الأربعاء، 26 نوفمبر 2025

تحميل كتاب “جريجور سامسا مطاردًا ظلاله”


بين قبرٍ ومقهى

 شاب وفتاة يقفان بجوار رصيف المستشفى في الليل البارد .. كلاهما في العشرينيات، وينتظران تاكسي يعيدهما إلى البيت بعد خروجهما من المستشفى .. شاب وفتاة ارتديا ملابسهما الثقيلة على عجل قبل مغادرتهما البيت .. أحدهما كالعادة شعر فجأة بعدما أغمض عينيه بضيق في التنفس، وبدقات قلب قوية ومتلاحقة فأيقظ الآخر .. إما أن الشاب نهض من سريره في الظلام وتوجّه حافيًا على ضوء وناسة الصالة إلى حجرة الفتاة ليقف عند عتبتها ويناديها خائفًا ومترددًا: "ماما .. أنا تعبان"، أو أن الفتاة نهضت من جوار زوجها ودخلت إلى حجرة الشاب التي يتشاركها مع أخته الكبرى ثم أيقظته بنبرة قلق ورجاء خافتة: "معلش، قوم وديني المستشفى" .. الشاب والفتاة يتشابهان في الملامح والصوت والمرض، وبالطبع في نعاس عيونهما وارتعاش جسديهما بينما يقفان أمام المستشفى انتظارًا لتاكسي .. يضع الشاب يديه في جيبي بنطلونه ويسترق النظر بتوجس وشفقة إلى الفتاة التي تضم طرفي شالها الصوفي الداكن بقوة على صدرها، وتتطلع إلى الطريق في شرود واستسلام .. سواء كان هو أو هي؛ لا تتغيّر كلمات كل طبيب يستقبلهما في الساعات المتأخرة من الليل: "راحة الأعصاب والهدوء النفسي أهم شيء" .. يراقب الشاب شعر الفتاة البني الناعم الغزير وهواء الشتاء يجتاح خصلاته المتعرجة فيتمنى أن يمد يده ليتحسس رأسها ثم يضم وجهها إلى صدره ويحتضها كما لم يستطع أن يفعل مطلقًا في بيتهما .. أن يقبّل شفتيها الصغيرتين بنهم تحت الأضواء الصفراء الساطعة لعواميد الإنارة حولهما .. الفتاة لا تنظر إليه لكنها تتخيّل نفسها تسكب بكاءً جارفًا في حضنه .. أن تغفو بين ذراعيه لأطول وقت ممكن، حتى لو لم تستيقظ إلا على لحظة موتها .. كان الشاب غاضبًا والفتاة يائسة .. أما الرجل في منتصف العمر الذي يراقبهما وهو جالس في المقهى المقابل للمستشفى فلم يكن وقوفهما بالنسبة له مجرد انتظار لتاكسي يعيدهما إلى البيت، وإنما تفاوضًا جنائزيًا مع لقاء لم يحدث أبدًا .. لقاء يتم استبداله منذ اللحظة الأولى بمتاهة وعرة بين سريرين في البيت نفسه .. هي نفسها المتاهة بين قبر امرأة عجوز ومقهى يجلس رجل في منتصف العمر وحيدًا بجانب نافذته الزجاجية، ولا ينتظر شيئًا.

قصة قصيرة جدًا

إرنست همنغواي

ترجمة: ممدوح رزق

ذات مساء حار في بادوفا[1]؛ حملوه إلى السطح، فأمكن لعينيه أن تحلّقا في سماء المدينة. كانت طيور السويفت[2] تحوم بين رؤوس المداخن، وبعد قليل انسدل الظلام وسطعت أضواء الكشّافات. نزل الآخرون يحملون زجاجاتهم، وكان هو ولوز بالأسفل، يسمعان أصواتهم عبر الشرفة. جلست لوز على السرير، يغمرها الانتعاش والبرودة في تلك الليلة الحارة.

طوال ثلاثة أشهر؛ أمضت لوز النوبة الليلية، وكانوا سعداءً بهذا. عندما أجروا الجراحة له؛ كانت هي التي جهّزته لطاولة العمليات، كما دعمت ذلك بمزحة “الصديق أو الحقنة الشرجية”[3]. خضع للتخدير متشبثًا بتلابيب نفسه خشية أن يُفشي بأي سر خلال فقرة الهذيان الكوميدية. بعدما بدأ في استخدام العكازين؛ تعوّد أن يقيس حرارته بنفسه، كي لا تضطر لوز للنهوض من السرير. لم يكن هناك سوى قليل من المرضى، وجميعهم كانوا يحبون لوز، ويعلمون بالأمر. في رجوعه عبر الممرات؛ كان يتخيّل لوز في سريره.

قبل عودته إلى الجبهة؛ دخلا إلى الكاتدرائية وصليا معًا. كان المكان مظلمًا وهادئًا، وثمة آخرون يصلون أيضًا. أرادا أن يتزوجا، لكن لم يكن هناك وقت كاف لإعلان ذلك، كما لم يمتلك أي منهما شهادة ميلاد. شعرا وكأنهما زوجان، لكنهما أرادا أن يعرف الجميع، أن يكون الأمر رسميًا حتى لا يضيع منهما.

كتبت لوز العديد من الرسائل له، لم يتسلمها إلا بعد الهدنة. وصلت إليه في الجبهة خمس عشرة رسالة دفعة واحدة، فرتبها حسب التواريخ وقرأها كلها دون انقطاع وبدقة متناهية. كانت جميع كلماتها عن المستشفى ومدى حبها له، واستحالة العيش بدونه، وعن مدى فظاعة افتقادها له في الليل.

بعد الهدنة اتقفا أن يعود إلى الوطن ليبحث عن عمل ويتمكنا من الزواج. لم تكن لوز ترغب في العودة إلى الوطن حتى يحصل على وظيفة جيدة ويتمكن من القدوم إلى نيويورك للقائها. كان مفهومًا أنه لن يشرب، ولا يرغب في رؤية أصدقائه أو أي شخص آخر في الولايات المتحدة؛ فقط يحصل على وظيفة ويتزوج. في القطار من بادوفا إلى ميلانو؛ تشاجرا بسبب رفضها العودة إلى الوطن فورًا، وعندما اضطرا إلى تبادل الوداع في ميلانو؛ قبّلا بعضهما، لكن شجارهما ظل مخيّمًا. أصابته طريقة الوداع تلك بالغثيان.

سافر من جنوة[4] إلى أمريكا على متن قارب. عادت لوز إلى بوردينوني[5] لافتتاح مستشفى. كان الطقس موحشًا وممطرًا، وأثناء إقامة كتيبة من الأرديتي[6] في تلك المدينة الموحلة والممطرة شتاءً؛ ضاجع قائدها لوز، لم تكن قد تعرّفت على الإيطاليين من قبل. في النهاية كتبت إلى الولايات المتحدة أن ما كان بينهما لم يكن سوى علاقة صبي وفتاة. كانت تشعر بالأسف، وتعلم أنه ربما لن يستطيع أن يتفهّم هذا، لكنه في يوم ما قد يسامحها ويشكرها. اعتقدت لوز، بعكس المتوقع تمامًا، أنها سوف تتزوج في الربيع. كانت تحبه كما ظلت دائمًا، لكنها أدركت الآن أن الأمر لم يكن سوى حب بين صبي وفتاة. كان لديها إيمان راسخ به، وتمنّت أن يحقق نجاحًا مهنيًا كبيرًا. عرفت أن ذلك هو الأفضل.

لم يتزوجها قائد الكتيبة في الربيع، ولا في أي وقت آخر. لم تتلق لوز أي رد على الرسالة التي بعثت بها إلى شيكاغو. بعد مدة قصيرة، أصيب بالسيلان من بائعة في أحد أقسام متجر ما، أثناء ركوبه سيارة أجرة في منتزه لينكولن بارك[7].

…………………………………

[1] تقع في شمال إيطاليا وتتبع إقليم فينيتو

[2] تسمى السمامة أيضًا، وتشبه السنونو إلى حد كبير، وتشتهر بقدرتها على الطيران لشهور متواصلة دون أن تهبط.

[3] عبارة “Friend or enema”(صديق أو حقنة شرجية) هي جملة مسجوعة تُستخدم للسؤال عما إذا كان الشخص (أو الموقف) هو صديق، أو إذا كان الوضع المعني هو إجراء طبي (حقنة شرجية)، وعادةً ما تُستخدم في سياق فكاهي أو مربك.

[4]  مدينة وميناء بحري شمال إيطاليا، عاصمة إقليم ليغوريا ومقاطعة جنوة.

[5]  مدينة شمال شرق إيطاليا في إقليم فريولي فينيتسيا جوليا وعاصمة مقاطعة بُردنونة.

[6] وحدات نخبة إيطالية في الحرب العالمية الأولى، وتميز أفرادها بزيهم الأسود.

[7]  منتزه شهير في شيكاغو.

موقع "الكتابة" الثقافي

12 نوفمبر 2025

 

ما يشبه الظل: نحو اجتياز فائض العتمة

يعيدنا عنوان مجموعة حسام المقدم "ما يشبه الظل" إلى نظرية الشخصية عند كارل يونج، وتحديدًا إلى مفهوم "الظل" الذي يشير إلى الجانب المظلم، أو موضع "الإنكار" في الشخصية، حيث يختبئ كل ما عاندت الأنا انتسابه إليها، ومن ثمّ قامت بإسقاطه على الآخرين. تحيلنا أيضًا قصص هذه المجموعة الصادرة عن بيت الحكمة إلى ما يمكن تسميته بـ "الكينونة المضادة"، أي ما تعتبره الذات "حالة وجود" مناقضة لها، وبالتالي تتخذ تجاه حضورها موقفًا متأرجحًا، يتداخل عبر طياته التجنب والمناوشة والتفاوض. هذا الموقف تجاه الكينونة المضادة لا يمثل "وجود" الذات، وإنما تمردها الخفي على نفسها. كفاحها المستتر لبلوغ حريتها أو "عدم الكينونة" بتعبير كارل ياسبرز.
"يمكنني أن أعدّ الكلمات التي تبادلتُها معه. أقول له: "إيه الأخبار؟"، يردّ: "مفيش جديد". في مرة أخرى أحاول أن أناقشه في أي شيء، مثل احتمال تغيير التوقيع في دفتر الحضور والانصراف إلى نظام بصمة الوجه. يكون ردّه: "مُمكن". لا يصلني شيء من "مُمكن"، يمرُّ بي خاطر أنه يُخفي أشياء لا يريد الكشف عنها، أو هو في الأساس لا يستريح للكلام معي، رُوحه تستقبل مني النّفور فتردُّه بأحسن منه. الغريب أنني بعد كل مرة أتلقّى فيها رُدوده الشحيحة؛ أُوشكُ أن أخلع حذائي وأُنَفِّض رأسي. أتمادَى في تأنيب نفسي: أستأهل ما يحدث لي، طالما أتكلم مع هذا الكائن. أتردد في الاعتراف أنّ مغناطيسا يجذبُني إلى مَنْ أكرههم".
في قصة "شرارة سوداء" يحدد الراوي شخصية "علاء" ككيان معاد له؛ شخصية تتسم بالانطواء والغموض وتثير الاستفزاز بالضرورة، وكأنها تصوّب إلى الراوي ملامح من "الظل" الذي يستبطنه، أي ما تأبى أنا الراوي الاعتراف باحتجابه في داخلها، ومن ثمّ تكشف الكتابة عن هذا النزاع بين الراوي وتلك الصورة المجسّدة من ظلامه الخفي في شخصية "علاء"، وتعادل الصور الأخرى التي "تجذب الراوي". يتحوّل الراوي هنا إلى ذات تُفصح عن ما تضمره تجاه الكينونة التي تعتبرها الأنا تمثيلًا لنقيضها. تُظهر أوراق اللعب مع خصمها الكامن أساسًا في داخلها: التقرّب، النفور، التلصص، الرجاء، الندم. أوراق لعب تُستخدم في مراوحة مستمرة، تصارع هذا الوجود المضاد، شوقًا لامتلاكه، لكي تقبض الذات على سرها بواسطة امتلاكه. نلاحظ التعبير الذي استعمله الراوي في وصف شعوره بالقلق من رؤية "علاء": "أشعر بِضَربات في رأسي تتجسّد وتتجاوز إيقاع النبضات، شيء في بطني يتكوّر ويلفُّ مُحدِثا وجَعًا". في مقابل تعريف ما في الرأس "ضربات"، نجد "لا تعريف" لما في البطن: "شيء". لماذا لم يعيّن الراوي تسمية لذلك الذي "يتكوّر ويلف مُحدثًا وجعًا" في بطنه كما فعل مع "الضربات التي تتجسّد وتتجاوز إيقاع النبضات" في رأسه؟ كان من السهل على الراوي أن يفعل ذلك بتحديد عضوي واضح كاضطراب أو تقلصات المعدة او الأمعاء مثلما وصف ما يحدث في رأسه. إن هذا الشيء هو "علاء" نفسه متخذًا طبيعة الجنين الذي يريد الراوي إنجابه / إجهاضه، وبالتالي الحصول على السلام الناجم عن مغادرة هذا الكائن لجسده، وبما أن علاء لا يمكن تعريفه؛ إذن هو "شيء". "علاء" جنين مجهول لا يمكن للراوي تسميته، هو فقط ابن "الظل" لدى الراوي، جسر غائم نحو الغيب، أي ما يجب للذات مطاردة خلاصها من نفسها عن طريق اجتيازه.
"عضضتُ شفتي، تلاحقت أنفاسي. أغمضتُ عينَيّ على زغلَلَة بصريّة، جَسَّدها ذهني المشحون. رأيتُه يرفعني بقوة ويضعُني في كرسي آخر، ثم يعود ويقعد مكاني. أتفاجَأ بنفسي في بيته، أتجوّل في الحجرات، أُبصر امرأة تقف في ركن، وهو هناك في مُواجهتها. من جسديهما تخرج أشعة صفراء قوية تتداخل في دوَّامة كبرى. صدري مُعبّأ بدُخان ضاغط. سأقوم حالا وأخنقه، لن أتركه حتى تخرج روحه. آه لو أرى روحه، أتأمّل شكلها، أقترب منها وألمسها. تحدث المعجزة، أَمدُّ يدي، وبمجرد أن أمسك ذلك الشيء وأتحسس رخاوة المطاط اللاصق؛ تَرجُّني رعشة قوية، أرميه وأجري".
يُمعن الراوي في كشف "ظلامه" المتمثل في شخصية "علاء"، ومن خلال ذلك النوع من العماء أو "الزغللة البصرية" التي تستدعيها / تخلقها "الكتابة"؛ تبصر الذات تلك الإرادة الباطنية لـ "الظل" حين تقوم في لحظة التيقظ أو الانتباه هذه بإزاحة "الأنا" عن عرشها المتوهم ليعلن الظلام عن نفسه كأصل متمنّع. إرادة مجابِهة للسلطة أبوية، تحوم حول الامتزاج بين الرمزي والخيالي؛ فـ "علاء" يحضر عبر هذه "الزغللة البصرية" كأب مستمد من الأب الواقعي، أي ما يمثل القانون اللغوي والاجتماعي للرغبة، كما أنه يجسد في نفس الوقت التصورات المثالية والعدائية للراوي تجاه ذلك الأب، ضمن سياق التقليد والمنافسة. يحلم الراوي باسترجاع أبوته الكونية عبر التوحد بذلك الاندماج بين الرمزي والخيالي. بالخضوع إليه ـ كصفقة مترصدة ـ حين يأخذ الراوي محل المرأة (التي تكابد مخاضًا لا ينتهي لولادة هذا الأب الكوني). أن يعاود امتلاك "الأم" التي تقف في ركن ـ استرداد ذاته من "مرحلة المرآة"، بحسب جاك لاكان، أي مقاومة إدراك أنه موضوع مستقل عن أمه"1" ـ ومن ثمّ يُبعث الوجود خارج ظلمة الأبوة نفسها. قتل ذلك الأب، انتزاع روحه الملغزة، الروح التي يستأثر بها، ولا يمكن تخيّل ملامستها على نحو كامل ومؤكد، وبالضرورة هي لا تٌعرَّف إلا بنقيضها، أي تلك النفس العابرة، التي تفتقر إلى السطوة الغيبية، المحكومة بالخوف من القبض على الزيف "القناع الجائر" لمفهوم الأبوة.
"أُردّد بلساني داخل فمي: لا تلتفت، إياك أن تُدير رقبتك، وجهه في انتظارك، يترصّدكَ أينما كُنتَ. أُريح رأسي على مسند الكرسي. يُشتّتُني هاجس أنه ينظر ناحيتي بمُعدّل نظرة كل ثانية، يفكر في لحظة التقاء نظرتينا، في الشرارة السوداء التي ستنفجر في منتصف المسافة بيننا".
تعيدنا "الشرارة السوداء" إلى كارل يونج ثانية: "إن وعي "الأنا" ليس سوى شرارة صغيرة في محيط الظلمة العظيم، ومع ذلك، فهو النور" "2". الراوي يراوغ الوعي بـ "الظل" / علاء كأنه رسول "جحيم دانتي" بوصف يونج نفسه للمكوّن المرفوض والمُلقى في النسيان أو ظلمة اللاوعي. ما لا يجب أن يكتب مشهد النهاية، أي ما يقرر المصير.
"آخر ما يخطر على بالي، في أسوأ الظّروف القَدَريّة، أن ننقلب في الترعة، وأكون مع هذا الشخص في عناق إجباري، يستميت على النجاة. سأدفعه عني بكل طاقتي المكبوتة، لا يمكن أن يكون وجهه آخر الوجوه التي آخُذها معي إلى الأبد".
لكن الكتابة لا ترصد المراوغة فقط، وإنما تحوم حول المواجهة بين الذات والظل، أي الثمن الذي يتحتم على الذات دفعه نتيجة لهذه المواجهة: "التخلي عن كل أمل" كما كُتب على أبواب الجحيم في الكوميديا الإلهية. النور هنا أشبه بالإشراق المعكوس، توغل عبر أغوار الذات مجردًا من "الحكمة"، اجتياح لعتمة الصدوع وصولًا إلى العدم، هي شرارة سوداء لكونها محوًا للذات، استبصارًا لفقدانها الذي يسبق ضلال الولادة، دحض المثال الغيبي الذي تريد أن تكونه، الإقرار بأنه لا سبيل لهذه الذات أمام كمالها المُهدر وحصانتها المستبعدة سوى إشهار لعنتها. أن تعلن حريتها بالتخلي عن كل تبرير أو تفسير أو استناد إلى دافع مبهم تقدم نفسها قربانًا لحمايته. التخلي عن كل رجاء في تعويض. لا شيء يعوّضها سوى الانتقام من سرها المتواري في صورة "الأب المهيمن".
"وقفتُ أمام المرآة الكبيرة في حجرة أمي، عرّيتُ نفسي، وضعتُ الشيء بين فخذيّ، أبعَدتُ عُضوي قليلا، البلبل أو الحمامة كما يقول العيال، استعرضتُ شَكلي الجديد، نُسختي المزدوجة، ابتسمتُ، تمايلتُ، قرفصتُ فانفرجَ فخذاي، هذه المرّة ظهرَ عضوي صغيرا منكمشا، أصبح لي شيئان، أحدهما "مَركِب" والآخر بلَحة ذابلة، قَرَّبتُهما، أصبحا مُتلاصقين".
تدفعنا قصة "تشكيل طيني يشبه حبة القمح" للبقاء في "نظرية الشخصية"، ولكن هذه المرة بالتوجه نحو مفهومي الأنيما والأنيموس عند كارل يونج، أو قوتي الذكورة والأنوثة المتصارعتين داخل الشخصية. يستعيد الراوي في القصة جذور تعرّفه على "المرأة" في تكوينه النفسي، من خلال تشكيل حبة قبح طينية تطابق ما رآه عند أمه وهي تستحم. لكنه ليس تعرفًا بدائيًا على النمط الآخر للشخصية فحسب، وهو ما سيتم لاحقًا إبعاده إلى ظلمة اللاشعور، وإنما البحث المبكر ـ في المقام الأول ـ عن الكمال. الشبق الغريزي للتمرد على النقص الذي يتخطى امتلاك الذكوري والأنثوي، للاعتراف بهذا العصيان ومن ثمّ العيش بوصفه حياة أصلية. ما كان على "الظل" أن يختطفه لكي تحافظ الأنا على "أمانها" وفقًا لشروط ذلك الكبت. يستعيد الراوي في القصة مطالبته المبكرة "المشفّرة" بالتحرر من جسده، أي التخلص من كينونته ليعود "ذاتًا كاملة بلا نقائض".
"أذكر أن عينيّ أبي لم تكونا مرتاحتين لتصرّفاتي، نظرتُه إليّ كلما رآني ألعب بأشياء لا تشغل بال عيال في سِنّي؛ يلعبون الكرة، أو يضربون بعضهم بغشوميّة في "صَلَّح".
حتى اليوم لا أزال أشكُّ أنه عرفَ سِرّ الشيء المُحرّم الذي صنعتُه، ولاحَظَ انشغالي البالغ بكرتونتي العامرة، حين كنتُ أُغيِّر أماكنها، من تحت سريري، إلى فوق الدولاب، إلى السطح مدفونة في القش.
هل كان هو الذي أخذ ذلك الشيء تحديدا من الكرتونة، دون أن يمسّ باقي الأشياء؟ يومها بحثتُ في الدار وعلى السطح، والنتيجة: فَصّ ملح وذاب. أتذكر استعراضي لتماثيلي أكثر من مرّة، صَففتُهم أمامي واحدا واحدا، بلا أمل في ظهور ذلك الناقص. عدتُ وجمعتُهم، ذاهبا بهم إلى تحت الكنبة في الصالة، دون أن أشغل نفسي بمدى أمان المكان من عدمه.
الغريب أنني لم أصنع شيئا جديدا يُعوّض ما فقدته مثلما أفعل مع مُجسّماتي الأخرى، انطفأت رغبتي في إنجاز تشكيل طيني يشبه الذي ضاع.
إلى هذه اللحظة لديّ اقتناع أنني لو فعلتُ؛ ما وصلتُ إلى تمام الشّبَه الذي كان".
يقف الأب، بكل ما يمثله واقعيًا ورمزيًا وخياليًا، أمام هذا الاكتشاف، مراقِبًا ومعاقِبًا في مواجهة هذا التوق العفوي للكمال، لإعادة اكتساب الأبوة الكونية التي تستحوذ وتتعدى "الرجل والمرأة". الأب ـ كمصدر متعال للسلطة ـ يتولى اختطاف هذه الشهوة "من كرتونة الراوي" إلى "الظلام". إلى "الظل" الكامن لدى الراوي، وكأنه لا فرق بين أن يُخفي الأب "ذلك الشيء" أو يتخلص منه الراوي بنفسه إرضاءً للاب وامتثالًا لنظرة التحريم التي تلاحقه بها عيناه. إن هذا المجسّم هو ما كان يمنح الحياة لتماثيل الراوي الأخرى باعتباره إيماءة نقية إلى الجوهر المؤجل لـ "المطلق" الذي يُفترض بالراوي استرداده. الدليل الملموس على وعي الراوي بالخلاص الكامن في إزاحة نقصه، في العثور على "اكتماله"، ومن ثمّ في قدرته على "الخلق" الناجمة عن هذا الاكتمال. هذا ما يجعل التماثيل / المخلوقات التي لم تنجح محاولات الراوي لبعث الحياة داخلها نتيجة فشله في استرجاع أبوته الكونية، المناوئة لمفهوم الأبوة في احتيالها الجحيمي المترفّع؛ هذا ما يجعل تلك التماثيل محض استعارة خاملة للراوي نفسه، ينقصها "الأمان الأبدي" الذي لا يُخدش، سواء بدا أنها آمنة حقًا ولو بكيفية مؤقتة أم لا. هكذا أفكر في الكتابة بوصفها رد فعل على الإخفاق الطفولي الذي تؤطره هذه الكلمات: "لم أصنع شيئا جديدا يُعوّض ما فقدته مثلما أفعل مع مُجسّماتي الأخرى، انطفأت رغبتي في إنجاز تشكيل طيني يشبه الذي ضاع. إلى هذه اللحظة لديّ اقتناع أنني لو فعلتُ؛ ما وصلتُ إلى تمام الشّبَه الذي كان". الكتابة اكتشاف للثأر المنطقي من هذا الحرمان المتجذّر. الحرمان من "الروح الملغزة"، القادرة على "الخلق الفعلي"، ودون بطش أبوي. أفكر في الكتابة كعقاب على ما تيقن منه الراوي خلال أيامه اللاحقة بأنه لا يمتلك قدرة خارقة على الشفاء من نقصانه، وأن كينونته هي النقيض القسري للكمال.
يغلب ضمير المتكلم على المجموعة، وهذه الملاحظة لن تبوح بسرها إلا مع اقتفاء أثر "الظلام" عبر قصصها سواء في حضوره الفعلي كما في قصتي "استدراج النور" و"عجينة سوداء"، أو في تلويحاته الضمنية كما في قصص "تانجو النوم"، و"غبار قوس قزح" و"سماء أسفل النافذة". الراوي يحاول التكلم أكثر من كونه متكلمًا بالفعل، فالظل ليس ما يكافح أن يرسمه (في الخارج) بل ما يسعى لاستبصاره في الداخل. الظلام الباطني يحفّز ويضاعف غضب الراوي ونقمته تجاه "ظلام الواقع" الذي يشير إليه ويؤكده انقطاع الكهرباء مثلًا، ومن ثمّ فإن لديه نبرة "التخبّط في العتمة" أو من يعرف أن ثمة ظلًا ينبغي التنقيب عنه، ولكنه يبقى على الدوام ظلًا "قيد التحري"، محاصرًا بالشك، مسيّجًا بالارتياب من كونه يقبل الاغتنام أو "ما يشبه الظل". لذا فالإشارات والتشكليلات الظلية التي تتحاور عبر بلكونتين في غياب الكهرباء، تدور نفسها في خبيئة كل من الرجل والمرأة داخل عزلة يسكنها الاغتراب، ويوطدها "الطبطبة والنوم". أيضًا "عُصارات الحبر المخلوطة بعجينة السطور" تنبئ بكونها ترسبًا داخل "النشوة والابتهالات والدموع". الظل ليس انعكاسًا لما تخوضه الأنا وإنما استقراءً لما لا يمكن لها أن تكونه. الأصل الذي تم استبداله بكينونة مصطنعة، مخادعة، ونستعيد كارل ياسبرز مجددًا حين نقول: تتلاشى في خيال الكتابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ يمكن هنا الرجوع إلى قراءتي لقصة "الأفعى" لجون شتاينبك ضمن كتابي عن كلاسيكيات القصة القصيرة "هل تؤمن بالأشباح؟".
2ـ راجع "الكتاب الأحمر"، كارل يونج، ترجمة: متيم الضايع ـ رنا بشور، دار الحوار 2015.

أخبار الأدب
9 نوفمبر 2025

 

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

صفقة فاوستية قديمة تكشف عن العالم الحديث

حول «أهم قصة رُويت على الإطلاق»: البشرية والشر

إد سيمون
ترجمة: ممدوح رزق
مجلة "الناقد" / العدد 8 ـ أكتوبر 2025
أسطورة عقد الشيطان هي الأكثر جاذبية، والأكثر إثارة، والأكثر عمقًا، وأهم قصة رُويت على الإطلاق. تتعلق بإنسانية معلّقة بين الجنة والجحيم، بين القداسة والشيطانية؛ كيف يمكن لإنسان أن يبادل روحه مقابل قوى مطلقة، موقِّعًا عهدًا مع الشيطان ليعيش فترة وجيزة كإله قبل أن يُسحب إلى الجحيم. غالبًا ما يُرتبط هذا الموضوع بمسرحية "دكتور فاوستوس" لكريستوفر مارلو، إلا أن هذه المسرحية الإليزابيثية لم تكن أصل تلك الأسطورة، لكنها بالتأكيد مثال بارز على هذا النص الأبدي. ومع ذلك، وقبل تلك المسرحية النهضوية بوقت طويل وبعدها بزمن طويل أيضًا، يمكننا أن نجد آثار توقيع فاوست الملعون في العديد من الأعمال الأدبية الرفيعة والشعبية على حد سواء. أما الأكثر إثارة للقلق هو الطريقة التي يمكن أن نجد بها آثار حوافر الشيطان عبر صفحات التاريخ الواسعة، في استعدادنا لاحتضان السلطة والانخراط في الاستغلال، لاستدعاء الأنانية واستحضار القسوة.
لنتأمل بعضًا من آثار الحوافر الميفيستوفيليّة كما اكتُشفت في موقع بناء في ساوثوارك، لندن عام 1989. هُدم مسرح روز، حيث عُرضت مسرحية مارلو لأول مرة في أواخر القرن السادس عشر، عام 1606 ليُدفن تحت طبقات من العصر اليعقوبي، والعصر الفاصل، وعصر الاستعادة، ثم الهانوفر، وعصر الوصاية، والعصر الفيكتوري، حتى كتشف المقاولون في عهد تاتشر، الذين كانوا يبنون برجًا مكتبيًا بلا روح، المستوى السفلي من هذه الطبقات التاريخية للندن. عثر العمال أثناء تنقيبهم في التراب على علامات تدل على وجود مسرح، من بقايا قشور البندق المحترقة التي كانت تباع كوجبات خفيفة، إلى أواني الطين المكسورة التي كانت تُستخدم لجمع التذاكر. أنارت الشمس مرة أخرى أطلال المسرح. الآن أصبحت بقايا مسرح روز في قبو ذلك البرج المكتبي الذي يطل على نهر التايمز، وهو الموقع الأثري النشط والنادر الذي يدعو الجماهير أيضًا للاستمتاع بعرض فوق أنقاض المسرح الذي أُقيمت فيه العروض لأول مرة قبل أربعة قرون.
كانت العروض الأولى لمسرحية "دكتور فاوستوس" مشوبة بروابط خارقة للطبيعة؛ فقد ادعى بعض أفراد الجمهور أنه خلال مشاهد الاستحضار السحري، كانت كلمات الكاتب المسرحي تجبر الشياطين على الظهور. يتعجب فاوستوس في الفصل الأول من مسرحية مارلو قائلاً: "كم أنا مشبع بهذا الغرور! هل أجعل الأرواح تجلب لي ما أشاء، وتوضح لي كل الغموض، وتنفذ كل مغامرة يائسة أرغب بها؟" يبدو أن هذا وصف لقدرات الفنون السوداء، لكنه ينطبق على القدرات الغريبة لأي فن، ولا سيما فن المسرح. كيف اختلف مارلو عن فاوستوس؟ كان يستطيع أن يجبر أرواح الخيال على أن تجلب له ما يريد، وتنفذ ما يريد، وتخلق كونًا ظاهريًا من لا شيء سوى الكلمات والإيماءات. وكما حدث مع فاوستوس، نال مارلو عقابه أيضًا، إذ طُعن حتى الموت في عينه داخل حانة في ديبتفورد، ويُزعم أن ذلك حدث بعد مشاجرة حول فاتورة المشروبات بعد عام من عرض أشهر مسرحياته لأول مرة.
إذا صدقنا الأساطير اللاحقة؛ فإن السحر يتجاوز اليوم فيما يبدو ما هو أكثر قليلًا من كومة أنقاض منخولة. خلال عروض "فاوست"، قيل إن التعاويذ اللاتينية والدوائر السحرية المنقوشة على أرضية المسرح كانت قادرة على استدعاء الشياطين كما لو أن الممثلين محضِّرو أرواح. كان يُعتقد أنه بواسطة تلك الدوائر المرسومة بالعصا على تراب الأرضية، يستطيع الساحر أن يستدعي سكان الجحيم ليظهر عزازيل بقرنيه المعقوفين كقرني الماعز، أو مولوخ الثور ذو العينين الحمراوين المنتفختين، أو بعلزبوب المجنّح كالحشرة بفكّيه الملطخين بالدماء. وربما حتى مفستوفيليس، ذلك الشيطان الجديد في أسطورة فاوست، الذي يظهر أولًا كجثة متحللة، وقد تآكل اللحم عن جمجمته، وتزحف الديدان في تجاويف عينيه وأنفه، ليعود لاحقًا في هيئة أكثر احترامًا كراهب فرنسيسكاني متسول. أما اليوم، فأي زائر للمسرح المبني على أنقاض سابقه، سوف يلاحظ الخط الرفيع من ضوء النيون الأحمر القاني الذي يحدد الدائرة الخشنة لأساس مسرح "الروز" الأصلي، ويبدو بشكل مقلق شبيهًا بتلك الدوائر السحرية المرسومة برموز وأرقام كيميائية غريبة، والتي كان محضِّرو الأرواح في عصر النهضة يحاولون من خلالها استدعاء جميع شياطين الجحيم الملعونة في بانديمونيوم، وحيث جاء الشيطان في ليلة الافتتاح متخفيًا لكي يعاين الطريقة التي جسّده بها الكاتب المسرحي.
عندما حضرت عرضًا في مسرح "الروز" لمسرحية أخرى من عصر النهضة، معروفة بموضوعاتها الغامضة ـ مثل اسكتلندا والسحرة والملوك المقتولين ـ كان ذلك الضوء النيون على أطراف الحفرة المظلمة والرطبة ذات الرائحة العفنة تحت الأرض هو أكثر ما جذب انتباهي، تلك الدائرة المتوهجة التي تبرز في ظلام أبعد زوايا القبو، محاطة بأنقاض قرون لا تزال تُنخل. كان العرض جيدًا، وإن كان وفق الصيغة الحديثة المعتادة، لكن جلوسي على العوارض الخشبية في ذلك القبو الذي تفوح منه رائحة الماء والتراب جعل الأخوات الغريبات وماكبث أقل إثارة لي مما لم أستطع رؤيته، هناك على حافة الرؤية المظلمة، خلف شريط النيون الذي كان من المفترض أن يُخبرني أين كانت جدران "الروز" ذات يوم.
تخيلت العرض الأول لمسرحية "دكتور فاوستوس" قبل أكثر من أربعمائة سنة ـ وكل ذلك أصبح خارج متناولنا في هذا البلد الغريب والبعيد من الماضي ـ ولم يسعني سوى أن أستحضر تلك الأساطير الشيطانية حول جمهور مارلو في تلك الليلة. هناك، في ذلك الفضاء الأسود فوق الأطراف، هل كان ذلك هو المكان الذي جلس فيه الشيطان على العوارض، متنكراً في هيئة رجل إليزابيثي أنيق يرتدي المخمل الأسود والأحمر؟ لكن لا، الشيطان ليس حقيقيًا، فهذه القصص ما هي إلا دعاية بيوريتانية معادية للمسرح، وحكايات شعبية تهدف إلى إخافة السذج. لم يتم استحضار أي شياطين في أي عرض لمسرحية فاوستوس، فالشياطين مجرد شخصيات، والشخصيات ليست سوى خيال. ومع ذلك، عندما يقرأ مهرج الساحر عبارة: "Sanctabulorum…Mephistopheles" (مجرد هراء لاتيني، لا معنى له بالمناسبة) ويظهر شيطان بالفعل، حتى المتشكك في داخلي يتساءل عما يمكن أن يستحضره سرد جحيمي متقن.
في صباح اليوم التالي لعرض مسرحية مارلو عام 2013، سافرت إلى ديبتفورد لمقابلة الكاتب المسرحي نفسه. عندما استشهد مارلو في غرفة بالطابق العلوي من حانة إليانور بول، كانت ديبتفورد جزءًا من كينت، وتُعتبر منطقة قذرة وبعيدة عن العاصمة، ميناء منحطة جنوب لندن يحكمها تجار فاسدون. أثناء سيري في شارعها الرئيسي، وجدت أن أربعة قرون لم تخفف كثيرًا من تلك السمعة. وبينما أشق طريقي متجاوزًا الحانات الضيقة بنوافذها المزخرفة وظلام أبوابها المفتوحة، ورائحة القلي الدهنية المنبعثة من محلات السمك والبطاطا، والموسيقى البريطانية الصاخبة التي تُعزف في الداخل، قضيت ما يقارب الساعة أبحث عبثًا عن مقبرة كنيسة القديس نيكولاس وأنا أراقب السماء الرمادية والرياح الباردة القادمة من التايمز بقلق، حيث لم أكن أستخدم في تلك الأيام هاتفًا ذكيًا.
على الرغم من أنه كان شهر يوليو، إلا أنه في ذاكرتي كان دائمًا شهر أكتوبر، حيث كانت ديبتفورد مستنقعًا من الشوارع الملتوية والمربكة، المرصوفة بالحجارة، تتخللها كنائس منشقة تعود لقرون، وبيوت صفّية صغيرة من الطوب الأحمر ستائرها مسدلة بإحكام. لا شك أن الأشجار كانت تحمل أوراقًا خضراء، لكن في ذاكرتي، جميع تلك الأغصان كانت هيكلية، عظام مجردة من اللحم تذبل تحت سماء بلون الماء الآسن. ازدادت ميولي القوطية حدة بعد أن وجدت أخيرًا مقبرة مارلو، حيث الأعمدة المتقابلة من الطوب الأحمر التي تحدد مدخل الأرض تعلوها جمجمتان منحوتتان من الحجر، ابتسامتهما الفارغة من الأسنان وتجويفاتهما الخالية من العيون تذكار بالموت، وُضع بعد قرن من دفن أشهر ساكن في قبر مجهول للفقراء. جدار من الطوب الأحمر مغطى باللبلاب يفصل المقبرة عن عالم الأحياء، وعليه لوحة صغيرة من الرخام الأبيض ترثي "الموت المبكر" للشاعر، بينما تعلن أنه في مكان ما تحت هذه الأرض ترقد رفات مارلو، وعظامه مختلطة برفات آخرين في مملكة الموت. نقش مارلو يقول: "قُطع الغصن الذي كان يمكن أن ينمو مستقيمًا كاملًا". الجملة من مسرحية دكتور فاوستس.
إن فحصي للفجوات المزدوجة في الجماجم المنحوتة التي رحبت بي في كنيسة القديس نيكولاس أكد لي ما وجدته مثيرًا للغاية في هذه القصة عن العقد مع الشيطان، لأنني أسير على تلك الأرض المقدسة، وذرات مارلو أصبحت الآن ملتصقة بتراب نعلي، وذلك الجزء من ذاتي الذي يشكك في الشك نفسه لم يستطع إلا أن يشعر بحماسة خفية عتيقة، ذلك الإحساس بأن هناك شيئًا ربما يوجد وراء حجاب واقعنا، شيئًا يمكننا الوصول إليه لكن لا يمكننا التحكم فيه.
رغبتي في كتابة تاريخ ثقافي لأسطورة فاوست تعود إلى بضعة سنوات قبل زيارتي لمقبرة ديبتفورد، تقريبًا خلال الوقت الذي حضرت فيه عرضًا مسرحيًا بعنوان "فاوست أس" قدمته فرقة المسرح "404 ستراند" في مسقط رأسي بيتسبرغ. استند النص إلى النسخة الأقصر المعروفة بـ"النص أ" من مسرحية مارلو، وهي عمل أكثر إحكامًا وغموضًا يتجنب الهزل الذي يفسد العروض التقليدية لمسرحية "دكتور فاوستوس". كان العرض هلوسيًا، طقوسيًا، نفسيًا، إنشاديًا. عمل من أعمال الاستحضار. ومع دعوة الجمهور للجلوس في مسرح دائري مؤقت أُقيم على خشبة مسرح كيلي سترايهورن، كنا جميعًا نواجه قفصًا حديديًا صدئًا ستدور داخله أحداث المسرحية. كنت في الصف الأمامي.
أبرز ذكرى لدي عن ذلك العرض كانت الممثل الذي جسد شخصية فاوست، عاري الصدر وعضلاته بارزة، يلمع عرقه تحت أضواء المسرح الخانقة، ويرفع فوق رأسه قناع ثور أشعث ووحشي ملتف القرنين، وهو يلوح بجنون على أنغام موسيقى "ثراش ميتال" الصاخبة لدرجة أن حشوات أسناني كانت تهتز، ثم يقوم الساحر بإخراج رغيف كامل من الخبز الأبيض من كيسه المعقم ويمزقه في فم القناع البقري المفتوح، فتتناثر قطع الخبز الإسفنجية البيضاء علينا جميعًا في الصف الأمامي. كان ذلك غريبًا ومن المستحيل صرف النظر عنه. جزء من فن الأداء الطليعي وجزء من طقس وثني. جعلت جسدية الأداء الأمر يبدو من عالم آخر، غريبًا وخطيرًا. وعندما خرجت إلى هواء الخريف في حي إيست ليبرتي في بيتسبرغ، وهو حي من ناطحات السحاب الشاهقة في عصر الترف، وكاتدرائيات قوطية تتخللها الأزقة والحانات الصغيرة، أقسمت أنني في يوم من الأيام سأوقع عقدًا لكتابة قصتي الفاوستية الخاصة. كان ذلك هو العرض الوحيد لمسرحية مارلو الذي شاهدته. إنه من النوع الذي قد يأتي الشيطان لمشاهدته إذا أراد أن يعرف كيف يمكن أن يُصوَّر.
نادراً ما يتم إنتاج المسرحيات السبع القليلة التي كتبها مارلو في الوقت الحاضر؛ باستثناء عرض عام 2007 لمسرحية "تيمورلنك العظيم" الذي قدمته فرقة مسرح شكسبير في واشنطن العاصمة، أو فيلم "إدوارد الثاني" المثير الذي أخرجه ديريك جرمان عام 1991. وعند مقارنته بمعاصره ومنافسه وربما زميله ويليام شكسبير، الذي تُعرض مسرحياته يوميًا، في كل عام، في كل مدينة كبرى على وجه الأرض، والذي لا يُعتبر مجرد كاتب بل هو "الشاعر"، والمعيار الذي يُقاس به الأدب العالمي؛ قد يبدو مارلو فكرة لاحقة أو مجرد هامش، حتى وإن كان ثاني أشهر كاتب مسرحي إليزابيثي تُعرض أعماله حتى اليوم، وإن كان ذلك بفارق بعيد.
ومع ذلك، أود القول إن مارلو، الذي سبق شعره الحر القوي شعر شكسبير، وفي كثير من الأحيان تجاوزه، يُعد مساويًا تمامًا لشكسبير. وبين الاثنين، يُعتبر مارلو من بعض النواحي أكثر قِدَمًا؛ إذ كان رجلًا يميل إلى العصور الوسطى رغم سمعته الإلحادية. ومع ذلك، فإن هذا ما منح ذلك الزنديق العظيم بشكل ساخر إحساسًا عميقًا بالمقدس، فبغض النظر عن علاقته الشخصية بالله، لا يمكن اتهام مارلو بعدم اهتمامه بالمقدس والمتعالي والنشوة الروحية. وبالطبع كان لشكسبير أيضًا إحساسه الخاص بالمقدس، فكان من المستحيل ألا يكون كذلك في عصر النهضة. ولكن، بوصفه نوعًا من المجدفين الإلهيين، يبقى مارلو بمثابة الشاعر الكوني المضاد لشكسبير، ونوعًا من الشاعر الظل، الشاعر والكاتب المسرحي العظيم، الغريب، والمتمرد، شاعر الهلاك والمدنس للدينونة.
بعيدًا عن تحطيم تابوهات "تيمورلنك العظيم" وعدم احترام "يهودي مالطا"، لا يوجد عمل هرطقة مقدسة في أعمال مارلو يعادل عمق "دكتور فاوستس". فالعالم الخائن الذي يبيع حقه الطبيعي مقابل طبق من الخداع والوهم قد يكون المجاز الفعّال للحداثة، لكن مارلو لم يكن مبتكر هذه الأسطورة. كما ستقرأ في الفصول القادمة؛ اقتبس مارلو شخصية يوهان فاوست التاريخية من التقاليد الفولكلورية الألمانية، على الرغم من أن أسطورة العقد مع الشيطان كانت موجودة منذ قرون قبل أن يمزج ذلك الخيميائي التعيس لأول مرة بين نترات البوتاسيوم والكبريت. وبالطبع، لم تكن معالجة مارلو الكلمة الأخيرة، إذ أُنتجت آلاف النسخ من القصة الأساسية على مدى نصف الألفية، من غوته إلى المسرحية الموسيقية "دام يانكيز"، ومن توماس مان إلى العمل السيء لفرقة "تشارلي دانيلز باند" بعنوان "الشيطان ذهب إلى جورجيا". هناك الثقافة الرفيعة مثل "سيمفونية فاوست" لفرانز ليست، و"السيمفونية الثامنة" لغوستاف مالر، وهناك الثقافة الشعبية مثل القصة المصورة "غوست رايدر" إلى فيلم جاك بلاك Tenacious D in The Pick of Destiny.
يكتب جيفري بيرتون راسل في كتابه الكلاسيكي "ميفيستوفيليس: الشيطان في العالم الحديث": "إن شخصية فاوست هي ـ بعد المسيح ومريم والشيطان ـ الشخصية الأكثر شعبية في تاريخ الثقافة المسيحية الغربية." ومن بين هذه الشخصيات، فإن فاوست هو الأكثر إنسانية بالنسبة لنا، في غطرسته وفشله، في مساوماته وتنازلاته، وفي كل قائمة الإساءات التي يمكن للروح الفاسدة أن تلحقها بنفسها. إن رأي راسل بعيد كل البعد عن المبالغة، ولو عدلنا كلمة "شخصية" إلى "سرد"، لقلت إن هناك قلة من النصوص النموذجية في ثقافتنا أساسية مثل أسطورة رجل يبيع روحه للشيطان. آلاف الأعمال الأدبية والسينمائية والموسيقية والفنية تتناول الصفقة التي يبادل فيها الإنسان ما هو أكثر إنسانية فيه مقابل السلطة أو الثروة أو النفوذ أو المعرفة. وحدها أسطورة طرد آدم وحواء من الجنة تنافس فاوست من حيث التأثير، ويمكن القول إن تلك القصة هي في جوهرها نسخة مبكرة من عقد الشيطان.
وهذا ما يجعل قلة المعالجات النقدية للأسطورة المتغيرة أمرًا مفاجئًا. فهناك بلا شك عدد كبير من الكتب والكتيبات والدراسات والأبحاث حول أشهر نسخ الأسطورة؛ فقد تم تعيين أكاديميين بناءً على دراساتهم لمارلو، وحصل البعض على التثبيت الوظيفي بفضل خبرتهم عن غوته، لكن القصة الكاملة المتعلقة بفاوست، سواء كان هذا اسمه أو أطلقنا عليه اسمًا آخر، لم تُرو بعد. محاولتي المتواضعة هي هذا الكتاب، فمع أن مارلو وغوته ومان قد يكونون جميعًا حاضرين فيه، إلا أنه ليس كتابًا عن مارلو أو غوته أو مان، بل إنه في الحقيقة ليس حتى كتابًا عن شخصية واحدة اسمها "فاوستوس".
وعلى الرغم من أنه يُعد تاريخًا في الظاهر، وأن هذا السرد يتحرك إلى الأمام بطريقة شبه زمنية، إلا أنني أفضل أن أعتبر القصة التي يرويها عن شخصية خارج الزمن، تعيش بالتوازي مع الماضي والحاضر والمستقبل. إنها قصة أبدية. ما يهتم به هذا الكتاب هو التداعيات ـ الثقافية والسياسية واللاهوتية ـ لهذه السرديات المشحونة بالرمزية العالية حول التخلي عن الروح، والتنازل عما هو جوهري فينا، والاستسلامات والمفاوضات التي تشكل أي حياة فاشلة، أي كل حياة. أكثر من كونه تاريخًا، إذًا، فإن "عقد الشيطان" هو سرد لما يعنيه أن تكون إنسانًا بكل إخفاقاتك.
يتزايد الأمر ليصبح وصفًا للبشرية في الوقت الحالي. فعلى الرغم من الطابع العتيق للأسطورة، واللاتينية التي تُتمتم بها، والتعاويذ الكيميائية، فإن قصة فاوست كانت دائمًا حديثة بمعنى جدير بالتقدير، وربما هي أول قصة حديثة على الإطلاق؛ فعلى عكس آدم وحواء، اللذين تدور قصتهما الغامضة في العصر البرونزي بلغة قديمة وغريبة إلى درجة أن أجيالًا من اللاهوتيين اختلفوا حول دلالات كل جانب من جوانبها، فإن تفاصيل أسطورة فاوست ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعصرنا. هذه، في النهاية، قصة عقد؛ إذ أن نهاية معظم نسخ قصة فاوست تتضمن توقيع وثيقة ملزمة قانونيًا، وهي تجربة كانت غريبة عن مؤلفي سفر التكوين لكنها شائعة في حياتنا، سواء في التعامل مع الموارد البشرية أو عند النقر على اتفاقية مع شركة الهاتف الخاصة بنا. قد تتناول قصة فاوست ما هو روحاني ومتعالٍ، لكنها أيضًا تدور حول البيروقراطية والأوراق الرسمية، جحيمنا المعاصر وأسراره على التوالي. نحن نرى فاوست بشكل لا يمكن لأي شخصية في الكتاب المقدس أن تكون معاصرة لنا به.
مسألة التوقيع على الخط المنقط هي سطحية عندما يتعلق الأمر بأهمية فاوست بالنسبة للقراء المعاصرين، لأن قصة عقد الشيطان، أكثر من أي أسطورة أخرى، هي تجسيد موجز للمأزق البشري على مدى القرون الخمسة الماضية، تمامًا في الوقت الذي تشكلت فيه الحداثة؛ وُلدت، ازدهرت، وهي الآن تحتضر في لحظات موتها الخاصة.
عرض مارلو مسرحيته في بداية ما يُطلق عليه بشكل متزايد عصر الأنثروبوسين، الحقبة الجيولوجية التي أصبح فيها بإمكان البشرية أخيرًا فرض إرادتها (بطريقة شبه غامضة) على الأرض. هناك ثمن لأي عقد من هذا النوع، كما تقول حكمة الأسطورة، ولذلك يجدر بنا بعد خمسة قرون من هيمنة الإنسان على الكوكب تأمل أننا ربما نواجه الآن موعدنا الجماعي الخاص في ديبتفورد. يبدو أننا أخيرًا نواجه الفصل الأخير، الطابع الكارثي لعصرنا، من تغير المناخ إلى حافة المواجهة النووية، مما يجعل بقاء البشرية سؤالًا مفتوحًا، وكذلك مصيرنا المحزن نتيجة الغرور والجشع والتفاخر. قد يكون من المناسب إعادة تسمية هذا العصر بـ"العصر الفاوستي". لأنه سواء كان الشيطان حقيقيًا أم لا، فإن آثاره في العالم حقيقية. عندما يتعلق الأمر بـ"الحقيقة" و"الوقائع"، فالكلمتان ليستا مترادفتين، ولن أندهش على الإطلاق إذا تمكنت من تمييز دخان بعض الأوهام الشيطانية خلف خط النيون لمسرح روز، في أعماق ظلمة شاملة لا يستطيع أي بصيص من الضوء أن يفلت منها.
*مقتبس من "عقد الشيطان: تاريخ الصفقة الفاوستية" ـ إد سيمون.
نُشر في Literary Hub ـ July 9, 2024
إد سيمون هو عضو هيئة التدريس المتخصص في الإنسانيات العامة بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة كارنيجي ميلون، وكاتب في موقع Lit Hub، ومحرر مجلة Belt . أحدث كتبه "عقد الشيطان: تاريخ الصفقة الفاوستية"، وهو أول عرض شامل وشعبي لهذا الموضوع.

افتتاحية العدد الثامن من مجلة "الناقد" / أكتوبر 2025

الناقد «8»

أثناء العمل على مشروع توسّعي حول مفهوم "الشر" أيقنت أن المتن النقدي العربي يحتاج إلى قراءة راهنة لـ "فاوست". قراءة تقارب "الشيطان" انطلاقًا من علاقة الطفولة بالسحر، أو الخبرة الأولى للطفل بالعالم المتمثلة في اكتشافه بأنه "لا يملك قدرات سحرية" بتعبير فالتر بنيامين."1". تأويل يراجع التنظير الغيبي لما يسمى "السعادة الحقيقية" و"المعرفة المطلقة" استنادًا إلى "الكتابة" باعتبارها تاريخًا للتمرد، رفض الصفة الإنسانية، الانتقام من المطلق نتيجة الحرمان من امتلاك قدر إلهي. كيف يتم التبروء، تحت سطوة القمع، من هذا العصيان بإحالته عفويًا إلى قوة ما ورائية يُنسب لها جوهر "الباطل". التمرد، كإرادة أصلية، على المحتوم البشري، حيث هناك حكاية دائمًا عن الغضب والصراع مع الكوني، والثأر مما يمثل قيدًا حصينًا أمام التحرر من الحياة والموت، وهو عصيان بمقدوره التجسد في صور وأشكال مناقضة لطبيعته، ولكنها لا تمحوه، كغريزة وجود، بل تبقيه كامنًا، نشطًا، وقائدًا للذات عبر أقنعة وضلالات."2". تناول يعيد النظر في "الصفقة مع الشيطان" وفقًا للإسقاط الفرويدي للدوافع العدوانية المكبوحة والاندفاعات المستهجنة النابعة من اللاوعي، وإعادة تمثيل النزاع مع صورة الأب، وكذلك استدعاءً لمفهوم "الهو" في نموذج فرويد للبنية النفسية حيث تجتمع الغرائز والرغبات البدائية، والتفاوض مع ما هو خرافي كتعبير ظاهري عن صراع الباطن مع الميول والنوازع "الشريرة" المكبوتة. إعادة كتابة لمعنى "الإثم" لدى إنسان يفكك حكمة "الخلق" بالخلق المضاد، مثلما وصف إد سيمون: "كيف اختلف مارلو عن فاوستوس؟ كان يستطيع أن يجبر أرواح الخيال على أن تجلب له ما يريد، وتنفذ ما يريد، وتخلق كونًا ظاهريًا من لا شيء سوى الكلمات والإيماءات"."3".
كائن تترفّع آلامه على الفردوس والجحيم، هازئًا بالأبوة الميتافيزيقية للعالم، بينما يخاطب ذاته المحررة داخل عتمتها بكلمات شارل بودلير في قصيدة "صلوات للشيطان":
"يا من إذا قهِر نهض دائماً أقوى وأصلب
أنت يا من تعرف كل شيء
يا ملكاً عظيماً للخفايا
وشافي الإنسانية من قلقها وحيرتها".
"أنجبت الأمل الفاتن المجنون
أنت يا من تمنح المحكوم بالإعدام
النظرة الهادئة المتعالية".
"أيها الأب الذي تبنّى كل الذين طردهم الله الآب
بغضبه الأسود من جنة الفردوس"."4"
أفكر في هذه القراءة الراهنة لـ "فاوست" في ضوء الارتباط النيتشوى للخطيئة بأخلاقيات السيادة والعبودية، والإيمان بـ "الثواب والعقاب" في "عالم آخر" إنكارًا لـ "الواقع الأرضي"، أو الهراء الملعون لـ "مصدر التكوين": "احذروا أن تلقوا بـ 'شيطانكم' إلى الخارج، لأنكم بذلك قد تطردون أفضل ما فيكم.""5".
يبدو أنني كشفت عن تلخيص ما حول ما "أرتكبه" عن فاوست خلال عملي في ذلك المشروع حول "الشر". ما أقوم به ضمن رحلة كالتي خاضها فاوست ذاته، وفي كل خطوة منها يتحقق ذلك "الطموح الجامح" لتقويض الذنب، للسخرية من الخطأ، لمنح الغواية صفة العدل؛ حيث لا بداهة تطغى على الحق في امتلاك "مغريات الحياة"، و"الخلاص من الألم"، و"حيازة العلم الكامل" أكثر من الحق في الامتلاك الكوني، الهيمنة على الغيب، أو على الأقل انتهاك الحد الاستعبادي بين الإنسان وكماله، بين الإنسان و"الخير الخالص" الذي كان يحياه قبل وجوده في العالم. الحد الذي ينقلب عنده عمل "الغفران".
الهوامش:
[1] See Walter Benjamin, "Fritz Frankel: Protocol or the Mescaline Experiment of May 22, 1934," On Hashish, ed. Howard Eiland (Cambridge, MA: Belknap Press, 2006), p. 87.
"راجع: السحر والسعادة / جورجيو أغامبين ـ ترجمة: سامح سمير، كتب مملة 10 يناير 2019"
[2] العالم المكتوب: تاريخ التمرد / ممدوح رزق ـ أخبار الأدب 4 نوفمبر 2023.
[3] صفقة فاوستية قديمة تكشف عن العالم الحديث / إد سيمون، ترجمة: ممدوح رزق ـ مجلة "الناقد" ـ العدد 8 / أكتوبر 2025.
[4] صلوات للشيطان / شارل بودلير، ترجمة: حنا الطيار ـ جورجيت الطيار، antolgy.com.
[5] هكذا تكلم زرادشت / فريدريش نيتشه، ترجمة: علي مصباح ـ منشورات الجمل 2007.


 

تحميل العدد الثامن من مجلة "الناقد"


مراوغة الرثاء

... وكلما جاءتني طفلتي بفيديو (تيك توك) جديد لها كي أشاهده؛ فإنني أبصر نسخة مصغرة منكِ أنتِ يا أمي، ليس لقوة الشبه بين ملامحكما فحسب، وإنما لأن طفلتي حينما تؤدي بطريقة lipsync أو مزامنة الصوت المسجّل مع حركة الشفاه، وتجسِّد حركيًا ما تدعي غناءه أمام الكاميرا فإنها تفعل نفس ما أُجبرت عليه طوال عمرك الذي بدأ بالموت وانتهى بالفناء: تتفوهين بخرسك .. تتظاهرين بنطق كلمات ليست من صنعك .. كلمات لم تتغيّر حتى في داخلك وأنتِ تطبقين شفتيكِ .. الفرق أن هذه الكلمات لم تكن غناءً، ولا تُقترن بالرقص على إيقاعاتها .. لا أسمع الصوت في الفيديو .. أسمع صوتك أنتٍ .. أستبدل الغناء الذي يتمثّل على شفتي طفلتي بكل الإكراهات الملغّمة التي كنت ترددينها في الماضي .. أجعلك تستعيدين الأداءات التعبيرية المصاحِبة لكل توسل لفظي، توهمتِ حتى لحظتك الأخيرة أنه اختيارك .. أنه الطريقة الصحيحة للنجاة .. أفعل ذلك رغمًا عني .. ليس لأنه وحسب الشكل القهري للتذكر، وإنما لمراوغة الرثاء أيضًا .. رثاء طفلتي من قبل أن تكون عجوزًا بنظارة ذات عدستين سميكتين وتخطو ببطء خارج نفسها.

اللوحة: الجدة مع الحفيدة / ماكس رينتل

مهنتي هي الرواية: سلطة "المثال"

لا تتعلق الأفكار التي يمكن تأملها والاشتباك مع إحالاتها عند قراءة كتاب "مهنتي هي الرواية" لهاروكي موراكامي، ترجمة أحمد حسن المعيني، بالرواية كنوع وحسب، وإنما بـ "الأدب" و"الكتابة" في المقام الأول بوصفهما مفهومين متداخلين ولكنهما غير متطابقين، ما يجعلهما ـ كما أرى ـ أقرب إلى الصراع من الانسجام والتآلف؛ فـ "الأدب" يستدعي بالضرورة سلطة "المثال" حتى مع غياب الملامح الواضحة أو السمات المحددة لحضوره، وحتى مع الإقرار بكون هذا "المثال" وهمًا متأصلًا، تعتمد الكتابة في طبيعتها الأكثر جذرية على فضحه، وهو ما تؤكده كلمات موراكامي نفسه في مقدمة الكتاب: "ومن نافل القول إنك إذا تحدثت إلى مئة روائي، فسوف تحصل على مئة طريقة مختلفة لكتابة الرواية". لكن في المقابل تتجلى هذه السلطة، التي أشرت إليها، من خلال حديث موراكامي الدائم عبر صفحات الكتاب الذي أصدرته دار الآداب عن ما يُسمّى "الجودة الروائية" بدءًا من تناوله لملابسات كتابة روايته الأولى، مرورًا بكل ما شهدته مسيرة عمله الروائي وحتى بداية تدوين هذه المقالات التي تضمنها كتابه.

قد يبدو عفويًا القول بأن "الجودة الأدبية"، وإن لم يكن لها شروط معيّنة، إلا أنها تظل شيئًا يمكن الإشارة إليه وإثباته، ومن ثمّ يمكن الوعي بغيابه والتدليل على ذلك في حالات أخرى. هذا يستدعي حتمًا التساؤل عن المنطق الذي يجمع بين "اللامعيارية" و"عدم تحقق المعيار" في الوقت نفسه؛ كيف تتحدث عن عدم توفر ما ليس له وجود من الأساس إن لم تكن ـ تحت وطأة الاحتياج القهري إلى حقيقة منقذة ـ قد اضطررت إلى التمسّك بنموذج شخصي، متعدد ومتغيّر، لكي تجعله يحل مكان ذلك الشيء غير المتوفر باعتبار هذا النموذج هو ذاته نفس الشيء "في عموميته"، مُناقضًا بالتالي "عدم وجود شروط معيّنة"؟. أليس الأكثر منطقية القول إنه طالما لكل مئة روائي مئة طريقة مختلفة لكتابة الرواية بتعبير موراكامي فإن فكرة "الجودة" نفسها ليست أكثر من هراء غريزي، لا يتسّق أمام هذا التنوّع غير المقيّد، وإن الأكثر عقلانية وملاءمة هو استبدال هذا المفهوم الشامل "المتسلط" بالرؤية الذاتية التي لا تعتمد على "التقييم" أو "القياس المرجعي" وإنما على بصمة النص نفسه سواء لدى كاتبه أو قارئه؟ أليس الأكثر منطقية أن تكون الرواية "كتابة" غير محكومة بالصواب والخطأ أو بـ "معايير الجودة" بعدما أثبت واقع الاختلاف بين طرق الكتابة سراب ما تدعيه من يقين؟
"الحقيقة أنني أشعر بشيء من الحرج حين أتحدث عن نفسي، وعن تجربتي في كتابة الرواية، هكذا، علانية؛ إذ تتملكني رغبة قوية في العزوف عن شرح رواياتي للآخرين، ذلك، أن الحديث عن كتبي يبدو لي نوعًا من الاعتذار أو التفاخر، أو ما يشبه التبرير. يتوّلد لدي هذا الانطباع دائمًا، مهما حاولت ألا أبدو كذلك".
إن "الاعتذار" و"التفاخر" و"التبرير" دلائل خضوع الفكر لـ "المثال" الذي أشرت إليه؛ إذ أن تلك المشاعر، في تجاورها أو اندماجها هنا، تبدو ناجمة عن الوعي بالتقصير، أو الوفاء بغرض، أو التبروء من نقص. الشعور بالندم ليس إلا قشرة، أحيانًا ـ أو غالبًا ـ يظل الكاتب عالقًا في سطوتها طوال حياته، لكن ثمة من يدرك أن ذلك ليس أكثر من استجابة تلقائية لـ "الخير والشر"، "الجميل والقبيح"، الجيد والرديء"، والكتابة ليست استثناءً هنا، أما في العمق، وراء تلك القشرة الحتمية، يكمن ـ ببساطة ـ ذلك الفهم الخلّاق بأن لكل وقت روايته، دون تقدير قيمة الرواية استنادًا إلى رواية أخرى، دون مقارنتها بتفضيلات "الفن الروائي" سواء كانت انتقاءات شخصية، أو انحيازات عامة. لكل لحظة حياتها، ما أراد الروائي أن يوثقه عن أشباحه خلالها؛ فإذ تجمّع الروائيون الآخرون والقراء كافة من كل مكان وزمان لحصار تلك اللحظة، بنوع من الفانتازيا العبثية، فإن "الجودة" التي سوف يُشهرها كل منهم عليها أن تخوض معركة الاستحقاق أولًا مع "جودة" الآخر قبل أن تحاول فرض نفسها على روايتك، مدحًا أو ذمًا.
"المهمة شاقة، ويجوز لنا القول إن قليلًا من الناس أهل لها، فمن يود إنجازها يحتاج إلى شيء خاص. الموهبة مهمة طبعًا، وركيزة أساسية، ولا شك في أن للحظ والأقدار دورًا كذلك، غير أن المرء يحتاج إلى شيء فوق ذلك، هو أقرب إلى أن يكون مؤهلًا من المؤهلات، يوجد عند أشخاص، ويغيب عند آخرين. يملكه البعض بالفطرة، فيما يكافح آخرون كفاحًا مريرًا كي يحصلوا عليه".
من يفكر، ولو على نحو عابر كومضة شاحبة، في أن "الموهبة" هي نفسها ذلك "الشيء الآخر" الذي تحدث عنه موراكامي لدى "الروائي"؟ نعرف كتّابًا أرادوا ـ مثلًا ـ كتابة الرواية ثم توقفوا بعد واحدة أو اثنتين، ونعرف كتابًا لم يبدأوا في كتابة رواياتهم إلا في منتصف العمر أو في نهايته، ونعرف كتّابًا شرع كل منهم في كتابة روايته الأولى ولم يكملها. أي "موهبة" هنا؟ أي معيار كوني تحتكم إليه؟ كيف يُقاس بصورة حاسمة ربع الموهبة ونصف الموهبة وثلاثة أرباع الموهبة والموهبة الكاملة؟! كل البشر يكتبون، بل إن كل كائن يكتب، هذه قناعتي، لكن ليس كل من يكتب قرر أن يكون "كاتبًا" بصورة ملموسة، لم يرغب كل من يفكر في الحياة والموت، ويراقب الناس، ويتأمل الدنيا أن يسجّل هواجسه ومشاعره وأحلامه وأسراره وخيالاته بطريقة ما، لن تتوقف بالضرورة عند كونها تسجيلًا،، بل ستكون هذه الطريقة نفسها اكتشافًا للخاطر، تنقيبًا في كل ما يُحَس، ومن ثمّ نوعًا من العيش، أو هو العيش كله. لم يرغب كل من جعل كتابته "مقروءة" أن يستمر في ذلك، وأن يفعل كل ما رأى أنه جدير بهذه الرغبة.
"أما الروائي الطموح فلا يحتاج إلا إلى معرفة أساسية بالكتابة (وهذا متوفر عند أغلب الناس)، وقلم، وأوراق، وقدرة على اختلاق قصة يمكن تطويرها إلى ما يشبه الرواية".
هل ثمة أسلوب "مقدس" لاختلاق القصص؟ هل هناك آلية ملزمة لتطوير القصة إلى "ما يشبه رواية"؟ ما الذي يمنع موراكامي حقيقة من إزاحة ما يطلق عليه "الموهبة" حتى وهو يتحدث عن إمكانية لا يمكن الحكم على عدم توفرها في شخص ما سواء قرر الكتابة أم لا؟ ما الذي يمنع موراكامي من استبعاد "الموهبة" باعتبار أن الأمر يرتبط جوهريًا بقدرة لا يمكن لأحد أن يضمن عدم وجودها في شخص آخر، وليس لأحد الحق في نفيها أو تجريدها منه؟ إنها "سلطة الجودة" التي يبدو أن موراكامي لا يستطيع كليًا التحرر منها، وهو ما يظهر جليًا في "تقييمه" لنفسه ولكتّاب آخرين مثل همنجواي، حتى وإن بدا أن كلماته تسعى بل وتؤمن بذلك التحرر بالفعل.
"لو تفكّرنا في الأمر الآن، لوجدنا أن عجزي عن كتابة رواية جيدة كان أمرًا طبيعيًا؛ فكيف لشخص مثلي لم يكتب أي شيء في حياته أن يسدد ضربة رائعة من مضربه؟ ربما كان من الخطأ أن أكتب شيئًا "روائيًا" أصلًا. قلت لنفسي: "لا تحاول أن تكتب شيئًا معقدًا. دعك من تلك الأفكار التي تحاول أن تحدد ما هي "الرواية" و"الأدب" ودوّن مشاعرك وأفكارك كما تطرأ لك، بحرية، بطريقة تحبها".
يتضح هنا أن "الحرية" عند موراكامي في كتابة روايته الأولى كانت أشبه بالطواف خلسة وبخطوات ارتجالية حول "المثال" خشية ملامسته، أو التعرّض للأذى من هيبته المستقرة، وهو أمر يبدو مستوعبًا حقًا في تلك المرحلة المبكرة أو مع بدايات الكتابة حتى لو كان هذا "المثال" غير متجسد بكيفية جازمة. لكن موراكامي لا يتخلص مطلقًا من سطوة "الرواية الجيدة" التي تعني بداهة نقيضها "الرواية الرديئة"، رغم محاولته لأن يفعل شيئًا خارج (الأفكار التي تحاول أن تحدد ما هي "الرواية" و"الأدب"). إن الكتابة ليست ضربة مضرب، حيث ثمة قواعد لتسديد هذه الضربة لا يمكن إهمالها ويُنتظر رغم ذلك أن تنجز هدفها. ليس في ضربة المضرب "خلق" أو "لعب ذاتي" أو "تجريب لمسارات متخيّلة"، وإنما هي فعل يتم في إطار "قانون ثابت" وبناءً عليه نجاح أو إخفاق.
"حين شرعت في كتابة روايتي الأولى "اسمع الريح تغني"، كنت أعرف أنه لا خيار لي سوى أن أكتب عن عدم إيجاد شيء أكتب عنه. كنت أعرف أنني إذا أردت أن أمضي قُدمًا كروائي، سأضطر إلى تحويل "عدم إيجاد شيء للكتابة عنه" إلى سلاح. إن لم أفعل ذلك، لن أقوى على مجابهة جيل من الكتّاب الذين سبقوني، وهذا في رأيي مثال على ما تنطوي عليه الكتابة بما هو متوفر لديك".
أتذكر الآن ما كتبه ميلان كونديرا في "خيانة الوصايا": "كروائي أشعر دائمًأ بأني ضمن التاريخ، وهذا يعني أنني أقف على الطريق، محاورًا أولئك الذين سبقوني، وربما حتى مع أولئك الذين سيأتون من بعدي (لكن بدرجة أقل). بالتأكيد أنا أتكلم عن تاريخ الرواية".
إن كتابة الرواية ـ بالنسبة لي وهو ما ينطبق على الكتابة عمومًا ـ هي تفاوض مع النوع، مخاتلة التصنيف، تقويض الجنس الأدبي من داخله، صفقة ماكرة بين "الحرية" و"التواصل مع الآخر"، بين "التعبير الجامح عن الذات" و"التاريخ"، مقامرة لدفع نفسي ككاتب لمراوغة هذا "التاريخ"، من قبل أن يؤدي ذلك إلى خلخلة مفاهيم الرواية / الكتابة / التلقي في وعي ـ ولا شعور ـ القارئ، ومن ثمّ الوجود ذاته.
أتصوّر لو أن صبيًا قرأ بعض الروايات ثم كتب اسمه على ورقة شجرة وأعطاها لأبيه وقال له: هذه روايتي؛ فإن أمام هذا الأب ردود فعل محتملة: الدهشة، الاستحسان، الاستهزاء، التجاهل، التعاطف، التوبيخ، تعريف الابن بما تعنيه "الرواية"، لكن ما هي فرصة أن يتساءل الأب: لماذا فعل الولد ذلك؟ .. أي شيء في حياته حرّضه على القيام بهذا الأمر الغريب؟ .. لماذا لم يطلق على ورقة الشجرة التي كتب عليها اسمه صفة أخرى: قصيدة أو قصة قصيرة مثلًا؟ .. ما علاقة هذا الفعل بما قرأه الولد من روايات؟ .. ما الذي يمثله هذا الفعل أمام ما يعرفه الأب نفسه عن حياته، عن أبوته، وعن الفن الروائي؟ .. كل من يكتب "رواية" يقوم بمثل ما فعله هذا الصبي .. كل من يكتب يفعل هذا بطريقته الخاصة، والتساؤلات التي قد تُثار في ذهن الأب، مع ضعف الفرصة، نتيجة لذلك ما هي إلا مداعبة غير مقصودة للألغام المخبوءة في جوف التاريخ.
أخبار الأدب
5 أكتوبر 2025

حلم واحد فقط

لكن زوجي الصياد لم يغرق هذه الليلة كما حلمت، أنا التي لا يخيب منامي أبدًا، وعاد إلى البيت مرتجفًا، يهذي بعينين جامدتين، تحدقان عن آخرهما في الفراغ، كأنهما أبصرتا ما لا يسعه أي نظر .. لم أساله عن شيء، فأنا أعرف كل ما جرى له أكثر مما يعرف .. لكنني دثرته واحتضنت لهاثه وأسكنته فراشه رفقة صغيرنا النائم الذي لم يّكمل في الدنيا أعوامًا خمسة .. جلست بجوار زوجي، أجفف هلعه بعطر منديلي، وأراقب جفونه تُغلق على مهل، وتمتماته المظلمة تتبخر في تثاقل، ورعشات جسمه المتخشّب تتحوّل إلى انتفاضات متباعدة.
كنت أتأمل وجه زوجي عبر غلالة حلم الليلة الأخيرة من العام الماضي، الذي جاء به صوت المطر إلى منامي قبل ثلاثة أيام، وأوحى لي بأن زوجي سوف يلقى غرقه المحتوم في رحلته القادمة إلى النهر .. حلمي الذي لم أخبر به أحدًا، حتى زوجي، ولم أحاول بأي طريقة التصدي لنبوءته، ليس لأنني فقط أؤمن بأن ما كان منذورًا في اللوح المحفوظ فلا سبيل لإبطاله، أو لأنني أثق ـ كما يميزني الناس ـ في صلابة جذري الروحي، الذي يحصنني من الانكسار أو الاختلال أمام تقلبات القدر وأهواله فحسب، ولكن لأنني لم أكن أعيش في الدنيا حقًا بقدر ما أعيش في حلم واحد رأيته ليلة ولادة طفلي قبل خمس سنوات .. حلم واحد فقط من بين كل ما مر على منامي، اختطفني من نفسي ومن زوجي، ومن ابني الذي جئت به إلى الحياة للتو، ومن أحوال العالم وعجائبه كلها .. الحلم الوحيد الذي ظل يتكرر عبوره لسباتي دون ميعاد، ولم أستطع تفسيره أو كشف نبوءته، أو تحرير روحي من غموضه.

مقطع من رواية قيد الكتابة

photo by sharon covert