منذ قراءاتي للقصة القصيرة الكلاسيكية على الأخص في عمر مبكر وأنا دائم الارتحال بين مدنها المختلفة .. لم أتوقف عن السفر على سبيل المثال إلى سان بطرسبرج وتحديدًا في لحظات قصة “الشقاء” لأنطون تشيكوف، إلى إسبانيا خلال قصة “رجل عجوز على الجسر” لإرنست همنجواي، إلى باريس خلال قصة “تهور” لجي دي موباسان، إلى دبلن خلال قصة “أفيلين” لجيمس جويس، إلى ديترويت خلال قصة “عزيزتي جريتا جاربو” لوليم سارويان …
ما الذي يعنيه الارتحال هنا؟ .. إنه السفر عبر المتاهات الوعرة المدفونة داخل جسدي مدفوعًا بالحميمية الساحرة لحلم قديم مدوّن في قصة قصيرة .. كأنني أحاول استرداد حياة غامضة كما كتبت من قبل عن طريق الانسلال الفاتن داخل ما اعتبره مخطوطًا قصصيًا بروح الأساطير العابرة للزمن .. الحياة المنطوية بالضرورة على مكاني الذي يتخطى الأماكن كلها .. الذي يتخطى فكرة أو مفهوم المكان نفسه لكن دونما انفصال عن خطواتي في العالم، أو ما يبدو أنها خطوات حقًا .. عن شرفة طفولتي التي كنت أتلصص منها على “كل ما خفي عني”، عن بيت العائلة الذي كنت أخلق منزويًا في صمته الليلي بحورًا وسُفنًا وعواصف ومخلوقات خرافية وجزر كنز، عن شوارع مدينتي التي طالما تخيّلتها تتحوّل إلى “مدينة البط”، وأن أتجوّل مع “بطوط” في شوارعها بسيارته التي تحمل رقم 313 .. عن كل ما تراكم في ذاكرتي من مواضع لحيوات توسلت بالشغف اللائق العثور من خلالها على الذاكرة التي لم أعشها وتكمن في صدوع وأغوار ما يسكنه عمائي وتقاتله بصيرتي.
الارتحال إلى مدن القصة القصيرة الكلاسيكية هو سفر غاضب إلى “الدنيا” .. تلك الكلمة التي يرددها الجميع ولم أكن أعرف معناها في صغري أكثر من كونها ـ كما كتبت في روايتي “إثر حادث أليم” ـ مكان واسع جدًا لا أول ولا آخر له، ويقع بعيدًا عن بيتنا .. كنت أظن أن (الدنيا) تمتد وراء سطح سينما (النصر) التي يوجد بيتنا في الشارع الخلفي لها، والذي لم أكن أدرك وقتها أنه (سطح سينما النصر) بل سقف منخفض لكوخ ضخم، يشبه أكواخ الحكايات الأسطورية .. كنت أنظر إلى السماء الشاسعة وراءه باعتبارها المظلة الهائلة التي تعلو (الدنيا)، والتي لا يمكن رؤيتها، بينما في الحقيقة لم تكن سوى سماء شارع البحر .. كنت أسرح في الغيوم الممتدة داخل هذه السماء، متمنيًا أن أطير إلى هناك .. إلى الدنيا كي أراها، وأعرف من يسكنها .. لكنني كنت أدرك في نفس الوقت أنها ليست غريبة عني كليًا، وأنني حين أصل إليها ـ لو استطعت ـ سأعثر على تجسيدات نابعة من خيالاتي، لم يكن لها أن تظهر وتعيش بين جدران حياتي العادية .. سأجد أمنيات متحققة في انتظاري .. ربما كانت الدنيا التي تقع هناك هي بديل الجنة في عقلي .. هذا ما جعل مدن القصة القصيرة الكلاسيكية بالنسبة لي أقرب إلى الأطياف منها إلى الواقع، وما جعل أسرار مدينتي التي أتلصص عليها خيالًا يُكتب أكثر من كونها معلومات تُكتشف .. ما يكوّن ذلك الشبح الغيبي المجهول الذي أطارده داخل العتمة الباطنية لذاتي.
موقع صدى
23 أغسطس 2025