الخميس، 1 فبراير 2024

ما لا يتحقق على الإطلاق



كنت طفلًا حينما اكتشفت أن أبي حينما يخلع طقم أسنانه في الليل يتحوّل إلى شخصية أخرى. لا أقصد الاختلاف الذي يطرأ على شكل فمه نتيجة لهذا، وإنما الاكتساب العفوي لطبيعة مناقضة ـ ربما تكون طبيعته الأصلية ـ عن تلك التي يعيش بها معظم اليوم. كان أبي صارمًا، حاد الطباع، علاقته بي منقسمة بين التهديد والعقاب (صفعات ثقيلة من النوع الحارق لعظام الوجه)، لكن خلال ذلك الوقت القصير الذي يسبق نومه، ويكون فيه مجردًا من أسنانه الأمامية؛ يصبح إنسانًا آخر: هادئًا، وديعًا، يتطلع إلينا بنظرات مسالمة دون أن يتكلم، أو لا ينطق إلا بكلمات قليلة، فارغة من الأذى. كنت أقضي يومي انتظارًا لهذه اللحظة التي أدركت سرها: موعد نزع طقم الأسنان من فم أبي. بالضرورة؛ فإن الكوب الأبيض الطفولي بزهوره الملونة الصغيرة، المطبوعة على جداره الخارجي الناعم، وكان مستقرًا فوق الكومودينو المجاور لسرير أبي، ومخصصًا لمحلول التنظيف الذي يبيت فيه طقم أسنانه حتى الصباح؛ لم يعد ذلك الكوب متنافرًا بالنسبة لي مع ما يحمله. أصبح الكوب الطفولي متسقًا مع طقم الأسنان؛ إذ بدا الأمر كأن مصاص دماء عجوز يُريح أنيابه كل ليلة داخل ما يُمثّل طفولته المفقودة.

انطلاقًا من هذا الاكتشاف؛ بدأت أفكر في ما يمكن انتزاعه من جسد كل فرد في أسرتي حتى يصبح شخصًا ودودًا. ما الذي يعادل طقم أسنان أبي لدى أمي وأختي الكبرى وشقيقي الآخر؟ فكرت في أن عيني أمي هما أكثر ما يُجسد غضبها تجاهي. عينان صغيرتان، مرتعشتان، تنكمشان وراء عدستين سميكتين لنظارة ملتصقة بوجهها أغلب الوقت. أثناء توبيخها المتوعد لي؛ كنت أبصر في هاتين العينين مزيجًا وحشيًا من الخذلان والتوسل والخوف والحيرة واليأس. كان ذلك أكثر ما يجرحني في نظرتها الغاضبة، ولذا كان منطقيًا أن أتساءل في نفسي: ماذا لو فقدت أمي عينيها؟

كانت أختي الكبرى تصرخ في وجهي دائمًا. لم تكن تحتاج سببًا لهذا أكثر من رغبتها الحتمية في إطلاق صيحتها الأوبرالية الثائرة انتهازًا لوجودي أمامها. صوت جحيمي، يجتاح جسدي كمنشار كهربائي لا يمكن تعطيله أو التنبؤ باللحظة التي سيمزقني فيها. كانت أشبه بساحرة شريرة تسكنها أرواح آلاف المعذبات، وتمتزج آلامهن فجأة في صرخة واحدة، يسهل على الجيران في البناية، والعابرين أسفل الشرفة سماعها بوضوح تام. كان منطقيًا إذن أن أتساءل في نفسي: ماذا لو فقدت أختي الكبرى صوتها؟

كان شقيقي الآخر يخاطبنا بيديه وقدميه. يرفض أبي إعطاءه نقودًا فيلطم الأكواب والأطباق والفازات ومطافئ السجائر الزجاجية لتسقط من فوق الطاولات مهشمة ومتناثرة على الأرض. تعاتبه أمي على خطأ ما فيضرب بقدمه أبواب الحجرات، وأحيانًا باب الثلاجة فيحطمها أو يترك أثرًا غائرًا في سطحها. كنت أسرع بالاختباء حينئذ في الشرفة مغلقًا ضلفتيها من الخارج على ارتجاف جسدي، حيث أظل جالسًا بين أصص الريحان واللبلاب بدقات قلب متلاحقة حتى أسمع صوت باب الشقة يُفتح ويُقفل بعنف فأعرف أنه قد غادر المنزل. كان شبحًا مروِّعًا يعيش معنا؛ ولذا كان منطقيًا أن أتساءل في نفسي: ماذا لو فقد شقيقي الآخر يديه وقدميه؟

ذات ليلة وأنا ممدد في سريري قبل النوم، وبعينين مغمضتين تخيلت كل شيء. ما ستصير إليه الحياة لو فقد أبي أسنانه، وأمي عينيها، وأختي الكبرى صوتها، وشقيقي الآخر يديه وقدميه. كنت كأنما أتخيل نفسي داخل فردوس صغير من قصص مصوّرة.

في الصباح التالي شعر أبي بوجع لا يُحتمل عندما أعاد طقم الأسنان إلى فمه فاضطر لخلعه. لم تفلح المسكنات في علاج ذلك الألم الذي كان يختفي فورًا بمجرد نزع الطقم. حتى الطبيب الذي ذهب إليه؛ لم يجد لديه سوى الدهشة العاجزة أمام هذه الحالة فأُجبر على إبقاء فمه خاليًا من الطقم أملًا في التوصل إلى حل حاسم أو انتهاء ذلك الوضع المباغت والغريب من تلقاء نفسه. لم أعط اهتمامًا كبيرًا للأمر أكثر من أنني سأعيش في راحة “مؤقتة” من طباعه العدائية حتى يتمكن من إعادة طقم الأسنان إلى فمه مجددًا دون وجع. لكن الشك أخذ ينتابني عندما بدأت أمي في الوقت ذاته تشتكي من ضعف متزايد في نظرها الواهن أصلًا. تحوّل الشك إلى ذهول حاد عندما أصبح صوت أختي الكبرى مختنقًا، تتضاءل قوته بتدرج متسارع إلى أن صار خافتًا للغاية. اكتملت الصدمة في داخلي حينما تحدث شقيقي الآخر إلينا ـ وكان نادرًا أن يتكلم معنا بهذه النبرة القلقة المترجية ـ عن شعوره بتنميل في أطرافه، وأن قدرته على التحكم في حركتها تنسحب بشكل متصاعد. أدركت أنني في الليلة السابقة لم أكن أتخيل وإنما أتمنى، وأن القدر قد وجد في هذه الأمنية عدلًا بديهيًا فحققها من أجلي. كنت أشعر بأن ما وقع لأسرتي يُغنيني عن أي أمنيات أخرى.

ظللت أراقب أحوالهم، متأرجحًا بين البهجة والأسف، حتى وصل الأمر إلى نهايته: أصبح أبي بلا أسنان، وأمي دون بصر، وأختي الكبرى مسلوبة الصوت، وشقيقي الآخر غير قادر على تحريك يديه وقدميه. اكتملت المأساة ومعها اكتملت سعادتي. لم يعد هناك مكان للحزن في قلبي على ما أصابهم بعد أن بدأت أحصد نتائجه. تحولوا جميعًا إلى كائنات لطيفة، تعاني بشدة، ورغم ذلك لا يبدر منها إساءة أو إزعاج لي. أصبحت حياتنا كما تخيلتها تمامًا، أو كما تمنيتها بمعنى أدق: فردوسًا آمنًا صغيرًا، تشاركني عاهات مهذبة في مشاهده وأحداثه، يخدمون بعضهم دون مطالبتي بشيء، وبلا ضغائن مضمرة أو شر متوقع.

لكن بعد فترة قصيرة لاحظت تغييرًا غامضًا في عيني أبي. بدا كأنهما تتبدلان إلى عينين مغايرتين، سرعان ما اكتشفت أنهما عينا أمي. لم أتمكن من استيعاب ذلك. أصبحت عينا أمي كما كانتا كليًا في وجه أبي الفارغ من أسنانه الأمامية. في المقابل ـ وهو ما كان بمقدوري التنبؤ به ـ راحت أمي تستخدم ضدي نفس كلمات التهديد التي كان يستعملها أبي، وبالرغم من عمائها؛ كانت كفها قادرة على الوصول إلى وجهي لتصفعه بنفس القوة التي تمتلكها يد أبي، وبالتالي كانت تحفر التأثير ذاته. نعم؛ أصبحت أختي الكبرى تحطم بيديها الأشياء الزجاجية، وتكسر قدماها الأبواب وهي صامتة تمامًا، وبالتزامن مع هذا؛ صار شقيقي الآخر يصرخ بذلك الصوت المدمّر الذي كانت تمتلكه أختي الكبرى من داخل الفراش الذي لا يبرحه جسده المشلول.

أدركت أنها لعنة خبيثة، لا يمكنني تصديقها أو التعايش معها. لكنني فكرت في أن الأمر بدأ بتخيُّل. مجرد تخيُّل عابر قبل النوم تحوّل إلى حقيقة قاتلة. لماذا إذن لا أحاول إنهاء هذه اللعنة بتخيُّل آخر عسى أن تكون استجابة القدر نزيهة هذه المرة دون خداع؟ أن يجرّب خيالي منحهم سمات وطبائع وأشكالًا أخرى، ومن ثمّ حيوات جديدة، أو على الأقل إعادتهم كما كانوا؟

ليلة بعد أخرى قبل النوم؛ ظللت أتخيّل صورًا مختلفة لكل شخص، مسارًا بديلًا لوجوده، لكن لم يتغيّر أي شيء، حتى أصبحت عاجزًا عن النوم بينما أغادر طفولتي بلا انتباه لذلك. في النهاية أدركت أن اللعنة أبدية، وأن متعتي الفعلية تكمن فيما لا يتحقق على الإطلاق.