الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

«المعطف» لنيكولاي غوغول ... برد أبدي

لم تبتعد كلمات غلاف الطبعة الجديدة من قصة «المعطف» لنيكولاي غوغول، الصادرة حديثاً عن «منشورات الجمل» (بيروت) بترجمة سامر سمير كرّوم، من الحقيقة. فهذه القصة مثلما جاء على غلاف الطبعة التي تقع في 87 صفحة هي «تحفة فنية تنتمي إلى الأدب الخالد الذي يصلح لكل زمان ومكان». لا يزال أكاكي أكاكيفتش حاضراً منذ أن أعلن وجوده؛ وفق ما رأى الكاتب والناقد الإرلندي فرانك أوكونور في كتابه «الصوت المنفرد»، عن بداية ظهور «الرجل الصغير» في القصص، وهو الوصف الذي استخدمه أكونور ليحدد ما يعنيه بالقصة القصيرة أحسن مما تحدده أية مصطلحات أخرى. لم يحمل أكاكي أكاكيفتش الملامح المؤسسة لطبيعة (الشخصية) في القصة القصيرة، بل كان تأسيساً للقصة القصيرة ذاتها. كان بعمله كنسَّاخ يربط القصة القصيرة بذلك الإيمان بالتطابق، بعدم الاختلاف، بالمساواة في الأهمية بين وجود وآخر. كأن قصة «المعطف» حفرت وعداً في التاريخ بأنها ستكون احتفالاً أبدياً بالأقدار المتماثلة، وبمقاومة هذا التماثل. كان أكاكي أكاكيفتش ينسخ مع أوراق وظيفته شخصياتنا التي هي نسخة منه، فضلاً عن أن اسمه كان منسوخاً من اسم أبيه.
لم يكن اختيار مهنة النسخ اعتباطياً، في وعي غوغول، فهو لم يتغاض مثلاً عن ندم (الشخصية المهمة)، ومعاناته بين الدوافع الجيدة في قلبه، ورتبته التي تمنعه من الظهور على حقيقته. كان غوغول يدرك جيداً حقيقة أننا نخضع طوال الوقت إلى المزاج المأسوي ذاته الذي كان لهذه الشخصية، وبصيغٍ متنوعة حدَّ الخداع المعتم. كان يعرف أن السخرية المتبجحة، غير المحتملة التي كان زملاء النسَّاخ يحاصرونه بقسوتها لم تكن سوى إقرار بما يجابهونه من مهانة. يكفي أن نتخيل مساراً مضاداً تتيسر فيه الأحوال بما يشبه المعجزة التي لا يمكن تصديقها لأكاكي أكاكيفتش، وأن يعطيه العالم ما هو أكثر من معطف جديد كأن ينال المنصب ذاته الذي تشغله (الشخصية المهمة) مثلاً؛ كيف سيكون تصرفه أو رد فعله تجاه هذه الشخصية لو تبدلت أحوالها إلى النقيض، وانهار بها السلم الوظيفي لتجلس على مكتب النسَّاخ المُحتَقَر ثم جاءت إليه كي تشكو سرقة معطفها؟
إن ما يمكن أن يعزز اليقين بأن أكاكي أكاكيفتش لم يحمل الخصائص التي ستتحوَّل بعده إلى سمات جوهرية لـ (الشخصية) في القصة القصيرة فحسب، بل كان ذلك الفن ذاته أن غوغول لم يجعله في حاجة إلى طعام، أو إلى عاطفة امرأة، أو إلى ارتقاء مهني بل كان كل يحتاج إليه هو معطف. هامش الدفء الذي يمثل الحد الأدنى من أمان مراوغ. الحماية البسيطة التي ستشعر أحياناً بأنك نجحت في امتلاكها، ولكنها ستُسرق منك بسهولة لن تقدر على استيعابها، حتى أن الشكوك لن ترحمك في أنها كانت بحوزتك فعلاً. هذا ما جاءت القصة القصيرة من أجله.
بالعودة إلى النسخ: يتجلى ظاهرياً أنها حالة عقابية تلك التي ينتقم خلالها شبح النسَّاخ من الموظفين العموميين بسحب معاطفهم من فوق أكتافهم. لكن يبدو لي الأمر أنه أكثر من مجرد تعويض. الشبح لم يكن يبحث عن معطف يناسبه بعدما فقد معطفه في الحياة، ولكنني أتصور أن هذا الشبح يخرج في الحقيقة من داخل كل فرد رأى هذا الشبح أمامه، وأخذ منه معطفه. بموت أكاكي أكاكيفتش تحوَّلت جثته إلى نسخة يرى فيها كل شخص نفسه عارياً. لا شيء يستطيع وقايته. مرآة ذاتية تتمعن بواسطتها في بردك الخاص. بموت أكاكي أكاكيفتش تحوَّل شبحه إلى صورة لطمأنينة مشتركة، الحتمية على رغم كل المعاطف الثقيلة المتوهمة.
لأن أكاكي أكاكيفتش لم يكن مجرد رجل صغير يتعرض للظلم، بل كان يعمل أيضاً نسَّاخاً يؤدي عمله بحب شديد يتخطى الحماسة العادية، فإن القصة القصيرة لم تكن تحتاج إذا تجسَّدت في صورة بشرية، وأرادت أن تُعبر على نفسها إلى ما هو أكثر من ذلك. أراد غوغول أن يمنح هذه الشخصية ما يشبه روحاً إلهية يمكنها أن تشملنا جميعاً، لذا فالقصة القصيرة كانت تخاطبنا من خلاله، ليس باستخدام حقيقته الإنسانية التي لا تختلف عن أي «ذبابة تطير في مكتب الاستقبال»، بل بدرجة أكبر من خلال عمله وهو النسخ.
كانت القصة القصيرة هي بطلة (المعطف) مستخدمة اسم أكاكي أكاكيفتش ووظيفته، ولم يكن المعطف سوى ذلك الخلاص الذي لا يمكن بلوغه مهما اقتربت أوهامُنا المتناسخة من تصور حيازته، أو تراكمت الظنون المتعاقبة بأننا على وشك العثور على إشارات لوجوده. ظل المعطف خيالاً، إصراراً متصلاً، وبأشكال لا نهائية على محاولة التحرر من الحقيقة القهرية بأن البرد، أي ذلك الذي الطغيان الذي امتلك الحياة والموت منذ الأزل، سيواصل أبديته من دون اعتبار لأي وهم.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 25 سبتمبر 2017

السبت، 23 سبتمبر 2017

هل تعرف صاحب هاتين العينين؟

لولا أني أخشى العواقب السيئة
وأنت تعرف أنني لم أعد أتحملها
لأظهرت صورتك الغائمة عند شاطئ البحر
التي أحتفظ بها على هاتفي
وسألت عنك سائق التاكسي
الذي يستمع إلى (الحب اللي كان)
والجالس وحده في المقهى
الذي يتلصص على الغروب من النافذة
والسائر دون رفقة
الذي تبطئ خطواته تلقائيًا أمام البيوت القديمة.
الملامح التي تدين بوجودها
لمضاجعات ناجحة في بداية الستينيات.
ربما شاركك أحدهم الجلوس ولو مرة واحدة
على الرصيف المقابل لكازينو (معروف)
وأنت تحرق سيجارة من أخرى.
أو شرب معك (ستلا) ذات مساء
تحت الإضاءة الخافتة
لفندق (القاهرة).
أو اقتسم معك إحدى الليالي
داخل امرأة.
ربما قال لي: نعم، أعرفه
وسأحكي لك عنه أسرارًا
ستعمل بقوة على تحسين موتك.
لا أستطيع ذلك
سيضحكون عليّ يا عم
رغم وحدتهم التي أراقبها كظل موبوء
أو بسبها تحديدًا.
ربما ستبتل سراويلهم من حسرتي
على كل متغيرات المدينة التي فاتتك
وسيفشلون في استيعاب ما يمكن أن أخبرهم به
عن الوحشة المتناثرة في القصص الجديدة
التي زرعها غيابك الطويل
عن المقاهي والنساء والحفلات الليلية
وأنني لم أنجح في الإبقاء عليك
بقدر ذكرياتك التي كان يجدر بي استكمالها.
أعرف أنك لم تعتمد عليّ في هذا النوع من الخلود
ولكنني أردت لآثارك الغامضة
أن تساعدني على ابتلاع العالم.
أنا الشحاذ الصامت
الذي غادر الحواف المائعة
دون أن يمر إلى أي شيء
ولا يعرف كيف يتسوّل واقعية لخياله
تحوّل أكاذيبه إلى قدَر آخر.
لو كان النجاح في هذا، على الأقل
مجرد احتمال
لما كنت في حاجة للاحتفاظ بصورتك الغائمة عند شاطئ البحر
ولما رغبت إلى هذه الدرجة في إظهارها
لمن أظنهم نسخًا منك
ولكان بمقدورنا حينئذ
أن نضحك بنقاء كامل
لأنني أصبحت أكبر منك بست سنوات
بعد أن كان الفرق ستة عشر لصالحك.
Photo by: Shokry Manaa
بتانة نيوز ـ 22 / 9 / 2017

الخميس، 14 سبتمبر 2017

إنهاء الدعابة

يطلب صديقي أن أصحبه لشراء تذكارات فرعونية لمعارفه الذين سيعود إليهم في بلد آخر .. أتوجه به إلى الشارع القديم الذي لا أمشي فيه إلا نادرًا .. لا أعرف أحدًا هناك، كما أنني لم أحصل بعد ـ رغم أربعين سنة في هذه المدينة ـ على من يمكنه معاونتي في التنقيب داخل تاريخه .. ندخل أحد المحلات العتيقة حيث يجلس صاحبه العجوز نصف نائم عند عتبته .. تشرق تجاعيده المتهدلة بإنهاك، كمن أبصر فجأة بعد عمر طويل في الظلام نقطة ضوء شاحبة .. يسرع بإيقاظ الوجوه والأجساد الصغيرة المدفونة تحت غبار الأرفف من سباتها العميق، وينزع عنها أغطيتها البلاستيكية ليجبرها على اتخاذ الوضعيات المثالية أمام عيوننا فوق السطح الزجاجي المنخفض للفاترينة الأمامية .. يتفحص صديقي ما تقدمه اليدان المرتعشتان للمحفظة المستقرة في جيبه الخلفي .. يسألني عن رأيي في كل قطعة .. يمر الوقت وأنا أتأمل النظرة المترجية المحاصرة بالغضون في وجه العجوز .. أفكر في أنه مثل الجميع هنا أو في أي مكان آخر؛ سيرفض التحدث معي لو حاولت سؤاله عن الجرائم، والأسرار المثيرة، والأحداث الغامضة التي جرت في الماضي داخل هذا الشارع ..  لكنني أعترف أيضًا بأن طبيعتي تجد في محاولة التقرّب من الغرباء ـ مهما كان الغرض ـ كابوسًا غير محتمل .. هذا ما أبقاني منذ أربعين سنة وحتى الآن في بيتي، أعيش حياة من الانتظار الدائم، متوسلا لتحقق صدف أو بالأحرى معجزات مستحيلة لا تطالبني باتخاذ الخطوة الأولى .. يسأل صديقي عن الخامات، ويفاضل بين الهدايا، ويتفاوض حول الأثمان، مستعرضًا ذكرياته عن شراء أشياء مماثلة بأسعار أقل.
أتسلل من أمام الفاترينة الزجاجية نحو الداخل، ثم أتوجه إلى الرفوف العالية وراء العجوز .. أبدأ في تسلقها حتى أصل إلى ذلك الرف الغارق في التراب، والذي لا يحوي أكثر من دفتر قديم استنتجت من وجوده بجوار الهاتف المعطّل، ذي الطراز العتيق أنه مغلق على أرقام تليفونات لم يتصل بها أحد منذ سنوات بعيدة .. أتكوّم منتشيًا هناك .. بين الدفتر والهاتف، كاتمًا السُعال الناجم عن تنفسي للغبار الكثيف، كي لا أثير الانتباه .. أُدخِل يدي تحت ملابسي ثم أبدأ في الاستمناء مراقبًا التأثيرات المتعاقبة لاختفائي المفاجئ، في انتظار اللحظة المناسبة كي أتحرّك إلى هذا الرف العالي الذي يحمل تلك القطعة الفرعونية الثقيلة فأزحزحها قليلا لتسقط عندما يكون رأس العجوز أسفلها.
اللوحة لـ jean rustin

الاثنين، 11 سبتمبر 2017

الأريكة القديمة

شعر فجأة بما يشبه احتراقًا خفيفًا في أطراف أصابع يديه .. نظر إليها .. رأى قشرة الجلد الرقيقة المحيطة بطرف كل إصبع قد تآكلت كاشفة عن طبقة أخرى أشد احمرارًا، كأنها الحاجز الهش والأخير قبل تدفق الدماء .. كان يجب أن يشعر بالفزع، أو على الأقل بالحدة القصوى من الدهشة، لكن استعادته لذكرى قريبة جدًا لم تسمح بذلك .. هذه ليست علة جسدية .. هكذا قرر مواصلا تأمل أطراف أصابعه المسلوخة، ومنتبهًا أيضًا إلى عدم ثبات التآكل .. كانت الحواف التي تفصل الجلد السليم عن الجلد المتسلخ آخذة في التقدم لالتهام بقية اليدين على نحو غير ملحوظ ولكنه مدرك تمامًا بالنسبة له.
أنت عائد للتو من أحد الأندية الأدبية التي استضافتك للتحدث عن أعمالك، وللإجابة عن أسئلة الحاضرين .. سألتك واحدة من القارئات عن الكيفية التي كتبت بها قصة (الغيب)، أي عن هذا الشخص الوحيد الذي يجلس فوق أريكة قديمة، ويتكلم مع كائن آخر غير مرئي .. صمت قليلا ثم أخذت تشرح كأنما كان عليك أن تختار إحدى البدايات المتاحة والخاطئة جميعها للتفسير، ثم تحاول دون فرصة للتراجع استدراك هذه البداية بمزيد متفاقم من الأخطاء .. عندما انتهيت أحسست بشكل مبهم أنك ستدفع ثمنًا لهذا بعد أن تعود إلى البيت وتكون وحدك، وها أنت الآن تراقب العقاب المستمر في التمدد .. حسنًا .. ما الذي ينبغي أن تفعله حالا؟ .. عليك ببساطة أن تكتب هذه القصة التي توثق اعترافك من جهة، وتطهّر القصة الأصلية من جانب آخر .. ألم أقل لك؟ .. بينما تتعاقب الكلمات والعبارات فوق هذا الفراغ الأبيض تبدأ أطراف أصابعك في التخلص التدريجي من الشعور بالاحتراق الخفيف مع عودة قشرة الجلد الرقيقة المحيطة بطرف كل إصبع للنمو حتى تكتمل ثانية .. كان يجب أن تفعل هذا؛ فأنت تعرف جيدًا أن الأريكة القديمة تزداد تهالكًا لحظة بعد أخرى، وأن خوفك من الجلوس عليها ملتصقًا بأحد المسندين قد تمادى لدرجة أنك أصبحت تتحاشى مجرد النظر إليها، وأن الكائن الآخر غير المرئي لا يزال جالسًا ملتصقًا بالمسند الثاني، وتزداد ضحكاته قوة لحظة بعد أخرى.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 9 سبتمبر 2017

الجمعة، 8 سبتمبر 2017

بطوط

كنت أستقل واحدًا من القطارات الذي وصف اصطدامه بقطار آخر ـ كما يحدث عادة ـ بالحادث المروع .. لم أكن ضمن الجثث أو المصابين، وبالتأكيد لم أكن من الناجين الذين عادوا إلى بيوتهم .. أنا فقط اختفيت .. أصبحت أحد المفقودين الذين لم يُعثر لهم على أثر رغم عدم الشك مطلقًا في وجودهم داخل القطار لحظة الاصطدام .. لم يكن الاختفاء في نيتي؛ فقد ركبت القطار مثل الجميع كي أسافر من مدينة إلى مدينة أخرى، ومن أجل غرض مشابه لكافة الغايات المنطقية التي يتحرك بسببها البشر من مكان لآخر .. لكنني الآن أدركت أن حياتي السابقة كانت تجهيزًا لهذا الاختفاء.
انتقلت إلى عالم لا يمكنني وصف طبيعته أو الكيفية التي أعيش بها داخله برفقة أفراد وجماعات لا حصر لهم من المفقودين في حوادث سابقة، وقع بعضها قبل أن أولد .. كل ما يمكنني قوله إنه عالم ـ وهذا بديهي ـ ليس بوسع الذين خارجه أن يروه، ولا يملك الشخص الذي ينتمي إليه القدرة على الإفصاح عن وجوده أو العودة إلى حالته المعلنة .. أدركت أن اختفائي سيكون أبديًا، ولم أشعر بالألم تجاه هذه الحقيقة؛ إذ أن هذا العالم لا يكاد يختلف عن ذلك الذي غادرته عند اصطدام القطارين. مازلت أعرّف نفسي بذلك اليقين الصلب، الذي لم يتغيّر طوال الماضي بأنني شخص يشعر ويفكر ويتصرّف في الحياة وفقًا لإرادة لا تخصه. أن كافة الأحاسيس والانفعالات والتصورات والظنون والقرارات التي يتخذها لكلماته وأفعاله تتم بمشيئة قوة مطلقة، لا يستطيع تحديدها، تفرض على جسده أن يعيش على نحو معين، كما أنها تجبره أيضًا على الاعتقاد بامتلاكه لذات مستقلة، منفصلة عن أي سلطة خارجها .. كنت أصدق أحيانًا ـ مثل الجميع ـ هذه الخدعة القهرية، وأتغافل بثقة عمياء عن هذا التأكد، لكن دائمًا كان بوسعي استرداده في أي لحظة .. داخل هذا العالم الخفي الذي انتقلت إليه، مازال لدي هذا اليقين، ولكن لم يعد هناك مجال لنسيانه، كما أن
جسدي أصبح أكثر استيعابًا لهويته الأصلية .. أنا أداة .. وسيلة لتنفيذ أمر .. وبالرغم من أنني لم أتعرّف بعد على هذه القوة المطلقة إلا أن دوافعها التي تُشكل نفسي وتحرّك خطواتي صارت مكشوفة كليًا .. أدركت أن اختفائي الأبدي سيعني الرجوع إلى الحياة التي تركتها محتفظًا بحالتي غير المرئية، ولفترات مؤقتة بقدر الزمن المناسب لإنجاز المهام التي أُكلف بتنفيذها قبل العودة إلى العالم المتواري الذي أصبحت ابنًا له. أرجع إلى الحياة التي كانت آخر لحظاتي فيها هي اصطدام قطارين، ثم العودة إلى الخفاء بعد أن أكون قد تركت الموت والخراب في مكان ما. هذا ما كنت أقوم به في الماضي قبل الحادث، ولكن بشكل مراوغ ومبهم، أما الآن فأؤديه بطريقة واضحة ومفهومة تمامًا .. مع ذلك فإنني لا أقتل أو أحرق أو أهدم بشكل عشوائي، مجردًا من التمييز، بل لابد أن يكون عملي مقترنًا بلحظة سعادة لأولئك الذين على وشك أن يكونوا موتى عاديين، أو جثثًا متفحمة، أو أبدانًا مسحوقة تحت الأنقاض .. لابد أن يكون القتل هو النغمة الأخيرة في متعة جنسية سأتمكن من رؤيتها بفضل اختفائي .. لابد أن يكون الخراب هو الإيقاع الختامي لمضاجعة سأتلذذ بمراقبتها دون يشعر بي أحد،  وسأكون الوحيد الذي يصل إلى الأورجازم من خلالها .. أصبحت أمرر الموت المفاجئ عبر الأسرار المكتومة في الفراغ المحيط باختلاسات النظر، وإغماضات العيون، وتلاحق الأنفاس لكل جسد يحاول بعريه أن يحمي ظلامه الشخصي من عري الآخر.
لا أعرف هل كان وقوع الحادث بعد ثلاثة أيام فقط من بلوغي الأربعين مجرد صدفة، أم ينطوي على معنى؟ .. شخص ما ـ لعله باسكال ـ قال إن من بلغ الأربعين ولم يكره البشر فكأنه لم يعرفهم .. أظن أن الأمور قد سارت على نحو منطقي إذن، ليس به أثر للصدفة .. قبل ثلاث سنوات قطعت علاقاتي بأصدقائي، وتوقفت عن الخروج من البيت إلا نادرًا بعدما أصبحت غير قادر على الاستمرار في توزيع عاهاتي الثابتة على الآخرين، والتي لم تتوقف عن النمو منذ عام 1977 .. أردت أن ينسحب من ذاكرة البشر ـ لو كان هذا ممكنًا ـ ذلك الرجل المرتبك، المتلعثم، الغافل، مدعي القوة والمكر واللامبالاة، المضحك، والتائه .. الذي تتدافع الثرثرة التافهة من بين شفتيه أمام الناس عن حياته وماضيه، مستعرضًا تفوقه المبهر، ومزاياه العجيبة، وقدراته الخارقة طمعًا في التقدير والخلود وتصفية دماء الوجوه المبتسمة التي تحاصره بالضحكات المكتومة، وتوسلا للغيب أن يعتبر هذه الانفعالات الواثقة، المسكينة التي ورثها من أسرته قربانًا ملائمًا لمنحه الرحمة .. لم تعد لدي أدنى طاقة لتحمّل الفضح المتواصل لنفسي، الذي لم يكف أبدًا عن تحويل أسراري الثمينة إلى سخافات مبتذلة، تُقطّع وتتداول بين أيدي كل الذين يريدونني أن أكون مثلهم أو أقل .. حينما يطلب منك شخص ما أن تحدثه عن إحدى قصصك القصيرة مثلا، خصوصا لو أن هذا الشخص تعذبه الفجوة العسيرة الهائلة التي تُجبره على أن يرفع عينيه لأعلى حينما يتحدث إليك، فإن قصتك بمجرد أن تبدأ في الكلام ستشبه قصته بعد أن أزلت الرهبة الغامضة بيديك، وساعدته
مؤقتًا على الانتقام منك .. لهذا حاولت أن أعيش في وادٍ بعيد، يحمي موتي من المهانة، وهو ما جعلني في السنوات الثلاث الأخيرة أجرب سعادة مختلفة، لم أعشها من قبل، نتيجة غياب الأصدقاء من حياتي .. أصبحت أكثر تناغمًا مع عزلتي، وأكثر تصالحًا وانسجامًا مع الماضي، بل يمكنني القول ـ مهما كانت غرابة ذلك ـ أنني وصلت قبل اصطدام القطارين إلى درجة من التفاؤل بما يمكنني تحقيقه في المستقبل كنت أظن أنه من المستحيل أن أبلغها في هذا السن، وبعد كل ما جرى لي .. لاشك أن التأثير الناجح لهذا الانقطاع عن الآخرين كان سببًا جوهريًا لهذه السعادة؛ فقد تزايد الاهتمام والاحتفاء بكتاباتي، وانتشرت الاقتباسات من نصوصي في كل مكان، كما كثرت الكتابة عن أعمالي، وإعادة نشرها، فضلا عن التدفق الذي لا ينقطع لمخطوطات وإصدارات الآخرين إلى بريدي، والآملين في مراجعتي لها وتقديم النصائح، والكتابة عنها، وكذلك الدعوات المتواصلة لمناقشة الأعمال الأدبية في ندوات ومؤتمرات، ولتدوين وإلقاء الشهادات عن الكتابة، وللمساهمة في ملفات بالصحف والمجلات والمواقع، أو لكتابة مقالات ثابتة في مطبوعات ثقافية، أو للحوارات الصحفية والمقابلات الإذاعية والتليفزيونية، إلى جانب ترجمة كتاباتي، وتحويل قصصي إلى أفلام قصيرة، وحصولي على جوائز، مع العروض التي تقدمها دور النشر لإصدار كتبي .. أما حالة الهوس العام التي بدأت منذ سنوات طويلة على الإنترنت بهذا المقطع من قصيدة "عنكبوت مسكين يقيس زاوية الحائط".
لا تخف
ليس معنى الوقوف في النافذة
أنك ستسقط
ليس معنى السعال
أنك مصاب بالسرطان
ليس معنى ضيق التنفس
أن قلبك به شريان مسدود
الحياة فقط هي التي معناها
أنك ستموت.
هذا الهوس العام مازال في تصاعد مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات والمنتديات والمواقع الأخرى، والذي جعل هذه الكلمات من أكثر الاقتباسات تداولاً على الإنترنت، إن لم تكن الأكثر شهرة. جموع بشرية هائلة تتزايد عبر الزمن في كل مكان بأعمار وجنسيات مختلفة يواصلون نشر هذا المقطع، ويضيفون إليه الصور واللوحات، ويستخدمونه كتوقيع يُعبّر عن وجودهم في العالم.
أستطيع بالتأكيد أن أزور عائلتي وأصدقائي ومعارفي السابقين دون أن يدركوا شيئًا عن حضوري بينهم .. الذين بحثوا عني في المستشفيات والمشارح ولم يجدوني، ثم نشروا صورتي في كافة الأماكن، وطال انتظارهم لعودتي دون جدوى .. لكن عائلتي وأصدقائي ومعارفي لا يزالون ضمن الحياة التي لدي عمل فيها؛ لذا سيكون لكل واحد منهم دوره بحسب المهمة التي سأكلف بتنفيذها .. حينما يأتي موعد أحدهم، لن أمنحه بالتأكيد معاملة خاصة؛ فهذا ليس في إمكاني، وإنما سيكون لدي القدرة أن أمنح نفسي هذه المعاملة الخاصة عند قتله في اللحظة التي يكون فيها عاريًا، وعلى وشك الوصول إلى ذروة النشوة.
موقع (الكتابة) ـ 6 سبتمبر 2017

الأحد، 3 سبتمبر 2017

قرب شجرة عالية: انشطار الحكايات العابرة

في مجموعته القصصية (قرب شجرة عالية) الصادرة حديثًا عن دار أزمنة للنشر والتوزيع يحوّل لؤي حمزة عباس الانشطار الذاتي إلي فن، إلي أسلوب جمالي لإعادة الميلاد خاصة عندما يصل العماء إلي حد ينكشف فيه داخل الوعي بوصفه اغتيالا.. لا يقوم الانشطار علي الصراع المعتاد بين كيانات متناثرة بقدر ما يبدو مشغولا بضرورة الوصول إلي صيغة تفاهمية منقذة بين هذه الكيانات.. إلي تحقيق حلم مبهم في الماضي لم ينجح في التحوّل إلي واقع حينما كانت الذات جسدًا واحدًا.. في قصة (طريق الغابة) نتتبع أثر الانفصال بين صديقين، اختفي أحدهما داخل شجرة عالية، وانتظر الآخر ظهوره سنوات طويلة حتي أصبح له ابنًا يحمل اسم الصديق الغائب في الشجرة العالية التي لم تُقطع، وتُركت محاطة بسياج قصير بجانبها أريكة يجلس عليها ذلك الذي ينتظر صاحبه، بينما يلعب صغيره حول السياج.. علينا تأمل هذا التطابق بين الصديقين منذ بداية القصة وحتي لحظة مصادفتهما للشجرة التي اختفي أحدهما فيها، وبقي الآخر ما تبقي من العمر في انتظاره كي نفكر في هذا الاحتياج القهري لذلك الذي واصل حياته في الدراسة والحرب مترقبًا عودة صديقه إلي التوحد مع هذا الأصل الأمومي الذي تنطوي عليه الشجرة.. كأن القصة أشبه بحلم للرجل الذي أصبح أبًا يعيد من خلاله إنتاج لحظة متخيلة في الذاكرة، يمكن أن ينشأ عنها مسار مغاير للقدر.. هذا ما يجعلنا نفكر في علاقة الطفل بالصديق الغائب.. هل سيتمكن هذا الطفل بعد موت الأب الذي يجلس في انتظار صاحبه المختفي داخل الشجرة في العثور علي السياق الرومانسي الملائم لعودة الذات إلي العالم، ويصبح حينئذ أي الطفل هو النسخة المخلّصة لهذا التاريخ بعد فناء النسخ البشرية السابقة؟
(كان شعور غريب يحثهما علي الاندفاع أبعد ما يمكن، من دون إحساس بالتعب أو الخوف، وفي وسط الغابة النقطة التي يمكن أن ندعوها وسط الغابة صادفتهما شجرة عالية، أعلي من أية شجرة، وبدافع من شعورهما الغريب توجها نحوها من دون أن يخففا سرعتيهما، انحرف أحدهما ومر إلي جانبها أما الآخر فلم ينحرف ودخل فيها).
في قصة (المشي في الليل) نلمس وجهًا آخر للانشطار؛ فالرجل الذي يحب المشي في كل وقت يقابل صبيًا يحمل مصباحًا يُعرف نفسه بأنه (يدل التائهين).. يقود الصبي هذا الرجل في الظلام ليعود به إلي منزله، ثم أصبح الرجل يري هذا الصبي في أماكن وأوقات مختلفة، في الشارع والبيت.. هي رغبة الرجل أو توسله بالأحري لأن ينفصل هذا الجزء الغامض من ذاته لينقذه من التوهان الذي لا يقتصر علي الشوارع والطرق المجهولة، بل وبدرجة أكبر من الظلام الذي يسكنه، ويمتد خارج جسده مهيمنًا علي الفراغ المحيط به، خاصة الفضاء الأكثر التصاقًا بنفسه داخل الحدود الضيقة للبيت.. قد يكون هذا الصبي وسيلة للتخاطب مع مصدر الظلام، للتفاوض معه، لاسترضائه، للثأر منه، وهو ما يذكرنا بالطفل في القصة السابقة، الوسيط المتحرر بين الذات والموت، الذي عليه محميًا بهذا الانقسام التوصّل إلي النجاة العسيرة علي الروح الواحدة المغلقة علي رعبها الخاص.. إن العالم يتحوّل بواسطة هذا الانشطار إلي مرآة للوعي، يتمثل فيها الإحباط المراوغ، والفكرة الملتبسة للحصول علي ملاذ، دون أن يكون لهذه المرآة إطار ملزم تنتهي عنده؛ إذ ينجم عن الطبيعة الرمزية للانشطار نوع من الانبعاث المطلق للذات في الزمن بحثًا عن تسويات غير تقليدية.
(يفنح النافذة لينظر كعادته إلي الشارع فيراه مارًا علي الرصيف المقابل، لم يتوقف أو يرفع رأسه ليبادله النظر، فتح باب الحمام هذا الصباح فرآه يخرج منه وتجنب الاصطدام به).
في قصة (أعمي بروغل) نجد التلازم الذي سبق وأشرت إليه بين الانشطار والعماء؛ فبطل الرماية يجرّب إغماض العينين كوسيلة لإبصار ما لم تتمكن الرؤية العادية من إدراكه وهو ما يمكن اعتباره بشكل ما اكتشاف الأسرار الحاسمة للذاكرة التي تتجاوز ماضيه الشخصي.. نصادف أثناء هذا العماء المقصود نفس العناصر التي تشكل فيما بينها ما يشبه غريزة قصصية للمجموعة: (الصبي الظلام الانشطار):
(تزداد مخاوفه مع كل خطوة وترتجف يداه فينصت بكامل قدرته لما حوله، ليس سوي أذنه تقوده في دروب مخاوفه، لكنها تفزعه هي الأخري، تمضي به لسنوات يري نفسه فيها صبيًا زلّت به قدمه فتهاوي في حفرة عميقة مظلمة، يسمع صرخته البعيدة كما لو كانت صرخة صبي سواه).
كأنها عودة متكررة (إعادة ميلاد) لا تنتهي للحظة سابقة (الصبي الذي يتهاوي في الظلام) تمر عبر القصص، ويحاول الصبي المنفصل عن الذات من خلالها أن يروّض الفكرة غير المرئية للكابوس.. يتحوّل انشطار بطل الرماية إلي جزء من انشطار أكبر وهو انشطار بروغل إلي عميانه حيث توزعت ملامحه علي وجوههم.. تتجه القصة بهذه الكيفية إلي المنحي الأسطوري، الغرائبي، ليس فقط من أن أجل تثبيت كل عمي كجزء من خبرة جماعية فوق الواقع فحسب، وإنما لتأكيد خضوعها الماورائي لحقيقة غيبية غير قابلة للتخاذل. 
(إنهم أشد وضوحًا وهم يواصلون السير نحو هدف ظل بالنسبة له بعيدًا وغير مرئي. قبل أن يصحو بوقت قصير يعرف أنهم عميان الصورة يواصلون مسيرهم المتعثر من حقل إلي حقل، وأنه بينهم، رأسه مرفوعة تميل إلي الجانب كما لو كان ينصت لنداء بعيد).
مثلما يذكرنا (النداء البعيد) بالشجرة والمصباح في يد الصبي، سيذكرنا أيضًا بالطيور التي لا تُري، وارتباطها بالانشطار.. لكن في قصة (أنت لست سمكة) سيرتبط هذا الانفصال عن الذات بتجسّد بديل يتجاوز الحضور البشري؛ فالصبي يمكن أن يكون مسحاة، أو ترابًا، أو قطارًا للجرحي أو أي حيوان أو نبات أو جماد، وذلك خلال المضي داخل (الظلام).. هذا ليس مجرد تقمّص وجداني للطبيعة، وإنما قد يكون أقوي تعبير عن تعاطف الذات مع نفسها.. إدراك الروح للترهات التي تسيطر علي وجودها.. الوفاء لمقاومة حتمية خارج الأطر المصطنعة، القاتلة بطبيعة الحال.
(يشعر حال تمدده علي السرير وقد غرق العالم في صمت أول الليل بأنه ليس هو، إنما هو الجدجد الذي أطل برأسه من حفرة ضيقة في حديقة المنزل، عينان صغيرتان تتفحصان العالم، تنظران نحو العشب وقد نسج فوقهما سقوفًا خفيضة معتمة، إنه يدرك بفطرته الدودية إنها نظرته الأخيرة لكل ما حوله فلم تعد تفصله عن ضربة المنقار الموجعة سوي لحظات وها هو يقطع خطواته الأولي باتجاهها ساحبًا جسده من رطوبة الحفرة محركًا أقدامه الصغيرة المشعّرة وقد أغمض عينيه في سلام).
حسنًا.. بهذه الطريقة يمكن لأي منا أن ينشطر ليتمثل جزءا من نفسه في كلب بقائمتين خلفيتين مهروستين.. يمكن للظلام أن يكون النمل الذي يزحف من عيني صبية اسمها (فاطمة).. يمكن أن تمثل هذه الطفلة قلب جندي يتواصل أنينه داخل حفرة في ليل الحرب.. هل انتبهنا للتبادل الأقرب إلي هوس كوني؟.. هل لاحظنا التواطؤ الجماعي علي الانشطار والتجسّد في صور بديلة، والتحولات المستمرة للتمثّل؟.. هل علينا الاعتراف الآن بأن كل انقسام هو نبوءة لانقسام آخر؟.. نقرأ في قصة (حكاية فاطمة):
(لحظات تلتمع فيها عينا الجندي المجهدتان كأنه ينظر بعيدًا في الزمن فيري أشياءً مبهمة تحت سماء بغيوم دكناء، أشجارًا تتحرك، تميل قليلًا وهي تنتقل من مكان إلي مكان، وحيوانات تزحف علي الرمال، وهو يواصل الحلم بصبية لم تولد بعد علامتها الفارقة أسراب من النمل تتوالد من عينيها، يحكي مع نفسه كما لو كان يتوعد أرواحنا: سترونها تطل من نافذة منزلها، جموعكم تملأ الشارع من أجل رؤية صبية تتعذب).
يطوّر لؤي حمزة عباس هذه اللعبة ليجعل من كل نبوءة تتحقق ما يشبه تعريفًا أصليًا للوجود الذاتي يستبعد الأوهام المشوّشة الأخري.. يمكن لتجسّد ما أن يكون (الحكاية العابرة) التي تختصر حياة صاحبها.. في قصة (كل منا حكاية عابرة) وبمسايرة الحكمة السابقة يمكننا التفكير في ماهية الرعب الذي أغلقت عليه الروح.. أن الموت ببساطة يمكن أن يكون هو حكاياتك العابرة مثل الجدة التي صدمتها سيارة أجرة مسرعة وهي تعبر الشارع.. لم لا؟.. الموت هو الذي يستدعي كافة الحكايات العابرة الأخري الانتقائية التي ستعد هوية دامغة لمرورك في الدنيا.. هنا يظهر الجانب الجمالي في الانشطار.. أنه لا يبقي الجسد الميت مجرد جثة، بل يجعل من (حكايته العابرة) احتمالات غير منتهية، بقدر التبادلات والتحولات التي ستنتهجها الذات في إعادة التمثّل أو بالمعني المقترن بها إعادة الميلاد.
(إنها ليست هي طالما كانت تشبه أمه أو جدته إلي هذا الحد، إنها ليست هي علي أية حال، ذلك ما يبدو واثقًا منه بعد محاولات عصية للتذكر لم يكن يخرج منها إلا بملامح زائفة لسيدات مررن في حياته وتركن ملامحهن علي نهر أيامها، لكن الحكاية أقوي من الأسماء عادةً، أبقي من الملامح والوجوه).
هل يمكن أن يكون التجسيد الوهمي للبقاء في الحياة وتفادي الموت أن يتحقق في فرد واحد استجابة لحلم جماعي أو انشطارات بشرية مختلفة تحاول الانتقام من عمائها في هذا الفرد؟.. في قصة (وقت التسلية) يدفن الناس رجل التسلية في حفرة لأكثر من خمس عشرة دقيقة ثم يبصرون وجوده حيًا بعد إزاحة التراب.. كأن هذا الحلم الذي يمنحه هذا الرجل الذي لا يسأله أحد عن اسمه للآخرين هو تأكيد متوهم أو ادعاء رمزي لنجاحهم غير المنجز في الخروج من قبورهم.. هي مجرد تسلية يحتاجها أولئك الذين ساهمت انقسامات أجسادهم في تكوين جسد هذا الرجل الذي لا يريد أحد الاقتراب منه أو التحدث معه لأنه نسخة منهم، مكرّسة لجعل عيونهم تري (صورة) لخلاصهم غير الحقيقي من الفناء.. أن يروا أنفسهم علي النقيض من الواقع وقد استطاعوا الخروج من تحت تراب الماضي أحياءً دون أن يُعطّل هذا الخلود المزيف إلا موت فعلي لأحدهم، الذي ربما سيساهم في الموت التدريجي لرجل التسلية.
(وقد يبالغ بعض الظرفاء فيقضون الدقائق الخمس عشرة بتعديل التراب فوقه باحتراف وتأنٍ بعد رشه بقليل من الماء، كما يفعلون مع القبور عادة، حتي إذا مرت الدقائق وسط صمت الجمهور وتحسبهم أخذوا يحفرون بهمة، ومع اجتيازهم نصف عمق الحفرة أو أكثر بقليل يلقون بأدواتهم علي الحافة ويواصلون الحفر بأيديهم).
أحب التفكير في أن لؤي حمزة عباس قد جعل كل منا يجلس علي هذه الأريكة المجاورة للشجرة العالية في انتظار صديقه.. في انتظار نفسه المنقذة، أو حكاياته العابرة المنشطرة وقد حصلت علي الثمن الذي تستحقه.. إنه الوقت الذي يمكن لأي منا أن يقضيه في التساؤل: هل هناك مكان أو زمن ما خارج العالم تتجمع فيه كافة الحكايات العابرة لتكوّن رصيدًا من الخلود الحقيقي سيمكن بلوغه في لحظة ما؟.. إلي أي مدي سيواصل العماء احتفاظه بهذا الخلود الذي يعتني بالفناء التدريجي لأجسادنا؟.. ربما كل ما نمتلكه من (إعادة الميلاد) ليس أكثر من الخيال الذي ينسج الحكايات المتعاقبة، واحدة إثر الأخري، كطفل صغير يلعب حول الشجرة، ويحمل اسم الذات التي غابت داخلها.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 2 / 9 / 2017

الجمعة، 1 سبتمبر 2017

فرضية المرح

قرب الفجر، وداخل ظلام الحجرة، وضع السماعتين في أذنيّ ثم احتضنني .. كان المطر ينهمر وراء ضلفتي البلكونة، وبابيها الخشبيين بألواحهما الزجاجية، وبالرغم من أن الأغنيات التي تمر من المسجّل الصغير تحت الوسادة لم تكن واضحة إلا أنني كنت أشعر بها على نحو لا يرتقي إليه الإنصات إلى أغنيات مفهومة .. كان باب الحجرة مفتوحًا بكامل اتساعه، وضوء النيون الأبيض الساطع في الصالة يُبقي الظلام حول السرير مستيقظًا .. كلما أراد تغيير وجه الشريط، أو الانتقال من أغنية إلى أغنية أخرى ليست تالية لها، أو تبديل الشريط نفسه بواحدٍ آخر من الشرائط المستلقية أعلى الوسادة؛ كان يربت على ظهري برفق فأُبعد جسدي الضئيل قليلا عن حضنه .. يخرج المسجّل من تحت الوسادة، والسماعتان لا تزالان في أذنيّ بينما أظل مستندًا على يديّ الصغيرتين في انتظار احتواء ذراعيه لي مجددًا تحت الأغطية الدافئة، كي أواصل الاستماع إلى الأغنيات .. خلال هذه اللحظات القصيرة المتقطّعة أتأمل وجهه .. ملامح الأربعين سنة، الخالية من أي شيء عدا انهماكه الثابت في تنظيم الأغنيات واحتضاني داخل السكون .. كان إغماض عينيّ بين ذراعيه لا يعني النوم، وإنما الانكماش فيما بين الإغفاء واليقظة .. لم يكن الوقت يمر .. كان يدور في مكانه بين نهاية الليل والظلام والأغنيات والمطر وضوء الصالة وروحي ذات السبعة أعوام، وطفلتي النائمة بجواري .. فتحت عينيّ .. وجدته يقف أمام السرير وقد أضاء الحجرة بالنور النيون الأبيض الذي يماثل ضوء الصالة في سطوعه .. كان قد أغرق أرضية الحجرة تمامًا بالماء، ثم أمسك بسلك كهربائي طويل ممتد من المقبس في الحائط المجاور للباب، وعلى وشك أن يغمس طرفه العاري في البحيرة الصغيرة التي يقف داخلها .. سألته عما يفعله، فأجابني بأنه قرر قتل نفسه الآن .. انتفضت ضاحكًا بفزع، ثم اندفعت بضآلة جسدي من السرير حاملا طفلتي النائمة إلى خارج الحجرة وأنا أخبره بأنني مدرك تمامًا أنه يمزح، ولكنني لابد أن آخذ حذري .. ظل واقفًا في منتصف الماء، ممسكًا بالسلك الكهربائي الذي يلمع طرفه العاري كنصلٍ شبق .. عبرت الصالة بأقصى سرعة نحو المطبخ لأغلق بابه على ارتجافي الذي لم ينجح ـ رغم قوته ـ في إيقاظ طفلتي التي أحملها .. سمعته يناديني بنبرة الدعابة المألوفة، ويطلب مني الخروج، مؤكدًا أنه كان يمزح بالفعل .. فتحت باب المطبخ ثم احتضنت طفلتي بيد واحدة لأمسك المقشة بيدي الأخرى وأندفع بها إلى حيث يقف في الصالة .. ظل يجري أمامي في كل اتجاه، هربًا من الضربة المحتملة، وأنا أحاول اللحاق به، دون أن تنقطع ضحكاتنا حتى فُتح باب حجرة أمي وأبي، ورأيتهما يخرجان بملامح ناعسة، ثم تتسمّر أقدامهما، وتتسع عيونهما، وهما يشيران إلى ذلك الذي مازلت أطارده بالمقشة، حاملا طفلتي، ويرددان برعب مذهول: (من هذا؟ .. من هذا؟).
Photo by: Mamdouh Rizk

الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

تشارلز بوكوفسكي ... ما وراء اللعنة

بنبرة حانات آخر الليل يحكي تشارلز بوكوفسكي في روايته «هوليوود»، الصادرة حديثاً عن دار «مسكيلياني» باتفاق خاص مع «منشورات الجمل»، وبترجمة عبدالكريم بدرخان؛ يحكي قصة من سيرة ذاتية حول فترة كتابته سيناريو فيلم عن مرحلة الكحول والمشاجرات في شبابه، واضعاً هذا المأزق في مقارنة مرعبة مع طبيعته المقامرة، المفتونة بالخسائر التي تدفعه دائماً إلى الركض في الشوارع مُخلفاً حريقاً ما. كانت كتابة هذا السيناريو بالنسبة إلى بوكوفسكي أو هنري تشيناسكي؛ كما استعار لنفسه في الرواية، بمثابة الفقدان للسيطرة على الحياة، أو في شكل أكثر تحديداً الحرمان الموقت من جموحه الغريزي داخل عالم المال والشهرة. «وأخيراً بعد عقود من الكتابة، سيكون عندي مكتب. نعم أشعر بالخوف، بالخوف من التحول إلى شخص يشبه الآخرين، والأسوأ أني وقَّعت عقداً لكتابة سيناريو. أتراني ملعوناً من الآلهة؟ ومقدراً عليَّ العذاب والهلاك؟ هل باتت نهايتي وشيكة؟ لا أحس باقتراب النهاية، وهل يشعر المرء باقتراب نهايته عند اقترابها؟».
يخرج تشارلز بوكوفسكي من هوليوود القديمة، أو القاع الذي عاشت حماقاته الثملة أغلب العمر في ظلامه، ووثَّق تاريخه في كتاباته الكثيرة، إلى هوليوود اللامعة، عاصمة صناعة السينما الأميركية. يخطو ساخطاً نحو فكرة عدائية لمكان سيبدو غير قادر على التآلف مع الطبيعة المتناقضة لبوكوفسكي؛ الثرثار الهازئ الذي غالباً ما يختلط لديه الشعور بالحزن والفرح. تدور الرواية حول الجدال بين أشكال مختلفة من الألم: المعاناة المرتبطة بإنتاج السيناريو، المكابدات الخاصة بالعاملين في الفيلم، فقدان الثقة لدى السكير المُكره والنادم، أي تشارلز بوكوفسكي الذي يحاول المقاومة لإنقاذ شبقه الساحر من الإخضاع. «عرفتُ حينذاك أن للأرواح الضالة حضارة كاملة، تزدهر داخل الحانات وخارجها، ليلاً ونهاراً وإلى الأبد، حتى يموت أصحابها. لم أقرأ عن هذه الحضارة من قبل، لذا قررتُ الكتابة عنها كما أتذكرها، طالما أن آلتي الكاتبة القديمة تعمل في شكل جيد».
يضع بوكوفسكي الضجيج السوقي لماضيه، المتخم بالهزائم الطائشة، والتسكع المأسوي، والعنف المتبجح داخل الكابوس الهوليودي، حيث يجد نفسه متسللاً بالكتابة خارج الورطة ليدون على هامش السيناريو ما سيعد أصلاً سردياً لهذا الواقع السينمائي، فضلاً عن كونه تأكيداً إضافياً لبصمة شيطان العالم السفلي الذي لم يعتبر الكتابة يوماً مهنة له، بل كانت دائماً دافعه للاستمرار في الحياة. كانت الآلة الكاتبة حاضرة طوال الوقت لتخفف عنه، لتسليه، لتنقذه من مستشفى المجانين، ومن النوم في الشوارع، ومن نفسه. «سألني ريك تالبوت: - هل جين ميتة الآن؟ - ماتت منذ زمن بعيد، جميعهم ماتوا، كل ندمائي ماتوا. - وما الذي أبقاك حياً؟ - الكتابة، إنها نشوتي العظمى. أضافت سارة: - كما أني أغذيه بالفيتامينات، وأمنعه من تناول الأطعمة التي تسبب السمنة. سأل ريك: - أما زلتَ تشرب؟ - غالباً عندما أكتب، وعندما أستضيف أصدقائي في البيت. أنا لا أحب رؤية الناس، وحين أشرب كمية كبيرة من الخمر، تختفي البشرية من أمامي».
كأن تشارلز بوكوفسكي يلوّح ضاحكاً - كعادته - عبر صفحات الرواية لمُشاهد فيلم «زبون البار»، وهو من إنتاج 1987، وأخرجه باربت شرودر، ولعب فيه دور البطولة ميكي روك وفاي دونوي. المُشاهد الذي لديه الرغبة في العثور على الروح الشهوانية في نقائها التام لذلك الجسد الذي تمَّ تشكيله فوق شاشة لم يكن من الممكن فضح كواليسها إلا بارتكاب هذه الدعابة الروائية. يبدو بوكوفسكي هنا شاهراً وقاحته الشهيرة في وجه التظاهر الذي يحكم حياة الممثلين؛ إذ يكتشف بعد تأمل عميق أن الممثل تصعب عليه العودة إلى ذاته بعد أن يكون شخصاً آخر، وبعد مرور الزمن، والتحول إلى عشرات الأشخاص لن يستطيع أن يتذكر نفسه، أو يجد صوته وأسلوبه الخاص.
إذا كانت حياة تشارلز بوكوفسكي أقرب إلى مجاهدة صاخبة في حماية هوية لا يمكن التفاوض مع جنونه في شأنها؛ فإن قارئ بوكوفسكي ربما يجد في نفسه شيئاً من هذا الرفض المماثل للالتزام بما تقترحه الصورة النمطية الشائعة عنه - رغم سحرها البدهي - فاللعنة المبتذلة السائدة عن تشارلز بوكوفسكي عند مقاربتها في إطار التشاجر الهائل مع الموت؛ سيمكننا اكتشاف وظيفتها كقناع مراوغ لشكل من الخوف الطفولي الذي قد يكون متناقضاً على نحو مدهش وبالغ القسوة مع الإصرار المتفاخر أو الهوس بالانحطاط الغاضب والمتهكم الذي يميز عـالمه. ربما لن يكون لهذا النوع من الخوف تلك الصفة الضدية، بل ربما يكون في الواقع ظلاً مستقراً للعنة المبتـذلة، ويمتــلك في الوقــت ذاتـه حتمية الجوهر.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 29 أغسطس 2017 


الجمعة، 18 أغسطس 2017

الخروج من الزمن في قصص ليديا ديفيس

ترجم أحمد شافعي مؤخرًا بجريدة (عمان) ثلاث قصص للكاتبة الأمريكية ليديا ديفيس تُجسّد ما يمكن النظر إليه كملامح للزمن، داخل الإطار المكثّف والمعتاد عند (ديفيس) .. في القصة الأولى يتم تناول (بعض) عادات رجل ما في الشراب؛ فهو يحب أن يشرب في الأماكن التي لا يعرفه أحد فيها، ولا يقيم الناس المارون بها ـ الذين يكونون على سفر، أو على وشك أن يكونوا على سفر ـ روابط شخصية، مثل حانات المطارات، والقطارات .. هذه الأماكن مكرّسة للوجود المؤقت، لذا فدخولها يمثّل خروجًا من الزمن الشخصي المستقر نحو نوع من الخلاص العابر .. يمكننا تخيّل صور التحرر ـ أو العادات الأخرى في الشراب ـ التي يمارسها الرجل من الشروط القهرية للواقع الذي غادره للحظات خاطفة: الاعتراف .. الهذيان .. التطفل .. الكذب .. لن يكون الرجل ملزمًا بالثمن التقليدي الذي يُحتم عليه أولئك الذين ينتمون إلى الزمن الثابت أن يدفعه؛ إذ أن لقاءه بالغرباء في تلك الأماكن لن يكون خطوة تمهيدية لهزيمة ما، أو تبادلًا خبيثًا لوعد جماعي يتجهّز لأن يصبح غدرًا أبديًا، بل يحكم هذه المصادفات تواطؤ ضمني على حماية المساحات الفاصلة، وعدم التورط .. لن يكون الرجل جزءًا من حيوات هؤلاء الناس، كما أنهم لن يكونوا جزءًا من حياته، ولهذا سيشبه اللقاء صفقة غير مكلّفة، قد تنطوي على احتمال لإنقاذه، كما أن الرجل لن يعتبر هذه المصادفات إهدارًا للعمر ـ مثلما هو الحال في الزمن الشخصي ـ بل فرصة استثنائية لتأمل هذا الضياع .. للتمعن في السر الثمين الذي نفقده كل لحظة، ولا يمكننا فهمه، أو استرجاعه، أو تعويضه لدرجة أننا (في الثامنة والعشرين، نتوق إلى أن نكون ثانية في الرابعة والعشرين)، وهذه الكلمات بين القوسين هي القصة القصيرة الثانية التي تحمل عنوان (الخوف من الشيخوخة)، مع تعديل من جانبي لصيغة الجمع .. إن هذا الشوق للرجوع أربعة سنوات فقط للوراء هو إشارة ساطعة لما تعنيه الشيخوخة حقًا؛ فالزمن هنا يٌعرّف كامتزاج بين اليأس وإدراك فداحة ما يضيع على نحو متواصل .. إذا كانت إعادة الميلاد معجزة مستحيلة، وإذا كان استرداد الطفولة سيظل ممتنعًا عن التحقق؛ فإننا ـ على الأقل ـ ندرك بطريقة ما مدى الخسائر الغامضة التي تراكمت في أرواحنا خلال الماضي القريب جدًا، وهي أكبر مما يمكن تصديقه، أو إبعاده عن كوابيسنا .. بالرجوع إلى القصة الأولى في ضوء هذا الخاطر سيمكننا التفكير في أن الناس الذين على سفر أو على وشك أن يكونوا على سفر في حانات المطارات أو في القطارات لن يساهم اللقاء بهم في التقدم نحو الشيخوخة بل سيكون أقرب إلى التحليق فوق حتميتها، أو سخرية ضرورية من غريزة الزمن التي تقوده بهذا اليقين الذي لا يمكن تعطيله.
في القصة الثالثة، والمسمّاة (جارنا الشاب وسيارته الصغيرة الزرقاء) تقدم ليديا ديفيس وصفًا مختصرًا للواقع أو الزمن الشخصي، الذي يتم الخروج منه إلى أماكن الوجود المؤقت .. إنه (الضجيج) الذي لا يُعد الإزعاج الناجم عن حركة الجار الشاب بسيارته الصغيرة الزرقاء إلا مجرد تعبير عنه .. الجلبة التي تتعاقب الهزائم والوعود المغدورة داخل ظلامها .. الأسرار الثمينة التي يتوالى فقدانها حيث امتزاج اليأس بإدراك فداحة ما يضيع، وعدم القدرة على تصديق أو إبعاد الخسائر الغامضة التي تتراكم عن كوابيسنا .. لننتبه إلى العلاقة بين هذا الضجيج وكلمة (بعض) التي تم وضعها بين قوسين في عنوان القصة الأولى، والشكل المكثّف للغاية الذي كتبت به (ديفيس) هذه القصص .. لننتبه تحديدًا إلى الحس التهكمي المتحسّر في هذين القوسين؛ فالرجل لديه (ضجيج) أكثر وحشية من أن يتم وصف الاحتياج للخلاص المؤقت منه بـ (بعض) العادات التي يتسم جوهرها ـ رغم قناعها التقليدي ـ بطبيعة استغاثية .. يفرض الزمن الشخصي على هذه التوسلات أن يبقيها دون غنيمة حقيقية، كأنها إجراءات تخص أي روتين آخر، ولهذا ستبقى (عادة) من (بعض) عاداته في الشراب .. هنا يأتي دور الشكل المكثف للقصص الذي يؤسس انطباعًا جماليًا بأن المصادفات العابرة للرجل في حانات المطارات أو في القطارات هي اختلاسات مقتضبة بعيدًا عن الضجيج .. (بعض) من الاستراقات الصغيرة، والمتعبة للعالم خارج الزمن الشخصي، المنذورة للإخفاق كأي عادة.
جريدة (القصة) / العدد التاسع ـ أغسطس 2017

الاثنين، 7 أغسطس 2017

ماهية الفخ

قرأت قصة (الكاتدرائية) لـ (ريموند كارفر) منذ فترة طويلة ثم أدركت بعد إعادة قراءتها مؤخرًا أكثر من مرة  أن الزمن لم يؤثر في استجابتي الأولى لها؛ فالفخ الذي وضعه (كارفر) داخل هذه القصة كنت سأنصبه أنا في مكان آخر .. هذا الاختلاف لا يتعلق بما يمكن أن يُوصف بالاستناد إلى مبادئ عامة بـ (عيوب الصنعة)، والتي يمكن أن تثير غضب آباء صارمين مثل (روي بيتر كلارك)، أو (فيرلين كلينكنبورج) .. يحق لـ (ريموند كارفر) أن يزهو بـ (آثامه) المرتبطة باستخدام الحال، والعبارات الطويلة، والتكرارات، وحروف العطف، ليس فقط لأن المحاذير التقليدية ينبغي أن تتبدد أمام الضرورات الجمالية، بل لأن الطمس الهازئ أيضًا لوهم هذه السلطة يمثل في حد ذاته أحد الأورجازمات العظيمة في الكتابة .. لكنني ـ ودون أن أعتبرها عيوبًا في القصة كأي أب صارم ـ حددت لخطواتي مسارًا أكثر إلهامًا بالتخلص مما اعتبرته ـ بشكل غير مطلق ـ الثرثرة السابقة للحظة ذهاب الزوجة إلى محطة القطار لإحضار صديقها الأعمى .. لم أكن في حاجة لمعرفة أنه كان للأعمى زوجة ميتة، وأنه كان في زيارة عند أقربائها في (كونيتيكيت)، وأنه اتصل من بيت حميه بالزوجة، وأنهما كانا يتبادلان أشرطة صوتية عبر البريد، وأنه كان لهذه الزوجة حبيبًا سابقًا منذ أيام الطفولة كان لا يزال طالبًا في مدرسة الضباط، وأنهما كانا مفلسين، وأنه كان للأعمى مكتبًا صغيرًا في دائرة الخدمات الاجتماعية، وأن الزوجة تزوجت حبيبها الذي أصبح ضابطًا رفيعًا، وانتقلت معه من (سياتل) .. كنت أريد فقط الحصول على بعض الإشارات المقتضبة التي لا تشيّد (عناصر حاسمة) بقدر ما تقدم على نحو خافت (إيحاءات) عن طبيعة ما جديرة بالتخيّل، وليس الإدراك .. أتحدث عن ذلك الفرق الذي دائمًا ما يكون محورًا للنقاش في تدريس القصة القصيرة بين (المعلومات اللازمة) التي تقود إلى حياة غير معلنة، و(الحياة المعلنة) التي لا تمنح معلومات لازمة .. على أن الأمر ـ وسأستمر في التأكيد على هذا ـ نسبي تمامًا، لأنني حينما أعتبر أن (التفاصيل الضرورية) تقتصر فحسب على أن الزوجة كانت تعمل عند الأعمى، وأن الزوج يكره العميان فإنني أفكر في انحياز ذاتي تمامًا، يلائم ويجهّز للإخفاء الأهم الذي كنت سأمارسه لو كنت كاتب هذه القصة، وأقصد به تحسس الأعمى لوجه الزوجة ورقبتها، وأنها حاولت كتابة قصيدة عن ذلك.
(طلبَ الأعمى أنْ يلمس وجهها، فوافقتْ! وأخبرتْني أنه مرّر أصابعه على كامل أجزاء وجهها، حتى أنفها ورقبتها!، كما أنها حاولتْ أن تكتبَ قصيدةً عن ذلك، فهي دائماً تحاول أن تكتب قصيدة، وكانتْ تكتب قصيدة أو قصيدتين كل عام، غالباً بعد حدوثٍ أمرٍ مهمّ في حياتها.
عندما بدأنا نخرج معاً – أنا زوجتي، أرتْني القصيدة، في القصيدة كانت تسترجعُ أصابعَهُ والطريقةَ التي مرّرها بها على كامل وجهها، وفي القصيدة أيضاً تصفُ مشاعرها في تلك اللحظات، وما جالَ في ذهنها عندما كان الأعمى يلمسُ أنفها وشفتيها. أذكرُ أنني لم أُعِـرْ اهتماماً للقصيدة، بالطبع لم أخبرْها بذلك، ربما لأنني لا أفهمُ الشعر، وعادةً لا أمدُّ يدي إلى كتبِ الشعر عندما أنوي القراءة(.
هذه هي المعلومة التي كانت جديرة بالاختفاء بالنسبة لي في بداية القصة، وهي التي كان ينبغي الكشف عنها ـ بعد التخلص من دفعة جديدة من الثرثرة المقترنة بتناول العشاء ـ عند إغفاءة الزوجة الجالسة بين الأعمى وزوجها بثوب النوم الوردي بعد تدخين الماريجوانا، ثم انحسار الثوب عن فخذها (الشهي) .. لماذا كان يجب على الزوج أن يتذكر تحسس الأعمى لوجه الزوجة ورقبتها في الماضي عند هذه اللحظة تحديدًا، والتي مد فيها يده ليغطي ساقيها قبل أن ينكشف فخذها مجددًا؟ .. تتحرك القصة منذ البداية داخل سياقات محددة: زوج منزعج من زيارة الصديق القديم لزوجته نتيجة خبرة غير جيدة بالعميان .. زوجة تتصرف كما يليق بصديقة مثالية  .. أعمى يبدو أنه يمتلك من الحياة ما يتجاوز توقعات الزوج .. هذه السياقات يضمن توترها ـ الحسي بشكل أخص ـ الوصول إلى غاية شهوانية .. لدينا ما يشبه مثلث الحب المألوف، ولكن في وضعية غير تقليدية من التواطؤ الشبقي الغريب بين أطراف يحمل كل منها هوية مختلفة .. كان (كارفر) واعيًا بذلك، ولم يكن مرغمًا على الإفصاح عنه بل كان عليه فقط أن يجعل الزوجة ترتدي ثوب النوم الوردي، وأن تجلس بين الزوج وصديقها الأعمى، وتدخن الماريجوانا ثم تغفو وينكشف فخذها .. هنا كان يجدر بالمصيدة الخبيثة أن تكتمل بالإعلان عن المفاجأة التي لم تأت أي إشارة لها من قبل، وهي أن الزوج يتذكر الآن عند ظهور فخذ زوجته أنها سبق وأخبرته بتحسس الأعمى لوجهها ورقبتها، وأنها حاولت كتابة قصيدة عن ذلك، تسترجع فيها أصابعه، والطريقة التي مررها بها على كامل وجهها، ومشاعرها في تلك اللحظات، وما جال في ذهنها عندما كان الأعمى يلمس أنفها وشفتيها .. هنا تبدأ الممارسة بين الأعمى الذي يدخن، والزوجة الغافية، والزوج الذي يتأمل فخذها المكشوف .. لكننا في حاجة أيضًا إلى معلومة صغيرة، ولكنها أساسية، سيكون مناسبًا أن يفصح الزوج عن تذكره لها الآن، وهي أنه لم يسبق له أبدًا أن مارس الجنس مع زوجته بعينين مغمضتين.
لنترك الكاتدرائيات المعروضة في التليفزيون، ولنجعل الأعمى يشعر بالرغبة في التوجه إلى السرير الذي أعدته الزوجة لينام بدلا من أن يطلب من الزوج أن يصف له الكاتدرائية .. لنجعل الزوجة تستيقظ، وتقود الأعمى إلى السرير ثم تتوجه مع زوجها إلى حجرتهما بدلا من المحاولة الفاشلة للزوج في وصف الكاتدرائية للأعمى .. لنجعل الزوج يقرر ممارسة الجنس مع زوجته بعينين مغمضتين للمرة الأولى في حياتهما بدلا من أن يسأله الأعمى (هل أنت رجل مؤمن؟) قبل أن يغلق هذا الأعمى قبضته على يد الزوج التي تمسك بالقلم ويحركها لرسم كاتدرائية تحوي بشرًا فوق كيس ورقي كبير .. لنجعل الأعمى يشعر بالرعشة الجنسية وهو نائم وحده في سرير مجاور لحجرة الزوجين اللذين يمارسان الجنس في هذه اللحظة.
تدور فكرة قصة (الكاتدرائية) كما كتبها (ريموند كارفر) عن الإيمان: (هل أنت مؤمن؟) .. حسنًا .. (سأجعلك ترسم كاتدرائية وأنت مغمض العينين) .. زوج لديه بصر قاصر يدفعه لاتخاذ موقف عدائي من الأعمى الذي يمتلك (بصيرة) .. شخص لا يرى (غير مؤمن بأي شيء)، ويحتاج لإغماض عينيه كي يتمكن من الرؤية بقلبه أو بروحه ـ أيًا يكن ـ أي أن يتأمل جوهر الحياة غير المحدود، الكامن وراء الضلالات المزيفة للوعي .. أن يصبح ـ ببساطة ـ شخصًا مؤمنًا.
(أبقيتُ عينيّ مغمضتين، كنتُ في بيتي، أعرفُ ذلك، لكنني لم أشعرْ أنني في أيّ مكان، وقلتُ: "إنها حقاً جميلة!". ).
كم مرة رأينا أو سمعنا أو تخيلنا شخصًا يقبض على يد آخر أعمى، أو مغمض العينين، ويرسم بها، أو يمرر أصابعه فوق حروف بارزة ليقرأ عبارات معينة، أو يختبر قدرته على التوصل لطبيعة شيء يتحسسه في لعبة ما؟ .. لنتذكر ما قام به المخرج البلجيكي (جاكو فان دورميل) في فيلم (اليوم الثامن) حينما جعل (جورج) صديقه (هاري) يستلقي بجواره على العشب، ويغمض عينيه مثله لمدة دقيقة واحدة من الصمت، ويخبره أنه حين يتخيل نفسه يحتضن شجرة سيصبح شجرة، وحين يفكر في نحلة سيصبح نحلة، وحين يفكر في أحبابه حتى الموتى منهم سيجدهم جالسين معه ويطبطبون عليه.
تدور فكرة قصة (الكاتدرائية) كما كتبتها أنا عن فقدان الثقة في كل ما سبق ونقيضه .. في البصر والبصيرة .. في العينين والقلب .. في الشهوة الملغزة للحياة، التي يعيش فيها العميان والمبصرون داخل بعضهم البعض، والقادرة عند أي لحظة على ألا تكون جميلة ـ على الأقل ـ مهما رسمت من كاتدرائيات.
قارن بين الاحتمالات المختلفة للمسارات التي يمكن أن تتخذها قصتك خصوصًا تلك التي قد تبدو مناقضة لما تصورته (معنى) أساسيًا لها .. حاول أن تكتشف ماهية الفخ الملائم لكل احتمال، كيفية تجهيزه، موعد الكشف عن الإغراء المباغت الذي سيقود إليه، الطريقة التي سيتم بها الإفصاح عن هذا التحريض .. اجعل الاحتمال غير التقليدي هو أكثر المسارات جدارة بالتأمل، التحوّل المفاجئ، غير المتوقع، الصادم بشكل ما، الذي لا يعيد تدوير الإيمان، بل يحفر ـ بمنتهى المرح المناسب ـ جرحًا شخصيًا جديدًا في الثقة القديمة.

السبت، 5 أغسطس 2017

مولانا المقدم: سينوغرافيا السلطة

هل هناك لحظة يمكن عندها التوقف عن تكرار الاستفهامات الأزلية عن السلطة؟.. ثمة إلحاح متصاعد لهذا الهاجس قد يسيطر علي قراءة مسرحية (مولانا المقدّم) للكاتب وليد علاء الدين، الصادرة حديثًا عن سلسلة المسرح بالهيئة المصرية العامة للكتاب.. نحن هنا أمام إعادة استخدام تبدو لا مفر منها لإرادات القوة التي تخوض نفس الصراع.. الأديب الذي يتسم بكثير من الطوباوية.. المحامي المكرّس لتحويل القانون إلي توظيف براجماتي للظلم.. المصارع ضخم الجثة، والذي يفوز بكرسي العرش ويتحوّل إلي (مولانا المقدّم).. يقدّم كل طرف من هذه الأطراف خطابه التبريري إلي ذلك الكائن الذي يبدو خارج الصراع، أو بشكل أدق الذي يجب أن يكون حقلا خاضعًا لمشروعيته وهو (المهرج)..يطمع كل منهم في الحصول علي (الاعتراف) بأحقيته في الحكم، أي أن يكون هذا المهرج هو الأداة الموضوعية لعقاب الآخرين.. لكن المهرج الذي يُذكرنا بالأعمي في مسرحية (الشحاذ أو الكلب الميت) لبرتولد بريخت، حيث تحطم الاعتداد المتفاخر للقيصر أمام سخريته الخبيثة؛ هذا المهرج لا يطرح نفسه ككيان مستقل، يجسّد الطابع العبثي للصراع بإعطائه مهمة الاختيار للحاكم بين الشخصيات الثلاث، وإنما يبدو أيضًا كشبح من الصدأ اليائس، الذي يعكس الطبيعة الجوهرية لأطراف الصراع؛ فالأديب والمحامي والمصارع مفتول العضلات تحرّكهم خيوط ذاتية من الخسارات التي تشكّل ذاكرة كل منهم، والتي ستتحوّل إلي دوافع للهيمنة.. الأديب هو كاتب لم يستطع أن ينجح في هوايته، كما كان زوجًا يُعاني من العيش مع زوجة مرعبة، وسبق له أن كتب مسرحية بعنوان (الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار) التي تخيّل فيها تحوّل الإنسان لشخصين لا يفهم أي منهما الآخر.. المحامي الذي يسخر من الأديب، ومن العدل الذي لا يوجد إلا في الروايات، ويستعرض (بحسرة) مهارات الاحتيال والخداع والغش التي تستعمل القانون لخدمة الربح التجاري.. الحداد، الذي لعب المصارعة، صاحب الحياة الفارغة، التي تخلو من الأصدقاء، والذي تزوج كثيرًا وطلّق كثيرًا، وانتهي به الأمر إلي الالتحاق بالقوات الخاصة في الجيش وهو الأمر الذي علينا أن ننتبه إليه جيدًا.(كان كل همي في الحياة، إني أبقي إنسانا مهما، الناس تبصله نظرة احترام، مش خوف، واتمنيت إنه ييجي اليوم اللي أبقي فيه عظيم... دخلت الجيش، قوات خاصة رغم إني معنديش شهادة، قوتي كانت شهادتي، عملت عمليات كتير انطلبت مني، مكنتش بسأل، أنفذ وبس، اتعينت شرف، واترقيت وكنت موعود  برتبة واستكمال خدمة.. هي مش رتبة كبيرة يعني ابتأثر واضحب لكن خلاص كل شيء انتهي، كل شيء انتهي).
سيقترن تكرار الاستفهامات الأزلية عن السلطة علي نحو ضمني، بفكرة الثورة خاصة مع هذا الانحياز في المسرحية للأديب الذي يُعيّن نفسه من خلال خطاب الديمقراطية والثورية (أو ما يُسميه تحريك الوجود داخل العدم) كحقيقة مثالية مضادة للطغيان المحكوم بالحماقة، والمتمثل في المصارع ضخم الجثة الذي يفوز دون حق بكرسي الحكم، كما أن هذا الأديب سيُعيّن نفسه أيضًا كيقين مُعادٍ لإخضاع (لعبة العدالة) إلي سطوة هذا الحاكم، وهو الدور الذي سيُكلف به المحامي، المتسق مع حياته السابقة.(الرجل: »ثائرًا» رعية مين، اسمع، الحكم هنا للأقوي، ومادمت أنا الأقوي، يبقي أنا الحاكم، واللي مش عاجبه يفرجني نفسه...
الأديب: "متفاديًا ثورة الرجل" مين إللي مش عاجبه ده! لكن تسمح لي أقدم رأيي، أظن الديمقراطية تحتم ذلك..
الرجل: "بدهشة" ديمقراطية!! إزاي يعني!
المحامي: "ساخرًا" الديمقراطية حاجة زي الفول والطعمية...
الأديب: الديمقراطية، هي حلم الإنسان، الديمقراطية هي أن يصبح الإنسان إنسانًا، أن تحترم آدميته، أن يكون عقل وروح وجسد، وليس فردا في قطيع).
لكن هناك محاولة لتبيّن الوجه الآخر من الصراع، والمتعلق بتأثير الهزائم الفردية علي الفعل الجماعي.. يضع وليد علاء الدين دائرة حول هذه المنطقة الملغزة التي تسبق الصراع، أي التي تبدأ معها حتميته الفعلية داخل كل جسد لم يمتلك بعد الوعي الكافي للتأمل فيما يمكن أن تعنيه مواجهة الآخرين، أو بشكل أكثر تحديدًا الكائن الذي وجد نفسه في قلب هذه المواجهة لمجرد أنه امتلك هذا الحضور في مكان لا مجال فيه سوي لضرورة تحطيم الآخر.(يتصارع الجميع، ويحتدم الصراع في دائرة بينما المهرج يتقافز حولهم ويضحك في هستيريا.. الأديب يقف متفرجًا غير بعيد، ينتهي الصراع لصالح الرجل الذي يتغلب علي الجميع، يضعهم تحت قدمه ويقف معلنًا قوته.. يسارع إليه المهرج، ويسلمه المسدس ويضع الطرطور علي رأسه.. ويصرخ: عاش.. عاش.. الطرطور).
يختار وليد علاء الدين ما بعد الموت وما قبل الجحيم كزمن لمسرحيته، وهو ليس مجرد إعطاء صفة الأبدية للاستفهامات المتكررة عن السلطة، وإنما كتخليد لأطرافها التقليديين أيضًا عن طريق تثبيت الإرادات التي تنتج خطاباتها بوصفها ممرات يقينية للجحيم.. علي جانب آخر يقترح وليد علاء الدين سينوغرافيا من الظلام والضوء الخافت والظلال ومنطقة فسيحة تبدو جزءًا من واد صخري حيث لا ينشأ عن تواطؤ هذه العناصر الشعور بالخواء المبهم الجدير بزمن المسرحية بقدر ما يصوّر هذا التواطؤ موضوع السلطة في تاريخ كل شخصية، فكرتها الغامضة، أو خيالها الموحش الذي لا سبيل لقهره.(المحامي: يامولاي، أنا وصلت لك الكلام ده، لأني واثق في ديمقراطية حكمكم، وإنكم مش هتسمحوا للعناصر الهدامة دي إنها تسعي بين الرعية بالفساد.
المقدّم: مظبوط، مظبوط... بس تعرف هما بيجيبوا الأفكار الهدامة دي منين؟
المحامي: الأديب يا مولاي... الأديب، اللي كان بيدعي صداقته بجلالتكم، هو إللي بيروج للأفكار المريضة دي، دي بنات أفكاره يا مولاي.
المقدّم: بنات أفكاره؟!
المحامي: أيوه يا مولاي، بنات أفكاره الخبيثة، المريضة، دا بيحاول يقنع الناس بأنه أصلح الناس للحكم، والعياذ بالله... وأنا نبهته، نبهته يا مولاي، وقلت له إن إللي بيعمله ده يعد في القانون خيانة عظمي، أيوه خيانة عظمي، وعقوبته القتل، الإعدام).
ماذا لو تخيلنا أن (مولانا المقدّم) ليس سوي كابوس مشترك بين الشخصيات الثلاث تحوّل فيها الواقع إلي حالة رمزية تتخلي مؤقتًا عن القمع داخل اللاوعي، وأن ذهابهم إلي الجحيم ليس إلا عودة للواقع بعد الاستيقاظ، وقد أدركوا من خلال هذا الكابوس أن ما يظنونه صحوًا هو النهاية التي يرغبون في الحصول علي ما يرغمهم علي الإيمان بأنهم قد أصبحوا يعيشونها حقًا؟.. ماذا لو أنصتنا الآن بما يجعلنا قادرين علي استيعاب الظلام، وسماع صوت المذيع الداخلي الذي قال في نهاية المسرحية: (السادة الأموات في الصالة نرجو التوجه إلي الرحلة رقم.. الحظة صمتب.. مش مهم الرقم.. المهم التحرك نحو المصير، وعلي السادة الأموات الجدد التزام أماكنهم في صالة الترانزيت.. مطار الجمهورية الطرطورية يتمني لكم ترانزيت هادئ)؟.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 5 / 8 / 2017