الأربعاء، 26 نوفمبر 2025
بين قبرٍ ومقهى
شاب وفتاة يقفان بجوار رصيف المستشفى في الليل البارد .. كلاهما في العشرينيات، وينتظران تاكسي يعيدهما إلى البيت بعد خروجهما من المستشفى .. شاب وفتاة ارتديا ملابسهما الثقيلة على عجل قبل مغادرتهما البيت .. أحدهما كالعادة شعر فجأة بعدما أغمض عينيه بضيق في التنفس، وبدقات قلب قوية ومتلاحقة فأيقظ الآخر .. إما أن الشاب نهض من سريره في الظلام وتوجّه حافيًا على ضوء وناسة الصالة إلى حجرة الفتاة ليقف عند عتبتها ويناديها خائفًا ومترددًا: "ماما .. أنا تعبان"، أو أن الفتاة نهضت من جوار زوجها ودخلت إلى حجرة الشاب التي يتشاركها مع أخته الكبرى ثم أيقظته بنبرة قلق ورجاء خافتة: "معلش، قوم وديني المستشفى" .. الشاب والفتاة يتشابهان في الملامح والصوت والمرض، وبالطبع في نعاس عيونهما وارتعاش جسديهما بينما يقفان أمام المستشفى انتظارًا لتاكسي .. يضع الشاب يديه في جيبي بنطلونه ويسترق النظر بتوجس وشفقة إلى الفتاة التي تضم طرفي شالها الصوفي الداكن بقوة على صدرها، وتتطلع إلى الطريق في شرود واستسلام .. سواء كان هو أو هي؛ لا تتغيّر كلمات كل طبيب يستقبلهما في الساعات المتأخرة من الليل: "راحة الأعصاب والهدوء النفسي أهم شيء" .. يراقب الشاب شعر الفتاة البني الناعم الغزير وهواء الشتاء يجتاح خصلاته المتعرجة فيتمنى أن يمد يده ليتحسس رأسها ثم يضم وجهها إلى صدره ويحتضها كما لم يستطع أن يفعل مطلقًا في بيتهما .. أن يقبّل شفتيها الصغيرتين بنهم تحت الأضواء الصفراء الساطعة لعواميد الإنارة حولهما .. الفتاة لا تنظر إليه لكنها تتخيّل نفسها تسكب بكاءً جارفًا في حضنه .. أن تغفو بين ذراعيه لأطول وقت ممكن، حتى لو لم تستيقظ إلا على لحظة موتها .. كان الشاب غاضبًا والفتاة يائسة .. أما الرجل في منتصف العمر الذي يراقبهما وهو جالس في المقهى المقابل للمستشفى فلم يكن وقوفهما بالنسبة له مجرد انتظار لتاكسي يعيدهما إلى البيت، وإنما تفاوضًا جنائزيًا مع لقاء لم يحدث أبدًا .. لقاء يتم استبداله منذ اللحظة الأولى بمتاهة وعرة بين سريرين في البيت نفسه .. هي نفسها المتاهة بين قبر امرأة عجوز ومقهى يجلس رجل في منتصف العمر وحيدًا بجانب نافذته الزجاجية، ولا ينتظر شيئًا.
قصة قصيرة جدًا
إرنست همنغواي
ترجمة: ممدوح رزق
ذات مساء حار في بادوفا[1]؛ حملوه إلى السطح، فأمكن لعينيه أن تحلّقا في سماء المدينة. كانت طيور السويفت[2] تحوم بين رؤوس المداخن، وبعد قليل انسدل الظلام وسطعت أضواء الكشّافات. نزل الآخرون يحملون زجاجاتهم، وكان هو ولوز بالأسفل، يسمعان أصواتهم عبر الشرفة. جلست لوز على السرير، يغمرها الانتعاش والبرودة في تلك الليلة الحارة.
طوال ثلاثة أشهر؛ أمضت لوز النوبة الليلية، وكانوا سعداءً بهذا. عندما أجروا الجراحة له؛ كانت هي التي جهّزته لطاولة العمليات، كما دعمت ذلك بمزحة “الصديق أو الحقنة الشرجية”[3]. خضع للتخدير متشبثًا بتلابيب نفسه خشية أن يُفشي بأي سر خلال فقرة الهذيان الكوميدية. بعدما بدأ في استخدام العكازين؛ تعوّد أن يقيس حرارته بنفسه، كي لا تضطر لوز للنهوض من السرير. لم يكن هناك سوى قليل من المرضى، وجميعهم كانوا يحبون لوز، ويعلمون بالأمر. في رجوعه عبر الممرات؛ كان يتخيّل لوز في سريره.
قبل عودته إلى الجبهة؛ دخلا إلى الكاتدرائية وصليا معًا. كان المكان مظلمًا وهادئًا، وثمة آخرون يصلون أيضًا. أرادا أن يتزوجا، لكن لم يكن هناك وقت كاف لإعلان ذلك، كما لم يمتلك أي منهما شهادة ميلاد. شعرا وكأنهما زوجان، لكنهما أرادا أن يعرف الجميع، أن يكون الأمر رسميًا حتى لا يضيع منهما.
كتبت لوز العديد من الرسائل له، لم يتسلمها إلا بعد الهدنة. وصلت إليه في الجبهة خمس عشرة رسالة دفعة واحدة، فرتبها حسب التواريخ وقرأها كلها دون انقطاع وبدقة متناهية. كانت جميع كلماتها عن المستشفى ومدى حبها له، واستحالة العيش بدونه، وعن مدى فظاعة افتقادها له في الليل.
بعد الهدنة اتقفا أن يعود إلى الوطن ليبحث عن عمل ويتمكنا من الزواج. لم تكن لوز ترغب في العودة إلى الوطن حتى يحصل على وظيفة جيدة ويتمكن من القدوم إلى نيويورك للقائها. كان مفهومًا أنه لن يشرب، ولا يرغب في رؤية أصدقائه أو أي شخص آخر في الولايات المتحدة؛ فقط يحصل على وظيفة ويتزوج. في القطار من بادوفا إلى ميلانو؛ تشاجرا بسبب رفضها العودة إلى الوطن فورًا، وعندما اضطرا إلى تبادل الوداع في ميلانو؛ قبّلا بعضهما، لكن شجارهما ظل مخيّمًا. أصابته طريقة الوداع تلك بالغثيان.
سافر من جنوة[4] إلى أمريكا على متن قارب. عادت لوز إلى بوردينوني[5] لافتتاح مستشفى. كان الطقس موحشًا وممطرًا، وأثناء إقامة كتيبة من الأرديتي[6] في تلك المدينة الموحلة والممطرة شتاءً؛ ضاجع قائدها لوز، لم تكن قد تعرّفت على الإيطاليين من قبل. في النهاية كتبت إلى الولايات المتحدة أن ما كان بينهما لم يكن سوى علاقة صبي وفتاة. كانت تشعر بالأسف، وتعلم أنه ربما لن يستطيع أن يتفهّم هذا، لكنه في يوم ما قد يسامحها ويشكرها. اعتقدت لوز، بعكس المتوقع تمامًا، أنها سوف تتزوج في الربيع. كانت تحبه كما ظلت دائمًا، لكنها أدركت الآن أن الأمر لم يكن سوى حب بين صبي وفتاة. كان لديها إيمان راسخ به، وتمنّت أن يحقق نجاحًا مهنيًا كبيرًا. عرفت أن ذلك هو الأفضل.
لم يتزوجها قائد الكتيبة في الربيع، ولا في أي وقت آخر. لم تتلق لوز أي رد على الرسالة التي بعثت بها إلى شيكاغو. بعد مدة قصيرة، أصيب بالسيلان من بائعة في أحد أقسام متجر ما، أثناء ركوبه سيارة أجرة في منتزه لينكولن بارك[7].
…………………………………
[1] تقع في شمال إيطاليا وتتبع إقليم فينيتو
[2] تسمى السمامة أيضًا، وتشبه السنونو إلى حد كبير، وتشتهر بقدرتها على الطيران لشهور متواصلة دون أن تهبط.
[3] عبارة “Friend or enema”(صديق أو حقنة شرجية) هي جملة مسجوعة تُستخدم للسؤال عما إذا كان الشخص (أو الموقف) هو صديق، أو إذا كان الوضع المعني هو إجراء طبي (حقنة شرجية)، وعادةً ما تُستخدم في سياق فكاهي أو مربك.
[4] مدينة وميناء بحري شمال إيطاليا، عاصمة إقليم ليغوريا ومقاطعة جنوة.
[5] مدينة شمال شرق إيطاليا في إقليم فريولي فينيتسيا جوليا وعاصمة مقاطعة بُردنونة.
[6] وحدات نخبة إيطالية في الحرب العالمية الأولى، وتميز أفرادها بزيهم الأسود.
[7] منتزه شهير في شيكاغو.
موقع "الكتابة" الثقافي
12 نوفمبر 2025
ما يشبه الظل: نحو اجتياز فائض العتمة
الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025
صفقة فاوستية قديمة تكشف عن العالم الحديث
افتتاحية العدد الثامن من مجلة "الناقد" / أكتوبر 2025
مراوغة الرثاء
مهنتي هي الرواية: سلطة "المثال"
حلم واحد فقط
لكن زوجي الصياد لم يغرق هذه الليلة كما حلمت، أنا التي لا يخيب منامي أبدًا، وعاد إلى البيت مرتجفًا، يهذي بعينين جامدتين، تحدقان عن آخرهما في الفراغ، كأنهما أبصرتا ما لا يسعه أي نظر .. لم أساله عن شيء، فأنا أعرف كل ما جرى له أكثر مما يعرف .. لكنني دثرته واحتضنت لهاثه وأسكنته فراشه رفقة صغيرنا النائم الذي لم يّكمل في الدنيا أعوامًا خمسة .. جلست بجوار زوجي، أجفف هلعه بعطر منديلي، وأراقب جفونه تُغلق على مهل، وتمتماته المظلمة تتبخر في تثاقل، ورعشات جسمه المتخشّب تتحوّل إلى انتفاضات متباعدة.
كنت أتأمل وجه زوجي عبر غلالة حلم الليلة الأخيرة من العام الماضي، الذي جاء به صوت المطر إلى منامي قبل ثلاثة أيام، وأوحى لي بأن زوجي سوف يلقى غرقه المحتوم في رحلته القادمة إلى النهر .. حلمي الذي لم أخبر به أحدًا، حتى زوجي، ولم أحاول بأي طريقة التصدي لنبوءته، ليس لأنني فقط أؤمن بأن ما كان منذورًا في اللوح المحفوظ فلا سبيل لإبطاله، أو لأنني أثق ـ كما يميزني الناس ـ في صلابة جذري الروحي، الذي يحصنني من الانكسار أو الاختلال أمام تقلبات القدر وأهواله فحسب، ولكن لأنني لم أكن أعيش في الدنيا حقًا بقدر ما أعيش في حلم واحد رأيته ليلة ولادة طفلي قبل خمس سنوات .. حلم واحد فقط من بين كل ما مر على منامي، اختطفني من نفسي ومن زوجي، ومن ابني الذي جئت به إلى الحياة للتو، ومن أحوال العالم وعجائبه كلها .. الحلم الوحيد الذي ظل يتكرر عبوره لسباتي دون ميعاد، ولم أستطع تفسيره أو كشف نبوءته، أو تحرير روحي من غموضه.
مقطع من رواية قيد الكتابة
photo by sharon covert







