الخميس، 1 فبراير 2024

الضفة الأخرى من النهر

لا يستطيع الجلوس وخلفه فراغ .. لابد أن يكون المقعد الذي يجلس عليه مستندًا إلى حائط أو جدار .. خاصة حينما يكون وحده وراء باب مغلق ونوافذ موصدة .. أمران متلازمان يحدثان إذا ما اضطر للجلوس معطيًا ظهره لمساحة خالية: يشعر أن سكينًا كبيرًا وحادًا يغرز في قلبه من الخلف بينما صورة أبيه الميت تحضر فجأة في ذهنه وهو يقول له أثناء سيرهما لمرة وحيدة على كورنيش النيل: انظر إلى الضفة الأخرى .. بين التلفت حوله لمراوغة النصل اللامع المقترن بوجه أبيه في تلك النزهة المسائية القديمة، وبين إغماض عينيه بقوة مع شعوره باختراق السكين لقلبه، وإطباق مشهد سيره الطفولي المتمهل بجوار أبيه الذي توقف فجأة ليشير إلى ظلام الناحية المقابلة من النهر على وعيه؛ بين هذا وذاك تمر لحظات جلوسه المنتفض .. لذا، كلما مر في نفس المكان ونظر إلى الضفة الأخرى ـ خصوصًا في الليل ـ يشعر أن نسخًا متناسلة من جثته مدفونة هناك، وأن أباه مازال حيًا .. لا يتيقن أن أباه ميتًا حقًا إلا حينما يجلس مستندًا إلى حائط أو جدار حيث يمكنه حينئذ أن يتذكره في أي صورة أخرى من الماضي .. أن يسترجع أباه دون أن تقتحم نفسه ذكرى الكورنيش .. حيث يمكنه حينئذ أن يكرر حياتهما المشتركة بتبادل دوريهما في ضجيجها المؤقت .. أن يمسك بالسكين ويغرز في قلبه من الأمام نصله الملوّن بدم أبيه.

جزء من رواية قيد الكتابة