقل الكلمات.. توسيع الرؤية، أو زيادة معني العالم بالإمساك به في شبكة علاماته المختصرة بتعبير "بول ريكور".. هذه الوظيفة يمكن تحديدها في إعطاء صورة للمنطق الذي لا يتطلب استدعاء وفرة من الإشارات التي تؤكد الثقة في امتلاكه.. كأنه بعد وقت ما من الميلاد في عام 1977، وفي سن الأربعين مثلا الذي يصل إليه الشاعر هذا العام، يمكن لشخص ما أن يحصل علي انتباه استثنائي تجاه حصيلته من لامنطق العالم، وأن يكون بوسعه استعمال هذه الحصيلة كخامات بنائية في خلق مسايرة لانضباطه الظاهري.. أن يشيّد وهمًا موازيًا لما يدعي أنه نظام محكم من البراهين الحاسمة أو الإجابات المتاحة.. هي نبرة كاشفة لا تتخلي عن الرصانة مع كامل تنويعاتها المقتضبة.. يصبح لامنطق العالم هو اللامنطق الشخصي مستعيرًا صلابته المخادعة، أي متخذًا وضعية الفضح دون ضجيج.. كأنه في سن الأربعين يمكن القبض علي مفترق طرق داخل صيرورة الحياة والموت، أي داخل عُمر الذات التي ربما تتمكن حينئذ من تأمل معاركها بنقاء غير مسبوق.. أن يجرّب البهلوان حيلة منتظرة للحبل الذي لم يصر مشنقة، وأن تظهر قصيدة منقذة لاستيعاب الترمّل من بقايا كلمة مكشوطة في المعجم.. الذات المعادية لنفسها كظل يتعثر في أشياء لا توجد في ذاكرته.. الذات كعقبة أمام نفسها بوصفها الوجود الكلي الذي صارت إليه، وقد تجردت عناصره من ميوعتها.. كأن الأربعين هي فرصة لرؤية الحرب من زاوية جيدة.
"رحلة طويلة علي الحبل/ وها هو في منتصف العمر/ وسط أرامل مجهدات/ في أذرعهن آثار خدوش قديمة/ صامتٌ صمتهن/ أرمل مثلهن/ يمتنّ للحظ وحده/ أن حبلا تحت رجلي البهلوان/ لم يصر له مشنقة/ وقد يفتح المعجم/ بين الحين والآخر/ ليكشط كلمة/ راجيا أن تظهر له من البقايا/ قصيدة".
> > >
القبض علي مفترق الطرق، والناجم عن امتلاك علامات اللامنطق التي تكمن وراء التماسك "المنطقي" هو دافع لتكوين مفاصل.. اقتحام فجوات.. تأطير مناطق عازلة.. حيازة ارتقاءات لاختبار التدمير كهوية من وراء مسافة آمنة.. التدمير الذي قد يعني إرسال وخزات مبتورة من ضوء خافت، لا يريد أن يبدو كومضات ألم فحسب، بل كفكرة جادة.. حياد حقيقي تستطيع أن تتحرك الذات بالاعتماد علي ضلالاته المقتصدة.. أن تتنقل داخل تلك الغايات المبهمة، التي تجعلها قادرة علي أن تُعري سجنًا ملتصقًا بعينيها في كل مكان.. يريد هذا الضوء أن يبدو كمعرفة كي يمكن رصد تظاهرها بالثبات في مواجهة الثبات الأكثر شسوعًا وقِدمًا، ولكنه ليس الأكثر شجاعة.
"كلَّما سكنت في منزل/ تبيَّن أن هناك سجنا علي مقربة/ لا أنني سييّء الحظ بالضرورة/ إنما غلطتي كلَّ مرةٍ أنني/ أمعن النظر".
لا يأخذ الديوان طبيعة المسيرة بل التناثر.. قد نفكر مع هذه القصائد في حركة غير مشغولة بالهيمنة بقدر ما هي راغبة في توزيع اتجاهاتها، بالضبط كانتشار النور والظل فوق اللوحة.. هي حركة داخل الجسد، أي من الوعي وإليه، عبر فوران العالم.. لكن ما يبدو أنه عدم انشغال بالهيمنة هو جزء من لعبة الادعاء؛ إذ أن هناك تحت هذه القشرة المتنكرة في هدوئها المستقر يعيش هاجس شبق للفيض، للتدفق والإحاطة، ليس في حدود الواقع الذي بدأ عام 77، وإنما بما قبله وبعده.. عند هذه النقطة يمكن الاشتباك مع الديوان بوصفه خالقًا لأحمد شافعي في لحظة ميلاده الفعلية عام 77، ولكن علي نحو يتيح لذاته أن تمتد داخل الزمن الذي سبقها، والزمن الذي سيعقب نهايتها، أي أن يتوحد بأزليته وأبديته عبر هذه اللحظات الصغيرة، والطارئة.. هنا ستبدو الحياة المنقضية كأنها أربعون سنة أخري.
"ها أنت والقصيدة انتهت/ لست محبطًا/ لأنه لم يكن طائرا بالأساس/ لست محبطا وحسب/ هناك سعادةٌ أيضا/ حين تكتشف كنزًا/ كنت تجهل دائما/ أنه لديك/ حين تعرف أن عندك طائرًا/ هو أرقُّ من يمامة/ وأدقُّ من هدهدة/ هو رِمْشٌ/ في غير موضعه".
في ديوان "77" لا نقرأ قصائدً عن الحب، بل نتتبع الأثر التشريحي لموضوعه.. نتفحص طبيعة الانتماء كجوهر أصيل له.. لكن هذا الانتماء هو في نفس الوقت علامة المقاومة لحتميته.. دليل رفضه.. تحريض علي التمعّن في ضرورة هذا الرفض.. تشكيل هوية له باستخدام كوابيسه.. كأن الحب هو طريقة مثالية لمراقبة الانفصال كسرٍ ثمين.. للتعرّف علي الضرر الفادح لأن تكون منتميًا لآخر.. لملامسة القتل كتسمية صحيحة لأسلوبك في مقاومة هذا الانتماء.
> > >
"كلما أحببت/ رأيت نفسي مع امرأةٍ/ واقفين في شباكٍ،/ أو شرفةٍ/ علي شاطئ بحرٍ/ أو في/ محطة في الفضاء/ ومن كل تلك النوافذ/ تظهر الأرض كرةَ بلياردو/ تنتظر دفعةً/ تتدحرج/ ساطعةً إثرها/ نحو ثقب أسود".
"كلما أحببت/ فكرت أنني يوماً ما سأعيش/ أعتني بماعز/ هذا ليس رأيي في المرأة/ هذا رأيي في نفسي/ راعٍ غير متمرِّس/ يعتني في إخلاصٍ/ ثم يذبح بلا ضغينة".
كأن الحب وسيلة ناجحة لاستبصار خواصه كمحرّك للهلاك الذي يتجاوز عاطفة بين اثنين يقفان عند حافة.. لإدراك التوهان الناتج عن الفشل في العثور علي الكلمة الصائبة، والقاطعة والمحصنة، الملائمة للقتل، والتي لا أثر لها في المعاجم.. هذه الكلمة هي خواء المنضدة، والقبلة التي فيها شغف كل القبلات التي لن تكون، مثلما كانت الثقب الأسود الذي تتدحرج الأرض نحوه.
"كلما أحببت/ فكرت في منضدة خاوية/ وفي محل زهورٍ/ وفي قولي للبائع أيَّ شيءٍ/ عدا الحقيقة:/ أبحث عن إكليل ذابل/ لمنضدة يانعة".
"كلما أحببت/ فكَّرت في القبلات/ في خدِّي بين يدين/ ولساني بين شفتين/ وفي رموش أخري
تمسُّ ما لا تمسُّه/ إلا رموشي./ في أن أبدأ قصة حبي/ بما يرجأ عادة للنهايات: قبلة فيها شغف كل القبلات/ التي لن تكون".
"كلما أحببت/ أشركت بنفسي/ وعلمت أنه كان ثمة كلمة/ لا أثر لها في المعاجم/ كلمة هي العابد والمعبود معاً/ لكنني كلما أحببت/ ضيّعتها".
يبدو ديوان "77" كأنه يطالب بعدم إهمال هذا الحضور للنظرة في قصائده.. التقاء العينين بغيبٍ ما.. هناك دائمًا نظرة تشاهد من بعيد كرؤية فعلية، أو تخيّل، أو رجاء، وعلينا الانتباه إليها جيدًا حتي في لحظات اختبائها.. حتي في لحظات تفاديها الواضح للنظر.. النظر إلي السعادة والخيبة في تماثلهما.. في علاقتهما بالانضباط المزيف.. باللامنطق.. بالحب كفرصة لألوهة مضادة، تبدأ التاريخ مرة أخري، تكشف ماهيته، ثم تدفعه لنهايته "المنطقية".. هذه النظرة الدائمة توجد في كل قصيدة، أي أنها داخل كل مكان وزمن، ولكنها أيضًا وبشكل أساسي ليست إلا سنة "77" تشاهد من بعيد.. تدوّن ما تقتنصه بهذا الإيجاز الملتزم بالمزاج الشكلي للسقوط، كأنها ترسم شعريًا مخططًا لبصيرتها المنهارة.
"أريد أن أكون ولو مرة/ علي الشاطيء الآخر./ أن ألقي ولو نظرة واحدة/ من هناك".
تؤلف العلامات المختصرة ما يمكن اعتباره لغة خاصة تتسق مع الصلابة المخادعة للامنطق.. هذه اللغة هي الأساس لهوية التدمير، لحركة الهيمنة، ولمقاومة الانتماء.. إن لغة أحمد شافعي تجعل الأفعال والأشياء مرادفات لبعضها بكيفية غير مباشرة.. تضع كل موجود كمعني محتمل لأي موجود آخر، وفي هذا نوع من المجاهدة لإزاحة الذات من أمام نفسها بوصفها عقبة.. إذن هي ليست لغة خاصة فقط بل صيرورة خاصة أيضًا.. مطاردة للكلمة المستحيلة عبر استمرار نهم للاستعارة والاندماج والتكامل والتخطي.. بهذا يمكن لأي (منطق) أن يصبح مخذولا، أي فاضحًا لنفسه.. يصبح خيطًا ناصعًا منفلتًا من نسيج هائل بما يشبه قبلة فيها شغف كل القبلات التي لن تكون.
"سنوات/ وهو يجلد المعجم/ كي يعطيه عشرة مرادفات/ لـ أنا،/ ويجوِّع كلمة في بئر
إلي أن تعني ما لم تعن من قبل/ سنوات وهو يغتصب أفكاره/ فيخرجن في الليل بأذرع دامية/ وحلمات مقطوعة".
> > >
أفكر الآن في شخص ولد عام 1977 . كان يعتقد وهو طفل صغير جدًا أن الدنيا ـ لسبب مجهول ـ خلقت خصيصًا من أجله، وأن كافة البشر: أسرته، وعائلته، وجيرانه، وكذلك الناس الكثيرة جدًا، الذين يسكنون البيوت والمدن الأخري، ويسيرون في الشوارع، ويتحركون داخل التليفزيون، ويسمع أصواتهم في الراديو، وتظهر صورهم في الصحف والمجلات، ويتظاهرون بأنهم لا يعرفونه، هم في حقيقة الأمر ينفذون مهمة سرية تجاهه، تم تكليفهم بها من الله لغرض خفي.. كان يعتقد أيضًا أن لهذه المهمة وقت محدد حينما ينتهي سيتمكن حينئذ من أن يفهم الحكمة الغامضة التي تكمن وراءها.. هذا الشخص وهو في الأربعين الآن لا يزال مستغربًا  من نفسه، لكونه تمكن من التوصّل لهذه الحقيقة المؤكدة مبكرًا هكذا، ودون مساعدة من أحد.
"في طفولتي / كنت أرثي لكلِّ من ليس أحمد شافعي/ وليست هذه نرجسية/ مهما بدا الأمر/ غير هذا".
كل من لم يفكر في أن الماضي ينبغي أن يكون إعدادًا استشرافيًا مناسبًا للقبض علي مفترق طرق في الأربعين يستحق الرثاء حتي يبدأ في هذا.. ينبغي أن تكون الذاكرة استجابة تمهيدية للحظة المستقبل التي ـ رغم كل شيء ـ ستظل غير متوقعة، والتي سيتم تأمل المعارك من خلالها بنقاء غير مسبوق.. كأن الموت قد تردد طويلا في الإفصاح عن نفسه كما يجب، ثم قال كل شيء دفعة واحدة.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 6/3/2017