“لا يوجد كتب أخلاقية وأخرى غير أخلاقية. ثمة كتب أُلِّفت على نحو جيد، وأخرى على نحو رديء، ولا شيء غير ذلك”.
يستبعد أوسكار وايلد “الأخلاق” كـ “معيار” لمقاربة الكتب “الحُكم عليها”، لكنه في المقابل لا يرفض، بل ينحاز وبحسم إلى معيار “الجودة” و”الرداءة” .. ذات أخرى تضع نفسها بعفوية غير مكلفة ـ كما هي العادة ـ كسلطة “تقييمية” مطلقة .. لا يفكر أوسكار وايلد عبر هذه المقولة في أن “الجيد” و”الرديء” يمثلانه فحسب في لحظة مؤقتة دون بداهة تعميمية، وأن الأمر سيكون مغايرًا لدى “قارئ” آخر، وبالتالي فإن فكرة “الجودة” و”الرداءة” نفسها مقياس متغير، وهمي، لا يتوقف عن إثبات زيفه مع كل اختلاف وتحوّل .. يذكرني أوسكار وايلد هنا بـ “آن لاموت” وما كتبته في مقال سابق عن كتابها “طائر إثر طائر”: (إنها لا تستخدم تعبيرات مثل “غياب التوافق” أو “فقدان الملاءمة” أو “عدم التناسب” مثلًا في حديثها عن “الكتابة”، وإنما تستعمل دون تردد مقاييس “الجودة والرداءة”، “الجمال والقبح”، “الصواب والخطأ”، وهو ما يشير إلى رضوخ أفكارها بشكل مطلق إلى “سلطة التقييم”، إلى عدم محاكمتها أو مسائلتها).
ثمة مقولة أخرى لأوسكار وايلد في الكتاب تنتمي إلى نفس السياق “التقييمي”:
“يمكن لأي كان أن يكتب رواية من ثلاثة مجلدات. جلّ ما يتطلبه الأمر هو جهل كامل بالحياة والأدب في آن معاً”.
يستبدل وايلد “الجودة والرداءة” بـ “المعرفة والجهل” .. وفقًا لأي سند؟ .. بالطبع أوسكار وايلد نفسه! .. ذاكرته وتجاربه وخبراته التي يُفترض منطقيًا أنها لا تجسد “حصيلة مستقرة ونهائية” في أي لحظة، مهما كان مستوى الثقة أو درجة الأمان التي تمنحها .. تستخدم الذات التي تحولت إلى “سلطة مطلقة” اللغة “التحقيرية” الملائِمة: “يمكن لأي كان” .. “الحياة والأدب” كما يحددهما أوسكار وايلد يمثلان معًا الشرط اللازم لرواية تحمي كاتبها من أن يُطلق عليه “أي كان”! .. لماذا؟ .. لأن ما يحدده أوسكار وايلد فقط هو “المعرفة الحقيقية”، وما دون ذلك ليس إلا “جهلًا كاملًا”! .. هكذا تستعرض الذات تعاليها البائس حين تعيّن نفسها معيارًا كونيًا.
لكن في “هكذا تكلم أوسكار وايلد” يمكننا العثور على مقولة أخرى ـ أو أكثر ـ تتكفل بنفسها بتفكيك المقولة السابقة:
“لا نجاة من الغواية إلا بالاستسلام لها”.
لو أن الكتابة “غواية”؛ هل ثمة قواعد للاستسلام لها؟ .. هل هناك مبادئ محددة تعطي الاستسلام لتلك الغواية صفة “الجودة”، وتثبت بالتالي أن الكاتب يمتلك “معرفة” بـ “الحياة والأدب”؟ .. ألن تكون أي محاولة لتكريس أيًا من هذه القواعد أو المبادئ لن تعدو أن تكون مجرد هزل فردي يكسب نفسه صفة القانون المطلق، ولا يتوقف عن فرض عموميته قسرًا والدفاع عنها، ومجابهة ما يغايرها؟ .. ألا تبقى “الغواية” ـ بما أنها كذلك ـ ذات طبيعة غامضة، مراوغة ومتمنعة، تقاوم وتسخر من التنميط والقولبة مهما كانت أشكال التوافق الجماعية المتعددة على إخضاعها لنموذج معين أو مثال ثابت؟ .. هكذا تفكك مقولة لأوسكار وايلد مقولة أخرى له؛ فقط الأمر يحتاج إلى خلخلة بصيرة “المتكلم” لاستنطاق ما سكتت عنه.
“المتعة هي الغاية الوحيدة التي يجب على الإنسان أن يعيش لأجلها، إذ لا شيء يشيخ مثل السعادة”.
مقولة أخرى لأوسكار وايلد في كتابه، تفكك انحيازه التقييمي .. إذا كانت الكتابة هي المتعة الوحيدة التي يعيش كاتب ما لأجلها؛ هل يجب أن تكون محكومة بشروط انتقائية لكي تكون “متعة جيدة”، وألا تصبح “متعة رديئة”؟ .. أي شروط؟ .. ولماذا ينبغي الالتزام بها؟ .. أليست متعة الكتابة أمرًا شخصيًا، وأي “شرط” يبقى مرهونًا بتلك الخصوصية؟ .. ألا يفسد المتعة فرض الشروط؟ .. ألا تتبدل الشروط دائمًا ـ حتى بالنسبة للكاتب نفسه ـ بما يجعل الكفاح لترسيخ قائمة صارمة وأبدية لها تعيسًا، ومثيرًا للتهكم؟ .. أليس في رضوخ المتعة إلى “معرفة” ما، تحاشيًا للاتسام بـ “الجهل” يحوّلها إلى منهج مقيّد؟ .. أليست كل “معرفة” تسعى للاستيلاء على مفهوم “المتعة” تمارس نوعًا من التبطل “الجاهل”؟
يبدو الأمر كجدل خفي عند أوسكار وايلد، يمكن تفهمه ـ في إطار الأرق بالكتابة عمومًا ـ كورطة “مغوية”، بين الرغبة المكشوفة في “الصواب” المحصن من ناحية، والتقويض المستتر الذي يُظهِر علاماته في مواضع أخرى لكل ما يدعي الصواب من ناحية أخرى .. أن تعلن أفكارك ومشاعرك كما لو أنها الحقيقة؛ استحواذية وفاصلة .. أن تهدم هذه الشمولية التي تتقمصها أو تختبئ داخلها “مقولاتك”، بحيث تكون جانبًا جوهريًا من مطاردة كل ما يبدو “صحيحًا” بشكل احتكاري خارج الذات .. “اللعب” الذي تشير إليه هذه المقولة لـ “أوسكار وايلد” أيضًا في الكتاب:
“الحياة أكثر أهمية من أن نأخذها على محمل الجد”.
بقدر ما تبدو هذه المقولة انتصارًا ضمنيًا متوقعًا للغواية والمتعة؛ بقدر ما تلهم ـ على نحو مضاد لمقولات أخرى ـ بنوع من الحذر تجاه “المعيار” أو “المقياس” .. ألا تسمح ـ بقدر ما تستطيع ـ لسلطة ما أن تفسد المرح الذي تكمن فيه أهمية الحياة .. أي سلطة؟ .. التعريف الجازم لـ “الأخلاق والصداقة والحب والزواج والمجتمعات والطبقات والعقائد” .. امتلاك اليقين .. الإجابات القاطعة .. الخلاصات التفسيرية للوجود .. استبدال القواعد بقواعد أخرى .. التمثل في شخصية الفيلسوف الذي يوزع الحكمة لكي يهتدي بها الآخرون في الحياة.
إن أوسكار وايلد بإنتاجه “أقوالًا” تفكك أخرى له؛ فإنه يُبقي “القول” مفتوحًا على الجدل، إعادة التشكيل والبناء، تحكمه التعديلات والتبدلات اللانهائية ومن ثمّ ينزع عن تكوينه الاستقرار .. يظل القول غائبًا، مؤجلًا طوال الوقت.
هل هناك فرق بين أن تأتي المقولة على لسان أو بقلم أوسكار وايلد بصورة مباشرة، أو أن تنطق بها شخصية من أعماله الأدبية؟ .. قد يجيب هذا السؤال أو يكشف عن التقويض الذي تمارسه مقولات وايلد تجاه بعضها .. إن الكاتب يعيش لحظة اقتناع أو تصديق ولو عابرة لما تتفوّه به الشخصية، لأنه حينئذ لا يكون “أوسكار وايلد مثلًا”، وإنما الشخصية نفسها .. تكون الشخصية الأدبية واحدة من الشخصيات غير المحدودة التي تعيش في ذات الكاتب بكل التشابهات والتنافرات التي تتسم بها طبائعها .. هذا الاختلاف بين الشخصيات هو ما يقف وراء الإزاحة التي تمارسها كل شخصية تجاه مقولات الأخرى .. ما لا يجعل كل شخصية “تقول”، وإنما “تلعب بالقول” امتثالًا للغواية، لمتعة التقمص والخلخلة.
هل يمكن العثور في أعمال أوسكار وايلد على هذا “اللعب” بالمقولات؟
في قصة “أبو الهول بلا سر” على سبيل المثال، وهي إحدى القصص التي تناولتها في كتابي “هل تؤمن بالأشباح؟” عن كلاسيكيات القصة القصيرة، يكرر وايلد جملة واحدة كما لو أنها قول مأثور .. لكن هذه الجملة لم تكن في القصة اختزالًا لحقيقة أو لمعرفة ما، وإنما “دعابة” ذات مدلول عكسي، مناقض للتوقع:
“إن استخدام (أوسكار وايلد) بهذه الكيفية المعارضة يخالف ما يمكن نُطلق عليه التاريخ الشائع للرمز، ويخلق تاريخاً (أدبياً) مغايراً يعتمد على استعمال (وايلد) الخاص لهذا الرمز؛ حيث (تشير كلمات العمل الأدبي باستمرار إلى الإنسان الذي اختارها) بحسب (كليانث بروكس) في مقابلة عام 1975، وهنا أشعر بضرورة اقتراح تطابق بين الراوي و(أوسكار وايلد) .. إنني أريد استدعاء صفة الكاتب للراوي التي لم تتجل على نحو حاسم، وإن بدت القصة خالية تماماً من احتمالات الرفض لهذه الصفة .. يقول الراوي لصديقه في بداية حوارهما: (المرأة التي نعنيها هي التي تُحَب لا التي تُفهَم)، وهذا ما يجعل عبارة (لكنها في الواقع مثل “أبو الهول” بلا سر) في نهاية الحوار كذبة يريد الراوي بواسطتها التأكيد لصديقه بأن غموض المرأة الميتة التي أحبها أكثر وحشية مما يمكن تخيله .. إذا توفر لدينا قبول بالتفسير المخادع للراوي بأن السيدة (آلروي) كانت مولعة برغبة أن تبدو غامضة فإن الغموض سيظل قائماً، بل وسيزداد ثقلاً عند الاستفهام حول حقيقة الدوافع التي تقف وراء هذا الولع .. (أوسكار وايلد) لم يطرح افتراضات لمحاولة إضاءة الظلام الممتد وراء التبرير المباشر حيث لم يكن مهموماً بإذابة الوهم، وإنما كان حريصاً على ترك الفضاء غير المحدود الذي يتطلبه الخيال دون تقليص أي جزء منه .. هذا ما جعل الراوي يبدو كأنه ينسج حكاية أكثر من كونه يخوض محادثة .. لقد بدأت القصة مع قرار (أوسكار وايلد) استخدام (أبو الهول) بهذا الشكل، وبالتالي تحوّل الحوار من مادة خطابية بين صديقين إلى نص قائم على توتر الكذبة الختامية حول كون (أبو الهول) بلا سر .. كأن (أوسكار وايلد) يراهن على الكتابة عن الغموض أكثر من محوه في الواقع .. الكذبة الختامية بدت أقرب إلى دعابة لم يُكشف عن رد فعل صديق الراوي تجاهها، وهذا أيضاً لم يكن (أوسكار وايلد) معنياً به .. كان يريد منح المرأة ـ وليس السيدة (آلروي) تحديداً ـ صفة الغموض الأزلي، الذي ستظل أسراره حاضرة في التاريخ كغموض (أبو الهول) تماماً”.
إن الطريقة التي نسج بها أوسكار وايلد “دعابة الغموض” في هذه القصة من شأنها أن تدفعنا لإذابة الإحالات المباشرة التي تبدو مقصودة لأقواله، ليس فقط استنادًا على مقولات أخرى تنتج إحالات مناقضة، ولكن استنادًا على أعماله نفسها، وتحديدًا “التدابير المخادعة” التي تخلقها.
أخبار الأدب
4 فبراير 2024