الجمعة، 23 فبراير 2024

الزمن الفاصل بين الحكايات

أريدك أن أخبرك بسر، لم أكشفه لأحد فقط بل خبأته ذاكرتي أيضًا عن نفسي طوال أربعين سنة .. ذات يوم كنت أجلس بجانب أبوينا بينما يتبادلان الشكوى المتحسرة، اليائسة والمعتادة من أحوالك .. كنت ما زلت طفلًا في المرحلة الابتدائية، ولا أتذكر هل كانت شقيقتنا تشاركنا تلك اللحظات أم لا، كما لا أتذكر هل كان الوقت نهارًا أم مساءً .. لكنني أتذكر تمامًا انتباهي على أبيك وهو يتحدث عن أن أحد أصدقائك قد ارتكب فعلًا مشينًا ضدك .. لا أعرف كيف أمكن لطفل ربما لم يتجاوز العاشرة، لا يعلم عن الحياة أكثر مما يرسخ غفلته أن تستوقفه تلك الكلمات تحديدًا، وأن يفهم معناها بشكل تلقائي ودون أدنى مشقة أو احتياج للتفسير .. أدركت فورًا أن أبي يتحدث عن أذى جنسي .. جرح بالغ الإهانة لكرامتك كرجل .. لم يوضح أبي تفاصيل “الأمر السيء” الذي قام به ذلك الصديق تجاهك، ولكنه كان يؤكد في سياق نفاذ الصبر من طباعك الوحشية التي لا تتغير أنه أدى ما عليه كأب في مواجهة تلك الواقعة .. ربما ذكر لأمي بنبرة من يعيد على مسامعها حدثًا تعرفه جيداً أنه ذهب إلى والد صديقك وحكى له ما حدث، وأن الرجل أبدى قبولًا لأن تفعل في ابنه نفس ما ارتكبه ضدك لو كان هذا ما يرضيك .. غير متأكد من ذلك، ولكنني موقن بأن ملامح أبي كانت توحي وقتئذ في عيني بأنه ليس صادقًا تمامًا على الأقل .. لعلك تتساءل عن أهمية الإشارة إلى عدم تذكري إذا كان الوقت نهارًا أم مساءً .. بالنسبة لي حينها كان الأمر يختلف إذا حدث في النهار عن حدوثه في المساء .. ربما بالنسبة للأطفال كلهم يتحقق هذا الاختلاف .. لو أعاد أبوك سرد تلك القصة لأمك في النهار فإنها لن تكون هي ذاتها في وعيي لو أعاد سردها في المساء .. وإذا كنت أعتقد الآن أن الوقت حينها كان مساءً، فإنني متأكد من أن القصص مازالت غير متطابقة عندي إذا ما تم سردها في زمنين مختلفين.

أي واحد يا أخي من هؤلاء الذين تهيمن وجوههم المبتهجة على صور ذكرياتك فعل بك ذلك؟ .. أم أنه كان صاحب الوجه الذي لم يظهر أبدًا في الصور؟ .. صورك التي لم أتوقف عن التمعن فيها بعدما أصبحت في الأربعين، كأنني لم أكتشف أنه كان لي أخ أكبر إلا من خلالها .. كأنني لم أكتشف أن ثمة وثائق بصرية لسنواتك القصيرة إلا بعدما أصبحت أمتلك عمرًا أكبر منك .. صورك التي تظهر دائمًا بين أطرها شاحبًا، متجهمًا وشاردًا، كأنما اللقطة الفوتوغرافية تختطفك كل مرة في الزمن الفاصل بين حكاية مجهولة وأخرى .. لقطة تثبّتك رغمًا عنك داخل انسجام غريب من التفاصيل المقنّعة، التي تستعملها كل الحكايات لإيهامك بأنه كان لك دور فيها .. ما الذي فعله بك ذلك الصديق بالضبط؟ .. لماذا فعل بك ذلك؟ .. هل كان شجارًا أم مزاحًا تجاوز حدوده بصورة غير متوقعة؟ .. أين حدث ذلك الاعتداء؟ .. كيف لم تستطع أن تقاومه؟ .. هل عاونه أصدقاء آخرون في التغلب عليك؟ .. هل شعرت رغمًا عنك بلذة ما ولو على نحو هزيل وخاطف؟ .. كيف حكيت ما حدث لأبويك؟ .. احتاج زميلي في الفصل الابتدائي إلى ذراعي ولد آخر لتكبيلي حتى يتمكن من شد بنطلون بيجامتي وإبقائي واقفًا أمامهما للحظات بالكلوت فقط داخل صالون بيتنا بعدما دعوتهما للمذاكرة معي .. كنت قادرًا طوال أربعين سنة على عدم توجيه هذه الأسئلة لأحد ممن يحتمل أنهم يعرفون إجابته .. كنت قادرًا على عدم توجيهه حتى لنفسي لأنني مقتول بما فيه الكفاية ولا أريد التمادي عفويًا في قتل من حولي لو عرفت المزيد من الإجابات .. لكنني لم أعد طفلًا مسالمًا، يستمتع بطرح سؤال مشؤم على شخص ما، مطمئنًا أنه ليس بوسعه أن يجيب عنه، بل أسألك بروح المنتشي بعذاب من يعرف الإجابة .. إنه حقا صاحب الوجه الذي لم يظهر أبدًا في صور ذكرياتك، حتى لو كان واحدًا من هؤلاء الذين تهيمن وجوههم المبتهجة عليها بالفعل.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.