قرب الفجر، وداخل ظلام الحجرة، وضع السماعتين في أذنيّ ثم احتضنني .. كان المطر ينهمر وراء ضلفتي البلكونة، وبابيها الخشبيين بألواحهما الزجاجية، وبالرغم من أن الأغنيات التي تمر من المسجّل الصغير تحت الوسادة لم تكن واضحة إلا أنني كنت أشعر بها على نحو لا يرتقي إليه الإنصات إلى أغنيات مفهومة .. كان باب الحجرة مفتوحًا بكامل اتساعه، وضوء النيون الأبيض الساطع في الصالة يُبقي الظلام حول السرير مستيقظًا .. كلما أراد تغيير وجه الشريط، أو الانتقال من أغنية إلى أغنية أخرى ليست تالية لها، أو تبديل الشريط نفسه بواحدٍ آخر من الشرائط المستلقية أعلى الوسادة؛ كان يربت على ظهري برفق فأُبعد جسدي الضئيل قليلا عن حضنه .. يخرج المسجّل من تحت الوسادة، والسماعتان لا تزالان في أذنيّ بينما أظل مستندًا على يديّ الصغيرتين في انتظار احتواء ذراعيه لي مجددًا تحت الأغطية الدافئة، كي أواصل الاستماع إلى الأغنيات .. خلال هذه اللحظات القصيرة المتقطّعة أتأمل وجهه .. ملامح الأربعين سنة، الخالية من أي شيء عدا انهماكه الثابت في تنظيم الأغنيات واحتضاني داخل السكون .. كان إغماض عينيّ بين ذراعيه لا يعني النوم، وإنما الانكماش فيما بين الإغفاء واليقظة .. لم يكن الوقت يمر .. كان يدور في مكانه بين نهاية الليل والظلام والأغنيات والمطر وضوء الصالة وروحي ذات السبعة أعوام، وطفلتي النائمة بجواري .. فتحت عينيّ .. وجدته يقف أمام السرير وقد أضاء الحجرة بالنور النيون الأبيض الذي يماثل ضوء الصالة في سطوعه .. كان قد أغرق أرضية الحجرة تمامًا بالماء، ثم أمسك بسلك كهربائي طويل ممتد من المقبس في الحائط المجاور للباب، وعلى وشك أن يغمس طرفه العاري في البحيرة الصغيرة التي يقف داخلها .. سألته عما يفعله، فأجابني بأنه قرر قتل نفسه الآن .. انتفضت ضاحكًا بفزع، ثم اندفعت بضآلة جسدي من السرير حاملا طفلتي النائمة إلى خارج الحجرة وأنا أخبره بأنني مدرك تمامًا أنه يمزح، ولكنني لابد أن آخذ حذري .. ظل واقفًا في منتصف الماء، ممسكًا بالسلك الكهربائي الذي يلمع طرفه العاري كنصلٍ شبق .. عبرت الصالة بأقصى سرعة نحو المطبخ لأغلق بابه على ارتجافي الذي لم ينجح ـ رغم قوته ـ في إيقاظ طفلتي التي أحملها .. سمعته يناديني بنبرة الدعابة المألوفة، ويطلب مني الخروج، مؤكدًا أنه كان يمزح بالفعل .. فتحت باب المطبخ ثم احتضنت طفلتي بيد واحدة لأمسك المقشة بيدي الأخرى وأندفع بها إلى حيث يقف في الصالة .. ظل يجري أمامي في كل اتجاه، هربًا من الضربة المحتملة، وأنا أحاول اللحاق به، دون أن تنقطع ضحكاتنا حتى فُتح باب حجرة أمي وأبي، ورأيتهما يخرجان بملامح ناعسة، ثم تتسمّر أقدامهما، وتتسع عيونهما، وهما يشيران إلى ذلك الذي مازلت أطارده بالمقشة، حاملا طفلتي، ويرددان برعب مذهول: (من هذا؟ .. من هذا؟).
Photo by: Mamdouh Rizk