السبت، 30 سبتمبر 2017

أربعون عاماً في انتظار إيزابيل: أن تغيب لتحكي

تناوش رواية (أربعون عامًا في انتظار إيزابيل) لسعيد خطيبي الصادرة عن منشورات ضفاف والاختلاف؛ فكرة بناء الحكايات اعتمادًا على الغياب .. غياب الذات .. غياب الآخر .. غياب الذكرى المشتركة .. غياب الغاية المؤكدة من تكوين العالم الذي يمكن ينشأ عن تمازج لانهائي من الحكايات، أو بالأحرى تداخل لا ينقطع لظلالها غير المشبعة.
(سأرسم لوحتين أخيرتين ليوميات إيزابيل إيبرهارت، أردمهما في حديقة البيت، بين الكرمة وشجرة الليمون، وسأفعل الشيء نفسه مع اللوحات الثلاثة عشرة الأخرى، وابتلع، كالعادة، كلمات سليمان الصاخبة ولعناته. لن أرد على لومه لي بأنها فعلة مخلة بأخلاق الفن، فقريبًا، سيدرك أني عشت لأرسم وأدفن فني، وأن ثقتي كبيرة في أناس يأتون من بعدي، يحفرون عميقًا؛ بحثًا عن لوحاتي، ليقيّموها بأنفسهم يحكموا عليها: قد يرجمونني بتهمة الاستشراق، يبصقون عليّ، ويتبولون على رسوماتي وعلى اسمي، ويتهمونني بالعمالة والفجور، وربما سيحبونني، يحدقون طويلا في أعمالي، يشيدون بها، ثم يعلقونها حيثما شاؤوا: على الحيطان العارية، أو في بيوت الله المبعقة بالبخور، أو يعرضونها في السوق الأسبوعية صباح كل جمعة، يأكلون من ثمنها القليل خبزًا حلالا، وقد يجعلون من بيتي هذا، الواقع بين المسجد ومقبرة لشهداء الثورة، متحفًا أو مزارًا أو قبة للزاهدين، ويكتبون سيرة لي غير سيرتي الحقيقية).
لا يجدر بنا أن نفكر في لوحات (جوزيف رينشار) التي رسمها اعتمادًا على يوميات الرحالة (إيزابيل إيبرهارت) بعد عثوره عليها بقدر ما ينبغي ـ وفقًا لهذا الإغواء ـ أن نفكر في كافة اللوحات غير المنجزة، التي لم تغادرنا سواء عن آخرين لم نقابلهم، وإنما أتيح لنا أن ندرك انسجامًا أو جدلا ما بيننا وبين آثارهم، أو أولئك الذين ينتمون إلى عالمنا الشخصي، ومع ذلك لدينا ضرورة لمحاولة اكتشافهم بعيدًا عن حضورهم المتعيّن بوصفه ـ رغم كل شيء ـ قمعًا لخيالنا.
(تتداخل في ذهني الذكريات، وأعجز أحيانًا عن الفرز بينها. ربما هي مقدمة ألزهايمر! مع أني أستبعد ذلك، لست هشًا بما فيه الكفاية لأفقد ذاكرتي كليًة، مازلت ـ مثلا ـ أتذكر أيامًا مهمة من حياتي، خصوصًا لما كنت أتلقّى الأوسمة الشرفية في باريس: وسام صليب الحرب، وسام المناضل، وسام جوقة الشرف وميدالية الفارين، التي منحت لي تكريمًا لشجاعتي في الفرار من معتقل ألماني).
في (أربعون عامًا في انتظار إيزابيل) يعد التيه هو الجسر المشترك بين جوزيف وإيزابيل .. بين يومياتها ولوحاته .. لكن هذا الجسر ليس مجرد طريق مجازي بين حياتين، وإنما متاهة من الممرات المتشابكة لحيوات أخرى امتلكت الدوافع التي تبرر عبورها نحو هذا الاندماج.
بهذا يستطيع كل عنصر أو فضاء داخل الرواية أن يتجسد لدينا في صور ذاتية بديلة ومتباينة: الصحراء .. العنف السياسي .. الحروب .. النبذ .. الخروج من ديانة إلى أخرى .. الاغتراب .. الموت .. أما التساؤل الذي سنجد أنفسنا في مواجهته إثر هذه التأملات فهو: كيف يمكننا أن ندفن لوحاتنا غير المنجزة عن الآخرين مثلما فعل جوزيف؟ .. كان لهذا المحارب القديم قدرة على الاستجابة لرغبته في رسم يوميات إيزابيل، وفي المقابل لن يكون بوسع كل من افتقد هذا الاحتياج سوى أن يترك لوحاته الخاصة عن الآخرين مدفونة داخل جسده، وبالتالي ستحصل هذه اللوحات على دفن مضاعف حين يصير هذا الجسد جثة في باطن الأرض.
لم يكن لجوزيف القدرة على الاستجابة لرغبته في رسم يوميات إيزابيل فحسب، بل كان في استطاعته أيضًا التفكير في معنى أن يدفن لوحاته، في الأسباب الوجيهة التي تجعل من تحويل هذا الإلحاح إلى واقع أمرًا ملزمًا .. هل فكر جوزيف في حكاية أصلية لا يمكنها أن تروى أبدًا مهما تعاقبت اللوحات؟ .. هل شعر بأن الحكاية لا تحدث إلا عبر اكتشافها في حكايات أخرى، أو بشكل أدق، داخل الفراغات الصامتة لهذه الحكايات، وهذا ما سيحتم بالتالي عدم العثور عليها؟ .. هل كان يطمع في إعجاز ما يقع خارجه زمنه الفردي، أي يقوم بشكل أساسي علي غيابه عن الحياة ـ مثل إيزابيل ـ ويمكنه توظيف هذه الحصيلة من الإشارات والتصورات والعلامات في الوصول إلى هذه الحكاية، التي ربما ـ نتيجة لذلك ـ ستمنح كافة الموتى أبدية مثالية؟.
(خسرتها يوم هجرتها، وهي أرملة، مدة فاقت العام، وأنا مراهق في الخامسة عشرة، وذهبت للعيش في دير بعيد، بالقرب من مرسيليا، بعدما شعرت بأنها تراقب كل خطواتي وتفاضل بيني وبين أخي أوليفيي، وأني صرت مثل سجين في حضرتها، لا تترك فرصة من دون التعليق على تصرفاتي، ونهري ورفع صوتها عليّ، أمام إخوتي وأمام أطفال الجيران، ثم خسرتها يوم رفضت أن أعيش معها في البيت، بعد الحرب، وتركتها لأشتري شقة في ضاحية باريس، وخسرتها مرة أخيرة ونهائية يوم ماتت، بعد عشر سنوات من وصولي إلى الجزائر، بسرطان الكبد، وهي مستاءة من خياري بالذهاب للعيش في بلاد بعيدة عنها).
إن ما يمكن أن يلهمنا به جوزيف، وبشيء من الإصرار أن كل سعي لتحويل المراوغات الحكائية إلى يقين سيؤدي إلى موت ذلك الغائب الذي نحاول إيجاده، وأن ما نسعى لبنائه حقًا ليس أكثر من احتمال متغير، قد لا يحدده سوى ما تدعيه الشذرات المتأرجحة من إمكانيات مؤقتة للتماسك، أو بأنها على وشك الوصول إليه .. هذا بالضبط ما يشبه إطعامك لقطة صغيرة، كما كان يفعل جوزيف .. أن تعتني بحياة في بدايتها، تراقب تحولاتها دون أن تضمن ما ستصير إليه، فضلا عن تأكدك من حتمية موتها.
(وضعت الأوراق على حجري مجددًا، رتبتها بحسب ترقيمها، وطلبت منه، قبل أن أبدأ، أن يوقفني عند كل مقطع لا يعجبه، أن يطلعني على رأيه، أن يتدخّل كلما لزم الأمر، ويضيف من عنده أشياء تكون ربما وقعت سهوًا من الحكاية، وأن يساعدني على إكمالها، وسرد كل الأشياء المهمة وغير المهمة التي مرت في حياتنا ولم أنتبه إليها، أن نتم قصة الأربعين التي جمعتنا، قبل أن يتوقف قلبي عن النبض أو يتصل بي سعيد بن لخضر خطيبي كما وعدني، وأسلم له مخطوط إيزابيل إيبرهاردت، وأقطع بعدها مباشرة علاقتي بالأدب، أخبرته أن مخطوط الرحالة الملعونة ملك له أيضًا، أن يسلمه لابن لخضر بنفسه لو زارني عزرائيل هذا الأسبوع).
تخرج بنا الرواية من التاريخ إلى السلطة الغيبية المبهمة التي يبدو أنها تحكم بناء حكاياتنا مع الآخرين مهما كانت الخطوات التي سنتخذها لتحقيق ذلك، ومهما كانت المصائر التي ستنتهي إليها هذه الافتراضات .. كأنك حينما تكتب أو ترسم عن وجود محتمل مع آخر فإنك في الحقيقة تحفر داخل ما يشبه ذاكرة عامة للقهر، تستعمل هذه الرغبة التي تسيطر على أجسادنا في أن نكون أكثر من مجرد أفراد على وشك التبدد .. كأنك حينما تحاول تكوين سيرة جديدة مشتركة بين عالمك وحياة أخرى أملا في اكتشافات شاملة، تحرر بالضرورة كل ذات من كوابيسها فإنك تعيد صياغة نوع من العماء الحتمي الذي لا يكتفي بتحديد مسارات التباعد والانفصال، وإنما يهيمن كذلك على كافة التدابير التي يمكن اتخاذها من أجل خلق وجود مغاير، حتى لو تمثل هذا الوجود في كلمات مكتوبة، أو في خطوط وألوان.
هذا ما يمكن أن يمنحنا في الوقت نفسه شعورًا بإيمان خاص لدى الرواية بأن الأسرار المدوّنة في الأوراق واللوحات ـ في ظل خضوعها لهذا الاستبداد ـ هي الملامح الأكثر قربًا للعدم الذي لا يمكن التعرّف على وجهه .. بكل ما في الكلمات والخطوط والألوان من ارتباك ونقص وتشوّش، وحتى الخذلان الخبيث المتربص دائمًا في ثنايا النصوص والرسومات؛ يعلن دائمًا الظلام عن نفسه، كقرار أزلي محصن، لا يمكن إزاحته، أو الوصول إلى وصف مثالي لإقرارنا بوجوبه المطلق.
 جريدة (أخبار الأدب) ـ 1 / 10 / 2017