يعيدنا عنوان مجموعة حسام المقدم "ما يشبه الظل" إلى نظرية الشخصية عند كارل يونج، وتحديدًا إلى مفهوم "الظل" الذي يشير إلى الجانب المظلم، أو موضع "الإنكار" في الشخصية، حيث يختبئ كل ما عاندت الأنا انتسابه إليها، ومن ثمّ قامت بإسقاطه على الآخرين. تحيلنا أيضًا قصص هذه المجموعة الصادرة عن بيت الحكمة إلى ما يمكن تسميته بـ "الكينونة المضادة"، أي ما تعتبره الذات "حالة وجود" مناقضة لها، وبالتالي تتخذ تجاه حضورها موقفًا متأرجحًا، يتداخل عبر طياته التجنب والمناوشة والتفاوض. هذا الموقف تجاه الكينونة المضادة لا يمثل "وجود" الذات، وإنما تمردها الخفي على نفسها. كفاحها المستتر لبلوغ حريتها أو "عدم الكينونة" بتعبير كارل ياسبرز.
"يمكنني أن أعدّ الكلمات التي تبادلتُها معه. أقول له: "إيه الأخبار؟"، يردّ: "مفيش جديد". في مرة أخرى أحاول أن أناقشه في أي شيء، مثل احتمال تغيير التوقيع في دفتر الحضور والانصراف إلى نظام بصمة الوجه. يكون ردّه: "مُمكن". لا يصلني شيء من "مُمكن"، يمرُّ بي خاطر أنه يُخفي أشياء لا يريد الكشف عنها، أو هو في الأساس لا يستريح للكلام معي، رُوحه تستقبل مني النّفور فتردُّه بأحسن منه. الغريب أنني بعد كل مرة أتلقّى فيها رُدوده الشحيحة؛ أُوشكُ أن أخلع حذائي وأُنَفِّض رأسي. أتمادَى في تأنيب نفسي: أستأهل ما يحدث لي، طالما أتكلم مع هذا الكائن. أتردد في الاعتراف أنّ مغناطيسا يجذبُني إلى مَنْ أكرههم".
في قصة "شرارة سوداء" يحدد الراوي شخصية "علاء" ككيان معاد له؛ شخصية تتسم بالانطواء والغموض وتثير الاستفزاز بالضرورة، وكأنها تصوّب إلى الراوي ملامح من "الظل" الذي يستبطنه، أي ما تأبى أنا الراوي الاعتراف باحتجابه في داخلها، ومن ثمّ تكشف الكتابة عن هذا النزاع بين الراوي وتلك الصورة المجسّدة من ظلامه الخفي في شخصية "علاء"، وتعادل الصور الأخرى التي "تجذب الراوي". يتحوّل الراوي هنا إلى ذات تُفصح عن ما تضمره تجاه الكينونة التي تعتبرها الأنا تمثيلًا لنقيضها. تُظهر أوراق اللعب مع خصمها الكامن أساسًا في داخلها: التقرّب، النفور، التلصص، الرجاء، الندم. أوراق لعب تُستخدم في مراوحة مستمرة، تصارع هذا الوجود المضاد، شوقًا لامتلاكه، لكي تقبض الذات على سرها بواسطة امتلاكه. نلاحظ التعبير الذي استعمله الراوي في وصف شعوره بالقلق من رؤية "علاء": "أشعر بِضَربات في رأسي تتجسّد وتتجاوز إيقاع النبضات، شيء في بطني يتكوّر ويلفُّ مُحدِثا وجَعًا". في مقابل تعريف ما في الرأس "ضربات"، نجد "لا تعريف" لما في البطن: "شيء". لماذا لم يعيّن الراوي تسمية لذلك الذي "يتكوّر ويلف مُحدثًا وجعًا" في بطنه كما فعل مع "الضربات التي تتجسّد وتتجاوز إيقاع النبضات" في رأسه؟ كان من السهل على الراوي أن يفعل ذلك بتحديد عضوي واضح كاضطراب أو تقلصات المعدة او الأمعاء مثلما وصف ما يحدث في رأسه. إن هذا الشيء هو "علاء" نفسه متخذًا طبيعة الجنين الذي يريد الراوي إنجابه / إجهاضه، وبالتالي الحصول على السلام الناجم عن مغادرة هذا الكائن لجسده، وبما أن علاء لا يمكن تعريفه؛ إذن هو "شيء". "علاء" جنين مجهول لا يمكن للراوي تسميته، هو فقط ابن "الظل" لدى الراوي، جسر غائم نحو الغيب، أي ما يجب للذات مطاردة خلاصها من نفسها عن طريق اجتيازه.
"عضضتُ شفتي، تلاحقت أنفاسي. أغمضتُ عينَيّ على زغلَلَة بصريّة، جَسَّدها ذهني المشحون. رأيتُه يرفعني بقوة ويضعُني في كرسي آخر، ثم يعود ويقعد مكاني. أتفاجَأ بنفسي في بيته، أتجوّل في الحجرات، أُبصر امرأة تقف في ركن، وهو هناك في مُواجهتها. من جسديهما تخرج أشعة صفراء قوية تتداخل في دوَّامة كبرى. صدري مُعبّأ بدُخان ضاغط. سأقوم حالا وأخنقه، لن أتركه حتى تخرج روحه. آه لو أرى روحه، أتأمّل شكلها، أقترب منها وألمسها. تحدث المعجزة، أَمدُّ يدي، وبمجرد أن أمسك ذلك الشيء وأتحسس رخاوة المطاط اللاصق؛ تَرجُّني رعشة قوية، أرميه وأجري".
يُمعن الراوي في كشف "ظلامه" المتمثل في شخصية "علاء"، ومن خلال ذلك النوع من العماء أو "الزغللة البصرية" التي تستدعيها / تخلقها "الكتابة"؛ تبصر الذات تلك الإرادة الباطنية لـ "الظل" حين تقوم في لحظة التيقظ أو الانتباه هذه بإزاحة "الأنا" عن عرشها المتوهم ليعلن الظلام عن نفسه كأصل متمنّع. إرادة مجابِهة للسلطة أبوية، تحوم حول الامتزاج بين الرمزي والخيالي؛ فـ "علاء" يحضر عبر هذه "الزغللة البصرية" كأب مستمد من الأب الواقعي، أي ما يمثل القانون اللغوي والاجتماعي للرغبة، كما أنه يجسد في نفس الوقت التصورات المثالية والعدائية للراوي تجاه ذلك الأب، ضمن سياق التقليد والمنافسة. يحلم الراوي باسترجاع أبوته الكونية عبر التوحد بذلك الاندماج بين الرمزي والخيالي. بالخضوع إليه ـ كصفقة مترصدة ـ حين يأخذ الراوي محل المرأة (التي تكابد مخاضًا لا ينتهي لولادة هذا الأب الكوني). أن يعاود امتلاك "الأم" التي تقف في ركن ـ استرداد ذاته من "مرحلة المرآة"، بحسب جاك لاكان، أي مقاومة إدراك أنه موضوع مستقل عن أمه"1" ـ ومن ثمّ يُبعث الوجود خارج ظلمة الأبوة نفسها. قتل ذلك الأب، انتزاع روحه الملغزة، الروح التي يستأثر بها، ولا يمكن تخيّل ملامستها على نحو كامل ومؤكد، وبالضرورة هي لا تٌعرَّف إلا بنقيضها، أي تلك النفس العابرة، التي تفتقر إلى السطوة الغيبية، المحكومة بالخوف من القبض على الزيف "القناع الجائر" لمفهوم الأبوة.
"أُردّد بلساني داخل فمي: لا تلتفت، إياك أن تُدير رقبتك، وجهه في انتظارك، يترصّدكَ أينما كُنتَ. أُريح رأسي على مسند الكرسي. يُشتّتُني هاجس أنه ينظر ناحيتي بمُعدّل نظرة كل ثانية، يفكر في لحظة التقاء نظرتينا، في الشرارة السوداء التي ستنفجر في منتصف المسافة بيننا".
تعيدنا "الشرارة السوداء" إلى كارل يونج ثانية: "إن وعي "الأنا" ليس سوى شرارة صغيرة في محيط الظلمة العظيم، ومع ذلك، فهو النور" "2". الراوي يراوغ الوعي بـ "الظل" / علاء كأنه رسول "جحيم دانتي" بوصف يونج نفسه للمكوّن المرفوض والمُلقى في النسيان أو ظلمة اللاوعي. ما لا يجب أن يكتب مشهد النهاية، أي ما يقرر المصير.
"آخر ما يخطر على بالي، في أسوأ الظّروف القَدَريّة، أن ننقلب في الترعة، وأكون مع هذا الشخص في عناق إجباري، يستميت على النجاة. سأدفعه عني بكل طاقتي المكبوتة، لا يمكن أن يكون وجهه آخر الوجوه التي آخُذها معي إلى الأبد".
لكن الكتابة لا ترصد المراوغة فقط، وإنما تحوم حول المواجهة بين الذات والظل، أي الثمن الذي يتحتم على الذات دفعه نتيجة لهذه المواجهة: "التخلي عن كل أمل" كما كُتب على أبواب الجحيم في الكوميديا الإلهية. النور هنا أشبه بالإشراق المعكوس، توغل عبر أغوار الذات مجردًا من "الحكمة"، اجتياح لعتمة الصدوع وصولًا إلى العدم، هي شرارة سوداء لكونها محوًا للذات، استبصارًا لفقدانها الذي يسبق ضلال الولادة، دحض المثال الغيبي الذي تريد أن تكونه، الإقرار بأنه لا سبيل لهذه الذات أمام كمالها المُهدر وحصانتها المستبعدة سوى إشهار لعنتها. أن تعلن حريتها بالتخلي عن كل تبرير أو تفسير أو استناد إلى دافع مبهم تقدم نفسها قربانًا لحمايته. التخلي عن كل رجاء في تعويض. لا شيء يعوّضها سوى الانتقام من سرها المتواري في صورة "الأب المهيمن".
"وقفتُ أمام المرآة الكبيرة في حجرة أمي، عرّيتُ نفسي، وضعتُ الشيء بين فخذيّ، أبعَدتُ عُضوي قليلا، البلبل أو الحمامة كما يقول العيال، استعرضتُ شَكلي الجديد، نُسختي المزدوجة، ابتسمتُ، تمايلتُ، قرفصتُ فانفرجَ فخذاي، هذه المرّة ظهرَ عضوي صغيرا منكمشا، أصبح لي شيئان، أحدهما "مَركِب" والآخر بلَحة ذابلة، قَرَّبتُهما، أصبحا مُتلاصقين".
تدفعنا قصة "تشكيل طيني يشبه حبة القمح" للبقاء في "نظرية الشخصية"، ولكن هذه المرة بالتوجه نحو مفهومي الأنيما والأنيموس عند كارل يونج، أو قوتي الذكورة والأنوثة المتصارعتين داخل الشخصية. يستعيد الراوي في القصة جذور تعرّفه على "المرأة" في تكوينه النفسي، من خلال تشكيل حبة قبح طينية تطابق ما رآه عند أمه وهي تستحم. لكنه ليس تعرفًا بدائيًا على النمط الآخر للشخصية فحسب، وهو ما سيتم لاحقًا إبعاده إلى ظلمة اللاشعور، وإنما البحث المبكر ـ في المقام الأول ـ عن الكمال. الشبق الغريزي للتمرد على النقص الذي يتخطى امتلاك الذكوري والأنثوي، للاعتراف بهذا العصيان ومن ثمّ العيش بوصفه حياة أصلية. ما كان على "الظل" أن يختطفه لكي تحافظ الأنا على "أمانها" وفقًا لشروط ذلك الكبت. يستعيد الراوي في القصة مطالبته المبكرة "المشفّرة" بالتحرر من جسده، أي التخلص من كينونته ليعود "ذاتًا كاملة بلا نقائض".
"أذكر أن عينيّ أبي لم تكونا مرتاحتين لتصرّفاتي، نظرتُه إليّ كلما رآني ألعب بأشياء لا تشغل بال عيال في سِنّي؛ يلعبون الكرة، أو يضربون بعضهم بغشوميّة في "صَلَّح".
حتى اليوم لا أزال أشكُّ أنه عرفَ سِرّ الشيء المُحرّم الذي صنعتُه، ولاحَظَ انشغالي البالغ بكرتونتي العامرة، حين كنتُ أُغيِّر أماكنها، من تحت سريري، إلى فوق الدولاب، إلى السطح مدفونة في القش.
هل كان هو الذي أخذ ذلك الشيء تحديدا من الكرتونة، دون أن يمسّ باقي الأشياء؟ يومها بحثتُ في الدار وعلى السطح، والنتيجة: فَصّ ملح وذاب. أتذكر استعراضي لتماثيلي أكثر من مرّة، صَففتُهم أمامي واحدا واحدا، بلا أمل في ظهور ذلك الناقص. عدتُ وجمعتُهم، ذاهبا بهم إلى تحت الكنبة في الصالة، دون أن أشغل نفسي بمدى أمان المكان من عدمه.
الغريب أنني لم أصنع شيئا جديدا يُعوّض ما فقدته مثلما أفعل مع مُجسّماتي الأخرى، انطفأت رغبتي في إنجاز تشكيل طيني يشبه الذي ضاع.
إلى هذه اللحظة لديّ اقتناع أنني لو فعلتُ؛ ما وصلتُ إلى تمام الشّبَه الذي كان".
يقف الأب، بكل ما يمثله واقعيًا ورمزيًا وخياليًا، أمام هذا الاكتشاف، مراقِبًا ومعاقِبًا في مواجهة هذا التوق العفوي للكمال، لإعادة اكتساب الأبوة الكونية التي تستحوذ وتتعدى "الرجل والمرأة". الأب ـ كمصدر متعال للسلطة ـ يتولى اختطاف هذه الشهوة "من كرتونة الراوي" إلى "الظلام". إلى "الظل" الكامن لدى الراوي، وكأنه لا فرق بين أن يُخفي الأب "ذلك الشيء" أو يتخلص منه الراوي بنفسه إرضاءً للاب وامتثالًا لنظرة التحريم التي تلاحقه بها عيناه. إن هذا المجسّم هو ما كان يمنح الحياة لتماثيل الراوي الأخرى باعتباره إيماءة نقية إلى الجوهر المؤجل لـ "المطلق" الذي يُفترض بالراوي استرداده. الدليل الملموس على وعي الراوي بالخلاص الكامن في إزاحة نقصه، في العثور على "اكتماله"، ومن ثمّ في قدرته على "الخلق" الناجمة عن هذا الاكتمال. هذا ما يجعل التماثيل / المخلوقات التي لم تنجح محاولات الراوي لبعث الحياة داخلها نتيجة فشله في استرجاع أبوته الكونية، المناوئة لمفهوم الأبوة في احتيالها الجحيمي المترفّع؛ هذا ما يجعل تلك التماثيل محض استعارة خاملة للراوي نفسه، ينقصها "الأمان الأبدي" الذي لا يُخدش، سواء بدا أنها آمنة حقًا ولو بكيفية مؤقتة أم لا. هكذا أفكر في الكتابة بوصفها رد فعل على الإخفاق الطفولي الذي تؤطره هذه الكلمات: "لم أصنع شيئا جديدا يُعوّض ما فقدته مثلما أفعل مع مُجسّماتي الأخرى، انطفأت رغبتي في إنجاز تشكيل طيني يشبه الذي ضاع. إلى هذه اللحظة لديّ اقتناع أنني لو فعلتُ؛ ما وصلتُ إلى تمام الشّبَه الذي كان". الكتابة اكتشاف للثأر المنطقي من هذا الحرمان المتجذّر. الحرمان من "الروح الملغزة"، القادرة على "الخلق الفعلي"، ودون بطش أبوي. أفكر في الكتابة كعقاب على ما تيقن منه الراوي خلال أيامه اللاحقة بأنه لا يمتلك قدرة خارقة على الشفاء من نقصانه، وأن كينونته هي النقيض القسري للكمال.
يغلب ضمير المتكلم على المجموعة، وهذه الملاحظة لن تبوح بسرها إلا مع اقتفاء أثر "الظلام" عبر قصصها سواء في حضوره الفعلي كما في قصتي "استدراج النور" و"عجينة سوداء"، أو في تلويحاته الضمنية كما في قصص "تانجو النوم"، و"غبار قوس قزح" و"سماء أسفل النافذة". الراوي يحاول التكلم أكثر من كونه متكلمًا بالفعل، فالظل ليس ما يكافح أن يرسمه (في الخارج) بل ما يسعى لاستبصاره في الداخل. الظلام الباطني يحفّز ويضاعف غضب الراوي ونقمته تجاه "ظلام الواقع" الذي يشير إليه ويؤكده انقطاع الكهرباء مثلًا، ومن ثمّ فإن لديه نبرة "التخبّط في العتمة" أو من يعرف أن ثمة ظلًا ينبغي التنقيب عنه، ولكنه يبقى على الدوام ظلًا "قيد التحري"، محاصرًا بالشك، مسيّجًا بالارتياب من كونه يقبل الاغتنام أو "ما يشبه الظل". لذا فالإشارات والتشكليلات الظلية التي تتحاور عبر بلكونتين في غياب الكهرباء، تدور نفسها في خبيئة كل من الرجل والمرأة داخل عزلة يسكنها الاغتراب، ويوطدها "الطبطبة والنوم". أيضًا "عُصارات الحبر المخلوطة بعجينة السطور" تنبئ بكونها ترسبًا داخل "النشوة والابتهالات والدموع". الظل ليس انعكاسًا لما تخوضه الأنا وإنما استقراءً لما لا يمكن لها أن تكونه. الأصل الذي تم استبداله بكينونة مصطنعة، مخادعة، ونستعيد كارل ياسبرز مجددًا حين نقول: تتلاشى في خيال الكتابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ يمكن هنا الرجوع إلى قراءتي لقصة "الأفعى" لجون شتاينبك ضمن كتابي عن كلاسيكيات القصة القصيرة "هل تؤمن بالأشباح؟".
2ـ راجع "الكتاب الأحمر"، كارل يونج، ترجمة: متيم الضايع ـ رنا بشور، دار الحوار 2015.
أخبار الأدب
9 نوفمبر 2025
