الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

صفقة فاوستية قديمة تكشف عن العالم الحديث

حول «أهم قصة رُويت على الإطلاق»: البشرية والشر

إد سيمون
ترجمة: ممدوح رزق
مجلة "الناقد" / العدد 8 ـ أكتوبر 2025
أسطورة عقد الشيطان هي الأكثر جاذبية، والأكثر إثارة، والأكثر عمقًا، وأهم قصة رُويت على الإطلاق. تتعلق بإنسانية معلّقة بين الجنة والجحيم، بين القداسة والشيطانية؛ كيف يمكن لإنسان أن يبادل روحه مقابل قوى مطلقة، موقِّعًا عهدًا مع الشيطان ليعيش فترة وجيزة كإله قبل أن يُسحب إلى الجحيم. غالبًا ما يُرتبط هذا الموضوع بمسرحية "دكتور فاوستوس" لكريستوفر مارلو، إلا أن هذه المسرحية الإليزابيثية لم تكن أصل تلك الأسطورة، لكنها بالتأكيد مثال بارز على هذا النص الأبدي. ومع ذلك، وقبل تلك المسرحية النهضوية بوقت طويل وبعدها بزمن طويل أيضًا، يمكننا أن نجد آثار توقيع فاوست الملعون في العديد من الأعمال الأدبية الرفيعة والشعبية على حد سواء. أما الأكثر إثارة للقلق هو الطريقة التي يمكن أن نجد بها آثار حوافر الشيطان عبر صفحات التاريخ الواسعة، في استعدادنا لاحتضان السلطة والانخراط في الاستغلال، لاستدعاء الأنانية واستحضار القسوة.
لنتأمل بعضًا من آثار الحوافر الميفيستوفيليّة كما اكتُشفت في موقع بناء في ساوثوارك، لندن عام 1989. هُدم مسرح روز، حيث عُرضت مسرحية مارلو لأول مرة في أواخر القرن السادس عشر، عام 1606 ليُدفن تحت طبقات من العصر اليعقوبي، والعصر الفاصل، وعصر الاستعادة، ثم الهانوفر، وعصر الوصاية، والعصر الفيكتوري، حتى كتشف المقاولون في عهد تاتشر، الذين كانوا يبنون برجًا مكتبيًا بلا روح، المستوى السفلي من هذه الطبقات التاريخية للندن. عثر العمال أثناء تنقيبهم في التراب على علامات تدل على وجود مسرح، من بقايا قشور البندق المحترقة التي كانت تباع كوجبات خفيفة، إلى أواني الطين المكسورة التي كانت تُستخدم لجمع التذاكر. أنارت الشمس مرة أخرى أطلال المسرح. الآن أصبحت بقايا مسرح روز في قبو ذلك البرج المكتبي الذي يطل على نهر التايمز، وهو الموقع الأثري النشط والنادر الذي يدعو الجماهير أيضًا للاستمتاع بعرض فوق أنقاض المسرح الذي أُقيمت فيه العروض لأول مرة قبل أربعة قرون.
كانت العروض الأولى لمسرحية "دكتور فاوستوس" مشوبة بروابط خارقة للطبيعة؛ فقد ادعى بعض أفراد الجمهور أنه خلال مشاهد الاستحضار السحري، كانت كلمات الكاتب المسرحي تجبر الشياطين على الظهور. يتعجب فاوستوس في الفصل الأول من مسرحية مارلو قائلاً: "كم أنا مشبع بهذا الغرور! هل أجعل الأرواح تجلب لي ما أشاء، وتوضح لي كل الغموض، وتنفذ كل مغامرة يائسة أرغب بها؟" يبدو أن هذا وصف لقدرات الفنون السوداء، لكنه ينطبق على القدرات الغريبة لأي فن، ولا سيما فن المسرح. كيف اختلف مارلو عن فاوستوس؟ كان يستطيع أن يجبر أرواح الخيال على أن تجلب له ما يريد، وتنفذ ما يريد، وتخلق كونًا ظاهريًا من لا شيء سوى الكلمات والإيماءات. وكما حدث مع فاوستوس، نال مارلو عقابه أيضًا، إذ طُعن حتى الموت في عينه داخل حانة في ديبتفورد، ويُزعم أن ذلك حدث بعد مشاجرة حول فاتورة المشروبات بعد عام من عرض أشهر مسرحياته لأول مرة.
إذا صدقنا الأساطير اللاحقة؛ فإن السحر يتجاوز اليوم فيما يبدو ما هو أكثر قليلًا من كومة أنقاض منخولة. خلال عروض "فاوست"، قيل إن التعاويذ اللاتينية والدوائر السحرية المنقوشة على أرضية المسرح كانت قادرة على استدعاء الشياطين كما لو أن الممثلين محضِّرو أرواح. كان يُعتقد أنه بواسطة تلك الدوائر المرسومة بالعصا على تراب الأرضية، يستطيع الساحر أن يستدعي سكان الجحيم ليظهر عزازيل بقرنيه المعقوفين كقرني الماعز، أو مولوخ الثور ذو العينين الحمراوين المنتفختين، أو بعلزبوب المجنّح كالحشرة بفكّيه الملطخين بالدماء. وربما حتى مفستوفيليس، ذلك الشيطان الجديد في أسطورة فاوست، الذي يظهر أولًا كجثة متحللة، وقد تآكل اللحم عن جمجمته، وتزحف الديدان في تجاويف عينيه وأنفه، ليعود لاحقًا في هيئة أكثر احترامًا كراهب فرنسيسكاني متسول. أما اليوم، فأي زائر للمسرح المبني على أنقاض سابقه، سوف يلاحظ الخط الرفيع من ضوء النيون الأحمر القاني الذي يحدد الدائرة الخشنة لأساس مسرح "الروز" الأصلي، ويبدو بشكل مقلق شبيهًا بتلك الدوائر السحرية المرسومة برموز وأرقام كيميائية غريبة، والتي كان محضِّرو الأرواح في عصر النهضة يحاولون من خلالها استدعاء جميع شياطين الجحيم الملعونة في بانديمونيوم، وحيث جاء الشيطان في ليلة الافتتاح متخفيًا لكي يعاين الطريقة التي جسّده بها الكاتب المسرحي.
عندما حضرت عرضًا في مسرح "الروز" لمسرحية أخرى من عصر النهضة، معروفة بموضوعاتها الغامضة ـ مثل اسكتلندا والسحرة والملوك المقتولين ـ كان ذلك الضوء النيون على أطراف الحفرة المظلمة والرطبة ذات الرائحة العفنة تحت الأرض هو أكثر ما جذب انتباهي، تلك الدائرة المتوهجة التي تبرز في ظلام أبعد زوايا القبو، محاطة بأنقاض قرون لا تزال تُنخل. كان العرض جيدًا، وإن كان وفق الصيغة الحديثة المعتادة، لكن جلوسي على العوارض الخشبية في ذلك القبو الذي تفوح منه رائحة الماء والتراب جعل الأخوات الغريبات وماكبث أقل إثارة لي مما لم أستطع رؤيته، هناك على حافة الرؤية المظلمة، خلف شريط النيون الذي كان من المفترض أن يُخبرني أين كانت جدران "الروز" ذات يوم.
تخيلت العرض الأول لمسرحية "دكتور فاوستوس" قبل أكثر من أربعمائة سنة ـ وكل ذلك أصبح خارج متناولنا في هذا البلد الغريب والبعيد من الماضي ـ ولم يسعني سوى أن أستحضر تلك الأساطير الشيطانية حول جمهور مارلو في تلك الليلة. هناك، في ذلك الفضاء الأسود فوق الأطراف، هل كان ذلك هو المكان الذي جلس فيه الشيطان على العوارض، متنكراً في هيئة رجل إليزابيثي أنيق يرتدي المخمل الأسود والأحمر؟ لكن لا، الشيطان ليس حقيقيًا، فهذه القصص ما هي إلا دعاية بيوريتانية معادية للمسرح، وحكايات شعبية تهدف إلى إخافة السذج. لم يتم استحضار أي شياطين في أي عرض لمسرحية فاوستوس، فالشياطين مجرد شخصيات، والشخصيات ليست سوى خيال. ومع ذلك، عندما يقرأ مهرج الساحر عبارة: "Sanctabulorum…Mephistopheles" (مجرد هراء لاتيني، لا معنى له بالمناسبة) ويظهر شيطان بالفعل، حتى المتشكك في داخلي يتساءل عما يمكن أن يستحضره سرد جحيمي متقن.
في صباح اليوم التالي لعرض مسرحية مارلو عام 2013، سافرت إلى ديبتفورد لمقابلة الكاتب المسرحي نفسه. عندما استشهد مارلو في غرفة بالطابق العلوي من حانة إليانور بول، كانت ديبتفورد جزءًا من كينت، وتُعتبر منطقة قذرة وبعيدة عن العاصمة، ميناء منحطة جنوب لندن يحكمها تجار فاسدون. أثناء سيري في شارعها الرئيسي، وجدت أن أربعة قرون لم تخفف كثيرًا من تلك السمعة. وبينما أشق طريقي متجاوزًا الحانات الضيقة بنوافذها المزخرفة وظلام أبوابها المفتوحة، ورائحة القلي الدهنية المنبعثة من محلات السمك والبطاطا، والموسيقى البريطانية الصاخبة التي تُعزف في الداخل، قضيت ما يقارب الساعة أبحث عبثًا عن مقبرة كنيسة القديس نيكولاس وأنا أراقب السماء الرمادية والرياح الباردة القادمة من التايمز بقلق، حيث لم أكن أستخدم في تلك الأيام هاتفًا ذكيًا.
على الرغم من أنه كان شهر يوليو، إلا أنه في ذاكرتي كان دائمًا شهر أكتوبر، حيث كانت ديبتفورد مستنقعًا من الشوارع الملتوية والمربكة، المرصوفة بالحجارة، تتخللها كنائس منشقة تعود لقرون، وبيوت صفّية صغيرة من الطوب الأحمر ستائرها مسدلة بإحكام. لا شك أن الأشجار كانت تحمل أوراقًا خضراء، لكن في ذاكرتي، جميع تلك الأغصان كانت هيكلية، عظام مجردة من اللحم تذبل تحت سماء بلون الماء الآسن. ازدادت ميولي القوطية حدة بعد أن وجدت أخيرًا مقبرة مارلو، حيث الأعمدة المتقابلة من الطوب الأحمر التي تحدد مدخل الأرض تعلوها جمجمتان منحوتتان من الحجر، ابتسامتهما الفارغة من الأسنان وتجويفاتهما الخالية من العيون تذكار بالموت، وُضع بعد قرن من دفن أشهر ساكن في قبر مجهول للفقراء. جدار من الطوب الأحمر مغطى باللبلاب يفصل المقبرة عن عالم الأحياء، وعليه لوحة صغيرة من الرخام الأبيض ترثي "الموت المبكر" للشاعر، بينما تعلن أنه في مكان ما تحت هذه الأرض ترقد رفات مارلو، وعظامه مختلطة برفات آخرين في مملكة الموت. نقش مارلو يقول: "قُطع الغصن الذي كان يمكن أن ينمو مستقيمًا كاملًا". الجملة من مسرحية دكتور فاوستس.
إن فحصي للفجوات المزدوجة في الجماجم المنحوتة التي رحبت بي في كنيسة القديس نيكولاس أكد لي ما وجدته مثيرًا للغاية في هذه القصة عن العقد مع الشيطان، لأنني أسير على تلك الأرض المقدسة، وذرات مارلو أصبحت الآن ملتصقة بتراب نعلي، وذلك الجزء من ذاتي الذي يشكك في الشك نفسه لم يستطع إلا أن يشعر بحماسة خفية عتيقة، ذلك الإحساس بأن هناك شيئًا ربما يوجد وراء حجاب واقعنا، شيئًا يمكننا الوصول إليه لكن لا يمكننا التحكم فيه.
رغبتي في كتابة تاريخ ثقافي لأسطورة فاوست تعود إلى بضعة سنوات قبل زيارتي لمقبرة ديبتفورد، تقريبًا خلال الوقت الذي حضرت فيه عرضًا مسرحيًا بعنوان "فاوست أس" قدمته فرقة المسرح "404 ستراند" في مسقط رأسي بيتسبرغ. استند النص إلى النسخة الأقصر المعروفة بـ"النص أ" من مسرحية مارلو، وهي عمل أكثر إحكامًا وغموضًا يتجنب الهزل الذي يفسد العروض التقليدية لمسرحية "دكتور فاوستوس". كان العرض هلوسيًا، طقوسيًا، نفسيًا، إنشاديًا. عمل من أعمال الاستحضار. ومع دعوة الجمهور للجلوس في مسرح دائري مؤقت أُقيم على خشبة مسرح كيلي سترايهورن، كنا جميعًا نواجه قفصًا حديديًا صدئًا ستدور داخله أحداث المسرحية. كنت في الصف الأمامي.
أبرز ذكرى لدي عن ذلك العرض كانت الممثل الذي جسد شخصية فاوست، عاري الصدر وعضلاته بارزة، يلمع عرقه تحت أضواء المسرح الخانقة، ويرفع فوق رأسه قناع ثور أشعث ووحشي ملتف القرنين، وهو يلوح بجنون على أنغام موسيقى "ثراش ميتال" الصاخبة لدرجة أن حشوات أسناني كانت تهتز، ثم يقوم الساحر بإخراج رغيف كامل من الخبز الأبيض من كيسه المعقم ويمزقه في فم القناع البقري المفتوح، فتتناثر قطع الخبز الإسفنجية البيضاء علينا جميعًا في الصف الأمامي. كان ذلك غريبًا ومن المستحيل صرف النظر عنه. جزء من فن الأداء الطليعي وجزء من طقس وثني. جعلت جسدية الأداء الأمر يبدو من عالم آخر، غريبًا وخطيرًا. وعندما خرجت إلى هواء الخريف في حي إيست ليبرتي في بيتسبرغ، وهو حي من ناطحات السحاب الشاهقة في عصر الترف، وكاتدرائيات قوطية تتخللها الأزقة والحانات الصغيرة، أقسمت أنني في يوم من الأيام سأوقع عقدًا لكتابة قصتي الفاوستية الخاصة. كان ذلك هو العرض الوحيد لمسرحية مارلو الذي شاهدته. إنه من النوع الذي قد يأتي الشيطان لمشاهدته إذا أراد أن يعرف كيف يمكن أن يُصوَّر.
نادراً ما يتم إنتاج المسرحيات السبع القليلة التي كتبها مارلو في الوقت الحاضر؛ باستثناء عرض عام 2007 لمسرحية "تيمورلنك العظيم" الذي قدمته فرقة مسرح شكسبير في واشنطن العاصمة، أو فيلم "إدوارد الثاني" المثير الذي أخرجه ديريك جرمان عام 1991. وعند مقارنته بمعاصره ومنافسه وربما زميله ويليام شكسبير، الذي تُعرض مسرحياته يوميًا، في كل عام، في كل مدينة كبرى على وجه الأرض، والذي لا يُعتبر مجرد كاتب بل هو "الشاعر"، والمعيار الذي يُقاس به الأدب العالمي؛ قد يبدو مارلو فكرة لاحقة أو مجرد هامش، حتى وإن كان ثاني أشهر كاتب مسرحي إليزابيثي تُعرض أعماله حتى اليوم، وإن كان ذلك بفارق بعيد.
ومع ذلك، أود القول إن مارلو، الذي سبق شعره الحر القوي شعر شكسبير، وفي كثير من الأحيان تجاوزه، يُعد مساويًا تمامًا لشكسبير. وبين الاثنين، يُعتبر مارلو من بعض النواحي أكثر قِدَمًا؛ إذ كان رجلًا يميل إلى العصور الوسطى رغم سمعته الإلحادية. ومع ذلك، فإن هذا ما منح ذلك الزنديق العظيم بشكل ساخر إحساسًا عميقًا بالمقدس، فبغض النظر عن علاقته الشخصية بالله، لا يمكن اتهام مارلو بعدم اهتمامه بالمقدس والمتعالي والنشوة الروحية. وبالطبع كان لشكسبير أيضًا إحساسه الخاص بالمقدس، فكان من المستحيل ألا يكون كذلك في عصر النهضة. ولكن، بوصفه نوعًا من المجدفين الإلهيين، يبقى مارلو بمثابة الشاعر الكوني المضاد لشكسبير، ونوعًا من الشاعر الظل، الشاعر والكاتب المسرحي العظيم، الغريب، والمتمرد، شاعر الهلاك والمدنس للدينونة.
بعيدًا عن تحطيم تابوهات "تيمورلنك العظيم" وعدم احترام "يهودي مالطا"، لا يوجد عمل هرطقة مقدسة في أعمال مارلو يعادل عمق "دكتور فاوستس". فالعالم الخائن الذي يبيع حقه الطبيعي مقابل طبق من الخداع والوهم قد يكون المجاز الفعّال للحداثة، لكن مارلو لم يكن مبتكر هذه الأسطورة. كما ستقرأ في الفصول القادمة؛ اقتبس مارلو شخصية يوهان فاوست التاريخية من التقاليد الفولكلورية الألمانية، على الرغم من أن أسطورة العقد مع الشيطان كانت موجودة منذ قرون قبل أن يمزج ذلك الخيميائي التعيس لأول مرة بين نترات البوتاسيوم والكبريت. وبالطبع، لم تكن معالجة مارلو الكلمة الأخيرة، إذ أُنتجت آلاف النسخ من القصة الأساسية على مدى نصف الألفية، من غوته إلى المسرحية الموسيقية "دام يانكيز"، ومن توماس مان إلى العمل السيء لفرقة "تشارلي دانيلز باند" بعنوان "الشيطان ذهب إلى جورجيا". هناك الثقافة الرفيعة مثل "سيمفونية فاوست" لفرانز ليست، و"السيمفونية الثامنة" لغوستاف مالر، وهناك الثقافة الشعبية مثل القصة المصورة "غوست رايدر" إلى فيلم جاك بلاك Tenacious D in The Pick of Destiny.
يكتب جيفري بيرتون راسل في كتابه الكلاسيكي "ميفيستوفيليس: الشيطان في العالم الحديث": "إن شخصية فاوست هي ـ بعد المسيح ومريم والشيطان ـ الشخصية الأكثر شعبية في تاريخ الثقافة المسيحية الغربية." ومن بين هذه الشخصيات، فإن فاوست هو الأكثر إنسانية بالنسبة لنا، في غطرسته وفشله، في مساوماته وتنازلاته، وفي كل قائمة الإساءات التي يمكن للروح الفاسدة أن تلحقها بنفسها. إن رأي راسل بعيد كل البعد عن المبالغة، ولو عدلنا كلمة "شخصية" إلى "سرد"، لقلت إن هناك قلة من النصوص النموذجية في ثقافتنا أساسية مثل أسطورة رجل يبيع روحه للشيطان. آلاف الأعمال الأدبية والسينمائية والموسيقية والفنية تتناول الصفقة التي يبادل فيها الإنسان ما هو أكثر إنسانية فيه مقابل السلطة أو الثروة أو النفوذ أو المعرفة. وحدها أسطورة طرد آدم وحواء من الجنة تنافس فاوست من حيث التأثير، ويمكن القول إن تلك القصة هي في جوهرها نسخة مبكرة من عقد الشيطان.
وهذا ما يجعل قلة المعالجات النقدية للأسطورة المتغيرة أمرًا مفاجئًا. فهناك بلا شك عدد كبير من الكتب والكتيبات والدراسات والأبحاث حول أشهر نسخ الأسطورة؛ فقد تم تعيين أكاديميين بناءً على دراساتهم لمارلو، وحصل البعض على التثبيت الوظيفي بفضل خبرتهم عن غوته، لكن القصة الكاملة المتعلقة بفاوست، سواء كان هذا اسمه أو أطلقنا عليه اسمًا آخر، لم تُرو بعد. محاولتي المتواضعة هي هذا الكتاب، فمع أن مارلو وغوته ومان قد يكونون جميعًا حاضرين فيه، إلا أنه ليس كتابًا عن مارلو أو غوته أو مان، بل إنه في الحقيقة ليس حتى كتابًا عن شخصية واحدة اسمها "فاوستوس".
وعلى الرغم من أنه يُعد تاريخًا في الظاهر، وأن هذا السرد يتحرك إلى الأمام بطريقة شبه زمنية، إلا أنني أفضل أن أعتبر القصة التي يرويها عن شخصية خارج الزمن، تعيش بالتوازي مع الماضي والحاضر والمستقبل. إنها قصة أبدية. ما يهتم به هذا الكتاب هو التداعيات ـ الثقافية والسياسية واللاهوتية ـ لهذه السرديات المشحونة بالرمزية العالية حول التخلي عن الروح، والتنازل عما هو جوهري فينا، والاستسلامات والمفاوضات التي تشكل أي حياة فاشلة، أي كل حياة. أكثر من كونه تاريخًا، إذًا، فإن "عقد الشيطان" هو سرد لما يعنيه أن تكون إنسانًا بكل إخفاقاتك.
يتزايد الأمر ليصبح وصفًا للبشرية في الوقت الحالي. فعلى الرغم من الطابع العتيق للأسطورة، واللاتينية التي تُتمتم بها، والتعاويذ الكيميائية، فإن قصة فاوست كانت دائمًا حديثة بمعنى جدير بالتقدير، وربما هي أول قصة حديثة على الإطلاق؛ فعلى عكس آدم وحواء، اللذين تدور قصتهما الغامضة في العصر البرونزي بلغة قديمة وغريبة إلى درجة أن أجيالًا من اللاهوتيين اختلفوا حول دلالات كل جانب من جوانبها، فإن تفاصيل أسطورة فاوست ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعصرنا. هذه، في النهاية، قصة عقد؛ إذ أن نهاية معظم نسخ قصة فاوست تتضمن توقيع وثيقة ملزمة قانونيًا، وهي تجربة كانت غريبة عن مؤلفي سفر التكوين لكنها شائعة في حياتنا، سواء في التعامل مع الموارد البشرية أو عند النقر على اتفاقية مع شركة الهاتف الخاصة بنا. قد تتناول قصة فاوست ما هو روحاني ومتعالٍ، لكنها أيضًا تدور حول البيروقراطية والأوراق الرسمية، جحيمنا المعاصر وأسراره على التوالي. نحن نرى فاوست بشكل لا يمكن لأي شخصية في الكتاب المقدس أن تكون معاصرة لنا به.
مسألة التوقيع على الخط المنقط هي سطحية عندما يتعلق الأمر بأهمية فاوست بالنسبة للقراء المعاصرين، لأن قصة عقد الشيطان، أكثر من أي أسطورة أخرى، هي تجسيد موجز للمأزق البشري على مدى القرون الخمسة الماضية، تمامًا في الوقت الذي تشكلت فيه الحداثة؛ وُلدت، ازدهرت، وهي الآن تحتضر في لحظات موتها الخاصة.
عرض مارلو مسرحيته في بداية ما يُطلق عليه بشكل متزايد عصر الأنثروبوسين، الحقبة الجيولوجية التي أصبح فيها بإمكان البشرية أخيرًا فرض إرادتها (بطريقة شبه غامضة) على الأرض. هناك ثمن لأي عقد من هذا النوع، كما تقول حكمة الأسطورة، ولذلك يجدر بنا بعد خمسة قرون من هيمنة الإنسان على الكوكب تأمل أننا ربما نواجه الآن موعدنا الجماعي الخاص في ديبتفورد. يبدو أننا أخيرًا نواجه الفصل الأخير، الطابع الكارثي لعصرنا، من تغير المناخ إلى حافة المواجهة النووية، مما يجعل بقاء البشرية سؤالًا مفتوحًا، وكذلك مصيرنا المحزن نتيجة الغرور والجشع والتفاخر. قد يكون من المناسب إعادة تسمية هذا العصر بـ"العصر الفاوستي". لأنه سواء كان الشيطان حقيقيًا أم لا، فإن آثاره في العالم حقيقية. عندما يتعلق الأمر بـ"الحقيقة" و"الوقائع"، فالكلمتان ليستا مترادفتين، ولن أندهش على الإطلاق إذا تمكنت من تمييز دخان بعض الأوهام الشيطانية خلف خط النيون لمسرح روز، في أعماق ظلمة شاملة لا يستطيع أي بصيص من الضوء أن يفلت منها.
*مقتبس من "عقد الشيطان: تاريخ الصفقة الفاوستية" ـ إد سيمون.
نُشر في Literary Hub ـ July 9, 2024
إد سيمون هو عضو هيئة التدريس المتخصص في الإنسانيات العامة بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة كارنيجي ميلون، وكاتب في موقع Lit Hub، ومحرر مجلة Belt . أحدث كتبه "عقد الشيطان: تاريخ الصفقة الفاوستية"، وهو أول عرض شامل وشعبي لهذا الموضوع.