الاثنين، 5 نوفمبر 2018

الكتابة والنقد الأدبي: ما يشبه موسوعة للشر "3"

أقدم في هذا المقال الجزء الأخير من قائمة الانتقادات والمآخذ التي اعتادت الدراسات النقدية والمراجعات وتدوينات القراءة على توجيهها للأعمال الأدبية والنقدية العربية مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن كل "ممارسة لغوية عدائية" مما تتضمنه هذه القائمة من الممكن أن ينجم عنها سياقات لا نهائية من ظواهر "القهر الاستباقي" التي تستمد طاقتها البلاغية من الممارسة نفسها .. من الضروري أيضًا الانتباه إلى أن هذه الانتقادات دائمة الاستهداف للنص الأدبي لا تنفصل عن تلك المجابِهة للمتون النقدية حيث تتخذ هذه المآخذ أنساقًا لغوية تستوعب هذا التمايز بين "الكتابة" و"النقد" دون أن تتخلى عن شروطها المعرفية .. لذا فالعداء البلاغي ـ كسلطة للقهر الاستباقي ـ ليس كاتبًا أصليًا فحسب، بل ناقدًا أصليًا أيضًا .. في الأسبوع القادم سأطرح تفكيكًا مختصرًا لموسوعة الشر هذه يتضمن المقارنة بين محتوياتها، تحليل ما تنحاز إليه وما تحجبه، ومقاربة الدوافع التي تُسيّرها:
ـ استخدام المجاز الرومانسي، واستعمال التشبيهات والاستعارات العاطفية المركّبة خاصة تلك التي تعتمد على الربط بين المشاعر الشخصية، وعناصر الطبيعة وتحولاتها.
ـ الاعتماد على التيمات المستهلكة سواء فيما يخص العلاقات البشرية، سرد الواقع، الرصد التاريخي، الأبنية الخيالية، تناول العالم الخاص وتبدلاته وحركة التفاصيل المتناقضة داخل وخارج حدوده، تفسير الحياة والموت، أو مشاهد التنبؤ.
ـ عدم تأويل النص بشكل يضمن الحصول على معنى محدد أو قيمة ثابتة أو مغزى واضح.
ـ تحويل جماليات العمل الأدبي إلى شذرات من عدم الثقة، احتمالات تفتقر للاستقرار، وخيالات جدلية، محرومة من تأكيد الغاية.
ـ التغاضي عن تعيين الوجود خارج النص كمسار معرفي تتم القراءة من خلاله: حياة الكاتب الشخصية ـ أعماله السابقة ـ الواقع السياسي والاجتماعي الذي أثّر في كتاباته.
ـ استدعاء التناص الذي يساهم في تشتيت الدلالة، وضياع الغرض وسط المعاني التي تفرضها النصوص المستعادة داخل العمل الأدبي، وهو السلوك النقدي الذي يرمز إلى عدم الاعتراف بوجود حقيقة مطلقة، أو أصل للإدراك.
ـ تجاهل النقد لمحاربة الأفكار والسلوكيات والظواهر "الغربية" في النص.
ـ المساهمة في امتهان الجسد بتطويع الأدوات النقدية للاحتفاء بالأعمال المنحلة أخلاقيًا.
ـ عدم إرشاد النقد الأدبي للكاتب كي يتمكن من تحسين كتاباته على المستوى الجمالي والإنساني.
موقع "الكتابة" ـ 4 نوفمبر 2018

السبت، 3 نوفمبر 2018

شال أحمر يحمل خطيئة: إنقاذ أجاممنون من أبوته


ثمة جسد أنثوي يحاول أن ينتج خطابه في مجموعة "شال أحمر يحمل خطيئة" لسعاد سليمان والصادرة عن دار روافد لا بواسطة التحرر من "الأبوة" بل عبر تحرير "الأبوة" نفسها .. تخليص هذه الأبوة من قهرها الذاتي "التاريخي"، وبالتالي تعطيل الأسباب العدائية التي يمكن أن تمنع الجسد الأبوي من الاستجابة للأحلام الأنثوية التي تسعى للتمثّل .. كأن "إلكترا" تكافح لإنقاذ أبيها من الصور المتعددة للخصاء / الموت حيث تتجاوز فكرة الانتقام إلى إعادة خلق الأب خارج هويته القامعة، وبالضرورة منح تجسدّاته المختلفة طبائعًا مغايرة، قادرة على تخليص الجسد الأنثوي مما يبدو مصيرًا حتميًا.
"برأسي أسئلة لا أستطيع الإجابة عليها؛ فهل لديك ما يبدد حيرتي؟ أفتش في عيونها الوقحة، أبحث داخلهم عن ذرة إحساس بالذنب، عن صحوة ضمير! .. تبتلعني شراستها، تنهرني، تهددني، أنكس رأسي، أخاف وعيدها، أخشى أن يفضحني يقيني، فتنكل بي، لم أعرف كيف أوقف الطوفان، ولا كيف أتقيه، كنت على الحافة أستمسك بيقظتك".
الكتابة هي سبيل هذا الانقاذ الأنثوي للأب من الخصاء / الموت الذي يتمثل كما في قصة "دورق أخضر فارغ" في الغياب والغفلة .. تتخطى الذات في القصة محاولة الثأر البديهية من الأم مصدر الخوف والتهديد والعقاب التي تعشق الصهيل تحت الذئاب والثعالب والكلاب أو بشكل آخر "إعادة الأب إلى عرينه" إلى جذب هذا الأب نحو الحضور داخل ذكوريته المطموسة تحت "الحنان" الذي يرمز له اللون الأخضر في الدورق الفارغ .. إلى استرداد الهوية الأصلية الجديرة به، والتي تكمن لدى ابنته .. هنا يبدو الوصف الذي تقدمه الابنة لخطوط الشبق في وجه الأم كأنه في حقيقة الأمر رسمًا متنكرًا لشبق الابنة نفسها .. الشبق الذي لا يريد أن ينتقم من جسد الأم الممنوح للجميع، المتمنّع على الأب، بقدر ما يكافح لإرجاع هذا الجسد للأب في صورة أخرى، نقيًا ومتجاوزًا حدوده .. بقدر ما يكافح هذا الشبق لتذويب هؤلاء "الجميع" في جسد الأب وهو يكتشف ويشكّل هذا الجسد الأنثوي الذي عاد إليه في صورة بديلة من خلال الابنة.
"فارغ أنت أيضًا يا أبي، لم تر مواجعي، لم تدرك ما لم يقله لساني، لم تصلك ذبذبات الجسد الممنوح للجميع، المتمنع عليك، لم يتوقف عقلك دقيقة للتحليل والتفسير، كيف لا تعرف خطوط الشبق في وجه امرأتك؟، الجميع يلتقطون رغبتها المتوهجة، يقدمون وجباتهم السريعة لنهم لا يشبع".
علينا أن ننتبه إلي الحيلة الرمزية التي خطتها سعاد سليمان في نهاية هذه القصة؛ إذ حوّلت حضور الدورق الأخضر الفارغ من إشارة لاختفاء الأب وحضور عاشق متلهف على وطء الأم إلى جعل اختفاء هذا الدورق قرينًا لاختفاء الأب، وهو ما استهدف غرضين مزدوجين: الأول؛ وضع الأب ـ كعاشق أكثر رجولة ـ في مكانة استحواذية تزيح أنصاف الرجال كافة من عشاق الأم بحيث يعلن غياب الدورق عن عدم الحاجة للوجود على سور الشرفة حين يختفي الأب، والثاني تجريد الأم من سلاح خيانتها "الدورق المنتصب" كي لا تستطيع استخدامه في غياب الأب .. هكذا يمكن لانتصاب الدورق الفارغ في الذاكرة أن يكون علامة لاسترداد الأب بمعزل عن الأم، ومن ثمّ يمكنه أن يواصل خلق أحلام هذه الابنة مع كل أب آخر.
"أوشوش لأبي بما يجهل، صارت أذناه شمعًا أحمر، تضخم فمه يحاول ابتلاعي، ينهرني بعصبية ونفاذ صبر، يبحث عن عصا يؤدبني بها، أحوم حوله بإصرار: تمهل يا أبي، أنا الأثيرة لديك، كيف تنكرني؟!".
تتخذ قصة "دموع الفراشة" المسار ذاته أثناء توجيه الخطاب الأنثوي / الطفولي بشكل مباشر إلى الأب مع استمرار المحاولة لإنقاذه من "الغفلة"، والتي تتجسّد هذه المرة في صورة صمم يمنع هذا الأب من الإنصات إلى الألم السري لطفلته .. الطفلة التي تريد من أبيها تحديدًا أن يساعدها على النجاة التي لا تقتصر على فرديتها بل تلك النجاة المشتركة التي يمكن أن تتسم بنوع من التواطؤ بين الأب وابنته ..التواطؤ القادر على تضليل الأم والإخوة، وبناء مخبأ غامض تجد فيه الأبوة المحررة والبنوّة الأنثوية نشوتهما المتوحّدة .. حيث يمكن لجسدين متباعدين أن يمتزجا خارج سلطة العائلة .. لكن سعاد سليمان لا تترك هذا "الحلم" دون علامات تفكيكه .. المعاول الاستفهامية التي تحفر في الصلابة الأبوية اللامبالية، الراسخة في الاتجاه المضاد .. لهذا فالذي يكتب الخطاب الأنثوي هنا هو تلك التساؤلات حول إنكار الأب للانتهاك الذي يحاصر ابنته .. عدم الإنصات لها .. عدم فهم رسائلها المتوارية .. القهر في استجابته لوشوشتها عن الألم .. هذه الاستفهامات لا تخص الطفلة وحدها بل تتعلق بالأب أيضًا .. باستسلامه للخصاء .. للموت الذي يؤجّل تحرير "الأبوة"، وبالتالي يقف ضد اكتشاف هذه الأبوة للحلم الأنثوي .. الحلم الذي تحوّل عند الطفلة إلى كابوس مبهم لا يمكن معه أن تميّز البول الناجم عن خوفها رغم الاختباء في ملابس أبيها عن دموع الفقد.
"لم يشفع شرحه الوافي الذي يؤكده بفخر لا يروق لهن، إن شظية استهدفته في حرب لم نكد نخوضها، عاد بعين زجاجية أقصى ما قُدم له حتى لا تصير بقعة مجوفة تثير الأسى، يرحلن بكثير من الشفقة ومشاعر الأسى وأمنيات طيبة بالسعادة مع أخرى، يتجاوز غيظه وسخريته من سطحيتهن، هل يعيبه نصف العمى وهو المقاتل بغير سلاح؟".
تتكرر محاولة الإنقاذ الأنثوي للأب في قصة "عين زجاجية لرجل وسيم"، حيث تتخذ غفلته شكل العماء المجسّد في عين زجاجية لرجل اكتسب أبوته المجازية من الحرب التي أفقدته إحدى عينيه .. الراقصة "ياسمين" التي منحها عشقها للعائد من "النكسة" طبيعة الابنة التي تحلم بتخليص الوسيم صاحب العين الزجاجية من رفض بنات الحي له، وتنبيهه إلى الفخورة المحبة التي لا يستطيع رؤيتها إلا كشبح عابر .. التي تحلم بأن يخوض هذا الرجل "قتالًا حقيقيًا" ضد عمائه، يحرره من أثر حرب "لم نكد نخوضها"، الأمر الذي سيساهم في تحريره للأنثى / الراقصة "منقوصة الإنسانية" عند النساء، والشهية التي لا يمكن المجازفة بالزواج منها عند الرجال.
"كيف تملكين جسدًا يحمل كل هذه الوقاحة، أتوه فيه يا سيدتي، فهو دائمًا منفلت الشهوة، لا يعرف حد الاكتفاء، خارج مقاييس الالتزام، وأنا رجل مخدوع بتاج السيادة، أهكذا كل النساء؟ أم أنتِ فقط من تحترف الشراهة؟".
يتقمص الخطاب الأنثوي في قصة "قلب موشوم على قدم" صوت الرجل كي يمرر جوهره الشبقي من خلال هذا الصوت .. كأن صوت الرجل هذا هو محاولة تفسير عدم إنصات الأب لابنته  في قصة "دموع الفراشة" .. لا تحتجب الشهوة الأنثوية هنا وراء انشغال بأب غافل أو حبيب نصف أعمى، وإنما تعلن عن نفسها بشكل مباشر ومراوغ في الوقت ذاته من خلال العجز الذكوري عن مجابهة الشبق الأنثوي الذي يصفه الرجل بالوحشية .. لا يبدو أن الرجل هو الذي يتكلم بقدر الأنثى التي تتقمصه .. هذا التقمّص المخادع لا يمنح الحرية للأنثى ـ في المجموعة ككل ـ للإعلان عن شبقها فحسب، وإنما يمنح الحرية للرجل / الأب أن يفضح سر خصائه أيضًا .. عدم القدرة على مواجهة النهم الأنثوي .. يفضح الجدران اللغوية التي يستعملها الرجل في الاختباء من الرغبة الجامحة للأنثى: الوقاحة ـ عدم الكفاية ـ الخروج عن مقاييس الالتزام .. لذا فالرجل الكسيح بفعل الشهوة الأنثوية العاتية لا يتحدث عن نفسه فقط، وإنما عن "الرجل / الأب" في ذاته، مثلما لا يخاطب أنثى محددة، وإنما "الأنثى / الابنة" في ذاتها التي لا يستطيع مفارقتها، وفي الوقت نفسه يكره "توحشها في التهامه".
ربما يشعر قارئ "شال أحمر يحمل خطيئة" أن سعاد سليمان تتحرك داخل ما يمكن أن يعد إرثًا هائلًا من الثوابت الحاكمة للعلاقات بأشكالها المتباينة، ولكن علينا مراقبة كيف تفكر قصصها في الطريقة التي تكوّن بها هذه العلاقات نماذج بشرية لا تستطيع الهروب من تصديق "تاريخيتها" .. لا تضع سعاد سليمان هذا التاريخ كوجه واحد متعدد التفاصيل، وإنما كـ "خطايا" ملتبسة، لا تتوقف عن تشكيل ملامح الموت في وجوهنا .. لذا فإننا بطريقة ما يمكننا العثور على هذه الرغبة الأنثوية "الأمومية" لدى الابنة في إنقاذ الأب داخل حتى ما يبدو فارغًا منها أو يُظهر تنافرًا أو تناقضًا معها .. هناك دائمًا إلكترا التي ربما لا تريد دائمًا أن تقتل كليتمنيسترا بقدر ما تريد إنقاذ أجاممنون من أوهامه الأبوية كي لا تبقى عالقة في كابوسها للأبد.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 4 نوفمبر 2018

الجمعة، 2 نوفمبر 2018

عن الجملة الافتتاحية للرواية

أحب أن يكون للجملة المفتاحية في الرواية صوت "النداهة" في الأسطورة الريفية المصرية القديمة .. إغواء يوطده نوع من الهمس الشيطاني حتى لو كان يصف انفجارًا، أو يرصد عاصفة، أو يتأمل صرخة مضرجة بالدماء .. حتى لو كان مراقبة لضحكات طفل.
"أعرف يا أبي أنك أنت الذي فعلتها، أنت الذي تركت الرسالة التي فوجئ بها صباح اليوم أعضاء وزوار منتدى (أضواء المنصورة) وأبلغتهم فيها أنك قمت بالاستيلاء على المنتدى" .. فتحت هذه الكلمات باب الأكاذيب الصادقة في روايتي "خلق الموتى"، أما الهمس فهو لا يحرّض على التوغل في الغابة فحسب، بل على اليقين أيضًا بأن ثمة خطابًا سريًا، شخصيًا تمامًا، يكمن في انتظار ذلك الذي يتعيّن عليه دون أحد آخر أن يكتشفه داخل ظلامها. هكذا يمكن الإنصات إلى الروح الشريرة الفاتنة التي أراد ماركيز أن يستدرج قارئ "مائة عام من العزلة" بنبرتها الشبحية الخافتة نحو الشَرَك .. النبرة ذاتها التي استعملها كافكا في بداية "المسخ"، وبالطبع كانت لدى ألبير كامو في افتتاحية "الغريب". تُنسج الجملة المفتاحية وفقًأ لما يستقر عليه التواطؤ بين البنية المخاتلة للرواية ـ التي تتضمن ماضيها بالضرورة ـ وأبديتها الغامضة .. بين ما يجدر بها إخفاؤه، والعلامات التي تحفّز التفاصيل المعلنة على الاستمرار في تجاوز نفسها .. بين الشروط المخادعة للعبة، ونزع الغائية عن أحلامها .. لذا يمكن القول بأن العبارة الأولى هي التعويذة المقتضبة التي أقرتها الرحلة الذهنية لتشييد المتاهة، والتي تحاول أن تضمن للرواية ألا تنتهي، أي أن يواصل القارئ كتابة ذلك الخطاب السري بينما يحاول اكتشافه، وهو ما قد يجعلها كما أشارت جيني ديفيدسون في مقالها "البساطة أم الأسلوب؟" تتخذ حياةً بحد ذاتها.
شهادتي ضمن ملف "روائيون عرب عن الجملة الافتتاحية للرواية: هي الرؤية الفلسفية للنص" للكاتب "إيهاب محمود" على موقع "ضفة ثالثة".
1 نوفمبر 2018

السبت، 27 أكتوبر 2018

لأن عينيه مغلقتان طوال الوقت


في الطريق إلى البحر؛ رجل وامرأة يجلسان متقابلين داخل قطار .. بينهما طفلة تتطلع عبر النافذة إلى الحقول الخضراء .. المرأة تنظر إلى أرض القطار كأن بصرها يتأمل في الداخل مقبرة طيور محترقة .. الرجل يضع سماعتين في أذنيه وينصت إلى أغنيات "حميد الشاعري" القديمة .. لا ترى المرأة أو الطفلة ابتسامته المتحسّرة التي تستعيد الزمن حينما كانت تلك الأغنيات تطمئنه بأن هذه اللحظة لن تحدث، وفي الوقت نفسه كانت تتنبأ بها.
أمام البحر .. طلبت الطفلة أن ترى صيادًا وهو يصطاد السمك .. نظرت المرأة إلى الرجل ثم التفتا معًا إلى الصياد الذي يمسك بصنارته ويجلس بعيدًا عند الشاطئ .. ذهبوا في اتجاهه، وبالقرب منه جلسوا يراقبون الأسماك وهي تخرج من الماء عالقة في طرف الخيط الواحدة تلو الأخرى .. لم يتمكن أي من الرجل أو المرأة أن يجيب على الطفلة حينما سألتهما كيف يستطيع ذلك الجالس عند الشاطئ أن يصطاد الأسماك بهذه المهارة رغم أن عينيه مغلقتان طوال الوقت.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 23 أكتوبر 2018

السبت، 20 أكتوبر 2018

والخاسر يجب أن يسقط

إلى مجدي رزق
قبل ثلاثين سنة
كنت أجلس وحدي في شرفة البيت
وأتمنى أن ينقبض الزمن
كي أكون كبيرًا مثلك.
في اللحظة ذاتها
كنت أنت كبيرًا بما يكفي
لأن تجلس وحدك أمام البحر
وتستمع إلىThe Winner Takes It All 
الآن
أنت في قبرك
حيث لا زمن يمر هناك
وأنا أجلس وحدي أمام البحر
أستمع إلى الأغنية نفسها
مرارًا وتكرارًا
حتى يبدو كأنها ستفيض من أذنيّ
لتُغرق البحر
وبالتأكيد لن أسأل نفسي
من هذا العجوز الذي يعبر أمامي الآن
وينظر لي بتلك الابتسامة الشاحبة.

الخميس، 11 أكتوبر 2018

يوميات: الخميس 11 أكتوبر 2018

أخبرني أحد الرفاق المؤقتين في "مارشال المحطة" اليوم، وكنا نتحدث عن الأهمية الصحية للمشي بأن طريقة سيري أشبه بالقفزات السريعة المنفلتة كشخص يعجز عن المشي بشكل صحيح .. قال هذا كمن يصف مشهدًا عابرًا بحياد كامل، ولكنني سمعته كأنما قال لي بالضبط أنني أسير في الشوارع متحدثًا مع نفسي .. سألته إن كان ما قاله صحيحًا بالفعل وليس مزاحًا فأعاد التأكيد على هذه المعلومة بنفس الجدية الهادئة، غير المكترثة التي نطقها بها من قبل مضيفًا لإثباتها إقرارًا برؤيته لي أمشي بتلك الطريقة أكثر من مرة .. كنت أظن أنني ـ كما يعرف الجميع ـ سريع الخطوات فحسب، الأمر الذي اعتاد أن يسبب إرهاقًا مزعجًا لكل من يشاركني المشي ـ خاصة زوجتي ومنذ أن كنا حبيبين يختلسان اللقاءات البعيدة ـ حتى أن أكثر التعبيرات دقة وبلاغة التي وصفت طريقة سيري تلك التي قالها لي صديقي القديم "باسم العزازي" حينما أخبرني بعفوية ممازحة وهو يلهث ورائي أثناء تجوالنا المسائي المألوف في منصورة التسعينيات بأنني أعطيه إحساسًا دائمًا كلما صحبني في هذا المشي المتعجّل بأننا ذاهبان لإنقاذ أحد ما.
ربما لم يلاحظ رفيقي في "مارشال المحطة" الوجوم الذي حاولت إخفائه وراء لامبالاة مصطنعة واصلت بها حديثي معه عن أمور أخرى .. الوجوم الذي امتلأ على نحو مفاجئ وبتلقائية مقبضة بسيل من المشاهد الفوضوية الحادة التي راحت تختلط بتجانس متلهّف لتكوّن مرارة ثقيلة في نفسي:
ـ "ربما الأمر أسوأ مما أعتقد .. ربما تصدر عني كلمات وانفعالات أكثر مهانة مما أنتبه إليها .. ربما هناك معرفة سوداء بالنسبة لي، وردية في أدمغة الآخرين يحتفظون بها، يتبادلونها على المقاهي وفي المكالمات الهاتفية، وعبر محادثات فيسبوك، يرجعون بها إلى بيوتهم ويوزعونها على أفراد أسرهم، ويغلقون عيونهم عليها عند النوم ويحلمون بصورها، ويستيقظون في الصباحات التالية بسعادة ممتنة لوجودها في حيواتهم .. ربما تنتشر هذه المعرفة بواسطة الذين يشاهدونني نحو بقية الناس"... من قصتي القصيرة "أسوأ طريقة لإنهاء الحياة".
ـ مؤخرة كبيرة ذات شعر مجعّد، ترتدي نظارة طبية، متنكرة في شكل شاب صغير يسعى للبدء في العمل بالصحافة، ويحاول أن يكون صديقًا لي، يقابلني بالصدفة منذ أكثر من عشرين سنة ثم يصافحني مبتسمًا، ويسألني بتهكم مغتل: "مالك ماشي كده زي فرقع لوز؟"؛ فأتجاهل استفساره المختنق بالحقد، والرغبة في إحداث ولو خدش صغير في سطح عالمي الذي لا يستطيع الاستيلاء عليه، مرجعًا الأمر إلى نوبة الهلع الروتينية التي كنت قبل لحظات من رؤيته على وشك التعرّض لها مجددًا مثلما كانت عليه حياتي وقتها، الأمر الذي جعل جسمي ينتفض باضطراب واضح أثناء المشي السريع التقليدي.
ـ أخي "مجدي" ـ مثلما كتبت في نوفيلا "جرثومة بو" وهو يمشي ببطء مترنّح في البيت والشارع، مستندًا على كل ما يمكن الاعتماد عليه تفاديًا للوقوع أثناء التحريك العسير لقدمين ثقيلتين، متيبستين، تغادرهما الحياة سريعًا دون تفاض قبل أن يصبح مشلولًا تمامًا.
ـ عنوان قصتي القصيرة "كأنه مكان للسير" التي كتبتها عن الموت المفاجئ لأخي "مدحت" الذي لم يتوقف بالرغم من وجوده المحدود خارج البيت ـ كما كتبت في القصة ـ عن الاحتفاء بالأحذية، والحرص على اقتناء الكثير منها، والعناية بها، فضلًا عن توقفه العفوي أمام كل فاترينة تعرضها، كأنه كان يجهّز مخزونًا لائقًا بالخيال حين يتحقق، ويصبح بإمكانه المشي فعلًا، وعني أنا بعد خمس سنوات من رحيله، حيث تخلصت من جميع أصدقائي، ولم أعد أخرج من البيت إلا نادرًا، ومازلت أتردد طويلًا قبل شراء حذاء جديد، ولم أعد أحلم باللحظات التي سبقت موت أخي، لكن صورة أحذيته المتراصة داخل الخزانة بجوار جثته ما زالت تطاردني في اليقظة.
ـ "لو كنت منذ صغري غريب الأطوار وقضيت عمري بأكمله هكذا دون تقديم دليل على عكس ذلك لكان الأمر أقل شقاءً .. كانت ستكون هذه هي الحقيقة الوحيدة التي يعرفها الآخرون عني، وبالتالي كان من الممكن أن يكون التجاهل أو الحذر هو طريقتهم الصحيحة في التصرف إزاء وجودي بينهم .. كان من الممكن أن يستقروا على هذه القناعة بعد تجاوز فترة التعارف التي تعني أخذ الجرعة المنطقية من الأذى .. الناس لا يوجهون السخرية والعداء ضدك إلا بقدر ما تبدي من سلوك عادي تثبت من خلاله أنك مثلهم .. حينئذ تتحول تلقائيًا كل أفعالك وكلماتك التي تبدو غير طبيعية إلى فرص ينبغي عليهم استغلالها بمهارة"... من قصتي القصيرة "لا شيء بعد الموت".
نعم .. لو كنت منذ صغري غريب الأطوار، وقضيت عمري بأكمله هكذا دون تقديم دليل على عكس ذلك لكان الأمر أقل شقاءً .. لكان من الممكن ألا أنتبه إلى وجودي في الشارع إلا حينما أباغت بالسيارات من حولي فأعرف أنني لست على الرصيف حتى، بل في وسط الشارع تمامًا مثل "أكاكي أكاكيفتش" في قصة "المعطف" لجوجول .. لكان من الممكن أن أجري طويلًا مثل "فورست جامب" دون اهتمام هل سيتبعني أحد أم لا، أو على الأقل أجلس على جانب الطريق أغلب الوقت مثل الشحاذ الذي فقد كلبه في مسرحية بريخت "الشحاذ أو الكلب الميت" بغير اكتراث هل سيقترب شخص ما للتحدث معي أم سأظل مُتجاهَلًا .. غرابة الأطوار التامة كانت ستحوّل طريقة سيري الأشبه بالقفزات السريعة المنفلتة إلى أداء بديهي .. ليس هذا فحسب؛ بل كان يمكن لها أيضًا أن تصبح تمهيدًا حتميًا للابتعاد المنشود عن الآخرين كافة .. كان يمكن أن تصبح دافعًا حاسمًا للغياب عن البشر الذين ربما يسخرون منك ـ من ضمن أسباب أخرى ـ  لأنك تعجز عن المشي بشكل صحيح .. لكنني أبدو من الخارج إنسانًا طبيعيًا، يتجاوب مع الجحيم مثلما يفعل الجميع؛ لذا ينبغي أن أبقى بينكم .. ينبغي أن أظل هنا حيث لم أتخلص بعد مما يجبرني على البقاء .. لم أحصل على الفقدان المثالي للإدراك الذي يرغمني على التخلي عن كل ما في حياتي الآن، والتحرّك نحو الوحدة الكاملة بعدما أخذت جرعتي المنطقية من الأذى .. لا أستطيع الآن أن أرقص كمجنون يضحك ويصرخ في الشوارع كما يليق بذاكرتي الوحشية .. كما يليق بالجنون الدموي للعالم نفسه .. لا أستطيع أن أقوم بهذا رغم أن هذا الرقص هو الاستجابة الأكثر ملائمة حين أعرف من أحدهم أن طريقة سيري أشبه بالقفزات السريعة المنفلتة، حيث سيظل ما قاله صحيحًا تمامًا مهما حاول الآخرون أن يؤكدوا لي حقيقة مناقضة .. الرقص ككرنفال شخصي متنقل هو الاستجابة الأكثر ملائمة حين أفكر في مسخرة أن أعرف هذه المعلومة عن طريقة سيري وأنا على وشك إتمام الثانية والأربعين .. حين أفكر في أنني عشت كل هذه السنوات دون أن أشاهد نفسي أبدًا أثناء المشي، وأنني لو أتيحت لي هذه المشاهدة عبر شاشة ما فإنني سأشعر حتمًا بمزيد قد لا يُحتمل من اليأس المرعب، وسأتمنى لو كان بوسعي تحذير هذا الذي يسير أمام عينيّ مما لا يمكنني استيعابه، موقنًا أن هذا السائر بلا شك ليس أنا.

الأربعاء، 10 أكتوبر 2018

التوظيف الإيروسي في الرواية العربية

يتسم التوظيف الإيروسي في الرواية العربية بالفقر البالغ، ليس فقط على مستوى مساحة الكتابة، وإنما في طبيعة التوظيف نفسه؛ فنحن نتحدث عن خطاب يتصف بالمحدودية والهُزال معًا، وهذا ليس حُكمًا عدائيًا بل إشارة نقدية لنمط سردي عند مواجهته بالرؤى والظواهر المضادة التي يتعمّد إقصاءها طوال الوقت .. مقارنة بالاستثناءات القليلة؛ تُطلق الكليشيهات التاريخية كالصدم والجرأة والشجاعة تجاه أعمال مسالمة، مروّضة بالمحاذير التقليدية، وهي تنسجم مع الكليشيهات السائدة الأخرى التي تضع "الكتابة التعويضية عن الحرمان والكبت" كتهمة ينبغي التبرؤ منها، في حين أن هذا المبرر في حد ذاته ـ بصرف النظر عن استعماله لغويًا كتضليل مطلق ـ هو حق منطقي لا يتطلب الدفاع عنه .. هذا النوع من الخداع العفوي العام يريد تثبيت سقف للحرية يُفترض ارتفاعه، أو معايير مقبولة للاستخدام الجنسي يمكن التغاضي عنها كي تتم مجابهة تجاوزها في مكان آخر .. هكذا يصبح كل ما يخرج عن النطاق الرقابي الذي أعطى ـ مجانًا ـ لنموذج معين من الروايات الأليفة قيمة الاختلاف أو المفارقة؛ يصبح داعرًا، ومبتذلًا، ويسعى للشهرة .. هكذا يكون النطاق الرقابي عقابيًا بالضرورة.
يندرج في إطار الخداع العام أيضًا الاستدعاء الروتيني للديانات السماوية وكتب التراث عند الدفاع عن حرية الكتابة الإيروسية ذلك لأنه يفرض شكلًا من الالتزام الضمني بمحاذير متعالية، مشروطة بقواعدها الخاصة، الواجب تفكيكها وتخطيها، فضلًا عن محاولة إقرار ما يشبه السياقات الكلية أو المفاهيم الشاملة التي يمكن القياس على أسسها مدى خضوع التناول الإيروسي لضوابط فلسفية وجمالية مفروغ من صوابها.
الموضوع الإيروسي في كتاباتي له طبيعة البداهة ككل ما تتضمنه الحياة والموت، ولا تستبعد هذه التلقائية في عملي الانتباه والتعمّد والاستمتاع باللعب الانتهاكي والتخريبي الساخر مع ما يُنظر إليه كقيمة مقدسة، أو ما يتم اعتباره خطوطًا فاصلة لا يجب تجاوزها .. لعل المثال الأبرز هو روايتي "الفشل في النوم مع السيدة نون"؛ ففي مقابل الهجوم الأخلاقي ـ أو المستثمر للأوهام الأخلاقية ـ من البعض، اعتبرها مثلا الناقد والأكاديمي العراقي د. نجم عبد الله كاظم من الروايات التي اخترقت المحظور الجنسي والمسكوت عنه بغرض التعبير عن الموقف وبنضج وتبرير موضوعي وفكري، حتى وهي لا تتوقف في تعاملها مع الجنس عند حدود، أو حتى لو كان الجنس هو بحد ذاته مادة الرواية وموضوعها، وذلك ضمن دراسته عن المتغيرات والتجديد في الرواية العربية المعاصرة.
شهادتي عن التوظيف الإيروسي في الرواية العربية، والتي سيتضمنها الجزء الثاني من موسوعة الجنسانية العربية والإسلامية – إعداد وإشراف أ. د. محمد عبد الرحمن يونس.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 5 أكتوبر 2018

الاثنين، 8 أكتوبر 2018

الكتابة والنقد الأدبي: ما يشبه موسوعة للشر "2"

ماذا لو أن هناك قائمة تشتمل على كل ما يمكن مصادفته من الانتقادات والمآخذ التي اعتادت الدراسات النقدية والمراجعات وتدوينات القراءة على توجيهها للأعمال الأدبية والنقدية العربية؟ .. ما الذي يمكن أن تتضمنه هذه القائمة فيما يشبه "موسوعة للشر" لدى القرّاء والنقاد، وكيف ستبدو مساحات التوافق والتقارب الطاغية بين هذه الممارسات اللغوية العدائية؟ .. كيف يمكن تأويل هذه الممارسات كسلطة للقهر الاستباقي، أو "ككاتب أصلي" مثلما تحدثت سابقًا أكثر من كونها رد فعل أو خصومة مضادة؟ .. نواصل القائمة:
ـ غياب الفكرة الرئيسية الواضحة في العمل الأدبي التي ينبغي أن تتكاتف الأفكار الجزئية من أجل تثبيتها.
ـ عدم صواب المعنى؛ أي افتقاده للمنطق الذي يجعله ملائمًا لسياق عام صحيح، وانفصاله عن تقاليد سبق الاتفاق على صدقها.
ـ غياب القيمة، الجدوى، الفائدة سواء كانت معرفية أو شعورية.
ـ تجاوز الابتكار المتزن إلى الشطط، والعبثية التي تتنافر كليًا مع ثوابت البلاغة العربية.
ـ سوء التكوين النصي، ورداءة الاستخدامات اللغوية، وتفكك الأسلوب، وضعف التجربة الإنسانية، وافتعال جماليات شكلية لطرحها.
ـ فساد التبرير؛ أي الإتيان بقرائن إدراكية أو نفسية غير صالحة للبرهنة على خبرة ما داخل العمل سواء لشخصية أو حدث أو كدلالة شاملة.
ـ انتفاء العمق، والذكاء، والطرافة بالصورة التي كانت عليها عبقرية الأسلاف.
ـ الانحياز للظواهر المادية في مقابل عدم التركيز على القيم المعنوية.
ـ عدم توافق المعطيات النصية ـ كمعلومات غير جمالية ـ مع التاريخ، أو الواقع السياسي، أو الحقائق المجتمعية.
ـ وجود متناقضات في العمل الأدبي، أي أفكار متعارضة، ومعانٍ متخالفة، وآثار مضادة لبعضها.
ـ عدم منح المألوف جمال التمثيل، وعدم الإتيان بما هو عجيب مؤثر، وعدم رفع المعتاد إلى مصاف الندرة بالاستعمال البلاغي مثلما تتسم النماذج الأيقونية في التراث العربي.
ـ معاداة التنظيم القائم على أصول اللغة، الذي يضمن الكشف والفهم، والتمسّك بالغموض، والتراكيب المعقدة، والإسراف في الاستطرادات المحيّرة، أو في ترك فراغات تزيد من ثقل التعمية والالتباس.
ـ التغاضي عن إتمام الدلالة؛ تركها ناقصة، غير مشبعة، متورطة في الإبهام؛ وهو ما يؤدي إلى حجب التفسيرات الضرورية، وعدم التوصّل للإجابات اللازمة على التساؤلات البديهية، وتعطيل الربط المناسب بين عناصر النص.
ـ تجاهل حاجة القارئ إلى الترفيه، متعة التسلية، والابتعاد عما يمكن أن يسبب له اضطرابًا ذهنيًا أو ألمًا نفسيًا.
موقع "الكتابة" ـ 7 أكتوبر 2018

السبت، 6 أكتوبر 2018

حديقة الأرامل: الصمت بين بروست وكافكا

في مجموعته القصصية القصصية "حديقة الأرامل" الصادرة عن دار سطور ببغداد؛ يشيّد ضياء جبيلي ارتباطاً جمالياً بين الصمت والفقد .. الصمت الأشبه بالظلام الثقيل المهيمن، الذي يبتلع الكلمات كافة داخل الذات .. الفقد الذي يعني الغياب الكلي لإمكانية النجاة، أو معرفة ما يُعطّلها .. ينتج هذا الارتباط كينونة واحدة لا تُبقيهما مجرد موضوعين منفصلين يجمعهما تلازم ما، كأن يكون كل منهما ظلاً للآخر أو صدى له .. كأن ضياء جبيلي يكشف عبر قصص هذه المجموعة عن نوع من التوحد الغامض بين الصمت والفقد، لا تستقل معه ملامح أي منهما عن الآخر: صمت "كريمة" المقترن بالبكاء، وهي فاقدة القدرة على الخلاص من انتهاز الآخرين لآلامها "الدموع ذات الرائحة العطرية" .. صمت "زكي" العاجز عن الحصول على "الزمن المفقود" .. صمت الجندي "حميد" الذي فشل في إنقاذ نفسه من بين الجثث التي راكمتها الحرب .. صمت "محمود" الذي لم ينجح في استعادة المرأة من نقطة الأسفلت التي وقعت عندها، وجُرحت ركبتها .. صمت "آدم"  الذي لم يستطع منع أمه وبقية النساء المتجلبيات بالسواد من الرغبة في "زوربا" داخل حديقة الأرامل .. صمت "حازم" الذي لم يكن بوسعه إعادة الحياة إلى حبيبته النائمة في غرفتها / تابوتها / قبرها الموصد إلى الأبد .. صمت الشاعر الذي لم يقدر على كتابة صمته .. صمت "هالة" التي لم تعثر على "رجل العصافير" الذي تحلم به .. صمت الصياد العجوز الذي لم يتمكن من اصطياد غنيمته المرجوّة.
"وكما لو أنها اكتشفت الحيلة، صارت كريمة تقاوم البكاء بعناد وإصرار. حتى الدغدغة لم تعد تنفع في استجلاب دموعها. ربما تبول، لكنها لا تبكي. الأمر الذي أغضب والدتها، فعمدت إلى قرصها حيناً وعضها حيناً آخر، لكي تجبرها على ذرف الدموع. كانت تقرصها في كل مكان، من زنديها وفخذيها، حتى امتلأ جسدها بالندوب، ودُبغ جلدها من كثرة القرص والعض، ولم تعد تبكي".
يبدو الصمت متجاوزاً لكونه التعبير الأقصى عن الفقد فيصبح هو الفقد ذاته .. مُجسّداً ومنطوياً على كل ما يعلنه ويضمره .. يصبح الصمت كأنه الفقد عارياً، أو بالأحرى فاضحاً لإبهامه الخالص .. يتخطى الصمت فكرة العجز عن تحويل الشعور بالألم إلى مفردات، أو جعل التلاطم الذهني لغة ملموسة تحاول أن تكون جسراً نحو خلاص ما ..  بذلك يكون هذا الارتباط بين الصمت والفقد تعريفاً ملتبساً للزمن .. يقيناً مضاداً ومراوغاً للوجود الذي تختبره شخصيات المجموعة عبر صور عديدة .. هذا ما يقف وراء الانطباع الذي تغرسه القصص بأنها أقرب إلى الأحلام مهما بلغ نقاؤها الواقعي .. الأحلام التي لا تتكلم حتى لو بدا ظاهرياً أنها تقول شيئاً .. هي تؤكد نفسها عبر ما تحجبه، وليس عبر ما تصرّح به .. في الحلم أيضاً تتمثل الوحدة التي تبدو كفضاء مثالي لهذا التوحد بين الصمت والفقد .. العجز عن الامتلاك .. العجز عن فهم الخسارة .. العجز عن استيعاب ما تم خسرانه، وكذلك ما كان يجدر به أن يكون بديلاً لذلك المجهول الذي لابد من دفع ثمن ضياعه.
"لكن الأستاذ زكي لم يكن يكترث لكل ما يقال عنه، وواظب على قراءته المتقطعة التي استمرت إلى أن حان موعد إحالته على التقاعد بعد أربعين عاماً من الخدمة. وكان ثمة موظف شاب جديد يستعد لإشغال مكانه في قسم الصادر والوارد، فخطرت له فكرة هي أن يقوم بإهداء الرواية التي أنهى، قبل مغادرته الدائرة بيوم واحد، الجزء السابع والأخير، من دون أن يفهم منها شيئاً. لم يسأله أحد ماذا عنى الكاتب بالزمن المفقود، فأغلب الذين توجهوا إليه بالسؤال إما ماتوا أو أُحيلوا إلى التقاعد قبله بسنوات، أو فُصلوا من العمل بسبب تهمة سياسية أو اختلاس".
لكن الارتباط بين الصمت والفقد يكافح لاستهداف غاية أخرى .. أن يعيّن نفسه كوجود موازٍ لارتباط آخر بين الصمت الغيبي والموت المتواري خارج اللغة، والذي لا يُنهي الحياة فحسب بل يبدأها ويُسيّرها .. كأن كل شخصية داخل المجموعة تحاول أن تتقمّص بطريقة أو بأخرى تلك القوة المطلقة غير المرئية التي لا يمكن إدراكها، والتي تقف وراء الفقد .. أن تسعى للتنكر في تلك الإرادة المعتمة باستخدام التفاصيل الضئيلة للقهر كأنما سيؤدي هذا إلى النفاذ إليها .. إلى رؤيتها، ومن ثمّ إلى ملامستها .. ربما سيؤدي هذا إلى جعلها شيئاً يمكن تضليله، أو الوصول إلى حافته حيث يمكن القفز إلى أمان مفترض يكمن وراء حتميته .. الصمت الفردي الذي يجاهد لأن يكون مرآة لصمت لانهائي، حيث الفقد يريد أن يرى أصوله ودوافعه في وحشية مختبئة بإحكام.
"وبينما هو على هذا الحال، سمع الجندي حميد العشب المتيبس وهو ينوء تحت ثقل البساطيل بخشخشة مرعبة. وأصوات نوابض الإرجاع في البنادق، تعلن إن ثمة من صار مستعداً لإطلاق النار في أي لحظة يتحرّك فيها. فعلم أن مجموعة من جنود الإنقاذ يتقدمون في تلك الأثناء لإخلاء الجثث. إلا أن أحداً منهم لم يتفوّه بكلمة واحدة يتعرف خلالها على هويتهم، كما لا يمكنه التعويل، في حال حدث ذلك، على اللهجة التي يرطنون بها، فغالباً ما يستخدم أحد الطرفين لغة الآخر، في مثل هذه المواقف، بقصد التظليل. فمكث في مكانه لا يلوي على شيء".
من الجدير بالانتباه في المجموعة أنه على الرغم من اعتماد ضياء جبيلي على الأسلوب الحكائي الشارح، الواصف والمفسّر، الذي يقدّم التتابع المنطقي للتفاصيل والأحداث إلا أنه مع ذلك أسس حضوراً طاغياً للصمت داخل القصص .. كرّس جبيلي لهذا الصمت دون الاتكاء على التوالي غير المنتظم للعبارات المقتضبة التي تضمن تشظياً مغوياً للسرد، وبالتالي تؤكد الكتمان البديهي للأسرار من خلال سيطرة الفراغ على النص .. كأن أكثر القصص وضوحاً وإسهاباً ـ بصرف النظر عما تكتسبه من صفات الواقعية والفانتازيا ـ يمكنها أن تخلق هذا الصمت .. أن تكشف عنه، وتمتد به خارج حواجز الشرح والتفسير .. ربما يدعم هذا الأسلوب تلك المباغتة الأثيرة في نهايات القصص، والأقرب إلى ضوء مفاجئ، وحاد مصوّب على الغدر.
"حين خرج محمود من المصحة، لم يذهب إلى البيت، بل قادته قدماه، كالعادة في مثل هذا اليوم من كل عام، إلى شارع الاستقلال في وسط المدينة، ليتكرر المشهد التراجيدي الذي دأب على أدائه في السادس عشر من نيسان، بكاء، وشم، وتقبيل، وإنصات للأرض الإسفلتية. عندئذ لم يشك أحد، من الذين واكبوا الحدث طوال الأعوام الماضية، أن محمود مجنون فعلاً، باستثناء أفراد الشرطة الذين يتجولون في الجوار، فقد رأوا أن لا خلاص من هذا الرجل غريب الأطوار إلا بالحبس. فقيدوه، واقتادوه مخفوراً إلى المركز، وكانت تهمته إزعاج الناس وقطع الطريق والتسبب بالزحام".
لم يستعمل ضياء جبيلي "البحث عن الزمن المفقود" و"المسخ" في مجموعته القصصية فحسب، بل أعاد أيضاً بواسطة شخصيات "حديقة الأرامل" كتابة عملي بروست وكافكا عبر الارتباط بين الصمت والفقد .. إعادة الكتابة التي تكشف عن هذا الارتباط كجوهر في الروايتين .. أصبحت شخصيات المجموعة شريكة بتأويلات صمتها المتنوعة في صراع بروست مع الزمن، وفي تأمل كافكا لتحولاته الكابوسية .. كأن كل شخصية في "حديقة الأرامل" تمتلك هوية باطنية لمسخ صامت، غابت عنه كلياً القدرة على الانفلات من الزمن، وبالضرورة يمكن لها أن تتبادل مواضعها مع الشخصيات الأخرى، وأن ترسم في تشكيلها خطوطاً مغايرة .. هذا ما يضيف للمجموعة طبيعة الحكاية الواحدة التي تتعدد فصولها بتواطؤ ضمني بين الشخصيات المختلفة.
"كنت نائماً أيضاً في عالم ذلك الحلم، أو الكابوس المقزز. وعندما استيقظت من نومي الحلمي ذاك وجدت أني قد تحولت إلى إنسان.. وتحديداً إلى غريغوري سامسا ضخم وهائل. الأمر الذي أذهل أبويّ فتوجسا منه خيفة. تحسسا بقرونهما الاستشعارية الخطر القادم، وهو إصبعي السبابة الذي هبط عليهما، ورحت أداعبهما به مثل كلبين مذعورين، بغية طمأنتهما. لكني، بمجرد أن لامستهما، حتى فرّا هاربين إلى إحدى الزوايا، وراحا ينظفان نفسيهما، وظهرا، أثناء ذلك، كما لو أني لطخت رأسيهما بالبراز. ثم لاذا بالفرار، تملؤهما الحسرة على ابنهما الذي تحول إلى إنسان قذر كما يُهيأ لهما".    
بالنسبة لي لم يكن الصمت الذي فشل الشاعر في كتابته في قصة "الشاعر والصمت"، والذي لا يمكن فهمه، وإنما يُطارد دائماً من أجل انتهازه؛ لم يكن سوى الحقيقة المتمنّعة لهذه الأشكال المتعددة من الفقد: الذبول الميت لـ "كريمة" .. الأشياء التي لم تكن ذات قيمة التي يبحث عنها "زكي" مع المسنين وسط النفايات .. الهيكل العظمي للجندي "حميد" .. احتضان "محمود" للأسفلت .. أمنية آدم أن يكون زوربا اليوناني لجميع الأرامل ..  موت "حازم" الذي يعتني بموت "حياة" .. نواح الرجل غريب الأطوار كعصفور فقدته "هالة" .. كتلة لحم الصياد العجوز المشوهة التي طعنتها الأسماك. لهذا فإن "حديقة الأرامل" هي التفكير في الوحدة كفضاء للصمت الذي لا يمكن كتابته:
"حاول النهوض لكنه لم يستطع. ألفى نفسه وحيداً مع الصمت المطبق من حوله، الكثير من الصمت الذي لم يستطع أن يعبّ منه ورقة صغيرة كان بإمكانها أن تجعل منه ثرياً وسعيداً بقية حياته. عندئذ، لفظ الشاعر أنفاسه ومات. مات بصمت".
جريدة "أخبار الأدب" ـ 7 أكتوبر 2018

الأربعاء، 3 أكتوبر 2018

هل تبحث عن أحد؟

لا يستطيع شيء أن يُبطل اللعنة .. يظل هذا الرجل يدور كل يوم بين مقاهي المدينة دون أن يجلس في أي منها .. يخطو داخل المقهى ثم يقف في منتصفه ويحدّق في وجوه الجالسين للحظات قبل أن يغادره نحو مقهى آخر ليفعل الأمر ذاته .. أحيانًا يكتفي بالوقوف خارج المقهى والتطلّع إلى الملامح في الداخل عبر الشبابيك المفتوحة، أو الألواح الزجاجية التي تغلق النوافذ .. هو مشهور بفضل ذلك .. يعرفه الناس في المدينة بأنه الرجل الذي يتنقل بين المقاهي ولا يجلس فيها .. يناديه أحد الجالسين فجأة حينما يراه كالمعتاد يدخل المقهى ويتأمل الوجوه .. يسمع الرجل هذه الدعوة الصادرة من طاولة في أحد الأركان فيلتفت بعفوية مسالمة إلى صاحبها المبتسم ثم يتوجّه نحو طاولته .. ينهض صاحب النداء ليصافحه، وحينما تصبح اليد في اليد يسأله محاولًا وضع حد للفضول الذي ينتشر كسُحب الدخان في المقاهي إن كان يبحث عن أحد .. لا يجيبه الرجل، فقط يظل يحدّق في عينيه بوجه غائم ثم يسحب يده، وبنفس الخطوات الهادئة التي يدخل بها جميع المقاهي يتحرّك إلى الخارج ويختفى .. في الليلة ذاتها يموت الرجل الذي قام بالنداء على متجوّل المقاهي.
لا يستطيع شيء أن يُبطل اللعنة .. لابد أن يستمر المتجوّل في دخول المقاهي، أو الوقوف خارجها، والتطلع إلى ملامح الجالسين ثم الاختفاء .. لابد أن يقوم أحد الجالسين بالنداء عليه مبتسمًا، ومصافحته، وسؤاله إن كان يبحث عن أحد؛ فيُمعن الرجل النظر في عينيه ثم يسحب يده ويخرج بخطوات هادئة ليختفي قبل أن يموت صاحب النداء في نفس الليلة على نحو مباغت مثل سابقيه، كأنما يمتثل لضرورة لا تخضع لأي منطق أو حذر.
لماذا لا يستطيع شيء أن يُبطل اللعنة؟ .. لأن المقهى هو بيت في الحقيقة .. حجرة داخل بيت تحديدًا .. جميع المقاهي هي حجرات مغلقة داخل البيوت .. أما الجالس في المقهى فهو شخص وحيد، ممدد على سريره ويحدّق صامتًا في السقف، ويفكر في أولئك الذين يعرفهم داخل بيوت أخرى، ويقابلهم أحيانًا أو بصورة دائمة، ويشاركهم التحدث والحزن والضحك والغضب والصمت .. لأن الرجل الذي يدور بين المقاهي هو الشخص ذاته الممدد على سريره بينما يراقب نفسه عبر مسافات مختلفة محاولًا العثور في متاهاته الداخلية المدفونة على كائن غامض، ظل يفقده تدريجيًا مع تعاقب سنوات التحدث والحزن والضحك والغضب والصمت مع الآخرين .. لا يستطيع شيء أن يُبطل اللعنة لأن هذا الشخص يتحتم عليه أن يحصل على موتٍ ما، ربما لا ينتبه إليه حينما يسأل نفسه فجأة بشكل قهري: هل تبحث عن أحد؟.
موقع "قاب قوسين" ـ 1 أكتوبر 2018
اللوحة: Yoshida Hodaka
Houses on a Slope (Watakushi no korekushon yori - Sakamichi no ie), 1980
woodcut with photoengraving on paper
Yoshida Hodaka
Houses on a Slope (Watakushi no korekushon yori - Sakamichi no ie), 1980
woodcut with photoengraving on paper

الاثنين، 1 أكتوبر 2018

يوميات: الإثنين 1 أكتوبر 2018

أخبرني فيسبوك صباح الجمعة الماضي أن عامًا كاملًا قد مر على نهاية ورشة القصة القصيرة التي أشرفت عليها بمركز "أركادا" .. أعدت نشر الصورة التذكارية التي جمعتني بأصدقاء الورشة في يومها الأخير على صفحتي الشخصية، وكتبت أنني أفتقدهم جدًا، وأن بفضلهم سأظل أشير إلى هذه التجربة بأنها أهم جائزة كتابة في حياتي .. حينما أسترجع كل ما حصلت عليه في هذه الورشة منذ اليوم الأول وحتى الآن حيث لا تزال أصداؤها حاضرة وتواصل ذيوعها؛ أشعر حقًا بمزيج من السعادة والفخر لم أختبره مع أي مكاسب أخرى منحها الآخرون تقديرًا لعملي .. ورشة القصة القصيرة كانت أجمل لحظات الانتصار في حياتي المهنية، ليس كمشرف على ورشة كتابة فحسب، وإنما بالدرجة الأولى ككاتب.
قمت في نفس اليوم بزيارة لنادي أدب رامتان .. كان في الأمر صدفة جميلة؛ ذلك لأنني قررت هذه الزيارة قبلها بيومين دون علم بأنها ستوافق ذكرى اليوم الأخير من الورشة التي ضمّت بعضًا من أعضاء النادي .. تمنيت أن أراهم جميعًا أو معظمهم على الأقل، ولكن لم يكن هناك منهم سوى صديقي العزيز "أحمد أبو الخير"، والغالية جدًا "ريم عبد العزيز" .. كنت سعيدًا للغاية برؤيتهما، وبعد قضاء وقت ممتع من المناقشات حول مسرحية "الفرافير" ليوسف إدريس، وعن فيلم Doodlebug للمخرج البريطاني كريستوفر نولان ـ الذي أنوي الكتابة عنه ـ وكذلك التهكم المبطن تجاه الحكمة الموجِّهة من بيضة صغيرة تتحدث بالرصانة اللزجة المعتادة لغلمان الجماعات الدينية، وتؤوّل الكتابة والفن بالصواب والخطأ؛ خرجت أنا وأحمد أبو الخير، وحكيت له أثناء سيرنا القصة الطريفة لنوفيلا "جرثومة بو" مع دار النشر العربية التي لم ينجح التعاون بيننا في إصدارها، وهي القصة التي أؤجّل التحدث عنها بشكل عام حتى الموعد المناسب.
انتهيت من قصة قصيرة جديدة اسمها "هل تبحث عن أحد؟".. إحدى المرات غير المألوفة التي لا تكون القصة مكتوبة فيها منذ الكلمة الأولى حتى الأخيرة في ذهني، مع استعداد بديهي للتجاوب مع كل المفاجآت المحتملة .. تكتب كأنك تسير داخل ظلام يُضاء بالتدريج وفقًا لخطوة تكشف أثناء محاولاتها العديدة للتقدّم عن تجانس مباغت مع الخطوة السابقة، وفي الوقت نفسه تُمهّد لانسجام جديد مع الخطوة التالية في سبيل الوصول إلى هدف مخاتل، تم تحفيز خيالاته بشكل غامض بواسطة مشهد بدائي عابر، وتكتسب ملامحه الغائمة تمثّلها الملائم لحظة بعد أخرى .. يُمكن للقصة أن تحصل على نقطة ختام تعرف تمامًا أنها مؤقتة، حيث كل ما قاد إليها سيشهد تبديلًا وتغييرًا، لكن هذا التعديل ـ الأشبه بالحافة الأخيرة للظلام ـ كأنما لم يكن له أن يُحدد مساراته إلا بفضل نقطة الختام المؤقتة هذه.

الكتابة والنقد الأدبي: ما يشبه موسوعة للشر "1"

ماذا لو أن هناك قائمة تشتمل على كل ما يمكن مصادفته من الانتقادات والمآخذ التي اعتادت الدراسات النقدية والمراجعات وتدوينات القراءة على توجيهها للأعمال الأدبية والنقدية العربية؟ .. ما الذي يمكن أن تتضمنه هذه القائمة فيما يشبه "موسوعة للشر" لدى القرّاء والنقاد، وكيف ستبدو مساحات التوافق والتقارب الطاغية بين هذه الممارسات اللغوية العدائية؟ .. كيف يمكن تأويل هذه الممارسات كسلطة للقهر الاستباقي، أو "ككاتب أصلي" مثلما تحدثت سابقًا أكثر من كونها رد فعل أو خصومة مضادة؟ .. لنبدأ بالقائمة أولًا:
ـ تبني العمل الأدبي لمفاهيم الاستشراق، والتصورات الاستعمارية التي تمجّد الغرب "المستنير" في مقابل "التخلف" العربي المظلم، وبالتالي الخضوع للتصنيفات "الجنسية" المختلقة والمتحيزة للإمبريالية الرأسمالية التي تسعى للهيمنة الثقافية على الشعوب العربية.
ـ الترويج للتأويلات الغربية المتعسّفة للتراث العربي.
ـ السير على خطى بعض المثقفين العرب المتأثرين بالأعراف الأوربية في الدفاع والتبرير والدعوة لمحاكاة النماذج المتهتكة والشاذة، التي تمثل الحداثة في العصور العربية القديمة.
ـ إعادة إنتاج الأدبيات الغربية الزائفة التي تتناول الحياة الجنسية في العالم الإسلامي، والتي تضمر أغراضًا فاسدة تحت دعاوي المساواة وحقوق الإنسان.
ـ الانغماس في التحليلات النفسية الفرويدية، والأفكار الليبرالية والاشتراكية والعلمانية والماركسية والنسوية والقومية والرومانسية المستوردة في مقابل التغاضي عن معاناة المسلمين.
ـ تجاهل التأكيد على أن بعض مظاهر الرجعية في المجتمعات العربية ترجع إلى تأثر عدد من المفكرين والعلماء المسلمين بالأصولية المسيحية في أوروبا.
ـ المبالغة كمًا وكيفًا في تصوير الجرائم المتعلقة بالممارسات غير السوية، والقمع الجنسي، والشرف، والتعذيب الجسدي، والتقاليد الاجتماعية الموروثة في البلدان العربية.
ـ الانحلال الأخلاقي في الكتابة، والذي ينتشر وراء لافتات الحرية، والتقدم الحضاري التي زرعتها الليبرالية الغربية في المجتمع الإسلامي لمحاربة الأمة بأدوات استعمارية حديثة.
ـ الدعاية الأدبية لمبادئ البورجوازية الغربية، والرؤى الكولونيالية التي ترسّخ الشعور بالدونية للهوية العربية أمام التحضّر الغربي.
ـ عدم انتقاد المعرفة الغربية، وما تتضمنه من انحطاط وشذوذ ونظريات ملفقة لتعليل فسادها.
ـ الوقوع في خطأ عدم توضيح الفرق بين المعارف الأصولية المسيحية واليهودية التي تأثر بها بعض المفكرين والعلماء المسلمين فأصبحت دلائل تأخّر في تفكيرهم، وبين المعجزات، والقيم المقدسة في التاريخ الإسلامي التي استغلها الغرب بوسائله المادية القاصرة في تشويه العقيدة الإسلامية.
موقع "الكتابة" ـ 30 سبتمبر 2018