الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

افتتاحية العدد الثامن من مجلة "الناقد" / أكتوبر 2025

الناقد «8»

أثناء العمل على مشروع توسّعي حول مفهوم "الشر" أيقنت أن المتن النقدي العربي يحتاج إلى قراءة راهنة لـ "فاوست". قراءة تقارب "الشيطان" انطلاقًا من علاقة الطفولة بالسحر، أو الخبرة الأولى للطفل بالعالم المتمثلة في اكتشافه بأنه "لا يملك قدرات سحرية" بتعبير فالتر بنيامين."1". تأويل يراجع التنظير الغيبي لما يسمى "السعادة الحقيقية" و"المعرفة المطلقة" استنادًا إلى "الكتابة" باعتبارها تاريخًا للتمرد، رفض الصفة الإنسانية، الانتقام من المطلق نتيجة الحرمان من امتلاك قدر إلهي. كيف يتم التبروء، تحت سطوة القمع، من هذا العصيان بإحالته عفويًا إلى قوة ما ورائية يُنسب لها جوهر "الباطل". التمرد، كإرادة أصلية، على المحتوم البشري، حيث هناك حكاية دائمًا عن الغضب والصراع مع الكوني، والثأر مما يمثل قيدًا حصينًا أمام التحرر من الحياة والموت، وهو عصيان بمقدوره التجسد في صور وأشكال مناقضة لطبيعته، ولكنها لا تمحوه، كغريزة وجود، بل تبقيه كامنًا، نشطًا، وقائدًا للذات عبر أقنعة وضلالات."2". تناول يعيد النظر في "الصفقة مع الشيطان" وفقًا للإسقاط الفرويدي للدوافع العدوانية المكبوحة والاندفاعات المستهجنة النابعة من اللاوعي، وإعادة تمثيل النزاع مع صورة الأب، وكذلك استدعاءً لمفهوم "الهو" في نموذج فرويد للبنية النفسية حيث تجتمع الغرائز والرغبات البدائية، والتفاوض مع ما هو خرافي كتعبير ظاهري عن صراع الباطن مع الميول والنوازع "الشريرة" المكبوتة. إعادة كتابة لمعنى "الإثم" لدى إنسان يفكك حكمة "الخلق" بالخلق المضاد، مثلما وصف إد سيمون: "كيف اختلف مارلو عن فاوستوس؟ كان يستطيع أن يجبر أرواح الخيال على أن تجلب له ما يريد، وتنفذ ما يريد، وتخلق كونًا ظاهريًا من لا شيء سوى الكلمات والإيماءات"."3".
كائن تترفّع آلامه على الفردوس والجحيم، هازئًا بالأبوة الميتافيزيقية للعالم، بينما يخاطب ذاته المحررة داخل عتمتها بكلمات شارل بودلير في قصيدة "صلوات للشيطان":
"يا من إذا قهِر نهض دائماً أقوى وأصلب
أنت يا من تعرف كل شيء
يا ملكاً عظيماً للخفايا
وشافي الإنسانية من قلقها وحيرتها".
"أنجبت الأمل الفاتن المجنون
أنت يا من تمنح المحكوم بالإعدام
النظرة الهادئة المتعالية".
"أيها الأب الذي تبنّى كل الذين طردهم الله الآب
بغضبه الأسود من جنة الفردوس"."4"
أفكر في هذه القراءة الراهنة لـ "فاوست" في ضوء الارتباط النيتشوى للخطيئة بأخلاقيات السيادة والعبودية، والإيمان بـ "الثواب والعقاب" في "عالم آخر" إنكارًا لـ "الواقع الأرضي"، أو الهراء الملعون لـ "مصدر التكوين": "احذروا أن تلقوا بـ 'شيطانكم' إلى الخارج، لأنكم بذلك قد تطردون أفضل ما فيكم.""5".
يبدو أنني كشفت عن تلخيص ما حول ما "أرتكبه" عن فاوست خلال عملي في ذلك المشروع حول "الشر". ما أقوم به ضمن رحلة كالتي خاضها فاوست ذاته، وفي كل خطوة منها يتحقق ذلك "الطموح الجامح" لتقويض الذنب، للسخرية من الخطأ، لمنح الغواية صفة العدل؛ حيث لا بداهة تطغى على الحق في امتلاك "مغريات الحياة"، و"الخلاص من الألم"، و"حيازة العلم الكامل" أكثر من الحق في الامتلاك الكوني، الهيمنة على الغيب، أو على الأقل انتهاك الحد الاستعبادي بين الإنسان وكماله، بين الإنسان و"الخير الخالص" الذي كان يحياه قبل وجوده في العالم. الحد الذي ينقلب عنده عمل "الغفران".
الهوامش:
[1] See Walter Benjamin, "Fritz Frankel: Protocol or the Mescaline Experiment of May 22, 1934," On Hashish, ed. Howard Eiland (Cambridge, MA: Belknap Press, 2006), p. 87.
"راجع: السحر والسعادة / جورجيو أغامبين ـ ترجمة: سامح سمير، كتب مملة 10 يناير 2019"
[2] العالم المكتوب: تاريخ التمرد / ممدوح رزق ـ أخبار الأدب 4 نوفمبر 2023.
[3] صفقة فاوستية قديمة تكشف عن العالم الحديث / إد سيمون، ترجمة: ممدوح رزق ـ مجلة "الناقد" ـ العدد 8 / أكتوبر 2025.
[4] صلوات للشيطان / شارل بودلير، ترجمة: حنا الطيار ـ جورجيت الطيار، antolgy.com.
[5] هكذا تكلم زرادشت / فريدريش نيتشه، ترجمة: علي مصباح ـ منشورات الجمل 2007.