“ولكنه لم يكن معهم بقلبه أو بطبيعته الحقة. كانت ذاته الحقيقية تتجول في مكان آخر، بعيدًا جدًا، تتجول دون انقطاع ودون أن يراها أحد، ودون أن تكون لها أدنى صلة بحياته”.
أفكر دائمًا في أن هيرمان هيسه لا يعرف هنا عن تلك “الذات الحقيقية” أكثر من أنها “تتجول في مكان آخر”، وأن “القلب” أو “الطبيعة الحقة” تظاهر بالوجود، يشيان فحسب بمدى البُعد الذي تتجول تلك “الذات الحقيقية” خلاله دون انقطاع، وأن تعذرها لا يقتصر على كونها غير مرئية لأحد، وليس لديها أدنى صلة بالحياة، بل إنها الخفاء الأكثر جذرية لكل “أحد”، وعبر الكلمة والفعل، والصمت بالضرورة؛ يُشار إلى ذلك الخفاء. إنه التجول الذي يدفع الكلمة والفعل والصمت إلى أن يكونوا ذلك الخفاء، لا إيماءات إليه فقط. أفكر دائمًا في أن التجول هنا هو الكتابة.
بدءًا من العنوان، تكشف مجموعة “ظل مَن في الداخل” لحنان ماهر عن ما ستعتمد عليه قصائدها في تكوين رهانها الشعري. إن العالم في هذه المجموعة “انعكاس” خارجي لما هو كامن ومبهم في خفاء ذات مؤرقة بشروط انعزالها، أي أننا أمام افتراض لـ “أصل” أو “جوهر” ما، في باطن الكائن المشغول بمعنى اغترابه، والمنتِج لقصيدته، يعلن عن كونه مخبوءًا وغامضًا بواسطة خيالات معتمة تحيط بهذا الكائن وتُشكل “بداهة النفي” أو ما يُسمى بـ “الواقع”. هذا المستتر والملغز يمتلك “حياة” تثبتها “مَن” المستعملة في عنوان المجموعة بدلًا من “ما”، وبالتالي لديه إمكانية “الإدراك” وإن لم يكن هو نفسه “مُدرَكًا”.
لكن إنتاج القصيدة لن يُبقي ما هو في الخارج مجرد “صورة طيفية” لذلك الأصل المحتمل في الداخل، وإنما سيجعل هذا المتغيّر والمتأرجح / الظل، هو الجوهر المفترض، حيث تحوّله المغامرة الشعرية من كونه تمثيلًا لما هو كامن ومبهم إلى “أثر متنكر” أو “إيهام بالانعكاس”، أي أن “الخيالات المعتمة” المحيطة بالذات ستصبح هي نفسها خفاء هذه الذات، وليست محض إشارات له، وهكذا فقط تصبح “العزلة” امتدادًا مفتوحًا، لا تخص شروطها “الكائن” وحسب، وإنما يُقرأ بمنظورها موضوع “الاغتراب” نفسه.
“كنت حجرًا في قلب جبل/ أتنفس مملكة الشمس من شروق/ أموت عن غروب/ تدغدغني أقدام النمل/ تأخذني الرمال تحت إبطها”.
“الآن أنا حبيس مظروف/ مخنوق في درج/ وملطخ بالدماء/ كنت أداة قتل/ وهذا أخي مُنعت عنه الحياة/ بطبقات من الأسمنت والطلاء/ وآخر تتقاذفه أرجل الصِبية”.
“أشعر بالوحدة أفتقد جبلي/ أفتقد الهواء المحمّل بالرمال/ أفتقد هذه النملة ذات القرون الجميلة”.
هذه المقاطع من قصيدة “حجر تائه”، حيث يُشكّل الوعي فكرته عن “الأصل” أو هاجس “الانتماء”، وهو بذلك يقاوم المراوغة التي تحدد طبيعة ذلك “الأصل” عبر السعي لموضعته في “موطن الإقصاء” فتتحوّل معالم النفي إلى “جوهر” لا “ظلال” فقط لتواريه وغموضه. تمنح حنان ماهر الحجر حياة، ليست حياة الذات بالأساس، ولكنها حياة ممكنة لـ “الأصل” الغائب في تمنّعه، ومن ثمّ تحاول أن تدفعه في سبيل الإدراك.
تتخلى الصور هنا عن كونها تلويحات نحو “الداخل”، وتصبح وجودًا فعليًا للذات، وقد أفصحت عن ما تضمره من “تيه”، تمامًا كما يتجسد سجنها، كما تستوعب اختناقها، كما تشعر بالدماء التي تلطخها. على هذا النحو يمكن لسؤال الماهية التي تسبق الذات، أن يكون استجوابًا لسر الماهية الذي يمنع الذات من الحضور محصّنة من اغترابها. الذي لم يتح لها سوى “ادعاء الحضور” لكي تنكر عدمها.
“قلبي يعدو في البرية/ روّضه ذلك الفارس الضئيل؛/ لأركض في سباق ليس لي/ أحمله وسوطه على جلدي”.
“فتنتَني أطعمتني وجعًا للطيور/ لن أكون سِنًّا/ يدوس طينة الحب فيؤلمها؛ بل أكون بكاء موتٍ/ يغسل الغيوم/ بحفنة أحلام لم يحن وقت قطافها”.
“انكمش قلبي بارتعاده/ واستعاد خوفه المحقق/ أنتظر ضربة الألم؛/ فتزوغ مني العيون في سُبات”.
في هذه المقاطع من قصيدة “حصان أعمى” لسنا إزاء لعبة استبدال أو تقمص، وإنما نحن أمام أثر الامتداد المفتوح للعزلة؛ فالذات تمرر ما يبدو “ظلالًا” لما يكمن في وجدانها، حتى يكتسب ما يحاصرها / يُهلكها طبيعة الوجدان نفسه، وبالتالي يشف “مضمار السباق” عن الضوء المحتجب / الإبهام، في باطن هذه الذات، أو ما يصنع “الظل”، وكأن حنان ماهر بهذه الكيفية تجرد شروط العزلة من زيفها. كأنها تخلّص اغترابها من الحكمة التي تٌقرر وتُجيز الألم، البكاء، والخوف. الحكمة التي تستحوذ على المبرر الشامل لـ “العمى”.
“حينما استخدمنى كمرآة؛/ ليتأكد من هندمة ذهنه الشاسع/ لم أكن أكثر من نافذة قطار مكسورة/ يتسابق صبي وأصحابه بمحاذاة روحي/ يقذفني حجر في مقتل قلبي”.
“يتخبط بعضي ببعضي؛/ أحدثت جلبة لم يسمعها إلا الطريق/ ومع هذا جن جنون السائق/ الذي لم يصل بي إلى محطة/ كنت أتمناها”.
“حتى عندما قبّلني/ قلب ذلك الطفل الصغير/ على زجاج أيامي؛/ نهرته أمه وقالت:/ لا تقترب من النافذة”.
نلاحظ في قصيدة “نافذة القطار” هذا التوظيف للتناقض بين الثبات (المفعم بالتصدع) ممثلًا في نافذة القطار، وبين الحركة ممثلةً في ما يتعاقب على هذه النافذة من استعمال. أفكر في أن القطار ذاكرة مجهولة تتضمن الماضي الفردي وتتخطاه من الاتجاهات كافة، وبما يوطد الحدس بأن هذا التخطي يستبعد مفهوم “الاتجاه” في حد ذاته. النافذة أشبه بعين عالقة بين الحياة والموت، مفتوحة، نظرتها حالكة، لا يمكنها أن تبصر أو تنتقل إلى مجال رؤية آخر. تحلم فقط بذلك الإبصار، بالانتقال أبعد من الحيز الذي تشغله غفلتها.
ما تحلم برؤيته إذن لا يدور خارج كونها “عينًا عالقة” بل يقع وراء عطل نظرتها. ماذا لو أرادت هذه العين المتحجرة في مكانها أن تخط أحلامها كقصائد؟ كخربشات في الظلام المطبق؟ لن يكون ذلك توثيقًا فحسب، بل سيكون أيضًا تسللًا إلى ما يتجاوز النظرة المعطلة. يصبح “الواقع” فضاءً متراميًا لذلك الحلم، وهنا يتحوّل الثبات إلى حركة، يتحوّل التصدع إلى “تعويذة” لإعادة خلق المتعاقبين على استعمال النافذة. يتحوّل الماضي الفردي إلى مناوشة عقابية للذاكرة المجهولة، للثأر من المسار المستبعد الذي لا يمرر قلبًا أصيب في مقتل، أو قبلة طفل صغير لنفسه وسط جلبة أزلية.
“وقتها لطمني فرع شجرة/ وترك لي أثر ندبة على شكل ورقته/ لم أستطع البكاء/ إلا عندما تجمع ندى الفجر الزائغ/ يسرق الهواء الملوث نقائي/ ويتركني مغبرة/ أنا مللت/ من سماع نفس موسيقى الترحال/ تعزفها فلنكات وقضبان حديد”.
لم تعد الذات خبيئة نفسها، ولم يعد ما يحيق بها أصداءً لصوتها المكتوم، وإنما أصبحت الذات أحجية مُشهرة للعالم، وهي بذلك تبوح بأن لغزها قد حل بدلًا منها. أنها خاضعة لاستبدال قهري يتقدم على سقوطها، ومن ثمّ فهي ذات غير متحققة، “الأصل” بالنسبة لها ليس إلا خاطر متبدّل، تتأمل من خلاله الندوب والبكاء والغبار والملل، تجابه بواسطته الحياة والموت، وكأن الشعر هو تأويل لهذا الخاطر، لكل فعل يُنبئ بهذا الجوهر، إثبات لإرجاء الذات، ما يذكرنا بكلمات جاك لاكان: “ما يبدو كأصل، لا يكون أصلًا إلا حين يُعاد تأويله من موقع لاحق، فالحدث الأصلي هو حدث مؤجّل”. كل حدث “باطني” تحوّل ظله إلى “متن” للعالم، هو استغراق في الانتظار المؤبد للذات أن توجد حقًا.
أخبار الأدب
5 سبتمبر 2025
