في مجموعته القصصية (قرب شجرة عالية) الصادرة حديثًا عن دار أزمنة للنشر والتوزيع يحوّل لؤي حمزة عباس الانشطار الذاتي إلي فن، إلي أسلوب جمالي لإعادة الميلاد خاصة عندما يصل العماء إلي حد ينكشف فيه داخل الوعي بوصفه اغتيالا.. لا يقوم الانشطار علي الصراع المعتاد بين كيانات متناثرة بقدر ما يبدو مشغولا بضرورة الوصول إلي صيغة تفاهمية منقذة بين هذه الكيانات.. إلي تحقيق حلم مبهم في الماضي لم ينجح في التحوّل إلي واقع حينما كانت الذات جسدًا واحدًا.. في قصة (طريق الغابة) نتتبع أثر الانفصال بين صديقين، اختفي أحدهما داخل شجرة عالية، وانتظر الآخر ظهوره سنوات طويلة حتي أصبح له ابنًا يحمل اسم الصديق الغائب في الشجرة العالية التي لم تُقطع، وتُركت محاطة بسياج قصير بجانبها أريكة يجلس عليها ذلك الذي ينتظر صاحبه، بينما يلعب صغيره حول السياج.. علينا تأمل هذا التطابق بين الصديقين منذ بداية القصة وحتي لحظة مصادفتهما للشجرة التي اختفي أحدهما فيها، وبقي الآخر ما تبقي من العمر في انتظاره كي نفكر في هذا الاحتياج القهري لذلك الذي واصل حياته في الدراسة والحرب مترقبًا عودة صديقه إلي التوحد مع هذا الأصل الأمومي الذي تنطوي عليه الشجرة.. كأن القصة أشبه بحلم للرجل الذي أصبح أبًا يعيد من خلاله إنتاج لحظة متخيلة في الذاكرة، يمكن أن ينشأ عنها مسار مغاير للقدر.. هذا ما يجعلنا نفكر في علاقة الطفل بالصديق الغائب.. هل سيتمكن هذا الطفل بعد موت الأب الذي يجلس في انتظار صاحبه المختفي داخل الشجرة في العثور علي السياق الرومانسي الملائم لعودة الذات إلي العالم، ويصبح حينئذ أي الطفل هو النسخة المخلّصة لهذا التاريخ بعد فناء النسخ البشرية السابقة؟
(كان شعور غريب يحثهما علي الاندفاع أبعد ما يمكن، من دون إحساس بالتعب أو الخوف، وفي وسط الغابة النقطة التي يمكن أن ندعوها وسط الغابة صادفتهما شجرة عالية، أعلي من أية شجرة، وبدافع من شعورهما الغريب توجها نحوها من دون أن يخففا سرعتيهما، انحرف أحدهما ومر إلي جانبها أما الآخر فلم ينحرف ودخل فيها).
في قصة (المشي في الليل) نلمس وجهًا آخر للانشطار؛ فالرجل الذي يحب المشي في كل وقت يقابل صبيًا يحمل مصباحًا يُعرف نفسه بأنه (يدل التائهين).. يقود الصبي هذا الرجل في الظلام ليعود به إلي منزله، ثم أصبح الرجل يري هذا الصبي في أماكن وأوقات مختلفة، في الشارع والبيت.. هي رغبة الرجل أو توسله بالأحري لأن ينفصل هذا الجزء الغامض من ذاته لينقذه من التوهان الذي لا يقتصر علي الشوارع والطرق المجهولة، بل وبدرجة أكبر من الظلام الذي يسكنه، ويمتد خارج جسده مهيمنًا علي الفراغ المحيط به، خاصة الفضاء الأكثر التصاقًا بنفسه داخل الحدود الضيقة للبيت.. قد يكون هذا الصبي وسيلة للتخاطب مع مصدر الظلام، للتفاوض معه، لاسترضائه، للثأر منه، وهو ما يذكرنا بالطفل في القصة السابقة، الوسيط المتحرر بين الذات والموت، الذي عليه محميًا بهذا الانقسام التوصّل إلي النجاة العسيرة علي الروح الواحدة المغلقة علي رعبها الخاص.. إن العالم يتحوّل بواسطة هذا الانشطار إلي مرآة للوعي، يتمثل فيها الإحباط المراوغ، والفكرة الملتبسة للحصول علي ملاذ، دون أن يكون لهذه المرآة إطار ملزم تنتهي عنده؛ إذ ينجم عن الطبيعة الرمزية للانشطار نوع من الانبعاث المطلق للذات في الزمن بحثًا عن تسويات غير تقليدية.
(يفنح النافذة لينظر كعادته إلي الشارع فيراه مارًا علي الرصيف المقابل، لم يتوقف أو يرفع رأسه ليبادله النظر، فتح باب الحمام هذا الصباح فرآه يخرج منه وتجنب الاصطدام به).
في قصة (أعمي بروغل) نجد التلازم الذي سبق وأشرت إليه بين الانشطار والعماء؛ فبطل الرماية يجرّب إغماض العينين كوسيلة لإبصار ما لم تتمكن الرؤية العادية من إدراكه وهو ما يمكن اعتباره بشكل ما اكتشاف الأسرار الحاسمة للذاكرة التي تتجاوز ماضيه الشخصي.. نصادف أثناء هذا العماء المقصود نفس العناصر التي تشكل فيما بينها ما يشبه غريزة قصصية للمجموعة: (الصبي الظلام الانشطار):
(تزداد مخاوفه مع كل خطوة وترتجف يداه فينصت بكامل قدرته لما حوله، ليس سوي أذنه تقوده في دروب مخاوفه، لكنها تفزعه هي الأخري، تمضي به لسنوات يري نفسه فيها صبيًا زلّت به قدمه فتهاوي في حفرة عميقة مظلمة، يسمع صرخته البعيدة كما لو كانت صرخة صبي سواه).
كأنها عودة متكررة (إعادة ميلاد) لا تنتهي للحظة سابقة (الصبي الذي يتهاوي في الظلام) تمر عبر القصص، ويحاول الصبي المنفصل عن الذات من خلالها أن يروّض الفكرة غير المرئية للكابوس.. يتحوّل انشطار بطل الرماية إلي جزء من انشطار أكبر وهو انشطار بروغل إلي عميانه حيث توزعت ملامحه علي وجوههم.. تتجه القصة بهذه الكيفية إلي المنحي الأسطوري، الغرائبي، ليس فقط من أن أجل تثبيت كل عمي كجزء من خبرة جماعية فوق الواقع فحسب، وإنما لتأكيد خضوعها الماورائي لحقيقة غيبية غير قابلة للتخاذل.
(إنهم أشد وضوحًا وهم يواصلون السير نحو هدف ظل بالنسبة له بعيدًا وغير مرئي. قبل أن يصحو بوقت قصير يعرف أنهم عميان الصورة يواصلون مسيرهم المتعثر من حقل إلي حقل، وأنه بينهم، رأسه مرفوعة تميل إلي الجانب كما لو كان ينصت لنداء بعيد).
مثلما يذكرنا (النداء البعيد) بالشجرة والمصباح في يد الصبي، سيذكرنا أيضًا بالطيور التي لا تُري، وارتباطها بالانشطار.. لكن في قصة (أنت لست سمكة) سيرتبط هذا الانفصال عن الذات بتجسّد بديل يتجاوز الحضور البشري؛ فالصبي يمكن أن يكون مسحاة، أو ترابًا، أو قطارًا للجرحي أو أي حيوان أو نبات أو جماد، وذلك خلال المضي داخل (الظلام).. هذا ليس مجرد تقمّص وجداني للطبيعة، وإنما قد يكون أقوي تعبير عن تعاطف الذات مع نفسها.. إدراك الروح للترهات التي تسيطر علي وجودها.. الوفاء لمقاومة حتمية خارج الأطر المصطنعة، القاتلة بطبيعة الحال.
(يشعر حال تمدده علي السرير وقد غرق العالم في صمت أول الليل بأنه ليس هو، إنما هو الجدجد الذي أطل برأسه من حفرة ضيقة في حديقة المنزل، عينان صغيرتان تتفحصان العالم، تنظران نحو العشب وقد نسج فوقهما سقوفًا خفيضة معتمة، إنه يدرك بفطرته الدودية إنها نظرته الأخيرة لكل ما حوله فلم تعد تفصله عن ضربة المنقار الموجعة سوي لحظات وها هو يقطع خطواته الأولي باتجاهها ساحبًا جسده من رطوبة الحفرة محركًا أقدامه الصغيرة المشعّرة وقد أغمض عينيه في سلام).
حسنًا.. بهذه الطريقة يمكن لأي منا أن ينشطر ليتمثل جزءا من نفسه في كلب بقائمتين خلفيتين مهروستين.. يمكن للظلام أن يكون النمل الذي يزحف من عيني صبية اسمها (فاطمة).. يمكن أن تمثل هذه الطفلة قلب جندي يتواصل أنينه داخل حفرة في ليل الحرب.. هل انتبهنا للتبادل الأقرب إلي هوس كوني؟.. هل لاحظنا التواطؤ الجماعي علي الانشطار والتجسّد في صور بديلة، والتحولات المستمرة للتمثّل؟.. هل علينا الاعتراف الآن بأن كل انقسام هو نبوءة لانقسام آخر؟.. نقرأ في قصة (حكاية فاطمة):
(لحظات تلتمع فيها عينا الجندي المجهدتان كأنه ينظر بعيدًا في الزمن فيري أشياءً مبهمة تحت سماء بغيوم دكناء، أشجارًا تتحرك، تميل قليلًا وهي تنتقل من مكان إلي مكان، وحيوانات تزحف علي الرمال، وهو يواصل الحلم بصبية لم تولد بعد علامتها الفارقة أسراب من النمل تتوالد من عينيها، يحكي مع نفسه كما لو كان يتوعد أرواحنا: سترونها تطل من نافذة منزلها، جموعكم تملأ الشارع من أجل رؤية صبية تتعذب).
يطوّر لؤي حمزة عباس هذه اللعبة ليجعل من كل نبوءة تتحقق ما يشبه تعريفًا أصليًا للوجود الذاتي يستبعد الأوهام المشوّشة الأخري.. يمكن لتجسّد ما أن يكون (الحكاية العابرة) التي تختصر حياة صاحبها.. في قصة (كل منا حكاية عابرة) وبمسايرة الحكمة السابقة يمكننا التفكير في ماهية الرعب الذي أغلقت عليه الروح.. أن الموت ببساطة يمكن أن يكون هو حكاياتك العابرة مثل الجدة التي صدمتها سيارة أجرة مسرعة وهي تعبر الشارع.. لم لا؟.. الموت هو الذي يستدعي كافة الحكايات العابرة الأخري الانتقائية التي ستعد هوية دامغة لمرورك في الدنيا.. هنا يظهر الجانب الجمالي في الانشطار.. أنه لا يبقي الجسد الميت مجرد جثة، بل يجعل من (حكايته العابرة) احتمالات غير منتهية، بقدر التبادلات والتحولات التي ستنتهجها الذات في إعادة التمثّل أو بالمعني المقترن بها إعادة الميلاد.
(إنها ليست هي طالما كانت تشبه أمه أو جدته إلي هذا الحد، إنها ليست هي علي أية حال، ذلك ما يبدو واثقًا منه بعد محاولات عصية للتذكر لم يكن يخرج منها إلا بملامح زائفة لسيدات مررن في حياته وتركن ملامحهن علي نهر أيامها، لكن الحكاية أقوي من الأسماء عادةً، أبقي من الملامح والوجوه).
هل يمكن أن يكون التجسيد الوهمي للبقاء في الحياة وتفادي الموت أن يتحقق في فرد واحد استجابة لحلم جماعي أو انشطارات بشرية مختلفة تحاول الانتقام من عمائها في هذا الفرد؟.. في قصة (وقت التسلية) يدفن الناس رجل التسلية في حفرة لأكثر من خمس عشرة دقيقة ثم يبصرون وجوده حيًا بعد إزاحة التراب.. كأن هذا الحلم الذي يمنحه هذا الرجل الذي لا يسأله أحد عن اسمه للآخرين هو تأكيد متوهم أو ادعاء رمزي لنجاحهم غير المنجز في الخروج من قبورهم.. هي مجرد تسلية يحتاجها أولئك الذين ساهمت انقسامات أجسادهم في تكوين جسد هذا الرجل الذي لا يريد أحد الاقتراب منه أو التحدث معه لأنه نسخة منهم، مكرّسة لجعل عيونهم تري (صورة) لخلاصهم غير الحقيقي من الفناء.. أن يروا أنفسهم علي النقيض من الواقع وقد استطاعوا الخروج من تحت تراب الماضي أحياءً دون أن يُعطّل هذا الخلود المزيف إلا موت فعلي لأحدهم، الذي ربما سيساهم في الموت التدريجي لرجل التسلية.
(وقد يبالغ بعض الظرفاء فيقضون الدقائق الخمس عشرة بتعديل التراب فوقه باحتراف وتأنٍ بعد رشه بقليل من الماء، كما يفعلون مع القبور عادة، حتي إذا مرت الدقائق وسط صمت الجمهور وتحسبهم أخذوا يحفرون بهمة، ومع اجتيازهم نصف عمق الحفرة أو أكثر بقليل يلقون بأدواتهم علي الحافة ويواصلون الحفر بأيديهم).
أحب التفكير في أن لؤي حمزة عباس قد جعل كل منا يجلس علي هذه الأريكة المجاورة للشجرة العالية في انتظار صديقه.. في انتظار نفسه المنقذة، أو حكاياته العابرة المنشطرة وقد حصلت علي الثمن الذي تستحقه.. إنه الوقت الذي يمكن لأي منا أن يقضيه في التساؤل: هل هناك مكان أو زمن ما خارج العالم تتجمع فيه كافة الحكايات العابرة لتكوّن رصيدًا من الخلود الحقيقي سيمكن بلوغه في لحظة ما؟.. إلي أي مدي سيواصل العماء احتفاظه بهذا الخلود الذي يعتني بالفناء التدريجي لأجسادنا؟.. ربما كل ما نمتلكه من (إعادة الميلاد) ليس أكثر من الخيال الذي ينسج الحكايات المتعاقبة، واحدة إثر الأخري، كطفل صغير يلعب حول الشجرة، ويحمل اسم الذات التي غابت داخلها.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 2 / 9 / 2017
(كان شعور غريب يحثهما علي الاندفاع أبعد ما يمكن، من دون إحساس بالتعب أو الخوف، وفي وسط الغابة النقطة التي يمكن أن ندعوها وسط الغابة صادفتهما شجرة عالية، أعلي من أية شجرة، وبدافع من شعورهما الغريب توجها نحوها من دون أن يخففا سرعتيهما، انحرف أحدهما ومر إلي جانبها أما الآخر فلم ينحرف ودخل فيها).
في قصة (المشي في الليل) نلمس وجهًا آخر للانشطار؛ فالرجل الذي يحب المشي في كل وقت يقابل صبيًا يحمل مصباحًا يُعرف نفسه بأنه (يدل التائهين).. يقود الصبي هذا الرجل في الظلام ليعود به إلي منزله، ثم أصبح الرجل يري هذا الصبي في أماكن وأوقات مختلفة، في الشارع والبيت.. هي رغبة الرجل أو توسله بالأحري لأن ينفصل هذا الجزء الغامض من ذاته لينقذه من التوهان الذي لا يقتصر علي الشوارع والطرق المجهولة، بل وبدرجة أكبر من الظلام الذي يسكنه، ويمتد خارج جسده مهيمنًا علي الفراغ المحيط به، خاصة الفضاء الأكثر التصاقًا بنفسه داخل الحدود الضيقة للبيت.. قد يكون هذا الصبي وسيلة للتخاطب مع مصدر الظلام، للتفاوض معه، لاسترضائه، للثأر منه، وهو ما يذكرنا بالطفل في القصة السابقة، الوسيط المتحرر بين الذات والموت، الذي عليه محميًا بهذا الانقسام التوصّل إلي النجاة العسيرة علي الروح الواحدة المغلقة علي رعبها الخاص.. إن العالم يتحوّل بواسطة هذا الانشطار إلي مرآة للوعي، يتمثل فيها الإحباط المراوغ، والفكرة الملتبسة للحصول علي ملاذ، دون أن يكون لهذه المرآة إطار ملزم تنتهي عنده؛ إذ ينجم عن الطبيعة الرمزية للانشطار نوع من الانبعاث المطلق للذات في الزمن بحثًا عن تسويات غير تقليدية.
(يفنح النافذة لينظر كعادته إلي الشارع فيراه مارًا علي الرصيف المقابل، لم يتوقف أو يرفع رأسه ليبادله النظر، فتح باب الحمام هذا الصباح فرآه يخرج منه وتجنب الاصطدام به).
في قصة (أعمي بروغل) نجد التلازم الذي سبق وأشرت إليه بين الانشطار والعماء؛ فبطل الرماية يجرّب إغماض العينين كوسيلة لإبصار ما لم تتمكن الرؤية العادية من إدراكه وهو ما يمكن اعتباره بشكل ما اكتشاف الأسرار الحاسمة للذاكرة التي تتجاوز ماضيه الشخصي.. نصادف أثناء هذا العماء المقصود نفس العناصر التي تشكل فيما بينها ما يشبه غريزة قصصية للمجموعة: (الصبي الظلام الانشطار):
(تزداد مخاوفه مع كل خطوة وترتجف يداه فينصت بكامل قدرته لما حوله، ليس سوي أذنه تقوده في دروب مخاوفه، لكنها تفزعه هي الأخري، تمضي به لسنوات يري نفسه فيها صبيًا زلّت به قدمه فتهاوي في حفرة عميقة مظلمة، يسمع صرخته البعيدة كما لو كانت صرخة صبي سواه).
كأنها عودة متكررة (إعادة ميلاد) لا تنتهي للحظة سابقة (الصبي الذي يتهاوي في الظلام) تمر عبر القصص، ويحاول الصبي المنفصل عن الذات من خلالها أن يروّض الفكرة غير المرئية للكابوس.. يتحوّل انشطار بطل الرماية إلي جزء من انشطار أكبر وهو انشطار بروغل إلي عميانه حيث توزعت ملامحه علي وجوههم.. تتجه القصة بهذه الكيفية إلي المنحي الأسطوري، الغرائبي، ليس فقط من أن أجل تثبيت كل عمي كجزء من خبرة جماعية فوق الواقع فحسب، وإنما لتأكيد خضوعها الماورائي لحقيقة غيبية غير قابلة للتخاذل.
(إنهم أشد وضوحًا وهم يواصلون السير نحو هدف ظل بالنسبة له بعيدًا وغير مرئي. قبل أن يصحو بوقت قصير يعرف أنهم عميان الصورة يواصلون مسيرهم المتعثر من حقل إلي حقل، وأنه بينهم، رأسه مرفوعة تميل إلي الجانب كما لو كان ينصت لنداء بعيد).
مثلما يذكرنا (النداء البعيد) بالشجرة والمصباح في يد الصبي، سيذكرنا أيضًا بالطيور التي لا تُري، وارتباطها بالانشطار.. لكن في قصة (أنت لست سمكة) سيرتبط هذا الانفصال عن الذات بتجسّد بديل يتجاوز الحضور البشري؛ فالصبي يمكن أن يكون مسحاة، أو ترابًا، أو قطارًا للجرحي أو أي حيوان أو نبات أو جماد، وذلك خلال المضي داخل (الظلام).. هذا ليس مجرد تقمّص وجداني للطبيعة، وإنما قد يكون أقوي تعبير عن تعاطف الذات مع نفسها.. إدراك الروح للترهات التي تسيطر علي وجودها.. الوفاء لمقاومة حتمية خارج الأطر المصطنعة، القاتلة بطبيعة الحال.
(يشعر حال تمدده علي السرير وقد غرق العالم في صمت أول الليل بأنه ليس هو، إنما هو الجدجد الذي أطل برأسه من حفرة ضيقة في حديقة المنزل، عينان صغيرتان تتفحصان العالم، تنظران نحو العشب وقد نسج فوقهما سقوفًا خفيضة معتمة، إنه يدرك بفطرته الدودية إنها نظرته الأخيرة لكل ما حوله فلم تعد تفصله عن ضربة المنقار الموجعة سوي لحظات وها هو يقطع خطواته الأولي باتجاهها ساحبًا جسده من رطوبة الحفرة محركًا أقدامه الصغيرة المشعّرة وقد أغمض عينيه في سلام).
حسنًا.. بهذه الطريقة يمكن لأي منا أن ينشطر ليتمثل جزءا من نفسه في كلب بقائمتين خلفيتين مهروستين.. يمكن للظلام أن يكون النمل الذي يزحف من عيني صبية اسمها (فاطمة).. يمكن أن تمثل هذه الطفلة قلب جندي يتواصل أنينه داخل حفرة في ليل الحرب.. هل انتبهنا للتبادل الأقرب إلي هوس كوني؟.. هل لاحظنا التواطؤ الجماعي علي الانشطار والتجسّد في صور بديلة، والتحولات المستمرة للتمثّل؟.. هل علينا الاعتراف الآن بأن كل انقسام هو نبوءة لانقسام آخر؟.. نقرأ في قصة (حكاية فاطمة):
(لحظات تلتمع فيها عينا الجندي المجهدتان كأنه ينظر بعيدًا في الزمن فيري أشياءً مبهمة تحت سماء بغيوم دكناء، أشجارًا تتحرك، تميل قليلًا وهي تنتقل من مكان إلي مكان، وحيوانات تزحف علي الرمال، وهو يواصل الحلم بصبية لم تولد بعد علامتها الفارقة أسراب من النمل تتوالد من عينيها، يحكي مع نفسه كما لو كان يتوعد أرواحنا: سترونها تطل من نافذة منزلها، جموعكم تملأ الشارع من أجل رؤية صبية تتعذب).
يطوّر لؤي حمزة عباس هذه اللعبة ليجعل من كل نبوءة تتحقق ما يشبه تعريفًا أصليًا للوجود الذاتي يستبعد الأوهام المشوّشة الأخري.. يمكن لتجسّد ما أن يكون (الحكاية العابرة) التي تختصر حياة صاحبها.. في قصة (كل منا حكاية عابرة) وبمسايرة الحكمة السابقة يمكننا التفكير في ماهية الرعب الذي أغلقت عليه الروح.. أن الموت ببساطة يمكن أن يكون هو حكاياتك العابرة مثل الجدة التي صدمتها سيارة أجرة مسرعة وهي تعبر الشارع.. لم لا؟.. الموت هو الذي يستدعي كافة الحكايات العابرة الأخري الانتقائية التي ستعد هوية دامغة لمرورك في الدنيا.. هنا يظهر الجانب الجمالي في الانشطار.. أنه لا يبقي الجسد الميت مجرد جثة، بل يجعل من (حكايته العابرة) احتمالات غير منتهية، بقدر التبادلات والتحولات التي ستنتهجها الذات في إعادة التمثّل أو بالمعني المقترن بها إعادة الميلاد.
(إنها ليست هي طالما كانت تشبه أمه أو جدته إلي هذا الحد، إنها ليست هي علي أية حال، ذلك ما يبدو واثقًا منه بعد محاولات عصية للتذكر لم يكن يخرج منها إلا بملامح زائفة لسيدات مررن في حياته وتركن ملامحهن علي نهر أيامها، لكن الحكاية أقوي من الأسماء عادةً، أبقي من الملامح والوجوه).
هل يمكن أن يكون التجسيد الوهمي للبقاء في الحياة وتفادي الموت أن يتحقق في فرد واحد استجابة لحلم جماعي أو انشطارات بشرية مختلفة تحاول الانتقام من عمائها في هذا الفرد؟.. في قصة (وقت التسلية) يدفن الناس رجل التسلية في حفرة لأكثر من خمس عشرة دقيقة ثم يبصرون وجوده حيًا بعد إزاحة التراب.. كأن هذا الحلم الذي يمنحه هذا الرجل الذي لا يسأله أحد عن اسمه للآخرين هو تأكيد متوهم أو ادعاء رمزي لنجاحهم غير المنجز في الخروج من قبورهم.. هي مجرد تسلية يحتاجها أولئك الذين ساهمت انقسامات أجسادهم في تكوين جسد هذا الرجل الذي لا يريد أحد الاقتراب منه أو التحدث معه لأنه نسخة منهم، مكرّسة لجعل عيونهم تري (صورة) لخلاصهم غير الحقيقي من الفناء.. أن يروا أنفسهم علي النقيض من الواقع وقد استطاعوا الخروج من تحت تراب الماضي أحياءً دون أن يُعطّل هذا الخلود المزيف إلا موت فعلي لأحدهم، الذي ربما سيساهم في الموت التدريجي لرجل التسلية.
(وقد يبالغ بعض الظرفاء فيقضون الدقائق الخمس عشرة بتعديل التراب فوقه باحتراف وتأنٍ بعد رشه بقليل من الماء، كما يفعلون مع القبور عادة، حتي إذا مرت الدقائق وسط صمت الجمهور وتحسبهم أخذوا يحفرون بهمة، ومع اجتيازهم نصف عمق الحفرة أو أكثر بقليل يلقون بأدواتهم علي الحافة ويواصلون الحفر بأيديهم).
أحب التفكير في أن لؤي حمزة عباس قد جعل كل منا يجلس علي هذه الأريكة المجاورة للشجرة العالية في انتظار صديقه.. في انتظار نفسه المنقذة، أو حكاياته العابرة المنشطرة وقد حصلت علي الثمن الذي تستحقه.. إنه الوقت الذي يمكن لأي منا أن يقضيه في التساؤل: هل هناك مكان أو زمن ما خارج العالم تتجمع فيه كافة الحكايات العابرة لتكوّن رصيدًا من الخلود الحقيقي سيمكن بلوغه في لحظة ما؟.. إلي أي مدي سيواصل العماء احتفاظه بهذا الخلود الذي يعتني بالفناء التدريجي لأجسادنا؟.. ربما كل ما نمتلكه من (إعادة الميلاد) ليس أكثر من الخيال الذي ينسج الحكايات المتعاقبة، واحدة إثر الأخري، كطفل صغير يلعب حول الشجرة، ويحمل اسم الذات التي غابت داخلها.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 2 / 9 / 2017